يا رب لماذا تقف بعيدًا وفي زمن الضيق تحتجب؟

المزمور الـعاشر

أولاً: تقديم المزمور: 

في الأصل كان المزموران التاسع والعاشر مزموراً واحداً، كما هو الحال في النسخة اليونانية وفي الترجمة اللاتينية الشائعة (الفولجاتا)، تم تقسيمهما في القرن الثالث إلى اثنين. وهو مزمور أبجدي (يبدأ كل بيت بحرف بحيث يتبع ترتيب الحروف الأبجدية). وكلا القسمين يترنم بعظمة الله الملك الجبار مخلص أتباعه الذين يتكلون عليه من كل قلوبهم. وهو في القسم الثاني (أو المزمور 10 بحسب النص العبراني) يرفع صلاة توسّل ضد الخاطئ " الشرير" " الشيطان" الذي يرفض وجود الله ويتمرّد على وصاياه فيجور على الناس، ويسفك الدم الزكي ويدوس حقّ البائس. ويمكن اعتبار هذا المزمور استنساخاً شعرياً مريراً لتجربة أيوب البار المبتلى وبالأخص وصفه للأشرار في الإصحاح الرابع والعشرين.

"شكواي لا تزال مرة ثقلت يد الله يثير أنيني ليتني أعرف أين أجده أو كيف أصل إلى مسكنه فأعرض دعواي وأملأ فمي حججاً." ( أيوب 23: 2-3)." أطلبه في الشمال فلا اراه وأميل إلى الجنوب فلا أبصره" أيوب 23: 9).

يطلب الأبرار تدخل الرب لتصحيح الأوضاع وإعادة الأمور إلي نصابها الصحيح؛ حيث يرون ويختبرون نجاح الأشرار وسعادتهم، بينما يعيشون هم في الضيق تحت نير الظلم والعبودية مع ان المنطق يقول بغير ذلك. من هنا كانت طلبتهم الدؤب أن يتدخل الرب ويخلّصهم من بطش المفترين وظلمهم خصوصاً على البائس والمسكين الذي لا ملجأ له سوى الله. ولهذا يطلب المرنم من الله أن يتولى أمر أعداء الخارج الداخل، ويحاسبهم كأعمالهم الشريرة أفراداً وجماعات . ويتوقّف المرنم كثيراً أمام شخصية الإنسان المنافق الكافر الشرير الذي يُنكر الله وعملَه في العالم، ويعتبره إلهًا ضعيفًا لا يصد ولا يرد، كثيراً ما يحجب وجهه فلا يهتمّ بالبائس وينسى صراخ المساكين! ويستغرب المرنم مع أيوب البار في الفصل الرابع والعشرين في إسهاب رائع من أعمال الشرير الرهيبة:

"الأشرار ينقلون الحدود ويسلبون القطعان ويخطفونها، يستاقون حمار اليتيم ويرتهنون ثور الأرملة. يزيحون الفقراء عن الطريق، ومنهم يختبيء مساكين الأرض فيهيمون في القفر كحمار الوحش باحثين عن طعام لأولادهم، يحصدون حقولاً لا يملكونها، ويقطفون للأشرار كرومهم، يبيتون عراة بلا لباس وفي البرد لا كساء لهم، الأشرار يخطفون اليتامى عن ثدي أمهم ويرتهنون أطفال المساكين، فيذهبون عراة لا لباس لهم ويحملون الحزم وهم جائعون، يعصرون الزيت بين حجرين ويدوسون المعاصر وهم عطشا، من المدن يخرج النحيب وتستغيث نفوس الجرحى والله لا يهتم بصلواتهم… عند الصباح يقوم القاتل ويفتك بالبائس والمسكين وفي الليل يكون كاللص… " ( أيوب 24: 1-14)

وتبدو القضية اليوم حية ومعاصرة أكثر من الماضي فنحن اليوم في القرن الحادي والعشرين مازلنا نردد نفس التساؤلات بصورة أكثر قسوة وأشد إيلاما:

§       نحن اليوم مازلنا نتعجب من سيطرة الباطل وطغيانه على الحق

§       نحن اليوم مازلنا نتعجب من رواج سوق الفساد وكساد سوق الفضيلة

§   نحن مازلنا اليوم نتعجب من نجاح الغش وبوار الصدق.مازلنا نتعجب من ضياع حقوق المساكين وتنامي شراهة الأثرياء.

§   نحن اليوم مازلنا نتعجب من ارتفاع عدد ضحايا الجوع بينما ما يلقى في سلة المهملات في أحد الفنادق الكبرى بأي عاصمة أفريقية يكفي لإشباع قرية بأكملها!

§   نحن اليوم مازلنا نتعجب من تنامي وازدياد التعدي على حقوق الإنسان لاسيما الفقير والضعيف والعديم القوة والمحسوبية بينما يجلس الظلمة والمستبدين على كراسيهم الوثيرة يسيرون الشعوب ويتحكمون في مصائر البشر.

§   نحن اليوم مازلنا نتعجب من استبداد الغني بالفقير وارتفاع ضحايا المجاعات بينما تغرق الدول الغنية محاصيلها في المحيط لتحافظ على الأسعار بما يتناسب مع رواج أسواقها ونمو أرصدتها دون أن تفكر في الأفواه الفاغرة جوعاً والعيون المترقبة قوتاً والأيدي الصغيرة الباحثة عن لقمة ملوثة بين أكوام القمامة وركام الفضلات

§   نحن اليوم مازلنا نتعجب من سكوت العالم وصمته بل من سكوت الكنائس وصمتها على كل هذه الأوضاع الجائرة المهينة للإنسان أبهى مخلوقات الله وأرفعها مقاماً

ومع المرنم الحائر الحزين نحن اليوم مازلنا نتعجب من نجاح المنافق ننتظر من الله تفسيراً، فهل يقدم لنا هذا المزمور الإجابة الشافية أم يتركنا في حيرة التساؤل وألم الواقع المرير؟ .

