روما، الاثنين 29 سبتمبر 2008 (Zenit.org).
ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر بعد ظهر الأحد الواقع في 14 سبتمبر، إلى أساقفة فرنسا الذين اجتمعوا في قاعة القديسة برناديت في لورد.
***
السادة الكرادلة،
إخوتي الأعزاء في الأسقفية!
هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها منذ بداية حبريتي بفرح لقائكم جميعاً. أوجه تحية حارة إلى رئيسكم، الكاردينال أندريه فان تروا، وأشكره على الكلمات القلبية التي وجهها لي باسمكم. كما يسرني أن أحيي نواب الرؤساء، والأمين العام، ومساعديه. أحيي بحرارة كلاً منكم، يا إخوتي في الأسقفية، يا من أتيتم من جميع مناطق فرنسا، ومن وراء البحار. وأشمل بالتحية المونسنيور فرنسوا غارنييه، رئيس أساقفة كامبراي، الذي يحتفل اليوم في فالنسيين بألفية سيدة الحبل المقدس. أنا سعيد بحضوري بينكم هذا المساء في قاعة "القديسة برناديت" هذه، التي هي المكان الاعتيادي لصلواتكم ولقاءاتكم، المكان الذي تطرحون فيه همومكم وآمالكم، ومكان مناقشاتكم وتأملاتكم. وتقع هذه القاعة في مكان مميز إلى جانب المغارة والبازيليكات المريمية. ومن دون شك تسمح لكم الزيارات إلى الأعتاب الرسولية بلقاء خليفة بطرس في روما بانتظام، ولكن هذا الوقت الذي نعيشه معطى لنا كنعمة لإعادة التأكيد على الروابط الوثيقة التي توحدنا في مشاركة الخدمة الكهنوتية عينها التي تنبثق مباشرةً عن خدمة المسيح الفادي. أشجعكم على الاستمرار في العمل في الوحدة والثقة، بالاتحاد الكامل مع بطرس الذي قدم من أجل توطيد إيمانكم. لقد قلتم يا أصحاب النيافة أن اهتماماتكم واهتماماتنا هي كثيرة حالياً! وأعلم أنكم تعملون بجهد في الإطار الجديد المحدد بإعادة تنظيم خارطة الأقاليم الكنسية، وأنا مسرور جداً بذلك. أستغل هذه المناسبة للتفكير معكم حول بعض المواضيع التي أعلم أنها محط اهتمامكم. إن الكنيسة – الواحدة، المقدسة، الكاثوليكية، والرسولية – ولدتكم بالعماد. لقد دعتكم إلى خدمتها، وأنتم منحتموها حياتكم، أولاً كشمامسة وكهنة، من ثم كأساقفة. وأعبر عن تقديري لهذه الهبة التي منحت لكم: فعلى الرغم من أهمية مهمتكم التي لا تخفف من الشرف الذي تستوجبه، إلا أنكم تقومون بإخلاص وتواضع بالمهمة الثلاثية التي هي مهمتكم ألا وهي التعليم، والحكم، والتقديس بحسب قانون نور الأمم (25 – 28) ومرسوم الرب يسوع المسيح. يا خلفاء الرسل، أنتم تمثلون المسيح على رأس أبرشياتكم التي أوكلت إليكم، وتسعون جاهدين لتحقيق صورة الأسقف التي رسمها القديس بولس، لذا يجب عليكم أن تمضوا قدماً ومن غير انقطاع على هذه الطريق، من أجل أن تكونوا دوماً "مضيافين، محبين للخير، متزنين، عادلين، ورعين، ومالكين لطبعكم، ملتصقين بالكلمة الصادقة الموافقة للتعليم"، (تيط 1، 8 – 9) كما يقول القديس بولس في الرسالة إلى تيطس. يجب على الشعب المسيحي أن ينظر إليكم بمحبة واحترام. فمنذ البدء، شدد التقليد المسيحي على هذه النقطة: "جميع من هم لله وليسوع المسيح، هم مع الأسقف"، كما كان يقول القديس اغناطيوس الأنطاكي (إلى فيلادلفيا 3، 2) الذي يضيف قائلاً: "إن الشخص الذي يرسله سيد البيت ليدير بيته، يجب أن نستقبله تماماً كالذي أرسله" (إلى أفسس6، 1). إن مهمتكم، الروحية بخاصة، تكمن إذاً في خلق الظروف الضرورية من أجل أن يتمكن المؤمنون، نقلاً عن القديس اغناطيوس "من إنشاد تسبيح للآب بصوت واحد بيسوع المسيح" (إلى أفسس 4، 2)، وتحويل حياتهم بذلك إلى تقدمة لله.
