ماذا يفعل بطاركة الشرق للحفاظ على المسيحيين العرب؟

 القدس العربي

 

بمناسبة زيارة غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لأستراليا لا بدّ لنا من طرح بعض الآراء والتعبير عن هواجس تؤرق اللبنانيين ونسبة كبيرة من سكان البلدان العربية فيما يتعلق بوضع المسيحيين في المشرق العربي ومصر.

 

ان التقارير والدراسات التي تصدر تباعاً حول هذا الموضوع تركز دائماً علي ما يحدث من مآسٍ للمسيحيين العرب وعن المصاعب التي تدفعهم الى الهجرة دون ان نري خطوات او محاولات جادة لعلاج هذا الموضوع حيث تتزايد مخاطره الي درجة باتت تهدد خلوّ الشرق الاوسط من مسيحييه الذين شكلوا نسبة تزيد عن 18 بالمئة من عدد السكان خلال الحرب العالمية الثانية، وقد انخفضت هذه النسبة الي حوالي 6 بالمئة حالياً في مصر، الاردن، سورية، فلسطين والعراق مجتمعة.

 

واذا كانت الهجرة الاختيارية امتصّت نسبة لا بأس من المسيحيين خلال القرن الماضي مقرونة مع تهجير قسري احياناً فالكارثة الكبري مؤخراً سببها الهولوكوست البوشي في العراق وتعتبر هذه الكارثة أسوأ وأوحش ما عرفته المسيحية في البلدان العربية منذ قيامها قبل الفي سنة.

 

خلال خمس سنوات تشرّد وهُجّر حوالي ثلاثة ارباع المليون مسيحي عراقي وقتل الالوف منهم ودمّر القصف الامريكي 35 كنيسة تدميراً كاملاً وتضررت عشرات الكنائس والأديرة وفرّ مئات الالوف من البصرة وبغداد مخلفين ممتلكات وثروات تقدر بمليارات الدولارات. وللدلالة على قوة الوجود المسيحي في العراق نورد بناء على دراسات معروفة ان مسيحيي بغداد يمتلكون اكثر من 25 بالمئة من عقارات وابنية الوسط التجاري وقد ضمّت نقابة المهندسين حسب مصادرها عام 1988 حوالي 60 بالمئة من المسيحيين بين اعضائها فيما زاد عدد الاعضاء المسيحيين في نقابة الاطباء عن 35 بالمئة.

 

ويلجأ حالياً حوالي 100 ألف مسيحي عراقي الي مناطق الشمال الكردية وغير الكردية بانتظار السفر الي الخارج كما يتواجد في سورية ولبنان والاردن حوالي 280 ألف مسيحي عراقي يعانون مصاعب العيش من اعالة وتأمين مدارس لأولادهم وعناية صحية وغيرها. وهم ينتظرون ايضاً تأشيرات الهجرة الي الخارج.

 

والذي يؤسف له ان الانظار تتجه نحو الخارج لطلب الحماية والمساعدة وتأمين الهرب او اللجوء، على الرغم من ان هذا الخارج امريكا تحديداً هو المسؤول الاكبر عن هذه المحرقة التاريخية.

هل يقدر القادة الميسحيين ورؤساء الطوائف المسيحية العربية ان يفعلوا شيئاً للحفاظ على الوجود المسيحي او للحد من اندثاره على الاقل؟

 

تمتلك الطوائف المسيحية العربية حالياً مجموعة من القادة التاريخيين القادرين على انجاز مهمة كبيرة تضع حداً لهذه الكارثة او تخفف من عبئها علي الاقل. ان شخصيات تتمتع باحترام عالمي مثل: البطريرك الماروني الكاردينال صفير، الكادينال عمانوئيل دلّه، البطريرك السابق ميشال صباح والجديد فؤاد الطوال، البابا شنوده، والبطاركة: هزيم، لحام، عيواص، وسائر بطاركة السريان والاشوريين والارمن… تمتلك القدرة وتحظي بالاحترام والاصغاء فيما لو تحركت كمجموعة او كمجلس ثابت باتجاه الحكام العرب دون غيرهم لفتح حوار دائم بهدف تأمين حرية العبادة والعمل علي اعادة ما أمكن من مسيحيي العراق والتعويض عليهم بما امكن او بما يساويهم مع الاخرين.

 

فالحل في الداخل وليس بالتطلع الي الخارج. قال الاستاذ غسان تويني عندما زار استراليا في اواخر 1974 رداً علي سؤال يتعلق بحماية الغرب للمسيحيين العرب: ان الغرب يبيعنا ببرميل نفط واحد.. وقال موفد فاتيكاني معروف انه زار كاردينال نيويورك السابق اوكونور مرة وطلب منه ان يفاتح الادارة الامريكية كي تتدخل لدي حليفتها السعودية حول موضوع حرية العبادة والممارسة الدينية والسماح ببناء كنيسة علي ارض المملكة اسوة بسماح اوروبا وامريكا ببناء مئات المساجد علي أراضيها فضحك الكاردينال اوكونور وقال: ان الادارة الامريكية مهتمة جداً بأن تحصل علي موافقة سعودية لادخال شحنات الكحول لبعثاتها وقواعدها داخل المملكة ولا تهمّها قضايا الدين والعبادة وحرية المعتقد. وفهم ان نيافة الكاردينال كان قدم طلباً وخذل.

 

اذن علي المسيحيين العرب ان يزيلوا شوكهم بأياديهم، ولا شك ان القيادات الدينية الحالية وفي مقدمتها غبطة البطريرك صفير وسائر اصحاب القداسة الذين ذكرنا اسماءهم قادرون علي انقاذ الموقف ووقف نزيف الهجرة والتهجير بعمل جماعي يتوجهون به الي الحكومات العربية مباشرة دون التطلع الي الخارج ويقومون بتأسيس هيئة ثابتة لمعالجة الامور المستجدة والطارئة وخاصة مأساة مسيحيي العراق اذ من الممكن رعاية ومساعدة الهاربين منهم الي سورية ولبنان والعراق علي امل اعادتهم فيما لو هدأت الحروب هناك وزالت الممارسات الوحشية لميليشيات امريكا وايران وانكفأ الاحتلال.

 

لقد عبرت مراجع اسلامية ومؤسسات دينية وتربوية وشخصات سياسية وفكرية في معظم البلدان العربية عن تخوفها من تقلص عدد المسيحيين العرب. وقد سمعنا من سيادة المطران الياس شكور الموجود حالياً في استراليا ان عدد المسيحيين في القدس انخفض الي اقل من 2 بالمئة بعد ان كان 40 بالمئة عام 1967 و52 بالمئة عام 1948. ان النخب العربية من مختلف الطوائف تري في استمرار الوجود المسيحي حاجة حضارية ولا سيما ان المسيحية عميقة الجذور ووليدة تلك المنطقة.

 

يقول الاكاديمي المصري احمد دياب في مقال نشرته صحيفة الحياة بتاريخ 11-6-2008:

ان خلو الشرق الاوسط من مسيحييه سيفقد المنطقة احد العناصر الرئيسية في تقدمها الحضاري، وينسف احد الجسور المهمة بين المنطقة والغرب في وقت هما احوج ما يكونان فيه الي مد الجسور وليس قطعها او التفريط في احدها، الاهم من كل ذلك ان الشرق الاوسط سيصبح منطقة موحشة تتصارع فيها وعليها اصوليتان: يهودية في اسرائيل واسلامية في جوارها، كل منهما تعتبر هذا الصراع مباراة صفرية. لكن المشكلة الاكبر ان اسرائيل ستحاول استغلال هذا الصراع في تجديد دورها الوظيفي في المنطقة باعتبارها قلعة متقدمة في مواجهة ما يسمي الاسلام الراديكالي من اجل استمرار دعم الغرب لها.

ان هذه الدلائل والمؤشرات تفرض علي بطاركة الشرق وقادته الدينيين التحرك بعمل جماعي شجاع يسترجع الوجه المشرق للمسيحية وللتعايش الاسلامي-المسيحي المتجذر منذ فجر الايمان.


وقد تكون الاوضاع الاقتصادية الراهنة وفورة ارتفاع اسعار الطاقة التي احدثت نهضة عمرانية ضخمة في الخليج العربي وغيره وسيلة لتحويل هجرة نسبة مرموقة من المسيحيين للمشاركة والعمل هناك وهذا ما يؤمن بقاءهم في بلدانهم الاصلية. هذه الافكار راودتنا ونحن نتابع مأساة تقلص عدد المسيحيين العرب واخبار محرقتهم في العراق.

 

منذ اسابيع التقيت شاباً عراقياً يبيع اوراق ياناصيب علي سيارة في مطار لندن اخبرني بعد التعارف انه مسيحي من البصرة وسرد كيف خلت تلك المدينة كلياً من عشرات الالوف من المسيحيين بعد الاحتلال الامريكي-البريطاني، وسألته لماذا لم يتحرك 40 ألف جندي بريطاني لحمايتكم فضحك وقال: كل ما فعلوه كان تشجيعنا علي الهرب ونقلوا بعضنا في سياراتهم المصفحة، وها نحن نصارع وزارة الداخلية والاقامة للحصول علي تأشيرة بقاء دائم في بريطانيا.

 

أخيراً من هو البطل من بين اصحاب القداسة الكرادلة والبطاركة العرب الذي سيبادر الي اخذ مبادرة تبقي المسيحيين في قلب تاريخ المنطقة كما كانوا دائماً عوضاً عن التحدث عن المآسي في الوطن والازدهار في الشتات؟