عظة بندكتس السادس عشر خلال قداس المرضى في لورد

روما، الجمعة 19 سبتمبر 2008

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر خلال القداس الذي أقيم من أجل المرضى، صباح يوم الاثنين 15 سبتمبر 2008، في لورد، في ساحة الوردية.

***

إخوتي الأساقفة والكهنة الأعزاء،

أيها المرضى الأعزاء، والمرافقون والممرضون الأعزاء،

إخوتي وأخواتي الأعزاء!

لقد احتفلنا أمس بصليب المسيح، واسطة خلاصنا، الذي يكشف لنا بكماله رحمة إلهنا. إن الصليب هو في الواقع المكان حيث تتجلى بصورة كاملة رأفة الله على عالمنا. اليوم، وفيما نحتفل بذكرى سيدة الآلام، نتأمل مريم تشارك رأفة ابنها على الخطأة. وكما يقول القديس برنار، فإن أم المسيح قد دخلت في آلام ابنها من خلال رأفتها (راجع عظة الأحد في ثمانية الصعود). عند الصليب، تتحقق نبوءة سمعان: " قلب الأم يخترقه سيف(راجع لوقا 35،2) جراء العذاب الذي حل بالبريء، المولود من لحمها. وكما بكى يسوع (راجع يوحنا 35،11)، بكت مريم هي أيضاً بالتأكيد أمام جسد ابنها المعذب. يمنعنا كتمان مريم من تقدير سر ألمها، وبالتالي يشار إلى عمق هذا الحزن فقط بالرمز التقليدي للسيوف السبعة. وكما حل مع ابنها يسوع، من الممكن القول بأن هذه الآلام أدت بها هي أيضاً إلى الكمال (راجع العبرانيين 10،2) لجعلها قادرة على القيام بالمهمة الروحية الجديدة التي يوصيها ابنها بها قبل أن "يسلم الروح" (راجع يوحنا 30،19): وهي أن تصبح أم المسيح في أعضائه. في هذه الساعة، ومن خلال صورة تلميذه الحبيب، يقدم يسوع كلاً من تلامذته إلى أمه قائلاً لها: "هذا ابنك" (راجع 19، 26-27).

مريم هي اليوم في فرح ومجد القيامة. والدموع التي ذرفتها عند الصليب تحولت إلى ابتسامة لا يستطيع شيء أن يمحوها فيما يظل حنوها الأمومي تجاهنا كاملاً. والتدخل المعين للعذراء مريم عبر التاريخ يثبت ذلك ولا ينفك يوقظ ثقة راسخة فيها عند شعب الله: إن صلاة "اذكري" تعبر عن هذا الشعور بطريقة جيدة. إن مريم تحب كل واحد من أبنائها، وتلتفت بشكل خاص إلى أولئك الذين هم ضحية الألم، كما كان حال ابنها عند ساعة آلامه؛ هي تحبهم بكل بساطة لأنهم أبناؤها، بحسب إرادة المسيح على الصليب.

إن المرنم، عند إدراكه من بعيد هذا الرابط الأمومي الذي يوحد أم المسيح مع الشعب المؤمن، يتنبأ في موضوع العذراء مريم أن "أغنى الشعوب… تترضى وجهك" (مزمور 13،44). هكذا، وبِتشجيع من الأقوال المستوحاة من الكتاب المقدس، التمس المسيحيون منذ القدم ابتسامة سيدتنا، هذه الابتسامة التي عرف الفنانون منذ القرون الوسطى كيف يصورونها ويقدرونها بطريقة مذهلة. إن ابتسامة مريم هذه هي للجميع؛ ولكنها موجهة بخاصة إلى المتألمين لكيما يجدوا فيها الراحة والطمأنينة. والتماس ابتسامة مريم لا يعني تكلفاً ورعاً أو باطلاً في العاطفة، ولكنه يعني التعبير الصحيح عن العلاقة الحية والبشرية العميقة التي تربطنا بالتي أعطانا إياها المسيح أماً لنا. والرغبة في تأمل ابتسامة العذراء هذه لا تعني الانخطاف في مخيلة غير مضبوطة. ويكشف لنا ذلك الكتاب المقدس بذاته على شفاه مريم عندما ترنم التسبحة : "تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لوقا 1، 46-47). عندما تشكر العذراء مريم الرب، فهي تشهدنا. إن مريم تشارك مسبقاً، مع أبنائها المستقبليين أي معنا، الفرح الذي يسكن قلبها، لكيما يصبح فرحنا. وبالتالي فإن كل تلاوة للتسبحة تجعلنا شهود ابتسامتها. هنا في لورد، خلال الظهورات التي حدثت الأربعاء 3 مارس 1858، تأملت برناديت بطريقة فريدة ابتسامة مريم. وقد كانت هذه الابتسامة الجواب الأول الذي أعطته السيدة الجميلة للرائية الصغيرة التي كانت تريد معرفة هويتها. وبعد أيام قليلة، وقبل تقديم نفسها لها، كمريم التي "حبل بها بلا دنس"، أظهرت لها مريم ابتسامتها أولاً كالمدخل الأكثر ملاءمة إلى كشف سرها.

