دعوة العلمانيين ورسالتهم

في ضوء تعاليم السلطة الكنسيّة [1]

 

1-    معضلة الهويّة المسيحيّة، اليوم

ما معنى أن نكون مسيحيين ؟ وأن نكون مسيحيين علمانيين [ كاثوليك] ؟ إن الماديّة العمليّة و العقليّة الاستهلاكيّة اللتين تسودان المجتمع تولدان اللامبالاة الدينيّة، وتنشران أنماطاً من العيش المفرغ من وجود الله. وبمزيد من الانكفاء ينحصر التدين في نطاق الحياة الخاصّة، وغالباً ما تؤدي التسويات مع الثقافة العلمانيّة و المعلْمنة إلى تفريغ الإيمان من حيويته وأصالته الإنجيليّة. ويبقى كلام القديس بولس، اليوم أكثر آنيّة من أي وقت مضى، عندما يقول :" فاعتبروا أيها الأخوة دعوتكم." ( 1كور 1: 26)، أو بمعنى آخر " تذكروا من أنتم".

إن مسألة الهويّة ليست مسألة تحل حلاً واحداً ونهائيّاً بالنسبة للجميع، فعلى كلّ جيل، وعلى كلّ مسيحي أن يقدّم جوابه للمسيح، وأن يقدمه يوميًا ! وفي عصرنا هذا يصعب تقديم هذا الجواب، ولاسيّما، نحن الّذين نعيش وسط ثقافة غير مسيحيّة. ها هي إذاً مهمّتنا، وهي أن نعيد اكتشاف هويتنا المسيحيّة، فنعمقها ونوطدها من جديد دون أي كلّل. ترتكز الهويّة المسيحيّة على الإيمان الحي الراشد. أمّا الخطر فيكّمن، اليوم، في تقلّص " كياننا المسيحي " إلى دائرة اجتماعيّة محضّ، وإلى تقليد، ورواسب من الماضي، وبعبارة واحدة، إلى مسيحيّة لا أثر لها على الحياة اليوميّة الملموسة لكلّ مؤمن أو جماعة. ينبغي أن تقوم الفضائل الإلهيّة الثلاث، الإيمان والرجاء والمحبّة، في صميم وعينا بالذاتي. تعني الهويّة المسيحيّة، في كلّ حال، علاقة شخصيّة حميمة مع يسوع المسيح، ولا تعني الهويّة المسيحيّة الصحيحة، فضلاً عن روح التضامن، روح الشركة و الحوار، أخيراً تتسم الهويّة المسيحيّة بـ " علامة المناقضة " الّتي تتجلّى أكثر ما تتجلّى في حياة المسيحيين المقيمين في عالم الانتشار، وسط ثقافة مفرغة من العناصر المسيحيّة. في ظلّ هذه الأوضاع، [ ليس سهلاً ] أن يكون الإنسان ذاته، وأن  "يكون حقيقيّاً " وأن يكون مسيحيّاً منسجماً مع ذاته، بل يتطلّب ذلك شجاعة من نوع خاص. لكن ينبغي للنور الإنجيلي أن يسطع في الظلمات وللملح ألاّ يفسد طعمه. . . وفي هذا الصدّد يحذرنا القديس بولس بقوله:" ولا تتشبهوا بهذه الدنيا". ( رو 2:2 )

في هذه الحال، إذاً، ما هي الهويّة ؟ يستهويني كثيراً التعريف الّذي قدّمه يوحنا بولس الثاني،عندما كان لا يزال رئيساً لأساقفة كراكوفيا، إذ قال إن الهويّة تعني : أن أدرك من أنا وأن أتحمّل مسؤوليّة ما أنا عليه".

2-    الحاجة للعودة إلى الجذور

في مستهل هذه الندوة لابد لنا من العودة إلى تعاليم السلطة الكنسيّة وأصولها .. وهذا ما قدمه إعلان الرّبّ يسوع.