أنتم مقتنعون بحق بأن التعليم الديني هو ذات أهمية أساسية من أجل تنمية محبة الله، وفهم معنى الحياة في روح كل معمد. والوثيقتان الأساسيتان المقدمتان لكما وهما التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، والتعليم المسيحي لأساقفة فرنسا، فإنهما تشكلان وسيلتي نجاح قيمتين، إذ تجعلان من الإيمان الكاثوليكي خلاصة متناغمة، وتسمحان بإعلان الإنجيل بإخلاص فعلي لثروته. إن التعليم الديني ليس أولاً مسألة طريقة، بل محتوى، كما يشير اسمه نفسه: فالتعليم الديني هو عرض نظامي لمجموعة الوحي المسيحي، القادر على وضع كلمة من بذل حياته من أجلنا في تصرف العقول والقلوب. بهذه الطريقة، يترك التعليم الديني في قلب كل إنسان صدى دعوة واحدة تتجدد من غير انقطاع: "اتبعني" (متى 9، 9). ويسمح الإعداد المتقن لمعلمي الدين بنقل الإيمان الكامل، على مثال القديس بولس، معلم الدين الأعظم في كل الأزمنة، الذي ننظر إليه بإكبار خاص بعد مرور ألفي سنة على ولادته. فوسط المشاغل الرسولية، كان يعظ على هذا النحو: "فإنه سيأتي زمان لا يطيق الناس فيه التعليم الصحيح، بل تبعاً لشهواتهم الخاصة يكدسون لأنفسهم معلمين يقولون لهم كلاماً يداعب الآذان. فيحولون آذانهم بعيداً عن الحق، منحرفين إلى الخرافات" (2 تيم 4، 3 – 4). وأنتم، بإدراككم الواقعية الكبيرة لتوقعاته، تسعون جاهدين بخشوع ومواظبة إلى العمل وفقاً لتوصياته: "أن تنادي بالكلمة منشغلاً بها كلياً، في الفرص المناسبة وغير المناسبة على السواء… بكل صبر في التعليم" (2 تيم 4، 2).
بغية إتمام هذه المهمة بفعالية، أنتم تحتاجون إلى مساعدين. لذا، تستحق الدعوات الكهنوتية والرهبانية كل التشجيع أكثر من أي وقت مضى. وقد علمت بالمبادرات التي أُخذت بإيمان في هذا المجال، وأقدم الدعم الكامل لهؤلاء الذين كالمسيح لا يخافون من دعوة الشباب أو الأقل شباباً لوضع أنفسهم في خدمة المعلم الحاضر هنا والذي يطلبهم (يو 11، 28). أشكر بحرارة وأشجع جميع العائلات، والرعايا، والطوائف المسيحية، وجميع الحركات الكنسية التي هي الأرض الجيدة التي تعطي ثمار الدعوات الجيدة (مت 13، 8). في هذا السياق، لا أنسى التعبير عن شكري للصلوات الكثيرة التي قدمها تلامذة المسيح وكنيسته الحقيقيون. ومن بينهم كهنة، رهبان وراهبات، مسنون أو مرضى، ومساجين أيضاً، الذين رفعوا ابتهالاتهم إلى الله طيلة عقود من أجل إتمام وصية يسوع: "فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل عمالاً إلى حصاده" (متى 9، 38). يجب على الأسقف وجماعات المؤمنين المعنية أن يساعدوا الدعوات الكهنوتية والرهبانية ويرحبوا بها، بالاتكال على النعمة التي يمنحها الروح القدس للقيام بالتمييز الضروري. أجل، يا إخوتي الأعزاء في الأسقفية، استمروا في الدعوة إلى الكهنوت والحياة الرهبانية، تماماً كما رمى بطرس شباكه لأجل كلمة المعلم، بعد أن جاهد طوال الليل ولم يصطد شيئاً (لو 5، 5).
