وصـايا الله العشر: الوصيّة الأولى

مقدّمة

نقرأ في الإنجيل هذا الحوار بين يسوع والشابّ: وإذا برجل يدنو فيقول لـه: "يا معلّم، ماذا أعمل من صالح لأنال الحياة الأبدية" فقال له: "لماذا تسألني عن الصالح؟ إنّما الصالح واحد. فإذا أردتَ أن تدخل الحيـاة، فاحفظ الوصايا". قال له: "أيّ وصـايا ؟" فقال يسوع: "لا تقتلْ، لا تزنِ، لا تسرقْ، لا تشـهدْ بالزور، أكرمْ أبـاك وأمّـك". ثمّ لخّص يسـوع هذه الوصـايا إيجابيـاً: "وأحببْ قريبَكَ حبّكَ لنفسك".

لقد سلّم الله إلى موسى الوصايا العشر وأمره أن يعلّمها الشعب ليحفظها ويعيشها، فهي إرادة الله وعلى الإنسان أن يحقّق إرادة خالقه. (راجع سفر الخروج في الفصل 20 وتثنية الاشتراع في الفصل 5).

إنّ "الوصايا العشر" أو "الكلمات العشر" تلخّص عهد الله مع الإنسان وتعلنه. نقرأ في العهد القديم: "هذه الكلمات كلّم الربّ بها جماعتكم كلّها في الجبل من وسط النار والغمام والدجى بصوت عظيم ولم يزد وكتبها على لوحي الحجر ودفعهما إليّ" (تثنية الاشتراع 5/22). ولذلك، فإنّ هذين اللوحين دُعيا شهادة "واجعل في التابوت الشهـادة التي أعطيتها" (خروج 25/16) وهما العهـد الذي أبرم بين الله وشعبه.

وإنّ تقليد الكنيسة، حرصاً على الكتاب المقدّس وتجاوباً مع مثال يسوع، قد أقرّ بأهمّية الوصايا العشر وصدارتها في قوانين الله.

في بعض الكنائس القديمة، تُدوَّن الكلمات العشر على لوحتين توضعان غالباً بالقرب من المنبر. اللوحة الأولى تتضمّن الوصايا التي تختصّ بعلاقة الإنسان بالله (1-3)، واللوحة الثانية، الوصايا التي تختصّ بعلاقة الإنسان بالجماعة البشريّة (4-10). وبذلك يعود الفنّانون إلى رواية الكتاب المقدّس التي تذكر أنّ الله قد أعطى موسى الوصايا العشر على لوحين (خر 15/32، تث 5/22).

في يسوع المسيح ظهر، على نحوٍ نهائيٍّ، أنّ الله يُحبّنا، وأنّه يمنحنا الحياة ومستقبلاً ما. إنّه يدعونا إلى أن نسير في المحبّة التي يُعلن يسوع أنّها الوصيّة الأولى والعظمى. محبّة الله والقريب:

"أحبب الربّ إلهكَ بكلّ قلبكَ، وكلّ نفسكَ، وكلّ ذهنكَ، وكلّ قوّتكَ. والوصيّة الثانية هي هذه: أحببْ قريبَكَ كنفسكَ. ليس مِن وصيّة أخرى أعظم من هاتين" (مر 12/30-31).

إنّ وصيّة محبّة الله والقريب لا تلغي كلمات العهد القديم العشر، بل تكمّلها.

في نظر القدّيس بولس، محبّة القريب هي ملخّص الوصايا: "مَن أحبّ القريب قد أتمّ الناموس. فإنّ هذه الوصايا: لا تزْنِ، لا تقتلْ، لا تسرقْ، لا تشهدْ بالزور، لا تشتَهِ.. وكلّ وصيّة أخرى، تُلخَّص في هذه الكلمة: "أحببْ قريبَكَ كنفسكَ" (رو 13/8-9).