في ابتسامة الأكثر سمواً من بين جميع الخلائق، والناظرة إلينا، تنعكس كرامتنا كأبناء الله، هذه الكرامة التي لا تترك السقيم منا أبداً. إن هذه الابتسامة، التي هي الانعكاس الحقيقي لحنان الله، هي منبع رجاء لا يقهر. نحن نعلم للأسف أن الأوجاع تحطم التوازنات الأكثر ثباتاً في الحياة، تزعزع قواعد الثقة الأكثر رسوخاً، حتى أنها تتوصل أحياناً إلى تثبيط معنى وقيمة الحياة. هناك صراعات لا يستطيع الإنسان أن يواصلها وحده، من دون مساعدة الرعاية الإلهية. عندما تعجزالأقوال عن إيجاد كلمات عادلة، تظهر الحاجة إلى وجود محب: نبحث إذاً عن قرب ليس فقط من يشاركوننا الدم، أو من تربطنا بهم صداقة، لا بل أيضاً قرب المقربين منا برابط الإيمان. من يمكن أن يكون قريباً منا أكثر من المسيح، ومن أمه القديسة التي حبل بها بلا دنس؟ فهما أكثر من غيرهما قادران على فهمنا، وإدراك حدة الصراع ضد الشر والأوجاع. وتقول الرسالة إلى العبرانيين عن المسيح بأنه "ليس عاجزاً عن تفهم ضعفاتنا، لأنه قد تعرض للتجارب التي نتعرض لها نحن" (راجع العبرانيين 15،4). أود أن أقول بكل تواضع إلى المتألمين، والمكافحين، والمعرضين لأن يشيحوا بوجههم عن الحياة: انظروا إلى مريم! ففي ابتسامة العذراء، تختبئ بخفية قوة متابعة الصراع ضد المرض، من أجل الحياة. وإلى جانبها، توجد أيضاً نعمة قبول ترك هذا العالم، من غير خشية أو مرارة، في الساعة التي يريدها الله.

كم كان صحيح حدس هذه الشخصية الروحية الفرنسية، السيد جان باتيست شوتار، الذي كان، في روح كل تبشير، يقترح على المسيحي المضطرم، "عدة لقاءات نظر مع العذراء مريم"! أجل، إن التماس ابتسامة العذراء مريم ليس تصرفاً صبيانياً ورعاً، لا بل أنه مبتغى "أغنى الشعوب"، كما يقول المزمور 44 في الآية 13. إن "أغنى الشعوب" تعني في مجال الإيمان، من عندهم النضج الروحي الأكثر سمواً، ومن يعرفون بالتحديد اكتشاف ضعفهم وفقرهم أمام الله. في هذا التعبير البسيط عن الحنان المتجلي في ابتسامة، ندرك أن ثروتنا الوحيدة هي المحبة التي يحملها الله لنا، والتي تنتقل عبر قلب تلك التي أصبحت أمنا. إن التماس هذه الابتسامة، هو أولاً جني مجانية المحبة؛ كما هو أيضاً معرفة تحريك هذه الابتسامة بجهدنا للعيش بحسب أقوال ابنها الحبيب، كما يلتمس الطفل ابتسامة أمه من خلال القيام بما يرضيها. ونحن نعلم ما يرضي مريم بفضل الأقوال التي وجهتها إلى الخدم في قانا: "افعلوا كل ما يأمركم به" (يوحنا 5،2).

إن ابتسامة مريم هي منبع المياه الحية. ويقول يسوع: "من آمن بي تجري من داخله أنهار ماء حي" (يوحنا 38،7). ومريم التي آمنت، جرت من أحشائها أنهار ماء حي أتت تروي تاريخ الإنسان. إن الينبوع الذي أشارت إليه مريم إلى برناديت هنا في لورد، هو العلامة المتواضعة لهذه الحقيقة الروحية. فمن قلبها هي الأم والمؤمنة، ينبع ماء حي يطهر ويشفي. خلال الغوص في برك لورد، هناك الكثير ممن لم يكتشفوا ويختبروا الأمومة العذبة للعذراء مريم، متعلقين بها من أجل التعلق أكثر بالرب! في المنظومة الليتورجية لعيد سيدة الآلام، تكرم مريم بصفة "منبع المحبة". فمن قلب مريم الخفي، تنبع محبة مجانية تحث على محبة بنوية، مدعوة إلى الترقي بلا انقطاع. وككل أم، وأفضل من كل أم، مريم هي مدرسة المحبة. لذا هناك الكثير من المرضى الذين يأتون إلى هنا، إلى لورد للارتواء قرب "منبع المحبة"، وللوصول إلى منهل الخلاص الوحيد، ابنها، يسوع المخلص.

