ظاهرة الحياة الرهبانية

دار النشر: دير سيدة النصر- نسبيه – غوسطا

إعداد: سعد زغلول

لم تكن الحياة الرهبانية يوماً حكراً على شعب دون آخر. إنها ظاهرة شاملة كل الشعوب والبلدان والعصور والأديان. حتى الإسلام الذي تنكر لها، نعم بحركات من المتصوفين، كان بعضهم أكثر تشدداً من الرهبان المسيحيين.

هذه الظاهرة، على ما بدت عبر التاريخ البشري، بدت وكأنها بعد إنساني عميق في النفس البشرية. إنها نزعة صادقة نحو الأفضل والأمثل.

إلا أن ما ظهر من الحياة الرهبانية عبر تاريخ الكنيسة، وما انتظم منها في مؤسسات وجمعيات على مر العصور، وما تنوعت فيه من تيارات وتقاليد وطرق، وما اغتنت به مسيرة الحياة الروحية يدفعنا إلى التأمل ملياً في أعمال الروح ومواهبه.

لا شك أن المسيحية لم تنفرد بهذه الظاهرة، ولم تكن هي في أساسها، بل تبنتها بصورة عفوية كسائر الأديان لما عند الإنسان المسيحي من توق إلى مثالية تصب في شخص يسوع المسيح، الطريق والحق والحياة المؤدي إلى الآب الأزلي، والهدف الأمثل.

نبدأ بحثنا في هذه الظاهرة بعرض بعض الطرق الرهبانية غير المسيحية. ومن ثم نتطرق إلى ظروف نشأتها في المسيحية.

 

أولاً: ظاهرة الحياة الرهبانية في الأديان غير المسيحية

أ- في الفلسفة اليونانية

شهدت اليونان في القرن السادس ق.م مع الفيلسوف بيتاغوراس تأسيس جماعة ذات أهداف دينية وسياسية، تسعى إلى الربط بين البشر والألوهة، في سبيل خلق إنسان أفضل، ينجم عنه مجتمع أفضل. للوصول إلى هذا الهدف، سعت هذه الجماعة إلى عيش التقشف، تنقية الذات من ميولها الشريرة وإلى ممارسة الصمت في الحياة اليومية، مما يبعد النفس عن كل تشويش واضطراب، وإلى ارتداء الثياب البيض، علامة السعي إلى الكمال.

ب- في الديانة الهندوسية

ظاهرة الحياة الرهبانية في الديانة الهندوسية تبرز ضمن أشكال مختلفة ومتنوعة غير منتظمة يمكن تحديدها بثلاثة:

1-    النساك المتوحدون القاطنون في الغابات للتأمل والتقشف.

2- المستعطون أو الشحاذون الذين يجوبون الشوارع والساحات بحثاً عن ذواتهم وعن حقيقة الوجود المجرد

3- بالإضافة إلى هؤلاء نجد في الهندوسية بعض مجموعات تلتف حول معلم يلقنها الكتب الروحانية واليوغا.

ج- في الديانة البوذية

هذه الديانة، في أساسها، تستند إلى الظاهرة الرهبانية في نموها وتطورها. التعليم الأساسي الذي أطلقه بوذا يهدف إلى الخلاص والتحرر من الألم الكامن في عمق الطبيعة الإنسانية، من خلال السعي إلى المطلق وإلى التحرر من الكون والذات بصورة جذرية هذا التحرر، وحده الراهب البوذي، في اعتقاده، بإمكانه التوصل إليه من خلال ممارسات تقشفية صارمة.

 

د- في الديانة الإسلامية

شهد الإسلام منذ نشأته ميلاً للعزلة والتقشف والابتعاد عن مغريات العالم عند بعض المسلمين الذين انصاعوا للنزعة الإنسانية، الكامنة فيهم مستسلمين لله إلى أبعد حد. دعي هؤلاء فيما بعد، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بالمتصوفين نظراً لثياب صوفية اعتادوا ارتداءها. وهدفهم هو الولوج إلى أعماق وحدانية الله. وهؤلاء الصوفيون انتظموا في طرق صوفية متعددة. كل طريقة منها تتمثل بجماعة من المسلمين يعيشون معاً حياة جماعية، ترتكز على قواعد خاصة بكل منها بالإضافة إلى ممارسات الإسلام العادية. ومنها من تطرف وشط عن الإسلام فنال نقمة المسلمين.

ثانياً: ظاهرة الحياة الرهبانية في المسيحية

دخلت هذه الظاهرة على المسيحية بفعل تأثير خارجي حدد لها جذورها البعيدة، وتفاعل داخلي حدد لها جذورها القريبة:

أ- جذورها البعيدة

1. يحمل العالم الهلليني اليوناني، ضمن طيات فلسفاته المتعددة، تيارات فكرية وروحانية تدعو إلى احتقار الجسد، ونبذ الثروات، واجتناب المجتمع، في سبيل الفوز بالاطمئنان الذاتي الذي يؤدي إلى اكتشاف الحقائق الروحية، والتي هي في أساس وجود العالم أمثال: الروحانية التحررية الأفلاطونية والتشدد الرواقي.

