الأمر الأهم لكنيسة الألف الثالث

أولاً – مقدمة

بات من الضروري، في نهاية الألف الثاني للمسيحية وبداية الألف الثالث، البحث عن ما هو الأمر الأهم لعالم اليوم من بين آلاف المواضيع الاجتماعية والروحية والثقافية والاقتصادية، ومن بين آلاف المبادرات والمبادئ والعولمة. مع ما في كل من ذلك من غموض وتناقضات بين وجهات النظر مما يؤدي مرات إلى الضياع بدل أن يساعد في اكتشاف الأمر الأهم في حياة المسيحي. في خضم كل ذلك هناك آراء وأجوبة تنم عن رجاء ومشاعر إنسانية تتعلق بما يعود:

1. على الإنسان.

2. على الكنيسة.

3. على المكرّس والكنيسة والمؤمن في المجتمع والتاريخ.

لست على يقين بأنه يجب أن يُحدّد للمؤمن، من قبل مؤمنين آخرين ، ما هو الأمر الأهم. فبالعودة إلى إنجيل لوقا (10/41-42) نقرأ يسوع يقول لمرتا: "مرتا مرتا إنك تهتمين وتضطربين في أمور كثيرة والحاجة إلى واحد"؛ وعليه:

1. ما تهتم به مرتا ليس ما يجب الاهتمام به بالدرجة الأولى، إن شكّل ذلك عائقاً إزاء الآخر الذي نحن في حاجة إليه أكثر من غيره.

2. إن مريم بتكرّسها للإصغاء إلى كلام الرب والتأمل فيه، قد اختارت النصيب الأفضل.

3. لم يوضّح يسوع ما هذا "الواحد" الذي مرتا في حاجة إليه.

ليس من السهل في هذا النص الإنجيلي أن نقول من يُمثّل كنيسة المسيح الحقيقية. التمثيل الصادق هو "مخلص الجسد" (أف5/23)، فالكنيسة هي في آن معاً مرتا ومريم، وأيضاً لعازر سواء كان غائباً أو مريضاً (أو ميتاً والرب سيقيمه). كذلك يصعب علينا أن نعرض للمؤمن، أو أن نطلب من مشاهير العاملين في الحقل الكنسي، بالاتفاق، ما هو الأمر الأهم. فتلميذ المسيح يحفظ ما هو أولي وأساسي: أن يقبل إمكانية أن يصير ابناً لله. الأمر الأهم الذي يعده المخلص في نهاية حياته: أن يكون تلاميذه في الحق. وهذا الأمر الأهم لا يمكن إلاّ أن يتجاوب مع الوصية الأولى والعظمى والرئيسة: "أحبب الرب إلهك… وقريبك كنفسك" (متى22/34-40)، وأيضاً في هذا التنوع والتقدير الإيجابي الآخر. وبكلمة: الوحدة في الأمور الضرورية؛ الحرية في الأمور غير الأكيدة، وفي كل شيء.

 

ثانياً القسم الأول: الإنسان

آ- الأمر الأهم هو الشخص :

الأمر الأهم في الإنسان، بين جميع الأمور المتعلقة به هو: الشخص. أن يكون شخصاً له كل ما للشخص من أبعاد وأهمية وكرامة. والشخص الأهم من بين جميع الأشخاص هو شخص المسيح. فعلى الإنسان أن يكتشف ما يكوّن الشخص البشري وأن يحققه في ذاته. وأيضاً اكتشاف شخص الخالق الذي أبدعنا كما أبدع الكون كلّه. وقد تجسد السيد المسيح "الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا" ليتيح لنا أن نعرف، من هو الإنسان ومن هو الله في شخص المسيح. فنحن مدعوون بالنعمة إلى أن نصير على مثاله "أبناء الله"، فالأهم هو الوصول إلى معرفة المسيح. وفي المسيح الذي الطريق والحق والحياة، الفرح والسلام، المصالحة والمحبة الأبدية، فيه الانتصار على الموت؛ في هذا شخص المسيح وَجَدَت كل الأشخاص خلاصها، على صورته و مثاله.

لكن، من الضروري التمييز بتيقّظ بأن:

– ليست كل صورة هي صورة المسيح الحقيقية.

– ليس كل نمط حياة هو الحياة الحقيقية للمسيح.