ثانياًً: نص المزمور وتقسيمه:

ينقسم المزمور إلى أربعة محاور رئيسية تدور حول استغاثة البار من هول ما يذيقه الشرير من بلايا تتجاوز  مواجهتها قوة البشر، فلا مجال للمقاومة سوى بقوة الله وسلطانه، لذا يتوسل إليه المرنم أن يتدخل وينجيه… ويختتم المزمور بصلاة حمد.

 يمكن تقسيم المزمور للنقاط التالي

القسم الأول:صرخة استغاثة وتعجب وشكوى.(1)

1- يا رب لماذا تقف بعيداً، لماذا تتوارى في زمن الضيق

القسم الثاني: وصف دقيق للشرير وحيله الماكرة وقلبه المتكبّر المتعجرف. (2- 11)

2- الشرير يتهلل بشهوات نفسه، ويتفاءل بالربح ويستهين بالرب.

3- فيحترق البائس بطغيان المنافق، ويستولى عليه بالمكائد التي اخترعوها.

4 – يشمخ بأنفه ولا يسأل عن الله، وفي كيده يقول لا إله.

5- يحتال في مساعيه كل حين، وأحكامك فوق متناول فهمه، يستخف بجميع مخاصميه.

6 – في قلبه يقول لا أتزعزع ولا أصاب أبداً بسوء.

7 – ملء فمه لعنة وحماقة وتحت لسانه فساد وإثم.

8 – يجلس في المكامن الضيقة، وفي الخفية يقتل البريء، تراقب عيناه الضعيف:

9 – ويكمن كالأسد في عرينه، يكمن ليخطف المساكين، يخطفهم ويمسكهم بشركه.

10 – هكذا يرتمون وهم ضعفاء وينحنون ويسقطون في قبضته.

11 – ويقول في قلبه نسيني الله وحجب وجهه فلن ينظر.

القسم الثالث: صلاة توسل وتضرع ورجاء أن يتدخل الله وينتقم  (12-15 )

12- قم يا رب وارفع يدك. يا الله لا تنس المساكين.

13- لماذا يستهين بك الشرير ويقول في فلبه لا يحاسب.

14 – لماذا ترى الفساد والبؤس ولا تظهر ولا تمد يدك

15 – حطم ذراع الفاجر الشرير، وامح شره كأن لم يكن.

القسم الرابع: صلاة شكر ختامية لله على أحكامه العادلة لصالح البائس والمسكين. (16- 18):

16- الرب يملك إلى الأبد وتبيد الأمم عن الأرض. 

17- اسمع آهات المساكين وقوّي قلوبهم يا رب، إصغ بأذنك يا الله:

18 – لتنصف اليتيم والمقهور فلا يعود يفسد قي الأرض إنسان.

 

ثالثاً: تفسير المزمور:

القسم الأول :صرخة استغاثة وتعجب وشكوى.(1)

1- يا رب لماذا تقف بعيدا  وتتوارى في زمن الضيق:

يبدأ هذا المزمور بسؤال كبير يقلق داود ويحيره كما سبق ومازال يتردد  في عقول وقلوب الصديقين والأبرار بل الأنبياء والرسل بل ردده الرب يسوع ذاته على الصليب وهو يشعر بأن الرب أباه قد "شبقه" أي أهمله وتخلى عنه…يتساءل داود النبي في أزمته الشديدة عن وجود الله في حياته وعن معنى هذا الوجود ومدى تأثيره على الأوضاع التي يراها النبي مقلوبة شديدة الصعوبة وبالغة التعقيد مما قد يحمل الكثير من الصديقين إلى الصراخ كما يحمل  المنافقين الى الاستهتار…فهو كثيراً جداً ما اختبر عمل الله في حياته وأحس بيده الرحيمة تتلقفه، لقد أتي به من المراعي خلف الغنم وأقامه ملكاً ورئيساً على شعبه، ولطالما شعر برعايته الأبوية تحميه وتدافع عنه، فعاش زهو أكاليل النصر في جميع ما خاض من المعارك…

إنه رجل يعرف الله جيدا ويعزف له على المزمار والقيثار فيخلب قلوب سامعيه، إنه رجل يترنم دوماً بحمده ويتمتم بشريعته ليل نهار، رجل يرفض ان يدخل قصره ويستريح على سريره بينما تابوت الرب في خيمة لا تليق بمقامه الرفيع،  رجل لا يستحي وهو الملك أن يرقص أمام تابوت العهد وهو ينشد فرحاً قم يا رب إلى موضع راحتك أنت وتابوت عهدك…

لكننا برغم ذلك كله، نراه مضطرباً في الكثير من المواقف من والعديد المزامير، يردد في حيرة من أمره هذا السؤال الرهيب النابع مما يشعر به في كيانه من فراغ مرعب إذ يلتفت حوله فلا يرى الرب وهو قد تعود على وجوده يسنده كالعادة فلا يتزعزع أمام أعداءه .

v             لماذا تتوارى في زمن الضيق:

نلاحظ أن الأفعال المستخدمة في العبارة تعبر عن شعوره بالوحدة والذعر من الوقوف وحيداً وهو لا يرى الله سيد حياته ومولاه كما تعوده بجواره يسنده ويقويه ويدافع عنه ويأتي لنجدته ونصرته سريعاً…لا لأنه لم يعد موجوداً فهو الكلي والدائم الوجود، لكن لأنه متواري محتجب، أيكون قد حجب نفسه أم حجبته سحابة عنه أم حجبه بخطاياه التي جعلته ينفصل عنه أم هناك حكمة لا يدركها وراء هذا التحجب وذلك الاختفاء.

هذا هو نفس سؤال يسوع على الصليب وهو يرتل المزمور الثاني والعشرين "إلهي إلهي لما تركتني…"  وهو نفس سؤال المسيحي والمؤمن في كل مكان وزمان في وقت الشدة والمحن والضيق، عندما يشعر أنه محاصر ولا منقذ له سوى الرب إلهه الذي يتوجب عليه – حسب رغبة المصلي- أن يتجلى ويمد يده ويظهر جبروته ويخلصه من يد الأعداء الظالمين وبذا يضرب عصفورين بحجر واحد إذ:       

§       ينقذ ابنه البار الصديق من أيدي مضطهديه.       

§       يظهر للأشرار أن هناك من يحاسب وينتقم فيرتدعون.

