الوعي بمتطلبات الحوار بين الأديان والثقافات

جريدة الوطن السعودية

 

الحوار حاجة إنسانية تحتمها ظروف العيش المشترك للاندماج في الجماعة والتواصل مع الآخرين، لأن الحوار يحقق حاجة الإنسان للاستقلالية من جهة وحاجته للمشاركة والتفاعل مع محيطه من جهة أخرى. فهو إذن يظل السبيل الأمثل للتفاهم والتعاون المتبادل للعلاقات الإنسانية والتعايش السلمي بين الجماعات. وإذا كان الحوار على هذه الدرجة من الأهمية، فهل تمتلك مختلف أطياف المجتمع السعودي الوعي بهذه الأهمية ومن ثم الوعي بما يتطلبه الحوار؟ وما هو المطلوب منا أفراداً وجماعات لدعم مبادرة الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة التي طرحها خادم الحرمين الشريفين في مدريد وإبقائها فاعلة بشكل متواصل؟ إن نجاح هذه المبادرة العالمية يحمل في ثناياه آثاراً بعيدة المدى، إذ يسهم الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة في نشر ثقافة التسامح التي تعني تقبل الاختلاف، وتقبل الاختلاف يفضي إلى تقبل الآخر المختلف، والذي يفضي بدوره إلى إشاعة السلم الاجتماعي داخل المجتمع أو ما بين المجتمعات.

 

يمكن القول إن من متطلبات الوعي الكامل بهذه الأهمية أن يكون لدينا أولاً وقبل كل شيء صدق متناغم مع الذات، فلا نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا، ولا نقول شيئاً لمجرد الاستهلاك الخارجي أو دفعاً للشبهات. من المطلوب، بل من المفترض أن نصدق مع أنفسنا فيما نقوله بشأن احترام الأديان واحترام أتباع هذه الأديان في معاملاتنا وسلوكنا اليومي فلا ننصب أنفسنا وكلاء لمحاسبتهم ومعاقبتهم إن كانوا على خطأ فالله تعالى لم يكلفنا بمحاسبتهم أو إنزال العقوبة عليهم (وما أنت عليهم بوكيل). لقد وضع الملك عبدالله كل السعوديين بل والمسلمين جميعاً أمام تحدٍ كبير قد يفوق تحدي 11 سبتمبر. نحن الآن على المحك وأمام مسؤولية كبرى وضعنا فيها الملك بإعلانه وتبنيه لهذا الحوار بما ورد فيه من مبادئ وما دوّنه من توصيات، ولا بد لنا كمواطنين سعوديين -بل ومسلمين جميعاً- أن نستشعر هذه المسؤولية الكبيرة بأن نثبت للعالم لا بالقول فقط ولكن بالعمل والسلوك، أننا فعلاً أناس يتجذر فيهم احترام الأديان المختلفة والثقافات المتعددة، وأننا نمارس التسامح مع المختلفين عنا ديناً أو مذهباً أو ثقافة أو عرقاً. وفي هذا العصر المعلوماتي المفتوح، يضحي أي سلوك فردي أو موقف جماعي أو تصريح (إنترنتي)، خصوصاً ممن يشكلون ثقلاً اجتماعياً أو فكرياً في مجتمعنا منسحباً بشكل تلقائي على مصداقية المملكة ككل. هذا بطبيعة الحال لا ينفي -بل ولا يمنع- أن يكون هناك أفراد أو جماعات متطرفة أو منغلقة في كل المجتمعات، ولكن المهم والمطلوب أن يكون النسق العام والنسيج القانوني متساوقاً ومبادئ هذا التسامح.

 

إن التسامح لا يعني الاقتناع المطلق بالرأي الآخر، ولا يعني كذلك فرض رأيٍ علي رأيٍ آخر. كما أنه في الوقت نفسه لا يسعى لإكراه الآخر المختلف على تبني وجهة نظر ما سواءً كان ذلك الإكراه معلناً أو مبطنا. ولكنه يعني العيش المشترك في ظل الاختلاف. التسامح يعني، فيما يعني، أن تذوب من وعينا ومن لا وعينا فكرة الاستعلاء والانتقاص من الآخر أو رفع علامات الاستفهام ضده لمجرد كونه مختلفاً عنا ديناً فما بالكم إن كان المختلف عليه مذهباً! وعليه فإن الانفتاح على الآخر المختلف لا يؤدي إلى التخلي عن المبادئ الذاتية والتراثية كما يخشى البعض. بل على النقيض من ذلك، كلما زاد الإنسان انفتاحاً وتفاعلاً مع الآخر تعمقت ثقافته وازداد ثقة بنفسه وقلت قابليته للاستسلام للشعور بالدونية أو التهديد من قبل الآخر المختلف وتعمق في الوقت نفسه احترام الآخرين له فكراً وسلوكاً.

 

ولكي يتم توظيف مبادئ وتوصيات إعلان مدريد التي اتفق عليها المشاركون في مؤتمر حوار الأديان والثقافات، أرى أن تسعى كل دولة عبر مؤسساتها الرسمية والشعبية إلى تطبيق مبادئ إعلان مدريد على صعيد الممارسة في مجال السياسات والقوانين والأنظمة، والآليات القانونية لمحاسبة الانتهاكات؛ وذلك في مجال المؤسسات التعليمية والإعلامية والتصدي لكل ما يحض على العنف أو الكراهية، وأن تصدر المنظمات الدولية وثيقة مماثلة لاحترام الأديان ورموزها.

 

وفي الوقت نفسه، يظل سؤال التحدي الأكبر أمامنا حول مواقفنا من إدانة الظلم والانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية وتقديم المساعدة لضحايا الحروب والكوارث الطبيعية بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم أو عرقهم. فهل لدينا الجرأة والحزم والوضوح في انتقاد جميع أشكال العنف والإبادة الجماعية وأشكال التمييز الأخرى بغض النظر عمن صدرت منه تلك الممارسات وبغض النظر عن هوية ودين من وقعت عليهم هذه الانتهاكات؟ هل لدينا الجرأة لإدانة كل مرتكبي جرائم الحرب ضد البشرية أياً كانت انتماءاتهم العرقية والدينية بنفس القدر الذي نقف فيه ضد ميلاسوفيتش أو رادوفان كاراديتش المسؤولين عن مقتل 8000 مسلم في سيربينيتشا؟ هل نبادر في تقديم المساعدة والعون مع من هرعوا لتقديمه لضحايا زلزال سيشوان في الصين أو إعصار بورما بنفس السرعة التي نبادر فيها لتقديم العون لمنكوبي السونامي من المسلمين الإندونيسيين؟ هل نرفض كل أنواع الإرهاب والعنف السياسي وتعريض المدنيين للموت سواءً بسواء في فلسطين كما في رواندا؟ هذه أمثلة من المواقف التي يمكن عبرها أن نكون إما صادقين مع أنفسنا أو أقل صدقاً.

 

يمكن لنا حقاً أن نترجم هذا المؤتمر إلى سلوك نفخر به على مر الزمن إن كنا بحق نحترم إنسانية الإنسان وندافع عن حقه في الحياة الكريمة بغض النظر عن انتمائه الفكري أو العقدي. قد تبدو هذه الدعوة صادمة للبعض لكنها هي ذاتها دعوة حوار الأديان، وقبل ذلك كله هي دعوة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، القائمة على مبادئ رسالة دين الإسلام.