يمنح المسيح خلاصه من خلال الأسرار. وللأشخاص الذين يعانون من الأمراض أو من العاهات، فإنه يمنحهم الخلاص من خلال نعمة مسحة المرضى. إن الأوجاع هي دوماً غريبة لدى كل إنسان لأن حضورها ليس مستحباً أبداً. لذا من الصعب تحملها، ومن الصعب أكثر – كما فعل بعض الشهود العظام على قداسة المسيح – الترحيب بها كجزء من دعوتنا، أو القبول، كما قالت برناديت، "بالتوجع بصمت لإرضاء يسوع". للتمكن من قول ذلك، لا بد أننا قد عبرنا طريقاً طويلة بالاتحاد مع يسوع. من الآن، بإمكاننا عوضاً عن ذلك أن نستودع أنفسنا برحمة الله كما تتجلى بنعمة سر المرضى. وبرناديت، بنفسها، خلال وجود غالباً ما تخلله المرض، تلقت هذا السر أربع مرات. تكمن النعمة الخاصة بهذا السر في استقبال المسيح الطبيب في نفوسنا. مع ذلك، فإن المسيح ليس طبيباً على طريقة العالم. فهو، من أجل شفائنا، لا يبقى بعيداً عن المعاناة التي نقاسيها، لا بل يُسكنها من خلال مجيئه ليسكن في الشخص الذي يعاني من المرض، ليتحمله معه ويعيشه معه. إن حضور المسيح يأتي ليكسر العزلة التي تسببها الأوجاع. فالإنسان لا يتحمل وحده المحنة، بل يتطابق مع المسيح الذي يقدم نفسه للآب، كعضو متألم من المسيح، ويشارك فيه، بإنتاج الخلق الجديد. من دون عون المسيح، يكون نير المرض والمعاناة ثقيلاً جداً. ونحن بتلقينا سر مسحة المرضى، لا نرغب في حمل أي نير سوى نير المسيح، أقوياء بالوعد الذي أعطانا إياه بأن نيره هين وحمله خفيف (راجع متى 30،11). أدعو الأشخاص الذين يتلقون مسحة المرضى خلال هذا القداس إلى أن يمتلئوا من هذا الرجاء.

(…) لقد أظهر المجمع الفاتيكاني الثاني مريم كالرمز الذي تلخص فيه كل سر الكنيسة. إن تاريخها الشخصي يستبق طريق الكنيسة المدعوة إلى أن تنظر مثلها إلى الأشخاص المتألمين. أوجه تحية حارة إلى جميع الأشخاص، وبخاصة إلى الهيئة الطبية والصحية، التي تساهم بمختلف درجاتها في المستشفيات، أو في مؤسسات أخرى، في العناية بالمرضى بجدارة ومروءة. كما أود أن أقول لجميع الممرضين، والنقالين، والمرافقين القادمين من جميع أبرشيات فرنسا ومن مناطق أبعد، والذين يحيطون طوال السنة بجميع المرضى الآتين ليحجوا في لورد، كم أن خدمتهم عزيزة. فهم سواعد الكنيسة الخادمة. وأود أخيراً تشجيع هؤلاء الذين، باسم إيمانهم، يستقبلون ويزورون المرضى، بخاصة في المستشفيات، في الرعايا، أو كما هنا، في المزارات. فلتتمكنوا، بحملكم رحمة الله، من الشعور دوماً بالدعم الفعال والأخوي من جماعاتكم في هذه المهمة العظيمة والحساسة! وبهذا الصدد، أحيي بخاصة إخوتي الأساقفة الفرنسيين، والأساقفة الأجانب، والكهنة، وأشكرهم، هم الذين يرافقون جميعاً المرضى والبشر في أوجاع هذا العالم. شكراً لخدمتكم مع الرب المتألم. إن خدمة المحبة التي تسدونها هي خدمة مريمية. ومريم تستودعكم ابتسامتها، لتصبحوا بأنفسكم، في إخلاصكم لابنها، منبع الماء الحي. إن ما تفعلون، تفعلونه باسم الكنيسة، التي تشكل مريم صورتها الأنقى. عسى أن تحملوا ابتسامتها إلى الجميع!

في الختام، أود أن أتحد بصلاة الحجاج والمرضى، وأن أكرر معكم مقطعاً من الصلاة إلى مريم المطروحة للاحتفال بهذا اليوبيل: "لأنك ابتسامة الله، انعكاس نور المسيح، وسكنى الروح القدس، لأنك اخترت برناديت في بؤسها، ولأنك نجمة الصبح، وباب السماء، والكائن الحي الأول الذي بُعث"، مع إخوتنا وأخواتنا أصحاب القلوب والأجساد المتألمة، نصلي لك يا سيدة لورد!

نقلته من الفرنسية إلى العربية غرة معيط – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.