كلام منطقي لا ريب فيه، لكن الله لا يفعل ذلك رغم بديهية الفكرة ومنطقيتها!! فأفكار الرب ليست كأفكارنا وطرقه ليست كطرقنا وهذا ما سيتضح في نهاية المزمور بل وفي حياة الرب يسوع نفسها فردا على سؤال لماذا لا يتجلى في زمن الضيق؟ نجيب بسؤال: ترى لو تجلى الله وقت الصلبوت ونزل من على الصليب هل كانوا سيؤمنون به؟

وما تكون القيامة إذ لم يمت؟

وهل كانت ستنكسر شوكة الموت؟

 وهل كان الخلاص سيتم ؟

أم سينال البشر  النصر النهائي على الشر والأشرار ومعسكر الشر بأكمله؟

وأخيراً ما فلسفة الله من وراء ذلك الاحتجاب أو الوقوف موقف المتفرج المحايد؟ وما وقع ذلك على المرنم وعلى أعداءه؟

أمام كل هذه الأسئلة الحائرة لن نجد أفضل من إجابة الرب يسوع نفسه لتلميذيه العائدين إلى بلدة عماوس بعد قيامته "ما أغباكما وأبطأكما عن الإيمان بكل ما قاله الأنبياء أما كان ينبغي على المسيح أن يعاني هذه الآلام لكي يدخل إلى مجده؟ " (لو35-26).

القسم الثاني: وصف دقيق للشرير وحيله الماكرة وأفكار قلبه المتكبّر المتعجرف. (2- 11)

2- فيحترق البائس بطغيان المنافق، ويستولى عليه بالمكائد التي اخترعوها:

            أو في ترجمة أخرى الشرير يتباهى، ويظلم المسكين، فيؤخد بما دبر من مكائد، وكلا هما يعني أن وقوف الله بعيدا وتأخره في التدخل واحتجابه وعدم مبادرته لخلاص أصفياءه، يجعل من هؤلاء المساكين وقودا للحريق كما تحرق في النار الأشياء التي لا قيمة ولا ثمن ولا نفع منها ولا جدوى.فيحترقون هباء ويذوبون كالشمع وكفريسة لا منقذ لها.

v                          طغيان المنافق:

الطغيان هو اعتياد الظلم والبغي والعدوان واعتماد ذلك كوسيلة لتحقيق الأغراض دون النظر إلى الضحية البائسة الضعيفة التي لا سند ولا عون لها ولا قوة في ذاتها تستطيع بها أن ترد عن نفسها سطوة الباغي وعدوانه. فالمنافق الشرير هنا لم يشعر بوجود الله بجانب الصديق فطغي واستبد وتفنن في اضطهاد البار والإيقاع به فيما يدبر من حيل ومؤامرات ومكائد ظاناً أن الله غير موجود البتة وهذا باطل بالطبع، فالله موجود دوماً حتى لو ظل محتجباً عن أعين الصديق ومحجوباً عن أعين الشرير.

v                          فيؤخذ بما دبر من مكائد:

وهذا السلوك الشائن المستبد وإن دل على قوة بطش ومبادرة إلى الشر والعدوان، فإنه ليس دليلا على الذكاء والوعي، فهو بهذا السلوك يضع ذاته في موضع التهلكة، لأنه انخدع بمظاهر الضعف ولم يحسب جيداً قوة خصمه الخفية وأن هناك يد ترعاه وعين تسهر عليه وإله غير منظور ينتقم له من قوى الشر المتكبرة الباغية التي تسحقه وتجور عليه.

3 – الشرير يتهلل بشهوات نفسه، ويتفاءل بالربح ويستهين بالرب:

وهكذا فالشرير فرح مسرور يتهلل بما حقق ويحقق من نجاح وما نال وسينال من إشباع وقتي ومباشر لشهواته وأهواءه، لقد سحق البائس والمسكين بذراعه واستخدمهما وقودا لإشباع شهواته وتمكن من ذلك تماما.ً لذلك فهو سعيد متفاءل وواثق من النصر.

v             ويستهين بالرب:

يشعر أنه باستطاعته أن يعيد الكرة متى شاء فالله محجوب عن عينيه وغير مبادر إلى النجدة والإنقاذ. الغريب هنا أن شر المنافق لا يتوقف على إيذاء إخوته من البشر المساكين، بل نراه يؤذي الشرير ذاته إذ يتضخم أمام نفسه ويظن أنه كلي القدرة بحيث لا يستطيع أحد الوقوف أمامه، وبدلا من أن يداري شهواته ويخجل منها، كما يفعل الصديقون إذ يندمون ويتوبون، نراه يستعرضها ويتباهى بها بل ويجدف على الله مستهينا بوجوده وبقدرته على التدخل أو الرد.

4 – يشمخ بأنفه ولا يسأل عن الله، وفي كيده يقول لا إله:

لا يهم الشرير البحث عن الله ولا يشغل ذلك الأمر باله ، فهدفه الوحيد إشباع شهواته وتحقيق كل رغباته، فشهواته وأهواءه تشغله وتحركه وتحدد أهدافه وهو بدوره يقدسها ويكرس حياته لإشباعها وإرضاء نزعاته الشريرة بلا خجل أو تردد، وفي إطار هذه العملية المسعورة المتصاعدة والمستعبدة دوماً يشعر بالنجاح مع كل إشباع جديد وتوفيق في كل مساعيه الباطلة الفاسدة وهو في غفلة شهوته فخور بكل ما يتحقق من بلاء للضحايا الأبرياء ويعتبر ذلك قمة النجاح والتوفيق بل ويتباهى بذلك.

v             وفي كيده يقول لا إله:

"قال الشرير في قلبه لا إله"، إنه بالفعل لا يشعر بوجود الله في حياته فهو لا يدركه بعقله ولا يطلبه في قلبه ولا يصل إليه بفهمه. وبالتالي يغوص في أعماق مستنقع الضلال  والشهوات الباطلة حيث تؤكد له معطيات حياته التافهة وما يحققه فيها من نجاح ظاهري صدق أوهامه قولاً وفعلاً بعدم وجود الله…