3-    معالم في تكوين هويّة العلمانيين المؤمنين

  *.   شخص يسوع المسيح

 فالمسيحيّة ليست عقيدة بقدر ما هي حدث تاريخي حسيّ، والمسيحي هو تلميذ يسوع المسيح، ابن الله المتجسّد لخلاصنا الّذي ينادي تلميذه باسمه قائلاً :" اتبعني" ( مت 4: 19 22 ) فغير هذا النداء حياتهم تغييراً كاملاً، وخياراً جذريّاً لا عودة عنه. إن الإيمان المسيحي ملموس جداً، وهو يتعارض كلّيّاً و الروحانيّة المبهمة وغير متجسّدة.

 *.  الكنيسة كسرّ الشّركة

لا يكون المسيحي مسيحيّا إلاّ من خلال عضويّته في الكنيسة ( . . . ) ولا سبيل لأحد أن يكون مسيحيّاً لحسابه الخاصّ [2] لذلك من الأهميّة بمكان أن يشعر العلمانيون المؤمنون بـ " حسّ كنسيّ"  بصورة حيّة وعميقة " إن شركة المسيحي مع يسوع تجد مثالها ومصدرها وغايتها في شركة الابن بالذات مع الآب، عبر هبة الروح القدس : فالمسيحيون متّحدون بالآب من خلال اتحادهم بالمسيح، برباط محبّة الروح."[3]

 *.  العالم

لا تقتصر النظرة إلى العالم على البعد الاجتماعي، يتحدّث المجمع الفاتيكاني الثاني عن العالم من منظور لاهوتي أساسي ّ، انطلاقاً من سرّ الخلق والفداء. عالم خلقه الله وافتداه المسيح." وأما العلمانيون فدعوتهم الخاصّة بهم هي أن يطلبوا ملكوت الله من خلال إدارة الشئون الزمنيّة الّتي ينظمونها بحب الله."[4]

أعضاء في جسد واحد

رغم أننا خلقنا للاتحاد، يُظهر لنا الاختبار اليومي في علاقتنا بالآخرين كم أننا ما زلنا غرباء ولا مبالين وأعداء لبعضنا البعض. حتى لأصبحنا مثل " قايين" حيال أخوتنا، وباتت علاقتنا بهم مطبوعة في الواقع، سواء باللامبالاة ام بالرغبة في تحويلهم إلى أدوات أو حتى إلى مواضع استغلال في الكنيسة، وهي جسد المسيح وامتداده في كلّ زمان وكلّ مكان، بحضوره الزمني مع كلّ إنسان، يدعونا الله لكي نلتئم ونلتقي فالكنيسة تدعونا اليوم إلى إعادة اكتشاف سرّها المتاصل تأصّلاً حميماً في حياة الثالوث.

أبعاد سر الانتماء والاتحاد والشركة

1-     يقتضي البعد الأوّل أن نرحب بالكنيسة هبة من العلاء، وهي ليست هبة منّا بل من الله. ولا تتكوّن من مشاريعنا بل من التدبير الإلهي الرؤوف.

2-  مشتركة كرامة الأعضاء مشتركة نعمة التبني ومشتركة الدعوة إلى الكمال، فليس إلاّ خلاص واحد ورجاء واحد ومحبّة واحدة لا تتجزأ.

3-  الوعي بالانتماء لسر الشركة هذا واختباره يبعث على الحس بالعرفان والفرح الصافي، مع تذكي المعمدين بمسؤوليتهم.

4-  المشاركة الفعليّة في سر الشركة يوسع روابط الوحدة والمحبّة. وتكون هذه الروابط اكثر متانة من انتماءاتنا [الطائفيّة العرقيّة بل والعائليّة].

5-     سرّ الشركة يعيدنا إلى دعوة الإنسان ومسؤوليته.

الأب متى شفيق



[1] المجلس الحبري للعلمانيين، الرجاء ألتزام، العلمانيوناليوم، بيروت، 1997.

[2] اللاهوتي هانز بالتزار

[3] العلمانيون المؤمنون بالمسيح، ارشاد رسولي سينودسي، رقم 18.

[4] سرّ الكنيسة، نور الأمم، دستور عقائدي.