لن نقول أبداً ما يكفي عن أن الكهنوت أساسي للكنيسة، حتى من أجل مصلحة العلمانيين. فالكهنة هم هبة منحت من عند الله للكنيسة. كما أن الكهنة لا يستطيعون توكيل وظائفهم إلى المؤمنين، في ما يتعلق بمهامهم الخاصة. إخوتي الأعزاء في الأسقفية، أدعوكم إلى الانشغال في مساعدة كهنتكم على العيش في اتحاد قلبي مع المسيح. إذ أن حياتهم الروحية هي الأساس لحياتهم الرسولية. وأنتم سوف تحثونهم بلطف على الصلاة اليومية وعلى الاحتفال الوقور بالأسرار، وبخاصة بالافخارستيا والتبريك، كما كان يفعل القديس فرنسيس دو سال لكهنته. ينبغي على كل كاهن أن يتمكن من الشعور بفرح خدمة الكنيسة. وعلى نهج خوري آرس، ابن بلادكم وشفيع جميع كهنة العالم، لا تتوقفوا عن التكرار بأنه لا يمكن للإنسان القيام بأي شيء أعظم من إعطاء جسد ودم المسيح للمؤمنين، ومغفرة الذنوب. اسعوا إلى أن تهتموا بإعدادهم البشري، الفكري، والروحي، وبوسائل عيشهم. وعلى الرغم من ثقل اهتماماتكم، حاولوا أن تلتقوا بهم بانتظام، واستقبلوهم كإخوة وأصدقاء (نور الأمم 28، و… 16). فالكهنة بحاجة إلى محبتكم، وتشجيعكم، وعنايتكم. تقربوا منهم واهتموا بشكل خاص بأولئك الذين يعانون من ضيق، بالمرضى أو المسنين (… 16). وكما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني، مكرراً العبارة الرائعة للقديس اغناطيوس الأنطاكي إلى مغنيسيا، لا تنسوا أنهم "مملكة الأسقف الروحية" (نور الأمم 41).
إن العبادة الليتورجية هي التعبير السامي عن الحياة الكهنوتية والأسقفية، وعن التعليم الديني أيضاً. إخوتي الأعزاء، إن مهمتكم لتقديس شعب المؤمنين هي أساسية لنمو الكنيسة. وفي "الأحبار العظام" جئت على تحديد ظروف تطبيق هذه المهمة، في ما يتعلق بإمكانية استخدام كتاب قداس الطوباوي يوحنا الثالث عشر (1962)، وكتاب البابا بولس السادس (1970). إن بعض ثمار هذه الأعمال الجديدة قد أبصرت النور، وأرجو أن تتم تهدئة النفوس في هذا الوقت بنعمة من الله. انا أقدر الصعوبات التي تقف بوجهكم، ولكنني لا أشك أنكم قادرون في الوقت المناسب على التوصل إلى حلول مرضية للجميع، لئلا يتمزق رداء المسيح أكثر. فما من أحد فائض في الكنيسة، ويجب على كل فرد، دون أي استثناء، أن يشعر بأنه مرحب به، وليس أبداً مهمشاً. إن الله الذي يحب جميع الناس، ولا يريد أن يفقد أياً منهم، يوكل إلينا مهمة الرعاة هذه، بجعلنا رعاة خرافه. لا نستطيع سوى أن نشكره على العزة والثقة اللتين أنعم بهما علينا. فلنسعَ دوماً لأن نكون خدام الوحدة!
ما هي المجالات الأخرى التي تتطلب اهتماماً أكبر؟ من الممكن أن تختلف الأجوبة من أبرشية إلى أخرى، إلا أن هناك بالتأكيد مشكلة ملحة تظهر في كل مكان وهي الوضع العائلي. نحن نعلم أن الزوجين والعائلة يواجهون اليوم عصفات حقيقية. ومن الممكن لكلام الإنجيلي عن القارب في العاصفة وسط البحيرة أن يطبق على العائلة: "وأخذت الأمواج تضرب القارب حتى كاد يمتلىء ماء" (مر 4، 37). والعوامل التي تسببت بهذه الأزمة هي معروفة جيداً، لذا لن أتوقف كثيراً عند ذكرها. منذ عدة عقود، وفي بلدان مختلفة، ضارعت قوانين طبيعتها كالخلية الأساسية في المجتمع. وكثيراً ما تسعى إلى التكيف مع عادات ومطالب أشخاص ومجموعات معينة، أكثر منه إلى تشجيع المصلحة العامة للمجتمع. والزواج المستقر بين رجل وامرأة، المطلوب لتأسيس سعادة أرضية بفضل ولادة أطفال يرزقهم الله، لم يعد في أذهان البعض النموذج الذي يتعلق به الارتباط الزوجي. ولكن التجربة تعلم أن العائلة هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع بأسره. إضافة إلى ذلك، فإن المسيحي يعلم أن العائلة هي الخلية الحية للكنيسة، والحال أنه كلما أُخصبت العائلة بالروح وبقيم الإنجيل، كلما اغتنت الكنيسة نفسها بها واستجابت أفضل لدعوتها.