– ليس كل تعليم يُقدّم على أنه تعليم المسيح هو المسيح أو من المسيح.

فيختار الإنسان بين المسيح الحقيقي على أنه الشخص الذي يعطي فريداً من المعنى لحياة ما. أو التمسّك. بالأنا الذاتي، صورة المسيح غير الحقيقي، فيقع الإنسان في ضلال فادح وضياع. إذاً معرفة الشخص الأهم الذي هو يسوع المسيح الطريق الذي من خلاله يعرف كل واحد شخصه الخاص به، الفريد والمتميز، شخصه المدعو إلى أن يصير مشاركاً للطبيعة الإلهية .

ب- اكتشاف الله من جديد:

أب يحبنا: الإنسان مدعو إلى اكتشاف الله من جديد، إلى ابتداع رموز لاهوتية جديدة وتصاوير عن الله غير التي زالت؛ صور جديدة عن الله تفسح المجال لخبرة الإيمان وتؤدي عنها الشهادة الفعّالة للأجيال الجديدة. فالله لا نخترعه اختراعاً ولا نبتكره ابتكاراً بل نتقبّله، وإنسان اليوم في حاجة إلى رموز جديدة تنشأ وتنمو في رحم خبرات إيمان عميقة، لتلد كلمات وتعابير إيمانية تحملنا وتضعنا أمام الله وتفتح قلوبنا لاستقباله ومعرفته في عمقنا. وهذه تنشأ في جماعات روحية خلاّقة تحيا حياة روحية تساعد على نشأة رموز الإيمان الجديدة هذه.

ومن تلك الممارسات والصور: ممارسة سر المصالحة والتوبة والغفرانات والمواقف المطلوبة من المؤمنين والصورة التي في ذهنهم عن العقاب الأبدي والعقاب الزمني، وصورة الله الذي يعاقب وينتقم ويضرب بالمرض والصعوبات.. فالناس في صورهم عن الله تضع حواجز أمام عمل الله. فالمغفرة مثلاً هي مجانية من الله الرحوم المحب، هي تغيير حقيقي لحياة الإنسان، إزالة تدريجية للشر الباطني وتجديد حياة الإنسان ؛ فالعمل الأسراري، فعل الله في الإنسان، يجب أن يقترن بفعل وجودي، وذلك بتنقية حقيقية للخطيئة في الإنسان. فهبة وعطية الحياة الجديدة ليست في لحظة واحدة بل عبر اختبارات إيمانية متتالية، وهذه الأفعال هي التعبير الحيوي عن عمل الله الآب المحب الذي يتقبله الإنسان ويترك المجال للعمل فيه، وبالتالي تصير المغفرة مقبولة ومرضية لدى الله، وتُعطي معنى لمسيرة الإنسان الوجودية. صورة الله في المغفرة هي صورة الله الرحيم الذي يقدم المغفرة مجاناً، صورة الله القادر على الخلق جديد. من هنا، وانطلاقاً من هذا المثال نفهم ضرورة الانتقال من عالم اليوم إلى مفاهيم أكثر ديناميكية وحركة وتطور، وضرورة تكون جماعات صغيرة ممتلئة من حياة الله، يعيش فيها أعضاؤها خبرتهم اليومية، خبرة حضور الله والتناغم مع لغة الناس ومفاهيمهم اليوم.

 يسوع المسيح : نرى عالم اليوم وكأنه رمى إلى البحر قيم: الله والدين والتقليد والقيم الخلقية وأهمية الزواج والعيلة والحق واحترام الحياة والحق في العيش بكرامة، والحقيقة والحب. ويفتخر أنه بذلك استعاد حريته المسلوبة! نرى عالم اليوم في صراع بين المعنى واللاّمعنى، الحديث اليوم عن "مجيء المعنى"، ضياع تام، نداء يائس إلى "المعنى"، حياة تبدو "لا معنى لها"، أمور "لا معنى لها" وذلك في عالم فَقَدَ القدسية والشفافية وانغمس في المقتضيات المالية والاقتصادية والسلطات والحروب والصراعات والأطماع والأنانية والدسائس والمراءاة… عالم بات غير قادر على المغفرة الحقيقية وعلى المحبة الحقيقية. فالموضوع المهم والمسألة الأهم مسألة "المعنى"، معنى للحياة، للوجود، للرجاء، للحق للصبر… الحقيقية التي تعطي مغزى ومبرر ومعنى ووجود لكل شيء وأولاً للإنسان، هذه الحقيقية موجودة حقاً : يسوع المسيح / المعنى لكل شيء

