لنتأمل مع بندكتس 16-17-18-19من يوليو

السادس عشر من يوليو

روما، الأربعاء 16 يوليو 2008 (zenit.org).

ننشر في ما يلي تأمل اليوم السادس عشر من يوليو للبابا بندكتس السابع عشر، من كتاب "بندكتس".

 الافخارستيا كحدث

 توحدنا الافخارستيا بالرب وتقوم بذلك عبر تحديدنا وربطنا به. بهذا الشكل فقط نتحرر من أنفسنا… ليس التجسد فكرة فلسفية، بل هو حدث تاريخي، وهو، بفرادته وبحقيقته النقطة التي يلج عبرها الله في التاريخ والمكان الذي نلتقي فيه به تعالى. إذا ما تعاملنا مع التجسد، بحسب ما هو مناسب انطلاقًا من الكتاب المقدس، أي كحدث لا كمبدأ، فستكون خلاصتنا بالضرورة مقابِلة: لقد ربط الله نفسه بلحظة تاريخية محددة، مع كل محدوديتها، ويريد منّا أن نشترك بتواضعه. القبول بالارتباط بالتجسد يعني قبول الحدود التي يضعها الله لذاته: هذه التقادم بالذات، التي تعتبرها إطارات ثقافية أخرى غريبة ودخيلة، تضحي بالنسبة لنا علامة لعمل فريد ولا مثيل له، يقوم به هذا الشخص التاريخي. هي علامات مجيء الله نحونا، هو الغريب بالنسبة إلينا والذي يضحي جارنا عبر هذه التقادم. الجواب الوحيد الممكن على تنازل الله هذا هو الطاعة المتواضعة، طاعة في قبول التقليد، وفي الآمانة له، طاعة أجرها ضمانة حضوره القريب… لهذا السبب يشكل "التذكار" الافخارستي أكثر من ذكرى لأمر من الماضي: إنه دخول في ذلك المحور الصميمي الذي لا يمكن أن يزول أبدًا. ولهذا السبب "إعلان" موت المسيح هو أكثر من مجرد كلمات: إنه إعلان يحمل الحقيقة في ذاته.

 

السابع عشر من يوليو

 التحول إلى الافخارستيا

 في النافور الروماني، نطلب قبل كلمات التقديس مباشرة أن تكون تقدمتنا "rationabilis" مرتبطة بالعقل (بمعنى "اللوغوس"). إنما نحن نطلب أن تكون ذبيحة-لوغوس. بهذا المعنى نطلب أن تتحول التقادم – ومن ثم، ليس هذا الأمر فقط… فنحن نطلب من اللوغوس، المسيح، الذي هو الذبيحة الحقة، أن يجذبنا إلى صميم عمل ذبيحته، لكي "يجعلنا لوغوس" بدورنا، لكي يجعلنا "مطابقين أكثر للكلمة"، "أكثر عقليين حقًا"، لكي تضحي ذبيحته خاصتنا، وتكون مرضية لدى الله كذبيحتنا، ولكي يعتبرها خاصتنا. نصلي لكي يرفعنا حضوره، فنضحي "جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا" معه… يتم تجاوز صوفية التماثل – التي يمتزج فيها بعد الإنسان الداخلي باللوغوس – بصوفية كريستولوجية: فاللوغوس، الذي هو الابن، يجعلنا أبناء في الرفقة الأسرارية التي نعيشها. وإذا صرنا ذبيحة، إذا تماثلنا مع اللوغوس، فإن هذا الأمر ليس أمرًا محصورًا بالروح الذي يخلّي الجسد بعيدًا كما لو أنه أمر بعيد عن الله. فاللوغوس بالذات صار جسدًا، وهو يهب ذاته إلينا بجسده. لذا يتم دعوتنا إلى تقدمة أجسادنا كنوع عبادة يليق باللوغوس، لكي يتم اجتذابنا إلى صداقة الحب مع الله بكامل وجودنا الجسدي، وبرفقة جسدية مع المسيح… إن تحول التقادم الذي يمتد إلينا أيضًا، يجب أن يضحي بالنسبة لنا عملية صياغة: فيخرجنا من إرادتنا الذاتية الضيقة، ويشرعنا على الاتحاد بإرادة الله.