في الوصايا العشر وفي وصيّة محبّة الله والقريب، أعلنت الكنيسة عبر القرون "قانون إيمانها الأخلاقي". معها وفيها، لا نفهم الوصايا كأنّها حدود وُضعت أمام حرّيتنا، إنّما هي توجيهات معطاة من قِبل الله في سبيل حياة نقضيها في محبّة الله والبشر. وهذا يصحّ اليوم كما في الأمس:

"هذه الوصيّة التي أنا آمركَ بها اليوم ليست فوق طاقتكَ ولا بعيدة منكَ. لا هي في السماء فتقول: مَن يصعدُ لنا إلى السماء فيتناولها لنا ويُسمعنا إيّاها فنعمل بها؟ ولا هي عَبرَ البحر فتقول: من يعبرُ لنا البحرَ فيتناولها لنا ويُسمعنا إيّاها فنعمل بها؟ بل الكلمة قريبة منك جدّاً، فهي في فمكَ وفي قلبكَ لتعملَ بها" (تث 30/11-14).

 

الوصيّة الأولى : أنا هو الربّ إلهكَ لا يكنْ لكَ إله غيري

يبيّن الكتاب المقدّس أنّ الله وحده هو مخلِّص الناس ومنقذهم. الآلهة هي "لا شيء". ولا يمكن انتظار أيّ شيء ممّن هم لا شيء. لذلك، تدعو الوصيّة الأولى إلى الالتزام ضدّ الآلهة المزعومين، والاعتراف بمَن هو وحده إله السماء والأرض، وذلك من أجل الإنسان نفسه. التقيّد بهذا الإله والأمانة له يستطيعان وحدهما أن يحفظا الإنسان في الطريق الصالح. منه نأتي، ومصيرُنا الرجوع إليه، هو مصدر حياتنا ومعناها وهدفها. مَن ينفصل عن الله تفقد حياته اتّجاهها نحو ما يعطيها معناها. محبّـة الله تدعو إلى التعلّق به بثقـة.

 

أوّلاً: موقف الإنسان من الله

إنّ ملاقاة الناس تشكّل تحدّياً خطيراً للإيمان. في المجتمع، وفي العمل، وغالباً في أسرتنا الخاصّة، نصادف أشخاصاً لا مبالين بالنسبة إلى وجود الله أو عدم وجوده. بعضهم يرفضون بصراحة فكرة الله، وغيرهم يعتقدون أنّ الإنسان لا يستطيع أن يقولَ أيّ شيء عن الله، وآخرون يشرحون أن لا تجانسَ ممكناً بين العلوم والله. "البعض يُشيدون بالإنسان إلى حدّ أنّهم يكادون يُهزِلون الإيمان بالله، وهمّهم الأكبر، على ما يظهر، إثباتُ الإنسان أكثر من إنكار الله. والبعض الآخر يتمثّلون الله تمثّلاً تصبح معه صورة الله التي ينكرونها غريبة كلّ الغرابة عن صورة إله الإنجيل. وهنالك مَن يُعرضون عن معالجة قضايا الله، لكونهم، على ما يبدو، بعيدين عن أيّ معاناة للقلق الديني، ولا يرون داعياً يدعوهم بعد إلى الاهتمام الديني". (المجمع الفاتيكاني الثاني). كثيرون يُحيلون أيضاً إلى الشرّ في العالم، ويعدّون وجوده منافياً لفكرة الله، وكثيرون غيرهم يعلنون أنّ إمكانيّات تغيير وجه العالم التي تأتينا من العلم ومن التقنية تجعل الله لا فائدة منه. فالمهمّ إنّما هو الإنسان وحده.

إزاء فكر يرى في الإنسان نفسه العامل الأوحد لتاريخه، وينتظر من الإنسان وحده تحرير الإنسان، يبيّن الكتاب المقدّس أنّ التحرير والخلاص إنّما يعطينا إيّاهما الله. من الحماقة أن نريد أن نكون "مثل الله" (تك 3/4)، وأن نضع أنفسنا مكان الله. من الله ننال عظَمتنا، ومع ذلك فالله يجعلنا نختبر أيضاً حدودنا. القبول بحدودنا هو لنا عون وخير. إذ يقودنا إلى أن نعترف بالله في ألوهته، وإلى أن نكون مسؤولين أمامه عن الحرّية التي أنعم بها علينا، وألاّ نسيء استعمالها بالوقوف ضدّه.