في وسط هذا العالم القلق الذي يبحث عن المعنى الذي فقده، يظهر يسوع المسيح وسيط المعنى وكمال المعنى. وعلى سطح البحر الهائج يتراءى الرب ويسكّن العاصفة ويعيد للبحر هدوءه فيكتشف معناه. وفي قلب الإنسان الضائع يضيء نور المسيح ليهديه إلى السبيل ويعطي لحياته معنى وقيمة… والإنسان مدعو لقبول هذا بتواضع وإيمان. فهذا الحضور الأعظم للرب يسوع في عالم اليوم ينير كل شيء. دخول يسوع/الله إلى التاريخ هو الدخول الكامل للمعنى. فبالنسبة للمسيح كل إنسان له اسم وقيمة فريدة يتعذر استبدالها وله معنى مميز.

يسوع في العالم هو الخدمة المجانية والتضحية ومحبة الآخرين حتى بَذل الحياة من أجلهم.يسوع في العالم هو كمال المحبة تجاه عالم العنف والثأر، إنه عالم المغفرة والصفح والمعنى الأخير للوجود البشري.

هو معنى الإنسان : فمحبة الله تستره بظلها، هو محبوب ومخلّص من قِبل الآب بالمسيح وفي الروح القدس، وبنعمته يتجدّد ويولد من جديد بروح بنوّة إلهية، وهو مدعو للدخول إلى حياة الله الثالوثية. فمعنى الحياة للإنسان يأتيه من المسيح هبة المعنى وملء المعنى ولانهاية للمعنى.

فالأهم هو شخص المسيح الذي يعطي معنى لكل حياة الإنسان، وبدونه لا وجود للإنسان فحياته من حياة المسيح.

ج- المصالحة والروحانية والتضامن والقناعة :

المصالحة: الأمر الأهم هو المغفرة أي أن نغفر ويُغفر لنا. فالمغفرة هي الأمر الأول الذي بشّر به المسيح القائم من الموت "خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياهم غُفِرت لهم" (يو20/23). المغفرة هي محبة الله الديناميكية والخلاّقة التي تعمل في حياتنا وتجدّدنا. عندما نغفر نشارك الله في قدرته الخلاّقة. بالمغفرة يمنح كلٌ منا الآخر حياة جديدة. الله يريد تعاوننا لخلق عالم حسن وعادل، يتمتع فيه كل إنسان بكرامة خاصة.

الأمر الأصعب قد يكون أحياناً في قبول المغفرة. وبقبولنا المغفرة نكتشف أننا أحرار. أحرار بأن نكون كما أرادنا الله. إن قَبلتُ المغفرة أستطيع أن أجرؤ على النظر بدون خوف إلى كل ما أنا عليه وما أنا فعلته. مغفرة الله لا تزيل الخطايا والمصاعب وكأنّ شيئاً لم يحدث. بل تأخذ كل ما نحن عليه الآن وكل ما كنّا عليه وكل ما فعلناه في حياتنا الماضية وتجدّده ببهاء خاص.

الروحانية: الأمر الأهم هو الاهتمام بالبعد الروحي في حياة الإنسان، استجابة للحاجات الأكثر إلحاحاً في عالم اليوم، عالم إنسان التقنية والعَولمة. روحانية تُشدّد على معنى جمع كل شيء في واحد: السيد المسيح: "أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كل شيء ما في السموات وما على الأرض" (أف 1/10)، إلى أن يصبح السيد كلاً في الكل. والمطلوب خلقية وقيم تتعدّى الجزئي والعابر والمؤقت لنصل إلى الغاية الأخيرة يسوع المسيح. الأمر الأهم، روحانية ضد العَولمة التي تعزز الانفرادية والانغلاق على الأنا، فتولد التسطيح والعبودية. يجب إعداد الإنسان الجديد: مرآة الله. إنسان جديد يعرف أن ينفتح على الآخر، على ال "أنت" على ال "نحن" على ال "كل". المقصود هو تقوية وتنمية الشخص وحريته وكرامته ومسوؤليته.