الثامن عشر من يوليو

الإنجيل يتوجه إلى الثقافات

 لا يقف الإنجيل إلى "جانب" الثقافة. فهو يتوجه، لا إلى الفرد وحسب، بل إلى الثقافة بالذات؛ هذه الثقافة التي تترك وسمها في النمو الروحي وفي تقدُّم الفرد، في إثماره أو عدم إتيانه الثمر نحو الله والعالم. ليس التبشير مجرد تأقلم مع الثقافات، وليس إلباس الإنجيل بعناصر من الثقافة، عبر خطوط فكرة سطحية من الانثقاف التي تعتبر أنها تفي دورها عبر بعض التغيير في التعبير، وعبر بعض العناصر الجديدة في الليتورجية. لا، الإنجيل هو انشقاق، هو تطهير يضحي نضجًا وشفاءً. إنه شذب يتطلب التزامًا وفهمًا حليمًا، لكي يتم في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، وبالشكل المناسب؛ إنه شذب يتطلب مشاركة وجدانية وتعاطفًا، وفهمًا للثقافة من الداخل، وتقييمًا لأخطارها ولمؤهلاتها الظاهرة والدفينة. ولذا من الواضح أن هذا الشذب " ليس مجرد جهد مؤقت تتبعه بشكل آلي عملية نضوج". فمن الضروري أن يكون هناك لقاءً مستمرًا وصبورًا بين اللوغوس والثقاقة، وأن يقوم المؤمنون بخدمة الوساطة هذه… إن الإيمان المسيحي منفتح على كل ما هو عظيم، وحق، ونقي في ثقافة العالم… كل من يقوم بالتبشير اليوم يجب أن ينطلق من النظر في ثقافتنا إلى العناصر المنفتحة على الإنجيل، إلى "بذور الكلمة"، وأن يعمل على إنمائها.

 

التاسع عشر من يوليو

 محبة القديس بندكتس للمسيح

 أود أن أسلط الضوء على بعد خاص لروحانية القديس بندكتس. فبندكتس، خلافًا لغيره من الرهبان المرسلين العظام في زمانه، لم يؤسس جماعة رهبانية هدفها الأول هو تبشير الشعوب البربرية؛ بل وجّه أتباعه إلى البحث عن الله كهدف الحياة الأساسي، والأوحد والوحيد: "Quaerere Deum" (البحث عن الله). ولكنه وعى أنه عندما يدخل المؤمن في علاقة عميقة من الله، لا يمكنه أن يكتفي بحياة فاترة تحت راية الحد الأدنى من الأخلاق والسطحية الدينية. على ضوء هذه الحقيقة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل التعبير الذي استعاره بندكتس من القديس قبريانوس، والذي لخصه في "القانون" (4، 21)، كبرنامج حياة الرهبان: "Nihil amori Christi praeponere"، "عدم تفضيل شيء البتة على محبة المسيح". هذا هو كنه القداسة، وهو مقصد سليم لكل حياة مسيحية وقد بات اليوم حاجة رعوية طارئة، عندما نشعر بحاجة أن نرسي حياتنا وتاريخنا على مراجع روحية سليمة. إن مريم الكلية القداسة هي نموذج سامٍ وكامل للقداسة المعاشة في شركة مستديمة وعميقة مع المسيح. لنطلب شفاعتها، مع شفاعة القديس بندكتس، لكي يضاعف الرب في أيامنا أيضًا عدد الرجال والنساء، الذين عبر الشهادة لإيمان مستنير في حياتهم، يستطيعون أن يكونوا ملح الأرض ونور العالم في هذه الألفية الجديدة.