5 – يحتال في مساعيه كل حين، وأحكامك فوق متناول فهمه، يستخف بجميع مخاصميه:

يصاحب هذا الغباء في إدراك وجود الله، ذكاء وتوقد في ابتداع الحيل والمكر والخداع، فتصير حياة الشرير سلسلة من الخداع المتواصل متوجة بنجاح وهمي إذ تنجح مساعيه في كل حين، فيبدو الأمر غريباً ومريراً في عين الصديق الذي يعاني الاضطهاد ويصادف الفشل حتى في داخل بيته. وهذا ما يستغربه المرنم الحزين، فهو قد يقبل الألم والذل والمهانة ويصبر عليها في سبيل الله أو الإيمان، لكنه يستغرب كيف يوفق الله هؤلاء الأشرار وينجح مساعيهم وأعمالهم ومشاريعهم بينما كل الطرق تبدو مغلقة ومسدودة في وجهه!! ويزداد الأمر سوءاً عندما يضيق عليه الأشرار الحصار حتى يكاد يختنق.لا سيما حين يرى نظرة السخرية والاستهزاء في عيون الخصم الذي يستخف بكل القيم والمبادئ والأخلاقيات بل يتجاوز ذلك فيستهزئ  به وبإلهه معاً.

وأحكامك فوق متناول فهمه:

يظل الشرير يعبث في غروره موقناً ان الله غير موجود وحتى إن كان موجوداً فإنه لا يطالب. والله يترفع بأحكامه عنه وكأنه تتعالى ولا يريد حتى أن تحاكمه ويصدر عليه العقاب اللازم والرادع…لكن الله أكبر وأعلى وأسمى وهو إن أمهل لا يهمل وسوف تحل اللحظة التي يتدخل فيها وهو إذ يترك الشرير لأعماله الفاسدة يعلم أن أعماله نفسها تدينه وأن فساده سيقع على رأسه " بكلامك أدينك أيها العبد الشرير".وهي ذاتها تحكم عليه.

v             يستخف بجميع مخاصميه:

وهذا الاعتقاد الغافل بان الله غير موجود ولا يجازي يتيح له المزيد من الوقت والفرص ليتمادى في شره ويزداد تهورا وغروراً واستبداداً واستخفافا بكل من يرفض مسايرته أو يقف في طريقه أو يخاصمه.

6 – في قلبه يقول لا أتزعزع، ولا أصاب أبداً بسوء:

إنه يشعر باطمئنان متزايد، وسلام زائف وأمان كامل، طرقه سالكة ولا يقف أمامه شيء ولا يجرؤ على مقاومته أحد، وبالتالي لن يتزعزع في طريقه" يا نفسي كلي وتمتعي فلديك خيرات كثيرة لأزمنة عديدة"… فجميع المعطيات السابقة واللاحقة من الآية الثانية إلى الآية الحادية عشرة تقدم لهذه النتيجة وتصرخ بها بكل قوة. لقد فعل الأشرار كل شيء رديء ومازالوا أحياءً وأقوياًء منتصرين ويواصلون استبدادهم الرهيب في حق كل ما هو مسكين وبريء وضعيف لقد:

§       حرق المساكين ولم يحترق بالنار التي أشعلها،

§       ابتكر المكائد لصيد البريء ولم يفشل في واحدة،

§       طغى على الضعيف ولم ير منه سوى الاستكانة والخضوع،

§       استولى على نصيب اليتيم والأرملة ولم يعترض سبيله حاكم،

§       افتخر بشهوات نفسه ولم يبكته نبي أو مجتمع،

§       جدف على الرب ولم تدنه شريعة أو يوقفه قانون،

§       استهان بالله ولم يحرم من سنهدريم ولم يعاقبه ملاك أو كاروبيم،

§       تشامخ وتكبر ولم يجد من يناظره،

§       أهمل وجود الله، والله نفسه حجب عينيه ولم يحاسبه،

§       أنكر وجوده وعدله والله لم يرفع يده ويعاقبه…

§       أسقط الله من حساباته والله لم يسقطه أو يعاقبه ولم يصرعه،

وفوق كل هذا نجحت كل مخططاته الإرهابية وحقق كل أغراضه الدنيئة، وعلت مكانته وذادت مهابته من جيل إلى جيل وكأنه يتمتع بحصانة دبلوماسية هو ونسله فلماذا لا يشمخ بأنفه ويتكبر؟ ولماذا لا يتمادي في الظلم والعنف… ولماذا لا يتكلم وقد صمت الله ولماذا لا يتظاهر بالعظمة والكبرياء وقد حجب الله عينيه واحتجب وكاد  أن يختفي حتى عن عيون محبيه التي تعبت انتظاراً وتوسلاً بلا جدوى؟

v             ولا أصاب أبداً بسوء:

لا بأس عليّ ولا قوة تفوق قوتي، لا أحد يضارعني ولا يجرؤ إنسان على منازلتي فلن يغلبني أحد!! إلا يذكرنا هذا بموقف جليات الجبار حين كان يخرج يومياً متباهيا بقوته معيراً شعب الله مستفزاً الجميع بما فيهم شاؤل الملك " أنا أتحدى صفوف إسرائيل اليوم، هاتوا لي رجلا يبارزني" ( 1 صمو 17: 10) ولم  يجرؤ أحد في إسرائيل على الخروج له إلى أن وصل الصبي داود يحمل ذاداً لإخوته، وغار غيرة على الرب "أمام هذا الفلسطيني الذي تحدى جيوش الله الحي" ( 1 صم 17: 36  ب) .

7 – ملء فمه لعنة ومكر وحماقة، وتحت لسانه فساد وإثم:

يواصل داود النبي وصفه الدقيق لهذه الشخصية الجبارة وليس فقط في أعمالها وأفكارها الشريرة بل حتى في قوة منطقها وبلاغة كلامها. " تقدمت إلى الفلسطيني فلعنني بأصنامه" ففم الشرير كفم الحيوان المفترس هو مكمن الخطر ومنه تخرج اللعنة والتجديف على لله والبشر.

v             وتحت لسانه فساد وإثم:

الشرير كالحية أصل كل الشرور حسب تصور الكتاب المقدس لها من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، وهو يحتفظ بسمومه أسفل لسانه، وهذا يعبر عما في باطن النفس وهو هنا ملىء ب:

§   اللعنة: وهي التهديد بالويل والخراب"فتقدم الفلسطيني صوب داود وأنزل لعنة آلهته عليه" (1 صمو 17: 43)

§       بالسباب والشتيمة والقذف

§       بالمكر: ينطق بالمكر فهو يستخدم الخديعة والحيلة والكذب ليوقع بالأبرار.