في داخل الإنسان تقع الروحانية. بهدف تقّبل العالم والتاريخ كعطية من الله ومن الآخرين وتحويله إلى عطية خاصة يهبونها من جديد للآخرين، للجميع. روحانية تنزع إلى الله من خلال الأشياء والكون والتاريخ والعالم والإنسان .روحانية شعارها "الله مع سائر الأشياء، والأشياء كلها في الله، والله في الأشياء كلها". روحانية تهدف إلى توحيد الأشياء، وكأنه خلق جديد للعالم على أيدينا. روحانية مبنية على التوازن بين الحياة المرتكزة على الروح القدس والحياة المرتكزة على قوى الإنسان الرفيعة والروحية.

 تضامن وقناعة : كل ذلك يتطلب تضامناً في الاشتراك في الكرازة بالإنجيل وكأن ذلك "أمر مهمة" "أمر اليوم"، ونحن في حاجة لهذا التضامن مقابل عالم تطغى عليه العولمة والفردانية والمادية. نحن مدعوون لتعزيز ما يحمله الإنجيل من قيم إنسانية. فالتضامن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالروحانية المتمثّلة في محبة الله ومحبة القريب. وهذه الروحانية وهذا التضامن الحقيقيين يرتكزان إلى موقف سابق للحياة الشخصية، هذا الموقف هو: القناعة.

القناعة في الابتعاد عن الاستهلاكية والمادية، وفي الاعتدال في التطلبات والرغبات الخاصة. قناعة في تركيز الانتباه على المسؤولية الشخصية تجاه الله وتجاه القريب، (تجاه الفقراء والأجيال القادمة وفي التوزيع العادل لخيرات الأرض)، قناعة تحارب الرفع من شأن المال والرفاهية والتبذير والجشع… القناعة في أن نضع وقتنا بتصرف الآخرين فننتبه لهم ونتحاور معهم. القناعة في أن نوجّه حياتنا إلى النور الذي يقدمه المسيح في إنجيله، النور الحقيقي.

 

ثالثاً- القسم الثاني – الكنيسة

آ- كنيسة مُجدّدة ومجمعيّة وفاعلة. (الكنيسة: شعب الله السائر نحو الخلاص)

 إن الأمر الأهم لكنيسة اليوم هو أن تتحرر من كل اضطراب يشلّها، أن تعمل بجرأة على تجدّدها أن تكون المُحاوِر الجدّي الذي أمام العلمنة التي تسيطر على العالم. السؤال هو بأية طريقة يجب أن تتجدّد الكنيسة، كل الكنيسة؟ أربعة أسئلة تمثل كل قطاعات التجدّد في الكنيسة:

* هل صارت كلمة الله بوجه أكمل روح علم اللاهوت ومُلهمة الوجود المسيحي كله، كما يطلب الدستور في الوحي الإلهي؟

الجواب على هذا السؤال يدفع بالكنيسة لأن تكون فعّالة بقدر ما تتطابق أقوالها وأفعالها مع روح الإنجيل ولأن يكون لها الكتاب المقدس "كتاب حياة".

*  هل تُعاش الليتورجيا كينبوع الحياة الكنسية وقمتّها بحسب تعليم الدستور في الليتورجيا المقدسة؟

المنتظر أن تتجدّد الليتورجيا بحيث تستطيع أن تساعد الإنسان المعاصر على تعميق إيمانه، وأن تخدم وحدة المسيحيين، وأن تستخدم في أقوالها ورموزها لغة يستطيع الإنسان المعاصر أن يفهمها ويتعمّق بها وتنقله إلى بعدها الإلهي.

*  هل يتعزّز في الكنيسة الجامعة والكنائس المحلية، لاهوت لكنيسة مبني على مفهوم الشركة كما أوضحه الدستور العقائدي في الكنيسة، بإعطاء المكان الموافق للمواهب والخدم وسائر أشكال مشاركة شعب الله؟

من هنا ضرورة التلاقي المُخصب بين "الكهنوت المشترك" و"كهنوت الخدمة"، بدون وضع حدود، بعد التمييز، لكهنوت العلمانيين، وترك المجال "للمواهب"، لتلك الهبات الشخصية التي يمنحها الروح القدس والتي تعمل لخير الإنسان ومجد الله.