من جهة أخرى، فإنني على علم بالجهود التي تبذلونها بغية تقديم دعمكم إلى مختلف الجمعيات التي تسعى لمساعدة العائلات، كما أنني أشجعها بعمق. أنتم محقون في الحفاظ على المبادىء التي تشكل قوة وعظمة سر الزواج، حتى في عكس التيار. تريد الكنيسة أن تبقى على الدوام وفية لتوكيل مؤسسها، معلمنا وربنا يسوع المسيح. فهي لا تنقطع عن التكرار معه: "فلا يفرقن الإنسان ما قد قرنه الله!" (مت 19، 6). فالكنيسة لم تعط نفسها هذه المهمة، لا بل أنها تلقتها. وبالتأكيد، لا يمكن لأحد إنكار وجود المحن التي غالباً ما تكون مؤلمة جداً، والتي تمر بها بعض العائلات. يجب مرافقة هذه العائلات في محنها، ومساعدتها على فهم عظمة الزواج، وتشجيعها على عدم مضارعة مشيئة الله وقوانين الحياة التي أعطانا إياها. والمسألة المؤلمة بشكل خاص هي، وكما نعلم، مسألة المطلقين المتزوجين من جديد. والكنيسة التي لا يمكنها معارضة مشيئة المسيح، تصون بثبات مبدأ لاانفساخية الزواج، بتقديم المحبة لمن لا ينجح في احترامه لأسباب عديدة. إذاً، من غير الممكن قبول مبادرات تهدف إلى مباركة زواج غير شرعي. هذا وأشار الإرشاد الرسولي "شركة العائلة" إلى الطريق المفتوحة بتفكير موقر للحقيقة والمحبة.
أنا أعلم جيداً أيها الإخوة الأعزاء أن الشباب هم محط اهتمامكم. فأنتم تكرسون لهم الكثير من الوقت، وأنتم محقون بذلك. وكما رأيتم، لقد التقيت بأعداد وافرة في سيدني، خلال يوم الشبيبة العالمي. وقدرت حماستهم وقدرتهم على تكريس أنفسهم للصلاة. فعلى الرغم من عيشهم في عالم يمالقهم، ويمدح غرائزهم الحقيرة، وعلى الرغم من حملهم أيضاً ثقل الإرث الذي يصعب تحمله، إلا أن الشباب يحافظون على طهارة نفس أثارت إعجابي. وقد توجهت لحسهم بالمسؤولية بدعوتهم إلى الاتكال دوماً على الدعوة التي منحهم إياها الله يوم عمادهم. "إن قوتنا هي ما يريده الله منا": كما كان يقول الكاردينال جان ماري لوستجيه. لقد وجه سلفي الموقر، خلال زيارته الأولى إلى فرنسا، كلمة إلى الشبيبة في بلادكم لم تفقد شيئاً من فعليتها، وكانت قد لقيت آنذاك ترحيباً حاراً لا يُنسى. وقد أعلن في بارك دي برنس، وسط تصفيق مدوي، أن "التساهل الأخلاقي لا يجعل الإنسان سعيداً". إن الحس الجيد الذي كان يلهم ردة فعل سامعيه السليمة لم يمت. أصلي للروح القدس أن يتكلم في قلوب جميع المؤمنين، وبشكل أكثر عموماً، في نفوس كل المواطنين في بلادكم لكيما يمنحهم – أو يعيد إليهم – طعم حياة وفقاً لمعايير سعادة حقيقية.