§   الحماقة: عكس الحكمة وهي أم كل خطيئة (أمثال)" عقل الأحمق كوعاء مثقوب لا يضبط شيئاً من العلم…قلوب الحمقى في أفواههم وأفواه الحكماء في قلوبهم" (سير 21: 14، 26)

8 – يجلس في المكامن الضيقة، وفي الخفية يقتل البريء، تراقب عيناه الضعيف:

كما الحيوانات المفترسة تجلس في المكامن أي تربض مختفية كامنة متربصة بفرائسها الغافلة حيث يجب أن تسلك طريق العودة إلى منازلها أو مراعيها أو تذهب لتستقي من منابع مياهها.

v             وفي الخفية يقتل البريء:

ولكن الحيوانات اكثر شرفا ًمن الأشرار فهي أن كمنت فللقنص، وإن اصطادت فللأكل والبقاء حية، وان افترست ففي العلن وأمام الجميع، أما الشرير فهو يقتل في الخفية ويقتنص البريء المسكين الذي لا حول له ولا قوة، بلا ذنب وبلا هدف وبدون حتى التحذير الواجب أو ذلك الزئير الذي يصدر عن الأسد قبل الهجوم…وتلك هي قمة النذالة والخسة.

v             تراقب عيناه الضعيف:

هذا الخصم الخسيس لا ينازل الأنداد ولا يواجه الأقوياء ولا يحارب النظراء،  إنه يؤذي الناس المسالمين بل والضعفاء والمساكين الذين لا حول ولا قوة لديهم ولا يملكون قوة الدفاع عن أنفسهم.

9 – ويكمن كالأسد في عرينه، يكمن ليخطف المساكين، يخطفهم ويمسكهم بشركه:

بل لعل الأسد وهو ملك الغابة، أكثر شرفاً ونبلا فهو يحارب من أجل البقاء ولا يهاجم أن لم بقرصه الجوع ولا يرتضي بفرائسه دون قتال ويعف عنها حين يشبع… لكن المرنم هنا لا يشير إلى ذلك النبل بل إلى قوة بطش الأسد. وهي صورة مكررة لتأكيد المعني وتضغط بقوة على كل عناصر ومعطيات ومكونات وطباع هذه الشخصية البشعة الطباع الشديدة الوحشية؛ ليؤكد أن الشرير مجرد حيوان مفترس بكل خصائصه الحيوانية : من كمون وترقب ووثب وخطف وإيقاع بالفريسة في الفخ المنصوب وتخديرها بسمومه لتفقد كل قدرة على الرد والمقاومة وتصبح لقمة سائغة بين براثنه الشديدة الفتك المدربة على الافتراس، وهو كالحيوان كذلك في الافتراس أي التمزيق والمضغ والسحق والبلع…

10 – هكذا يرتمون وهم ضعفاء وينحنون ويسقطون في قبضته:

الارتماء علامة على الانهيار والاستسلام العاجز… يكرر المرنم هذا المعنى مؤكداً على أن ضحية العدوان الوحشي دائماً هي الإنسان البريء المسكين الذي ترتكب ضده يومياً هذه الفظائع حيث تسلب أملاكه ويختطف أولاده من حضنه ويباعون في سوق الرقيق والنخاسة إمام ناظريه، بل وتذبح نعجته الوحيدة وقد يمتد الأمر ويتطور حتى يقضى على حياته وهو  ضعيف مهيض الجناح لا حول ولا قدرة لديه على مواجهة بطش الشرير؛ وهكذا نراه يسقط منهاراً دون مقاومة وينحني في مذلة وخضوع أمام بطش الظالم المعتدي مسلماً أمره لله الذي يبدو وكأنه نسيه وأشاح بوجهه بعيداً واحتجب عنه ولم يأتي لنجدته، وهكذا يسقط البريء ممرغاً في تراب الذل والهوان وأصعب من ذلك اليأس وفقدان الرجاء.

11 – ويقول في قلبه نسيني الله وحجب وجهه فلن ينظر:

كل هذا يحدث أمام عيني الشرير فلا يرحم ولا يتردد ولا يفكر في التوبة بل نراه يرفض مجدداً وجود الله وعمله وتأثيره في حياته فهو في نظر الشرير يبدو كإله عجوز عاجز عن التدخل بل وينسى ولا يتذكر ما يحدث أما عينيه بل ويحجب عينيه عمداً حتى لا يرى ولا يحاسب.

v             وحجب وجهه فلن ينظر:

وبتوالي سقوط هؤلاء الضحايا يتنامى في قلب الشرير الشعور بأنه فوق الجميع، فوق المحاسبة أو حتى الاحتجاج ناهيك عن المحاكمة والعقاب. فيتصور أن الله نفسه لا يريد أن ينظر ويطالع هذه الوحشية لهذا يحجب وجهه وفي هذا الاختلاف بين نظرة البار والشرير إلى الموضوع  عجب : حيث يصرخ المرنم جزعاً عندما يشعر باحتجاب الله عنه بينما يفرح الشرير ويتهلل بغرور وكبرياء لنفس السبب.

القسم الثالث: صلاة توسل وتضرع ورجاء ليتدخل الله وينتقم  (12-15)

12- قم يا رب وارفع يدك. يا الله لا تنس المساكين:

انتهى هذا القسم الذي استفاض فيه داود في وصف الشرير حتى كاد أن يجسمه وحشا يقطر الدم من أنيابه، وكاد أيضاً أن يصيبنا باليأس والإحباط من تنامي شره وتعدد نجاحه وتجاهل الله لشروره وآثامه وتأخره في اتخاذ أي موقف حاسم ضده،  بل واحتجابه الكامل وتوانيه سواء عن لمجرد ردع الشرير المفتري او حتى نجدة البائس والمسكين وإنقاذه من بين براثنه.