*  نمط العلاقات بين الكنيسة والعالم؟ في حوار يتّسم بالانفتاح والاحترام والصدق. حوار بدون التكلم "من على المنبر"، وبدون تنظير. حوار يكّن كل احترام لمن يفكر بخلافه. احترام أكبر للأمور الإيجابية التي تأتي من العالم أيضاً، وإلى استعداد للتعلم من العالم، ولكن ليس مما يتعلق بروح العالم، روح الضلال والدينونة، عالم الظلمات والخطيئة، بل العالم كما أراده الله أن يكون وكما خلقه منذ البدء.

ب- وحدة تلاميذ المسيح :

إن أهم رسالة على الكنيسة الكرازة بها لعالم الألف الثالث هي دعوة جميع الناس إلى الوحدة: "ليجمع في الوحدة جميع أبناء الله المتفرقين" (يو11/52)، الدعوة إلى وحدة تلاميذ المسيح. هذا العمل المسكوني، أي السعي إلى استعادة وحدة جميع المعمدين؛ يتمثّل في مجموعة المبادرات والاتصالات والأفكار اللاهوتية التي أعطت دفعاً وأدخلت في عمق الضمائر ضرورة العمل للاستجابة إلى صلاة المسيح ليلة آلامه، وعلى كل المستويات وبشكل ملّح جداً في عالم اليوم وخاصة في محيط الأغلبية فيه لغير المسيحيين. فهذا السعي، وهذه الحركة المسكونية هي من صلب كيان الكنيسة العميق والحواري واللاهوتي والإلهي. "وحدة تلاميذ المسيح" تطلّب ينطلق من دوافع أساسية هي واجب يفرض علينا ذاته جميعاً.

ففي عالم كثيراً ما يتعرض فيه الإيمان للتساؤل والإهمال، في عالم يعجز عن التقليص من حِدّة التيارات التي تعمل على تفكيكه، وحيث يسيطر الشر على الخير، في هذا العالم يتعيّن على المسيحيين أن يشهدوا للمسيح غير المجزأ،شهادة تستطيع إقناع العالم بالإقبال على الإيمان. الحركة والعمل المسكوني قوة إقناع تدفع المسيحيين إلى أن يتعوّدوا من جديد على وحدتهم، الحركة المسكونية ميل إلى الحوار يسعى إلى خير الآخر واللقاء معه.

الأمر الأهم في هذا الطلب إلى الرب أن يمنحنا جميعاً أن نسبحه بصوت واحد. نحن في حاجة إلى "رجاء الروح القدس" الذي يعرف أن يمنحنا صفاء الرؤية والقوة والشجاعة للقيام بالخطوات الضرورية.

الأمر الأهم هو السعي لفهم هذه المسألة "وحدة تلاميذ المسيح" والاهتمام بها وتعميقها ومعالجتها بمحبة وانفتاح في الذهن. العمل المسكوني ليس مسألة اختيارية، والأمر الأهم هو أن نقتنع بأنه ليس كذلك.

ج – الكينونيا أي الشَرِكة

في سياق موضوعنا، هذه اللفظة لا تعني الشركة الإفخارستية، ولكن حسب ما ورد في رسالة يوحنا الأولى:

"لتكونوا أنتم أيضاً شركاءنا كما نحن شركاء الآب وابنه يسوع المسيح" (1/3)؛ شركة تنبع من الإيمان بالمسيح، شركة روحية وأيضاً شركة أسرارية معه وفي روحه مع الآب الأزلي: الكنيسة هي شعب يجتمع في وحدة الآب والابن والروح القدس. هي واقع مركب من عنصر إلهي وإنساني معاً. إنها الخلاص الإلهى الذي أجراه المسيح والذي يجعله الروح القدس حاضراً وفاعلاً في الجماعة المسيحية، مُنشِئاً هكذا الشركة مع الرب الممجد ومع أبيه السماوي. فكل الذين يدخلون في هذه الشركة الإلهية يوجدون وقد اجتمعوا في شركة أخّوة إنسانية، وهذه الشركة الإلهية الإنسانية هي التي تكوّن الطبيعة الروحية العميقة للكنيسة.