وقد ذكرت في الإليزيه في يوم ليس ببعيد بأصالة الوضع الفرنسي الذي يحترمه الكرسي الرسولي. وفي الواقع أنني على اقتناع بأنه يجب على الأمم ألا تقبل أبداً بزوال ما يحدد هويتها الخاصة. ففي العائلة قد يكون لمختلف الأعضاء الأب نفسه والأم نفسها، ولكنهم ليسوا أشخاصاً غير متميزين بل أشخاصاً أصحاب تميز خاص. والأمر سيان بالنسبة إلى البلدان التي يجب عليها أن تسهر على الحفاظ على ثقافتها الخاصة وتنميتها، مع عدم السماح لها بالاندماج في غيرها، أو الانغماس في تشابه رتيب. ولاستعادة أقوال البابا يوحنا بولس الثاني، فإن الأمة في الواقع هي المجتمع الأكبر للناس الذين توحدهم روابط مختلفة، وبخاصة رابط الثقافة. إن الأمة موجودة "بالثقافة" و"للثقافة"، وهي إذاً المعلمة الكبرى للناس من أجل أن يكونوا أكثر اندماجاً في المجتمع" (خطاب في اليونيسكو، 2 يونيو 1980، رقم 14). في هذا البعد، يسمح وضوح الجذور المسيحية في فرنسا لكل من ساكني هذه البلاد أن يفهم بشكل أفضل من أين يأتي وإلى أين يذهب. ونتيجة لذلك، في الإطار المؤسسي الموجود، وضمن الاحترام الأكبر للقوانين المعمول بها، يجب إيجاد طريقة جديدة لترجمة القيم الأساسية التي تأسست عليها هوية الأمة، وعيشها يومياً. وقد ذكر رئيسكم الإمكانية لذلك. إن المقتضيات الإجتماعية السياسية ذات ارتياب قديم، أو حتى عداوة، تزول شيئاً فشيئاً. فالكنيسة لا تطالب بموقع الدولة، ولا تريد أن تحل مكانها. فهي مجتمع مبني على قناعات، تعلم بأنها مسؤولة عن الجميع ولا يمكنها أن تقتصر على ذاتها. وهي تتكلم بحرية، وتحادث كذلك بحرية مع الرغبة الوحيدة بالتوصل إلى بناء الحرية العامة. إن التعاون السليم بين المجتمع السياسي والكنيسة، الذي يتحقق في إدراك واحترام استقلالية كلاً منهما ضمن المجال الخاص بهما، يشكل خدمة للإنسان، الضروري لتفتحه الشخصي والاجتماعي. هناك العديد من النقاط التي تشكل البواكير لنقاط أخرى تضاف بحسب الاحتياجات، والتي تمت معاينتها وحلها في "الحوار بين الكنيسة والدولة". وبموجب مهمته الخاصة وباسم الكرسي الرسولي، يهتم فيه طبعاً النائب الرسولي المدعو إلى متابعة نشيطة لحياة الكنيسة، ووضعها في المجتمع.
وكما تعلمون، فإن سلفي، الطوباوي يوحنا الثالث عشر، النائب السابق في باريس، والبابا بولس السادس، أرادا أمانة سر تحولت سنة 1988 إلى المجلس الحبري لتعزيز وحدة المسيحيين والمجلس الحبري للحوار بين الأديان. وأضيفت إليهما سريعاً اللجنة للعلاقات الدينية مع اليهود، واللجنة للعلاقات الدينية مع المسلمين. وتشكل هذه الهيئات إذا صح القول، شكراناً مؤسسياً ومجمعياً للمبادرات العديدة، والإنجازات السابقة. ومن جهة أخرى، هناك لجان أو مجالس مماثلة في مؤتمر الأساقفة الخاص بكم، وفي أبرشياتكم. فوجودها وعملها يظهران إرادة الكنيسة في المضي قدماً (…) في الحوار الثنائي. وقد أوضحت جمعية المجلس الحبري للحوار بين الأديان التي انعقدت مؤخراً بكامل هيئتها بأن الحوار الحقيقي يشترط أساساً على إعداد جيد لهؤلاء الذين يعززونه، ورؤية مستنيرة بغية التقدم رويداً رويداً في اكتشاف الحقيقة. أما الحوار المسكوني والحوار بين