لقد أوجع قلوبنا بهذا الوصف التفصيلي لوحش لا يقاوم ولا طاقة للإنسان بمفرده أن يقاومه أو يفكر في مواجهته وحده.

فماذا يفعل الإنسان بدون الله  في مواجهة هذا الشيطان المريب؟ لا شيء سوي الصلاة فكما علمنا الرب يسوع " هذا الجنس لا يقهر إلا بالصلاة والصوم.تعالوا نصلي مع داود:

v             قم يا رب:

 كفاك سكوناً هلم تحرك وانهض وانتصر لخائفيك الذين لا يكفون عن التماس وجهك وطلب معونتك التي يبدو أنها قد تأخرت هذه المرة كثيراً، وهذه الصيغة تعبير عن ثقة لا حد لها في قدرة الله على مقاومة الشر وسحقه، إذ يكفي أن يقوم الله كي يتبدد أعداءه وينهار مقاوميه أمام قدميه فلا يعود له ذكر ولا مقاومة تذكر

v             ارفع يدك:

يكفي أن يرفع الله ذراعه، فهذا الذراع الجبار المقتدر عندما يرتفع يسحق العدو، ولا يبقي له على أثر فيصير خراباً ودماراً بعد هذا البغي والعدوان والتعدي والافتراء والظلم والاستهزاء والاستهانة بقوانين البشر ونواميس الله والتعالي على القدرة الإلهية وكأن لا إله يقوم الرب فيهز أركان عالم الظلمة ويرفع ذراعه فينهار الطغيان.

v             يا الله لا تنس المساكين:

 ليس من طبعك أبداً إهمال صراخ المساكين فهم عندك الأفضلون الذين تدافع عنهم وتحميهم، تنصرهم وترعاهم، وتصل إلى أذنيك صرختهم فتهب نحو نجدتهم" سمعت صراخ شعبي ورأيت مذلتهم ونزلت لأخلصهم" ( خروج 2: 11) ولا تتركهم أبداً فريسة لظالميهم مهما طال الزمان، أرسلت موسى مخلصاً وعبرت بشعبك من العبودية إلى الحرية وأقمت صموئيل  مدبرا فمسح ملكا وأسس مملكة ومسحت داود ملكا فثبت أركان مملكة إسرائيل وحقق ما وعدت به إبراهيم أباه وفي ملء الزمان ستعود تفتقد شعبك الجالس في الظلمة وظلال الموت وترسل ابنك الوحيد متجسداً من امرأة  حتى يقضي على رئيس مملكة الظلام ويهدم أركانها الشريرة ويقدم إليك شعباً مبرراً حراً سعيداً لزوال دولة الظلم والطغيان، حقاً يا رب إنك لا تنسى المساكين.

13- لماذا يستهين بك الشرير ويقول في فلبه لا يحاسب:

يعود بنا داود إلى شجونه فيشجينا بتساؤلاته المنطقية العميقة وهو هنا يحاول أن يقدم للرب بعض المسوغات المنطقية ليحفزه على القيام والتدخل الفوري المباشر: فالشرير سوف يستهين وفد استهان بالفعل وسوف يبالغ في طغيانه ويسحق المساكين وهو واثق أنك لن تحاسبه. لذا يجب أن تقوم وتمد ذراعك لتخلص المسكين من براثنه  ثم تعاقب الشرير أشد عقاب ليكون عبرة لغيره من الأشرار وتكون نهايته عبرة وتعزية للأبرار.هل لأنك صمتّ ولم تتحرك قال الشرير في قلبه إنك لا تري؟ ولا تحاسب

14 – لماذا ترى الفساد والبؤس ولا تظهر ولا تمد يدك

كلا أنك قد رأيت فالنبي المرنم واثق أن إلهه حي: حاضر يسمع ويرى ويرصد كل شيء. سؤال استنكاري نعم، لكنه موجه من قلب المرنم المسحوق والمظلوم والمرعوب ليس فقط من بطش العدو بل الأكثر من اختفاء الله واحتجابه وتأخره عن نصرته.

وهذا السؤال يبدو بديهياً ومنطقياً بل وكثيراً ما يتطرق إلى أذهان الكثير من الناس في عصرنا الحاضر فنحن نعلم أن الله- حسب إيماننا- يرى ويسمع ويعرف كل شيء عن فساد الشرير.  ونشعر أحياناً أنه قد تأخر طويلاً في التدخل.  وكثيراً ما نحس أنه محتجب غير واضح المعالم ولا ينظر إلى بؤس البار ولا يشأ أن يظهر قوته ولا يتدخل لإحقاق الحق في الوقت  المناسب فهل هذا حقيقي أم مجرد شعور شخصي؟ سنرى إجابة عن كل هذه التساؤلات العميقة والمشروعة في نهاية المزمور.

15 – حطم ذراع الفاجر الشرير، وامح شره كأن لم يكن.

أريدك أن تقوم ، أن ترفع زراعك، وأن تهوى بها على ذراع الشرير، فماذا ستكون نتيجة هذا الصراع بين الذراعين ذراع الله وذراع الشرير؟ النتيجة محسومة وهي تحطم ذراع الشر والشرير تحطما نهائياً ينمحي معه الشرير ويختفي في لحظة كأن شيئاً لم يكن.