إن اختبار فهم الشركة وعيشها يتمّان أولاً في جماعات تتشارك في الكرازة والليتورجيا، والحياة في التضامن الأخوي، فتصير أمراً منظوراً ووسيطة تضامن للمجتمع بأكمله. وأعتقد أن الواجب الأهم يكمن في السعي إلى تحقيق هذا التضامن الناجم عن الشركة الإلهية الإنسانية التي هي الكنيسة.

 

رابعاً- القسم الثالث – الإنسان والكنيسة في عالم اليوم

آ- عالم الشفقة والتغلب على البغض والعنف

عالم الشفقة: إن واقع الأشخاص المهددين والمعذبين مسألة رئيسة في الألف الثالث: أمراض… ظلم… شر… انتهاك كرامة الشخص البشري وحقوق الإنسان… مذابح يصعب تصديقها ومن أنواع كثيرة من الإبادة العرقية. هذا الواقع الخطير يطرح مسألة الألم والشفقة. مسألة علاقة الكنيسة المعذبة والكنيسة "سر العالم"، الكنيسة التي في خدمة عالم مهدد. فالكنيسة من حيث تعمل على عيش ملكوت هو تحرير كامل وخلاص لهم، تلتفت إلى مشكلات هذا العالم وصراعاته. وهذه العلاقة بين كنيسة اليوم والعالم المهدد تقتضي، محبة الناس الذين يتعذبون، وجهاً إنسانياً يُظهر رسالة الكنيسة الإنجيلية. وهذه الخدمة تتطلب من الكنيسة تناغماً أخلاقياً ومصداقية ليُدرك العالم فعلاً أن رسالة الكنيسة هي رسالة تحرير. أمام ذلك، خطران يهددان الكنيسة:

1- الأشكال المختلفة للأصولية التي بـ"اسم الله" وبـ"اسم ايديولوجية سياسية" تُظلم إلى أصالة الكيان الإنساني.

2- الخطر الثاني، القومية الإتنية (العرقية) التي تترسخ في العالم كله بعنف متزايد من دون رادع لذلك بات من الأمية بمكان :

* أن يكون للكنيسة وجه إنساني كشرط لعرض رسالة الإنجيل عرضاً متناغماً وقابلاً للتصديق.

* أن تعمل على إزالة البون الذي تكوّن بين أسئلة المؤمنين وعرض للبشرى المسيحية، لم يعد ممكناً تصديقه في عصر ما بعد الحداثة .

وبهذا تحمل الكنيسة المؤمنين على الإصغاء باهتمام إلى رسالة الإنجيل "التي تعنيهم" كلهم وتدفعهم للعمل.

التغلب على البغض والعنف: رسالة الإنجيل هذه "التي تعنيهم"، تدفعهم للعمل في كنيسة اليوم التي تعيش في عصر العولمة وتنامي السكان وتناقص المياه والأراضي القابلة للزراعة وملايين اللاجئين والمهاجرين واختلاف القوى الاقتصادية بين شعوب الأرض شمالها وجنوبها… الأمر الأهم في كل ذلك أن تعيش الجماعة في "الاستقرار" وفي "سلام" وفي "عدل". فإنه وكما أكدت الجمعية العامة لمجلس الكنائس العالمي (فانكوفر 83): "بدون عدل للجميع في كل مكان، لن نحصل البتة على سلام في أي مكان".

المنتظر اليوم من الكنيسة والمسيحيين كافة الاضطلاع ثانية برسالة المصالحة الكتابية، رسالة السلام المتأصلة في المصالحة التي نلناها من الله. فالمغفرة هي تغلّب على البغض، تغلّب على ميلنا للصراع، من أجل العدل بأي ثمن، وإلى اللجوء إلى العنف باسم العدل والسلام. فيصير الجميع "فاعلي سلام" بحسب روح العِظة على الجبل.

ب – الأجيال القادمة: الشبيبة

الشبيبة، الأجيال الجديدة، هي أثمن ما يمكننا توظيفه للمستقبل. شبيبة اليوم تُقبل بمحبة. شبيبة لا تجزع من الاستجابة لمثال أسمى، فتصير بناة سلام ورجاء لا يقهر، ونسير معهم عكس التيار، تيار العالم السائر نحو الظلمات. إن المستحيل يصير ممكناً للشباب إنْ أفسحوا هم المجال ليقيم اللهُ معهم.