الأديان، اللذان يختلفان في الطبيعة والقصدية، فهدفهما هو البحث عن الحقيقة والتبحر فيها. فالمهمة إذاً مهمة شريفة وواجبة لكل رجل دين لأن المسيح نفسه هو الحقيقة. إن بناء جسور بين التقاليد الكنسية المسيحية الكبيرة والحوار مع التقاليد الدينية الأخرى يتطلبان مجهوداً فعلياً من المعرفة المتبادلة، لأن الجهل يهدم أكثر مما يبني. فضلاً عن ذلك، فإن الحقيقة هي الوحيدة التي تسمح لنا بالعيش الحقيقي لوصية المحبة المزدوجة التي تركها لنا مخلصنا. وبالتأكيد، يجب اتباع المبادرات المختلفة باهتمام، وتمييز تلك التي تساعد على المعرفة والاحترام المتبادلين، وعلى تعزيز الحوار، والابتعاد عن تلك التي تؤدي إلى طرق مسدودة. فالنية الحسنة وحدها لا تكفي. وأعتقد أنه من الجيد الانطلاق من الإصغاء، من ثم الانتقال إلى المناقشة اللاهوتية للتوصل أخيراً إلى الشهادة وإعلان الإيمان ذاته (راجع الملاحظة العقائدية حول بعض مظاهر التبشير بالإنجيل، رقم 12، 3 ديسمبر 2007). فليمنحكم الروح القدس القدرة على التمييز الذي يجب أن يتصف بها كل راع! ويوصينا القديس بولس قائلاً: "امتحنوا كل شيء، وتمسكوا بالحسن!" (1 تس 5، 21). فالمجتمع المعولم، والمتعدد الثقافات والأديان الذي نعيش فيه هو فرصة يمنحنا إياها الرب لإعلان الحقيقة وتقديم المحبة بغية الوصول إلى كل إنسان من دون أي تمييز، حتى أبعد من حدود الكنيسة المنظورة.
في السنة التي سبقت انتخابي لخلافة بطرس، سررت بالمجيء إلى بلادكم لترؤس الاحتفالات التذكارية لمرور ستين عاماً على عملية الإنزال في نورمندي. وآنذاك نادراً ما شعرت بتعلق البنين والبنات الفرنسيين بأرض أجدادهم. لقد كانت فرنسا تحتفل آنذاك بتحريرها الجسدي، في نهاية حرب أليمة أسفرت عن وقوع العديد من الضحايا. أما اليوم، فمن المناسب السعي بخاصة إلى تحرر روحي حقيقي. فالإنسان بحاجة دوماً إلى التحرر من مخاوفه وذنوبه. ويجب عليه أن يكتشف أو أن يعلم من جديد ومن غير انقطاع بأن الله ليس عدوه بل خالقه المفعم بالصلاح. إن الإنسان بحاجة إلى المعرفة بأن لحياته معنى، وبأنه منتظر في نهاية حياته على الأرض، ليشارك مجد المسيح في السماوات إلى الأزل. إن مهمتكم تكمن في اجتذاب البعض من شعب الله الذين أوكلوا إليكم إلى التعرف إلى هذه الغاية المجيدة. وأعبر هنا عن إعجابي وتقديري لكل ما تصنعون للسير بهذا الاتجاه. وكونوا واثقين بأنني أصلي لكل منكم يومياً. واعلموا أنني لا أكف عن التضرع إلى الرب وإلى أمه لإرشادكم على طريقكم.
إخوتي الأعزاء في الأسقفية، أعهد بكم بكل فرح وانفعال إلى سيدة لورد، والقديسة برناديت. لطالما انتشرت قدرة الله في الضعف، ولطالما طهر الروح ما كان نجساً، وروى ما كان يابساً، ودبر ما كان حائداً. إن المسيح المخلص الذي أراد جعلنا واسطة لننقل محبته للبشر، لن يكف أبداً عن تنميتكم في الإيمان، والرجاء، والمحبة، ليمنحكم فرح اجتذاب عدد متزايد من رجال ونساء زمننا إليه، أعهد بكم إلى قوته الفادية، وأمنحكم جميعاً من أعماق قلبي بركتي الرسولية العطوفة. وشكراً.
نقلته الى العربية غرة معيط – وكالة زينيت العالمية
حقوق الطبع لمكتية النشر الفاتيكانية