 

ثانياً: أشكال أساسيّة من عبادة الأصنام

في حديثنا نتطرّق إلى ثلاثة أنواع من التحدّيات التي تبعدنا عن الله وتجعلنا نعبد أصناماً جديدة عوضاً عنه.

آ- عبادة صنم الامتلاك

يسيطر على الإنسان عامّةً همّ الحفاظ على حياته وهمّ ضمان مستقبله. لذلك، فإنّ اكتساب الخيرات المادية وامتلاكها يساعدان على إعطاء شكل للمساحة الحياتية الشخصيّة، ويوفّران الشعور بالوجود في مأمن من المرض، والحوادث، وفقدان القدرة على العمل، وعزلة السنّ.

جزء كبير من هذا الهمّ الناظر بتبصّر إلى المستقبل لا يدور موضوعه على الحياة الشخصيّة وحسب، بل أيضاً على الأسرة، وعلى مستقبل الأولاد وعلى الخير العامّ للشعب وللشعوب. مثل هذا التبصّر لا يوفّر الشعور بأمان مادّي وحسب، بل يمنح أيضاً استقلالاً أكبر وحرّية أوفر يتيحان تعاطي أشغال أخرى، كالأسفار وتعزيز الفنّ والثقافة، ومزاولة هوايات شخصيّة، والالتزام في خدمة أناس آخرين. كثيراً ما نجد، في ما وراء هذه النشاطات، قيَماً إنسانية بارزة كالحكمـة ومعنى المسؤوليّة، والعمل ومعنى الاقتصاد، والاستعداد للالتزام، والاهتمام بخيرات الخليقة.

كلّ هذا صالح وحسن، ما دام يتأصّل في الاستعداد الذي يقوم على أن يكون للإنسان أشياء وكأنّه لا شيء له، وأن يمتلك وكأنّه لا يملك شيئاً (1كو 7/29-31). إن غاب هذا الاستعداد، ضاق النظر على ما هو ضروريّ للوجود، حينئذٍ قد يدفع الامتلاك والغنى إلى رغبة الازدياد في الامتلاك، وإلى وضع المُلك فوق الكِيان. "الجوع المشؤوم" للمال قد يقود إلى أن يجعل الإنسان من الغنى صنماً يسود كلّ شيء، المال الربّ.

يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: "على الجميع أن يُعنَوا بتنظيم نوازعهم تنظيماً مستقيماً لئلاّ ينحرف بهم استخدام أشياء العالم والتمسّك بالغنى تمسّكاً يُخالف روح الفقر الإنجيلي، عن مواصلة السعي إلى كمال المحبّة" (ك 42). يلفت هذا النصّ الانتباه إلى المخاطر المرتبطة في حياتنا بالهمّ والتبصّر. "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالمَ كلّه وخسر نفسه؟" (مر 8/36). كثيرون يسمعون كلمةَ ملكوت الله المزروعة فيهم، "ولكنّ همّ الحياة الدنيا وغرورَ الغنى يخنُقان الكلمة، فتظلّ بلا ثمر" (متّى 13/22). ويحذّر يسوع من الغنى الذي يقود الإنسان إلى أن يجعل من المال صنماً: "لا تكنـزوا لكم كنوزاً على الأرض، حيث السوسُ والعُثّ يُتلفان، وحيث اللصوصُ ينقبون ويسرقون. بل اكنـزوا لكم كنوزاً في السماء" (متّى 6/19-20). "فإنّه حيث يكون كنـزُك، هناك يكون قلبُك أيضاً" (متّى 6/21). "لا يستطيع أحد أن يكون عبداً لسيّدين.[…] إنّكم لا تستطيعون أن تكونوا عبيداً لله وللمال" (متّى 6/24). مَن كان همّه الأوحد ازدياد خيراته المادّية خسر الحياة الحقيقية (لو 12/16-21). لا يحقّ لأحد أن يتعامى إزاء حاجات الناس الذين يقفون أمام بيته (لو 16/19-31)، وحاجات جميع الذين، وهم كثيرون في العالم، يعيشون دون الحدّ الأدنى الحياتي. المتملّكون والأغنياء الذين لا يريدون أن يروا الضيق في العالم لن يمكنهم الدفاع عن أنفسهم يوم سيدين ابن البشر الناس (متّى 25/31-46).

اتّباع يسـوع قد يعني، في بعض الحالات، أن يتخلّى الإنسـان عن كلّ ما يملك (مر 1/16-20، لو 14/33). ونرى إلى أيّ حدّ يمكن أن يكون هذا الأمر صعباً، لدى قراءة رواية الشابّ الذي يعرض عليه يسوع: "اذهبْ، بِعْ كلّ شيء لكَ، وأعطِهِ للفقراء فيكونَ لكَ كنـز في السماء، ثمّ تعالَ اتبعني. فانقبض لهذا الكلام، ومضى حزيناً، لأنّه كان ذا أموال كثيرة" (مر 10/21-22).

مَن تملّكه يسوع المسيح، لا تستطيع الثروة ولا الممتلكات أن تصير أصنام حياته. ولا يعود في حاجة إلى أن يبني على امتلاك خيرات أرضية. وكذلك يزول عنه القلق الناتج من اهتمامه بحياته اليومية، إذ يعلم أنّ الله نفسه هو ضمان حياته الأخير (متّى 6/25-33). كلام يسوع ومثله يدعوان إلى مواجهة أحداث الحياة بسكينة واطمئنان. في تحديد موقفنا من الثروة والخيرات، يجب أن يقودنا الاقتناع التالي: أمام الله كلّنا فقراء، وخيرات العالم فانية، فعلينا أن نستعملها بروح فقر، بحيث لا يتحوّل اهتمامنا الطبيعي بالتملّك إلى جشع وبخل وقساوة قلب بإزاء الفقراء والمعوزين. وهكذا، فالوصيّة الأولى هي سؤال ناقد يسألنا عن طريقة استعمالنا لخيرات الأرض.

 

ب- عبادة صنم السُلطة

يتوق الإنسان إلى أن يُعتبَر ويُعترَف به شخصيّاً. يريد أن يُعترَف به في الجماعة البشريّة، ويُعتَبَر تبعاً لما يقدر أن يصنع ولما يحقّق، ويريد أن يكون له نفوذ ويمارس سُلطة. متى وُضع هذا التوق، كما ينبغي، في خدمة الشخص البشري والجماعة البشريّة، نحن أمام قيمة إيجابية.

بيد أنّ الرغبة في الاعتبار والاحترام والسُلطة تصير تهديداً متى تشوّه السعي إلى الاعتبار والسُلطة. فالعطش إلى الاعتبار يجعل من الواحد إنساناً وصوليّاً، فلا يفكّر بعد إلاّ في ما يبغي الوصول إليه، ويزيل دون تردّد كلّ ما يقف عائقاً في طريقه، وهو مستعدّ حتّى للتخلّي عن إيمانه ودينه إن كان في ذلك سبيل لبلوغ هدفه. والكبرياء والغطرسة تحملان الآخر على تنصيب نفسه فوق جميع الناس، وهو يستفيد من منصبه ويصير طاغية. والثالث، وقد امتلأ ثقة بنفسه بوجه خاطئ، لا يعود يثق بشيء، ولا حتّى بالله، ويعتقد أنّه لا يمكن الاتّكال على أحد، ولسان حاله يقول: أعِنْ نفسَكَ بنفسكَ، حينئذٍ يعينكَ الله.

هذه الأشكال من عبادة صنم السُلطة واعتبار الذات تعكس مواقف تناهض مناهضة عميقة إرشادات يسوع لتلاميذه: "تعلمون أنّ الذين يُعدّون رؤساء الأمم يسودونهم، وأنّ عظماءَ هم يتسلّطون عليهم. وأمّا فيكم، فليس الأمر هكذا. بل مَن أراد أن يكون فيكم كبيراً فليكنْ لكم خادماً، ومَن أراد أن يكون الأوّل فليكنْ للجميع عبداً" (مر 10/42-44). وموقف الأمَة المستعدّة الذي اتّخذته مريم قادها إلى القول: "هاءنذا أمَة الربّ. فليكنْ لي كما قلت" (لو 1/38).

أمّا الطريق الأسمى في الطاعة والخدمة فهو الذي سلكه يسوع نفسه: "هو القائم في صورة الله، لم يعتدّ مساواته حالة مختلسة، بل لاشى ذاته، آخذاً صورة عبد، صائراً شبيهاً بالبشر، فوُجد كإنسان في الهيئة. ووضع نفسه، وصار طائعاً حتّى الموت، موت الصليب" (فل 2/6-8). كثيرون، اقتفاء بيسوع، يبذلون ذواتهم بذلاً كاملاً في سبيل الله. فالله وحده يجب أن يكون ربّ الحياة. وهذا يفسح أيضاً في المجال أمام الناس لطريقة جديدة للعيش معاً.

 

ج- عبادة صنم المتعة واللذّة

الإنسان يتوق إلى المتعة واللذّة. هذا السعي مرتبط بدواعٍ كثيرة. فنتكلّم مثلاً على لذّة الحواس (النظر، والشمّ، والذوق، والسماع، واللمس)، وعلى المتعة الروحية. هناك أيضاً ميل حتّى في جعل متعة اللذّة مبدأ العمل والسـلوك الخلقي. بموجب هذا المفهوم، يجد الإنسان سعادته في إشباع حاجـاته الغريزية، في التمتّع باللذّة.

كثيرون يرون في إتمام الجنس وفي المتعة الجنسية هدفاً هامّاً في حياتهم. وفي الواقع إنّ رغبة الاكتمال الجنسي هي جزء من ديناميّة الحياة البشريّة. ولها، بصفة كونها قوّة محرّكة معطاة من قِبل الله، أهمّية كبرى بالنسبة إلى الحياة البشريّة. وهي، باتّحادها بقوى الإنسان الروحيّة، على نحوٍ ما محرّك العمل. فيجب على الإنسان من جهة ألاّ يخنقها، كما يجب عليه من جهة أخرى ألاّ يترك لها العنان: إنّها موكلة إلى مسؤوليّته. فإن اندرجت في الحياة اندراجَ واقع إنسـانيّ حقيقي، يمكن أن توفّر للإنسان سعادة عميقة، ولكن يمكن أيضاً أن تتحوّل إلى قدرة تعذّبه وتسيطر عليه إلى حدّ أنّها تُفقده حرّيته، فيصير فريسة غرائزه الجنسية ويجعل من الجنس صنم حياته.

لقد حكمت الكنيسة، عبر كلّ العصور، في تعليمها الأخلاقي، على عبادة صنم الجنس. كلّ شكل من أشكال إجلال الله من خلال نشاط جنسي هو غريب عنها. وهي تعتقد أنّ تأدية العبادة للجنس كإلى صنم يجعل الإنسان في داخله عبداً للغريزة، التي يمكن أن تتسلّط على الناس بحيث لا يعود الجنس يحظى لديهم بالتقدير العاقل. عبوديّة كهذه لا تدمّر الحبّ بين الناس وحسب، بل تقوّض أيضاً المحبّة الواجبة لله.

 

ثالثاً: العبادة المسيحية: "المشورات الإنجيلية"

يعدّ التقليد المسيحي عبادة صنم الشهوة من بين الرذائل التي يستسلم لها الإنسان بسهولة في سعيه نحو الامتلاك والسلطة والمتعة: "شهوة الجسد، وشهوة العين، وصلف الغنى" (1يو 2/16). في مقابل هذا الخطر، يجب أن يتصرّف الإنسان بحيث يتّخذ موقفه من السُلطة والامتلاك واللذّة مكانه المناسب في مجمل حياته. وفي هذا الموضوع، يكتسي التقشّف والتجرّد أهمّية كبرى بالنسبة إلى النمط الذي يتّخذه الإنسان نهجاً لحياته. ذلك أنّ كلّ إنسان مسؤول عن اختيار الأسلوب الصحيح لتحقيق رغائبه الأساسيّة. إحدى الطرائق الخاصّة للتصرّف بالنسبة إلى الخيرات والجنس والسُلطة هي الاختيار الحرّ للفقر والعفّة والطاعة كنمط حياة انتشر في الكنيسة بتعبير "المشورات الإنجيلية".

يعود تعبير" المشورات الإنجيلية" إلى القرن الثاني عشر، بيد أنّ هذا النمط في الحياة معروف في الكنيسة منذ بدايتها كطريقة مثالية لاتّباع المسيح، اقتداء بتلاميذ يسوع مع معلّمهم. في عصر آباء الكنيسة وفي لاهوت العصر الوسيط، اتّخذ مقطع الشابّ الغني مثالاً لتمييز طريقين في الحياة المسيحية: طريق الوصايا وطريق المشورات. وعُدَّت هذه الطريق الأخرى طريق الكمال.

أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني وجود دعوة مشتركة بين جميع المسيحيين إلى القداسة وإلى الشركة مع يسوع المسيح. فجميع المسيحيين مدعوون إلى المحبّة الكاملة التي يمكن الوصول إليها بطريقين. المشورات الإنجيلية تشكّل نهجاً خاصّاً في الحياة المسيحية، ومبرّر وجودها أنّها علامات. وهي الطريق الفضلى للمدعوين إليها بمعنى أنّها لهم نهج الحياة الصحيح.

 

رابعاً: صورة الله في يسوع المسيح

لن نتوصّل أبداً إلى معرفة أعماق الله، الذي هو الإله العظيم إلى ما لا نهاية، إنّه يبقى السرّ الذي لا تقوى على التقاطه لا الكلمات، ولا الصور ولا التصوّرات.

الكتاب المقدّس يكلّمنا على الله بطرائق كثيرة. وهو يروي مسيرة الله مع الإنسان ويتكلّم على الله بوساطة صور ملوّنة بألوان عجيبة يكمّل بعضها بعضاً. التقاط الله بصورة جامدة هو، في نظر شعب الله في العهد القديم، انتهاك للأقداس. لا يمكن إدراك الله في صور هي صنع أيدي البشر. ومع ذلك يتكلّم الكتاب المقدّس، بأقوال وتصوّرات، على إله التاريخ الذي رافق الشعب على طريق تحريره، وحرمانه، وأخطائه وارتداداته. هذا الإله هو الإله الحيّ الذي يخاطب الإنسان فيقول له: "أنتَ". ليس الإنسان هو الذي يتصوّر الله، بل الله هو الذي يعرّف عن نفسه بكلامه ووحيه وعمله. ولأنّ الله يخاطب الإنسان على هذا النحو، ويأتي إلى مبادرته ويمنحه بالتالي إمكانيّة مواجهة شخصيّة معه، يمكن الإنسان ويجوز له أن يخاطب الله الكلّي القدرة ويقول له: "أنتَ".

الإله الذي يكشف عن نفسه يلتقينا كشخص. فكيف لا يتحدّث عنه الإنسان كما يفعل في حوار مع أشخاص؟ لذلك يتكلّم الكتاب المقدّس على الله بصور كثيرة التنوّع، هي بمنـزلة أمثال ودلائل: فالله هو الحبيب الغيور، الذي يسعى في إثر الإنسان، ويغضب، ويحزن، ويثأر، ويدمّر، ويعيد البناء.. الله هو أب، ويرأف كما ترأف الأمّ (أش 49/15)، هو ملك وراعٍ، هو حكمة وكلمة، وهو يضيء بوجهه علينا، وقد "نقشنا على راحة كفّيه" (أش 49/16). كلّ الكلمات والتصاوير التي نستعملها للكلام على الله ممكنة، لأنّنا على صورته. بصفة كوننا أشخاصاً، نستطيع أن نتكلّم على الله الشخصي من خلال كلمات بشريّة، ونستطيع في الوقت عينه أن نتكلّم على صورة الله في الإنسان.

صورة الله استنارت أكمل استنارة في ابنه يسوع المسيح الصائر إنساناً. فهو "صورة الله غير المنظور" (كو 1/15). ويستطيع أن يقول عن نفسه: "مَن رآني فقد رأى الآب" (يو 14/9). ليس الإنسان هو الذي يصنع صورة عن الله، بل الله نفسـه يأتي إلى أمام الإنسان في صورة ابنه. يسوع المسيح لا يبلّغنا صـورة أبيه وحسـب، بل هو طريقُنا إليه: "لا يستطيع أحـد أن يذهب إلى الآب إلاّ بي" (يو 14/6). في يسوع المسيح أُعطي لنا أن نرى مَن يريد الله أن يكون بالنسبة إلينا. عندما نصير إخوة يسوع وأخواته وأصدقاءه، نصير أبناء الآب. وهذا لا يزيل بأيّ شكل من الأشكال المسافة التي ينطوي عليها تحريم الصور. الله يمنحنا أن نشارك في سرّه، ولكنّه يبقى سرّاً.

إنّ وفرة الكلمات والصور التي تعبّر عن اشتراكنا في سرّ الله في يسوع المسيح تسمح بأن يتعلّق كلّ واحد منّا بالصور والتصوّرات الأقرب إليه. فالمقصود هو البلوغ إلى علاقة شخصيّة مع الله. الله يحبّ كلّ واحد في فرادة شخصه وخصوصيّته. وعلينا نحن أن نحبّ كما يحبّنا الله: "مَن ثبت في المحبّة ثبت في الله، وثبت الله فيه" (1يو 4/16).

 

الخـاتمة

إنّ الحياة في الشركة مع الله تبدأ بالمعموديّة، إذّاك نلج العهد الأبدي مع الله، الآب والابن والروح القدس. المعموديّة تعطى باسم الثالوث القدّوس. يسوع، الابن، يُدخلنا في علاقته، علاقة المحبّة، بالآب، ويملأنا من روحه القدّوس الذي فيه نستطيع أن نقول: "أبّا، أيّها الآب الكلّي الصلاح". مَن يعتمد يعلن مواعيد معموديّته، وبها يرتبط بالله الذي، في يسوع المسيح، يدعوه إلى الخلاص ويهبه نعمته: "النعمة مشاركة في حياة الله، تدخلنا في صميم الحياة الثالوثية: فبالمعموديّة يشترك المسيحي في نعمة المسيح رأس جسده. وبصفة كونه "ابناً بالتبنّي" يستطيع أن يدعو الله "أبـاً" بالاتّحاد مع الابن الوحيد. وهو يتقبّل حياة الروح الذي ينفخ فيه المحبّة والذي يكوّن الكنيسة" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية).

هذا ما تقتضيه الوصيّة الأولى، في مستهلّ سلسلة الوصايا: التزام نحو الله، إله المحبّة الذي، في يسوع المسيح، دعانا إليه دعوة نهائية. ويجب، باستمرار، تجديد هذا الالتزام.

 

 

المراجع

المرجع الأساسي: "المسيحية في أخلاقيّاتها" (التعليم المسيحي الكاثوليكي للبالغين). سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، رقم 19 – منشورات المكتبة البولسية – لبنان، ط1 1999.

عن موقع القديسة تريزا: جمعية التعليم المسيحي بحلب