هناك الكثير من الشباب المستعبدين لارتباطات عَبَثية، عاطلين عن العمل، يائسين، مُحبَطين، ضحايا العنف والاستغلال الجسدي والفكري، هم بدون رجاء للمستقبل، يختارون مباشرة طريق الموت… هؤلاء هم مستقبل الكنيسة! كنيسة اليوم هي شبيبة الأمس، وشباب اليوم هم كنيسة الغد. حان الوقت لإعادة التخطيط والبُنى والبناء انطلاقاً من الشبيبة، بالمحبة. حان الوقت للقيام بثورة شاملة في "طريقة التفكير" و"منهجية العمل" وإعطاء للحياة معنى وهدف؛ والشبيبة وحدها القادرة على ذلك.

ثمة فكرة رئيسة انطبعت بها اختياراتهم هي "الحرية"، ولكن من المهم أن نؤكد ونبين بالواقع أنه ما من حرية بدون مسؤولية وبدون احترام متبادل وبدون تعب، وأن الحرية المسيحية هي تحرر من كل أشكال العبوديات والصنمية، وإن الحرية تُبنى مع السلام والعمل والتضامن.

مع الحرية هناك "الواجب". فمن المهم أيضاً أن تعي الشبيبة أنها لا تنمو إلاّ بالالتزام وهو مفتاح كل تغيير. وهذا الواجب يبدأ بالتعب اليومي في العمل. فمن الأهمية بمكان أن يتزوّدوا بالرجاء ورغبة العيش والتصميم على تأدية دور فعّال والاضطلاع اضطلاعاً مباشراً وشخصياً بمستقبلهم الخاص، فيصيروا هم أنفسهم. يصيروا هم أنفسهم معلمين شهوداً لشبان وشابات آخرين.

في نظر الشيبة، مَن يعيش ما يقوله، هذا وحده يمكن تصديقه؛ فالوقائع والمواقف لها وحدها الكلمة. وبهذه المصداقية تكافح الشبيبة بدون عنف ولكن بحزم وشجاعة من أجل غد أفضل.

 

خامساً- خاتمة– الوصية الكبرى

كثيرة هي الأمور الهامة بالنسبة إلى الكنيسة في عالم اليوم. لكن الأهم يبقى في كل الاحوال: المحبة؛ هي التي علمنا إياه يسوع وأوصانا بها: "أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك. هذه هي الوصية الكبرى والأولى والثانية تشبهها: أحبب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (متى22/36-40).

نحن بشر ونعيش بين البشر. ما الذي يضمن تعايشاً طبيعياً؟ وإن كانت أبسط الأمور أن نتفاهم وأن نعيش معاً في الانسجام، ومع ذلك نشرع في التباغض حتى التقاتل؛ ما الذي يجري؟ الجواب واحد: إننا نفتقر إلى المحبة (1كور13). أسباب كثيرة ومتنوعة يمكن أن تكون عوامل الصراعات الإتنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية؛ ولكن السبب العميق هو افتقار العالم والإنسان إلى المحبة. لأنه لو أعطيت الغَلَبة للمحبة، كل ما نراه ما كان ممكناً أن يحدث.

كلنا نعلن وجود الله ونثبت أنه أب ونؤكّد خضوعنا له، ولكننا نتجاهل باستمرار. فنبرهن، بافتقارنا إلى المحبة الحقيقية المجانية، أن ليس لنا شيء مشترك مع الله. المحبة غاية في البساطة والجميع يفهمونها، ولكن تطبيقها هو أكثر الأمور صعوبة؛ تطبيقها أي عيشها ومعرفتها اختبارياً.

المحبة تتطلّب خُلقية عالية وعالمية، ولا بقاء لعالمنا من دونها فهو سائر إلى حضارة الموت والفناء والتدمير الذاتي. المحبة تتطلّب سلاماً بين الأفراد وبين الأمم، ولا سلام من دون سلام بين الأديان كافة؛ ولا سلام بين الأديان من دون حوار بينها.

المحبة تتطلّب حواراً بين مختلف الأديان والإتنيات والحضارات المتنوعة. فلنعمل على هذا الأمر الأهم لكنيسة الألف الثالث.

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب