تعليم الأربعاء لقداسة البابا 18/09/08

الفاتيكان، الخميس 18 سبتمبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس في الفاتيكان نهار الأربعاء 19 سبتمبر.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

يقدم لي لقاء اليوم إمكانية أن أراجع المحطات المختلفة لزيارتي الرسولية التي قمت بها في الأيام الماضية إلى فرنسا؛ تككلت هذه الزيارة، كما تعرفون، بحجي إلى لورد، بمناسبة الذكرى الـ 150 لظهورات السيدة العذراء للقديس برناديت. وإذ أرفع الشكر العميق إلى الرب لأنه منحني هذه الفرصة الثمينة، أعبر من جديد عن عرفاني لرئيس أساقفة باريس، ولأسقف تارب ولورد، ولمعاونيهما ولكل الذي أسهموا بشكل أو بآخر في إنجاح هذا الحج. أوجه شكرًا قلبيًا لرئيس الجمهورية وللسلطات الأخرى التي استقبلتني بحفاوة كبيرة.

لقد بدأت الزيارة في باريس، حيث التقيت رمزيًا بكل الشعب الفرنسي، إذ كرمت تلك الأمة الحبيبة التي لعبت فيها الكنيسة منذ القرن الثاني دورًا حضاريًا أساسيًا. تجدر الملاحظة أنه في هذا الإطار بالذات نضجت الحاجة إلى فصل سوي بين البعد السياسي والبعد الديني، بحسب قول يسوع الشهير: "أعطوا لقيصر ما لقيصر، لله وما لله" (مر 12، 17). كانت صورة قيصر محفورة على العملات ولهذا كان يجب إعطاؤها له، ولكن في قلب الإنسان هناك بصمات الخالق، رب حياتنا الأوحد. ولذا لا تستطيع العلمانية الأصيلة الاستغناء عن البعد الروحي، بل يجب أن تعترف أن هذا البعد بالذات هو بالعمق الضامن لحريتنا واستقلاليتنا من الواقع الأرضي، بفضل تعاليم الحكمة الخلاقة التي يستطيع الضمير البشري قبولها وتحقيقها.

في هذا الإطار يدخل التفكير الواسع حول موضوع: "أصول اللاهوت الغربي وجذور الثقافة الأوروبية"، الذي توسعت فيه خلال اللقاء مع عالم الثقافة، في مكان اختير لأجل قيمته الرمزية. وهو معهد البرنرديين، الذي أراد أن يجعل منه الكاردينال جان-ماري لوستيجيه السعيد الذكر مركزًا للحوار الثقافي، وهو عبارة عن مبنى من القرن الثاني عشر، بني للرهبان السيسترسيين، حيث كان الشباب يقومون بدراساتهم. وبالتالي هناك حضور اللاهوت الرهباني الذي كان في أساس حضارتنا الغربية. كانت نقطة انطلاق خطابي التفكير بالحياة الرهبانية، التي كان هدفها البحث عن الله، quaerere Deum. في زمن كانت الحضارة القديمة تمر فيه بأزمة عميقة، اختار الرهبان بهدي من نور الإيمان الدرب الرئيسة: درب الاصغاء لكلمة الله. ولذا كانوا دارسين عظام للكتب المقدسة وأضحت الأديار مدارس حكمة، ومدارس "خدمة للرب" (dominici servitii) كما كان يسميها القديس مبارك. وعليه، كان البحث عن الله يحمل الرهبان، بشكل طبيعي، إلى ثقافة الكلمة. البحث عن الله: كان يبحثون عنه في إثر "كلمته" ولذا كان عليهم أن يعرفوا بالعمق هذه "الكلمة". كان من الضروري الولوج في أسرار اللغة، وفهمها ببنيتها. ولأجل البحث عن الله الذي كشف عن نفسه في الأسفار المقدسة، حازت العلوم الدنيوية على أهمية لافتة أيضًا، بما أنها علوم ترمي إلى التعمق في أسرار اللغات. ونتيجة ذلك ازدهرت في الأديار سعة اطلاع عميقة سمحت بنشأة الثقافة. ولهذا السبب، يبقى البحث عن الله، والسير نحوه تعالى، اليوم كما في الأمس، السبيل الرئيس والركيزة لكل ثقافة حقة.

تشكل الهندسة تعبيرًا فنيًا عن هذا البحث عن الله، وما من شك أن كاتدرائية السيدة في باريس تشكل نموذجًا ذا قيمة عالمية. في أحضان هذا المعبد الرائع، حيث حظيت بفرح ترؤس الاحتفال بصلاة الغروب إكرامًا للطوباوية مريم العذراء، حرضت الكهنة والشمامسة، الرهبان والراهبات، والإكليريكيين الآتين من كل أنحاء فرنسا، على أن يعطوا الأولوية للإصغاء الديني للكلمة الإلهية، مثبتين عيونهم على مريم كمثال سامٍ.

في ساحة كاتدرائية السيدة، حييت الشباب الذين حضروا حشودًا متحمسة. وإذ كانوا يستعدون لبدء عشية صلاة طويلة، سلمت إليهم كنزين من كنوز الإيمان المسيحي: الروح القدس والصليب. يفتح الروح الفكر البشري على آفاق تتجاوزه ويُفهمه جمال وحقيقة حب الله الذي يعتلن في الصليب. حبٌ لا يستطيع أي شيء أن يفصلنا عنه، والذي نختبره عندما نهب حياتنا على مثال المسيح.

ثم قمت بوقفة قصيرة في "معهد فرنسا"، سدة الأكاديميات الوطنية الخمس: وبما أنني عضو إحدى الأكاديميات، التقيت بفرح كبير بزملائي. ثم كللت زيارتي بالقداس في ساحة "الأنفاليد". ورددت صدى كلمات بولس الرسول إلى أهل كورنثوس، داعيًا مؤمني باريس وفرنسا بأسرها إلى البحث عن الله الحي، الذي كشف لنا عن وجهه الحق في يسوع الحاضر في الافخارستيا، ويدفعنا إلى محبة إخوتنا كما أحبنا هو.

ثم توجهت إلى لورد، حيث تمكنت أن أتحد بآلاف المؤمنين في "مسيرة اليوبيل"، الذي يدور في الأماكن التي دارت فيها حياة القديس برناديت: كنيسة الرعية مع حوض المعمودية حيث تعمدت برناديت؛ الكوخ حيث عاشت كطفلة بفقر مدقع؛ مغارة ماسابييل، حيث ظهرت لها العذراء 18 مرة. في المساء شاركت بالمسيرة التقليدية بالشموع، التي هي تعبير عن الإيمان بالله وعن التقوى نحو أمه وأمنا. لورد هي أرض نور وصلاة، ورجاء وتوبة، مبنية على صخرة حب الله، الذي تجلى بشكل كامل في صليب يسوع المجيد.

المصادفة السعيدة أن الأحد الماضي صادف العيد الليتورجي لارتفاع الصليب المقدس، علامة الرجاء بامتياز، لأنه الشهادة الكبرى للحب. في لورد، في مدرسة مريم، التلميذة الأولى والكاملة للمصلوب، يتعلم الحجاج أن يعتبروا صلبان حياتهم على ضوء صليب المسيح المجيد. في ظهورها لبرناديت في مغارة ماسابييل، كانت إيماءة مريم الأولى إشارة الصليب، قامت بها بيد مرتجفة. وهكذا قدمت العذراء التعليم الأول في جوهر المسيحية: إشارة الصليب هي خلاصة إيماننا، وإذ نسم أنفسنا  بانتباه ندخل في ملء سر الخلاص.

في إيماءة العذراء تلك نجد كل رسالة لورد! لقد أحبنا الله حتى إنه وهب ذاته لنا: هذه هي رسالة الصليب، "سر الموت والمجد". الكثيرون يتعلمون هذه الحقيقة في لورد، التي هي مدرسة إيمان ورجاء، لأنها أيضًا مدرسة محبة وخدمة للإخوة. في إطار الإيمان والصلاة هذا عُقد اللقاء المهم مع الأساقفة الفرنسيين: كان لحظة شركة روحية عميقة، وأوكلنا سوية إلى العذراء التوقعات والهموم الرعوية المشتركة.

وكانت الوقفة التالية التزياح بالقربان المقدس مع آلاف المؤمنين، ومن بينهم، مثل العادة، الكثير من المرضى. أمام سر القربان الأقدس، أضحت شركتنا الروحية مع مريم أقوى وأعمق لأن مريم هي التي تهبنا العيون والقلب القادر على تأمل ابنها الإلهي في القربان المقدس. كان صمت آلاف الأشخاص أمام الرب مؤثرًا؛ صمت غير فارغ، بل مليء بالصلاة وواعٍ لحضور الرب، الذي أحبنا حتى الارتقاء على الصليب لأجلنا.

يوم الخامس عشر من سبتمبر، الذكرى الليتورجية للطوباوية العذراء مريم سيدة الأوجاع، كان مكرسًا بشكل خاص للمرضى. بعد زيارة قصيرة إلى كابيل المستشفى، حيث تلقت برناديت المناولة الأولى، وفي ساحة بازيليك الوردية، ترأست الاحتفال بالقداس الإلهي، وخلال القداس قمت بمنح سر مسحة المرضى. مع المرضى ومن يعنى بهم، أردت التأمل بالدموع التي سكبتها مريم تحت الصليب، كما والتأمل ببسمتها، التي تنير صباح الفصح.

أيها الإخوة والاخوات الأعزاء، نشكر الرب سوية لأجل هذه الزيارة الرسولية الغنية بالكثير من الهبات الروحية. بشكل خاص، نحمد الله لأن مريم، في ظهورها للقديسة برناديت فتحت في العالم فسحة مميزة للقاء الحب الإلهي الذي يشفي ويخلص. في لورد، تدعو العذراء الجميع إلى اعتبار الأرض كمكان لحجنا نحو الوطن النهائي، الذي هو السماء.

بالواقع، نحن جميعنا حجاج، ونحتاج للأم التي تهدينا؛ وفي لورد، تدعونا ابتسامة مريم إلى المضي قدمًا بثقة كبيرة واعين بأن الله صالح، بأن الله محبة.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.