2. التبادل التجاري بين العالم الهليني اليوناني والهندي سمح للأفكار التصوفبة الهندية بالانتشار في البلاد المشرقية، وبنوع خاص في جهات سورية ومصر الواقعتين على تقاطع الطرق التجارية القديمة.

3. لم يغب العالم اليهودي عن التأثر بالأفكار المتناقلة في العالم الهليني، فظهرت بعض الجماعات الدينية كالتي ذكرها فيلون الإسكندري ويوسيفوس، أمثال الشفائيين (Les Therapeutes) والإسينيين ( Les esseniens) الذين كانوا خير من مثل الحياة التقشفية والابتعاد عن العالم، كما سنجد ذلك في المسيحية فيما بعد.

ب- جذورها القريبة

بعض الشواهد المستقاة من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد شكلت الجذور القريبة والمباشرة، التي فتحت المجال أمام العوامل الخارجية للدخول إلى صلب الممارسات المسيحية. كما استحثت دوافع داخلية لتعميق الحياة المسيحية تشبهاً بآلام الرب وموته.

في ما يلي أهم هذه الشواهد:

1-  شخص موسى الكليم الذي صلى وصام أربعين يوماً على جبل سيناء ليتسلم لوحي الوصايا من الرب (خر 24/18).

2-  شخص إيليا النبي الذي هو أيضاً صلى وصام على جبل حوريب والكرمل (1مل 17-19). وهو يعتبر شفيع الرهبانية الكرملية المنتشرة في أنحاء العالم.

3-  شخص يوحنا المعمدان في العهد الجديد، يظهر من خلال ثيابه ونمط حياته وكأنه معتنق حياة النسك والتقشف (متى3/4).

4-  يسوع نفسه، وإن لم يعش مثل يوحنا المعمدان، فقد أطلق الدعوة إلى التخلي عن كل شيء لاتباعه (متى 4/19). كما أن عظته على الجبل (متى 5/1-16) قد أثرت بالكثيرين لما فيها من مثالية مسيحية يسعى إليها طالب الكمال المسيحي.

5-   وعلى ضوء تعاليم المسيح، دعا القديس بولس إلى حفظ البتولية من أجل الملكوت (1 قوة 7/25-40) وهو بنفسه كان مثالاً يحتذي به في عيشها.

ثالثاً: نشأة الحياة الرهبانية في المسيحية

الإطار التاريخي لنشأة الحياة الرهبانية في المسيحية يعود بنا إلى أجيالها الأولى التي طبعت الكنيسة بطابع البشارة والشهادة تحت ظل حكم روماني بالغ في ظلمه واضطهاده. هذا الظلم والاضطهاد لم يثنيا المسيحيين الأوائل عن بذل الذات في سبيل نشر الملكوت في أي طريقة كانت. غير أن هناك عاملين أساسيين عاشتهما الكنيسة الأولى كانا في أساس بعث الحياة الرهبانية في المسيحية:

1- العامل الأول هو تكريم البتولية وتكريسها في سبيل نشر الملكوت، وهذا ما يفسر وجود عذارى بتولات وأرامل تقيات تكرسن لخدمة الكنيسة والقريب، بالإضافة إلى بعض مظاهر التقشف والبتولية لدى رجال كرسوا ذواتهم للبشارة.

2- العامل الثاني هو عامل الاستشهاد الناجم عن الاضطهاد الذي شنه الرومان على المسيحيين الذين بذلوا ذواتهم حتى الموت، متمثلين بالمسيح على الصليب، وقد بذل ذاته في سبيل البشرية جمعاء. فالشهيد كان في تلك الحقبة من تاريخ الكنيسة على رأس لائحة القديسين والشاهد الأساسي على مصداقية الإنجيل.

قيض لهذا الوضع المؤلم أن يتغير بعد معاهدة ميلانو سنة 311 ميلادية. توقفت الاضطهادات ضد الكنيسة. هذه الحقبة الجديدة يعود الفضل في تحقيقها إلى الإمبراطور قسطنطين ووالدته القديسة هيلانة. أصبحت المسيحية، بعد أعوام من المعاهدة، دين الدولة الرسمي. هذا الوضع الطارئ شجع أعداداً كبيرة من الوثنيين على دخول الكنيسة بعد تقبل سر العماد المقدس بدون الاستعداد الكافي لذلك. دخل الوثنيون ودخلت معهم عاداتهم الوثنية مما عرض الكنيسة لسلبيات عديدة أهمها الفتور في عيش مثالية الإنجيل والتبشير بها. فحمية الأجيال الأولى خفت وكادت تزول لولا هبة من هبات الروح القدس فعلت فعلها في الكنيسة لتعيد لها سابق حماسها:

فتخلى العديد من المسيحيين عن العيش في الفتور المميت، وذهبوا بعيداً عن المجتمع، بحثاً عن إطار آخر يتلاءم أكثر مع تطلعاتهم الروحية فكانت حياة الترهب، والموت عن العالم، أو الشهادة البيضاء، البديل عن الشهادة الحمراء أو شهادة الدم التي من خلالها بذل المسيحيون ذواتهم في سبيل المسيح ونشر الملكوت.

هكذا كانت انطلاقة الحياة الرهبانية في الكنيسة. وقد أخذت بعد انطلاقتها، طرقاً شتى لعيشها بحسب مواقعها والبلدان التي نشأت فيها.