16- الرب يملك إلى الأبد وتبيد الأمم عن الأرض:

عند تحطم الشر يظهر انتصار الخير الأكيد حيث سيجلس الرب على عرشه ويدعو غليه الصديقين ويجمعهم حوله في ملكوت فرح وسلام ونعيم لا ينتهي. 

v             وتبيد الأمم عن الأرض:

"أهلكت المنافق، أبدت اسمه إلى الأبد والى دهر الدهور". برغم ما عانى الصديق من آلام وذل فهو لا يفكّر في الانتقام من أعدائه، ولكنه يترك الله يهتمّ بالقضاء، ويتعلّق مسبقًا بوصيّة الرسول: "لا تنتقموا بأنفسكم" (روم 12: 10). كان داود ضحيّة أعدائه وتألم كثيراً فلو لم يتألّم جورًا، لما كان الله اهتمّ بالدفاع عنه. وهكذا في ملكوت الله لا وجود للشر ولا للحرب ولا مكان لأمة لا تعرف الرب ولا تعترف به ملكاً فمثل هذه النوعية من البشر موضوع إبادة تامة وهلاك أبدي فلا مكان لها في ملكوت الله وستمحى من على وجه الأرض كلها…

هذا هو ملكوت الله ولهذا يعلمنا الرب يسوع في الصلاة الريبة أن نطلب هذا الملكوت كأول طلبة في الصلاة قبل الخبز والقوت اليومي نفسه إذ  يجب أن يكون طعامنا هو تحقيق مشيئة الآب كما فعل وعاش الرب يسوع فانتصر على أعداءه وأقامه ناقضاً أوجاع الموت العدو الأول والرهيب وأجلسه عن يمين عرش عظمته حيث يملك معه وله السلطان أن يدين الأحياء والأموات ويعطي كل واحد كحسب أعماله.

17- اسمع آهات المساكين وقوّي قلوبهم يا رب، أصغ بأذنك يا الله:

التأوه هو التوجع الأليم لإنسان لا يستطيع حتى أن يصرخ  معلناً عن توجعه فيكتفي بزفرات حارقة من الأنين المكتوم.  يطلب المرنم هنا من الله أن يرهف السمع ويصيخ الإنصات لتلتقط أذناه حتى الآهة الغير مسموعة لإنسان مسكين يتوجع في ضعفه:

§       ضعف القوة: فقد انهارت قواه من كثرة المعاناة

§       ضعف الإرادة: فليس بإمكانه عمل شيء حتى الصراخ صار عسيراً

§   ضعف الإيمان: حيث ضعف قلبه من طول تأخر الرب عن نجدته فهل يسمع الآهة من سد أذنيه عن سماع الصراخ وهل يرى الظلم من حجب وجهه وأغلق عينيه؟

v             وقوّي قلوبهم يا رب:

كل ما يحتاجه المؤمن الصديق المسحوق في هذه اللحظة هي نعمة الإيمان أي قوة القلب فليس لقوته مجال لمواجهة وحش كاسر وليس لإرادته مكان تفرض فيه رأيها أمام سطوة غاشمة ولم يعد أمامه إلا أن يتمسك بالإيمان " تشدد ولا يخاف قلبك" هذه هي طلبة داود بعد أن واجه كل هذه المشاعر والعواصف والأنواء يا رب قو قلوبنا

v             أصغ بأذنك يا الله:

يطلب إصغاء الرب لأنه عارف ببراءته وصدق قلبه وحسن سلوكه لذلك يكفيه أن يعطيه الله فرصة ليتكلم وحين سيسمع صلاته وشكواه سيتحرك ليحقق جميع رغبات قلبه" كل ما تطلبونه في الصلاة بإيمان تنالونه" هذه هي ثقة قلب داود يكفيني أن تمنحني لحظة تصغي إلىّ فيها وأنا أعرف كل ما سيترتب على هذا الإصغاء من نتائج.

18 – لتنصف اليتيم والمقهور فلا يعود يفسد قي الأرض إنسان:

ستكون ثمرة هذا الإصغاء خطيرة فعلاً: سيتم العدل والإنصاف وسيتحقق ما طالب به المرنم من أول المزمور ستنصف اليتيم وهو تجسيم كتابي لمن لا سند له أي كل عاجز عن الدفاع عن نفسه أو حقه السليب؛ سينال كافة حقوقه بالعدل والإنصاف ستحكم لصالح المقهور ضد قاهريه أي سترد الظلم عن المظلوم  وتهزم وتدين الظالمين ستقضي نهائياً على الفساد فلن يتجرا إنسان بعد اليوم وقد رأى عاقبة الشر وإنصاف الخير أن يعيث في الأرض فساداً.

 

رابعاً: تطبيق المزمور:

القسم الأول: كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

يعتبر هذا المزمور مزموراً مسيانياً:

– امتلأ الطوباوي داود من روح النبوءة وتكلّم في هذا المزمور مسبقًا عن يسوع البار وما سيلقاه على أيدي  اليهود وتحقّق ما قاله عن المسيح، عبد يهوه البار المضطهد ظلماً، وهكذا شهدت الوقائع بالتفصيل الدقيق للنبوءة وللربّ المتنبَّأ عنه.

– لماذا تقف بعيداً: عاش الرب يسوع هذه الآية في عمق أعماق مرارة معانيها وهو  في بستان الزيتون حين تركه التلاميذ وفروا هاربين، حين تخلى عنه مريدوه وأنكره أحباءه وطالب بصلبه الذين جاء حباً بهم. ورددها وهو معلق على الصليب، كانت تلك لحظة الصمت الرهيب، وبرغم معرفة يسوع بأن" أبي معي في كل حين وهو لا يتركني وحدي" إلا أنه صرخ في ساعة الظلمة يطلب حضوراً ويترقب نصرة من الرب إلهه.

– مؤامراتهم الشريرة: تباهى أعداء الرب بمعرفتهم بالكتاب المقدس والنبؤات وتنكروا لكل البديهيات وتجاهلوا كل المعطيات وأغمضوا العيون لئلا يبصروا الحق فيخلصوا، ويسمعوا صوت الراعي فتنفتح قلوبهم المغلقة. تشامخوا بأنوفهم في كبرياء الجهل واحتالوا بالكذب وشهود الزور وكمنوا لمسيح الرب ليصطادوه بكلمة من فيه ولم تجدي معهم حتى شهادة بيلاطس الوالي الوثني" لست أجد في هذا الرجل علة"، صروا بأسنانهم وصرخوا "دمه علينا وعلى أولادنا"، وأخذوا الرب فجلدوه وجردوه من ثيابه وحكموا عليه بالموت مفضلين عليه بارباس المجرم المعتق في القتل وسفك الدم البريء، قتلوا الصديق وهو صامت لم يفتح فاه وظنوا بذلك إنهم قتلوا الرب وتخلصوا منه نهائياً وان الله لا يحاسب.

  قم يا رب وارفع يدك: هكذا قام المسيح ناقضاً أوجاع الموت باسطاً ذراعيه علامة النصر على الظلم والكبرياء ومكائد المكر والدهاء وشهوات النفوس الرديئة، منتصراً على الشامخين الذين نسوا الرب واستهانوا بأحكامه، قام الرب وقهر من كمنوا عليه في ساعة الظلمة ومن شهدوا عليه زوراً ومن ظنوه ضعيفاً مستكيناً وساقوه للذبح صامتاً، نصره الله وفتح فاه ليعلم الأمم وأقامه رباً ومسيحاً "له تجثو كل ركبة ما في السماء وما على الأرض وما تحت الأرض".

القسم الثاني :كيف نعيش هذا المزمور كمسيحيين

 لا يختلف اثنان على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي في حياته اليومية من اضطهاد كثيراً ما يصل إلى العنف والاستشهاد من قبل مضطهديه: عندما ينشد المسيحي هذا المزمور يشارك الرب يسوع في ألآمه ويقرأ أعمال الله لا في الكتاب المقدس وحياة الرب يسوع فقط بل في حياته الشخصية في كل ما يتعرض له من مضايقات وآلام وشدائد واضطهاد. مدركاً بالطبع كابن للعهد الجديد أنه يعيش طوبى جديدة من نوع نادر " طوبى لكم إذا اضطهدوكم وعيروكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من اجلي كاذبين".

لماذا تقف بعيداً لماذا تتوارى في زمن الضيق: صلاة كل مؤمن في كل العصور:

§       عندما يرى الظلام يطارد أشعة النور ويكاد يقضي عليها،

§       عندما يحس الجور ينقض على العدالة فيفترسها،

§       عندما يدرك سيطرة الأشرار على مقدرات الأبرياء.

صلاة كل مؤمن

§       أمام بغي الشيطان وعربدته أمام تمكن الشر من أقدار العالم وسيطرة الشهوة على النفوس

§       أمام انتصار الظلم وانكسار الحق،

§       أمام انسحاق الضعيف تحت أقدام المستبدين.

§       أمام أطفال يموتون ظمأ وجوعا بينما تغرق ملايين الأطنان من الحبوب في البحار للحفاظ على الأسعار

§       أمام انسحاب دعاة حقوق الإنسان وصمتهم إزاء بطش الطغاة واستعبادهم الشعوب والأوطان

§       أمام رهبان أطهار يسقطون مضجرين في دمائهم شهداء بسلاح عدو باطل دون ذنب اقترفوه

§   أمام جنين يطلق صرخته الأولى والخيرة داخل رحم أم لم تأخذها شفقة بثمرة أحشائها إذ لا تفكر سوى بملذاتها،

§       أمام طفل هجره أبواه وتركاه فريسة لأرصفة الشوارع والتشرد،

§   أمام شباب أهملهم أبواهم بحثاً عن المال فلم يجدوا سوى الجريمة والإدمان يقضون فيها على أنفسهم وينتقمون من مجتمع يدينهم وهو المدان.

§   أمام أغنياء اكتنزوا الملايين بالرشوة والفساد ولم يرحموا ضعف طفل يتيم أو صرخة أرملة ولا بكاء أم ثكلى ولا توسل عجوز تنتظر المعاش.

§   أمام ملايين الدولارات والريالات والجنيهات تصرف ببذخ على حفلات ومغنين ولاعبين بينما تسبح الأغلبية في بحار المجاري وتتغذى من صفائح المهملات وتعيش ضحية المرض والفقر والجوع والحرمان…

أمام كل هذه الظواهر وإزاء هذا الفساد يتساءل المؤمن في قلبه هل نسينا الله وهل حجب وجهه عنّا؟ من منا لم يخطر بباله هذا السؤال؟ من منّا لم يتساءل يوماً لماذا يسمح الله بكل هذا؟ وإلى متي يظل صامتاً وكأنه لا يرى ولا يسمع؟ من منّا لم يتسرب اليأس إلى نفسه للحظة وهو يشاهد الظلم والتعسف والاستبداد؟ من منّا لم يصخ مرددا مع داود إلى متى يا رب؟

وأخيراً من منّا لم ينخرط يوما في صلاة عميقة بدموع سخية طالباً مع الكنيسة:

§       معونة للفقراء، دعة للأغنياء.

§       سلاماً لضحايا الحروب الأبرياء.

§       ماءً لعطشى التصحر والجفاف.

§       أنصافا لضحايا العدوان والاغتيالات.

§       طعاما للأطفال المحاصرين خلف خطوط القتال

§       عودة لمهجري الحروب الأهلية الذين طردوا من مساكنهم بلا ذنب جنوه.

 

صـــلاة

ليس لنا من معين سواك

يا رب لا تتركنا فليس لنا من معين سواك،

حين نرى سطوة الظلم،

حين يسيطر الظالمون ويبغون في الأرض فساداً،

حين نراهم مختالون في كبرياء وجبروت قوتهم؛

وحين تشيّد حولنا الأسوار ونحاصر

فتتحول أرضك الجميلة إلى سجن كبير

حافل بالعنف والقهر والذل والمهانة،

لا يعترف بعدالة أو قانون.

أعود فأشك أنك

" لا تنسى ملتمسيك"

بل وأكاد أجزم

 " نسينا الله وصرف وجهه عنا"

 لكنك يا رب حررتنا ورأينا انهيار مملكة العدو،

ولم يعد لملك العالم علينا سلطان.

قم يا رب وارفع يمينك العزيزة وخلصنا

لا تنس صلاة المساكين، اسمع آهاتهم،

 أصغ بأذنك وتعرف على تنهداتهم،

حطم قوات الجحيم.

نصرك يا رب:

 لينهزم العدو وليقضي على فساده

لترتد إلى الوراء جيوشه الشريرة

وليسد فاه ويصمت إلى الأبد

ولتمسكنا بيمنك الشديدة

وتدفع عنّا سهامه القاتلة

فيتحقق ملكوتك على الأرض

ويعرف أحباؤك وبنوك

 أنك الفادي وحدك.

آمين

الأب/ بولس جرس