المزمور الحادي عشر: الله ملجأ البائسين

 عشر

عندما تنهار أركان العدالة البشرية

يصير الله ملجأ البائس

أولاً: تقديم المزمور:

المزمور الحادي عشر هو مزمور توسّل ينشده المرتّل طالبًا العون من الله للأبرار في مواجهة الأشرار. إنه نشيد ثقة، يهدف إلى تقديم تعليم وعبرة للأجيال، حيث يقول للجميع إنه لا أمن ولا حماية للمؤمن عند الناس، فلا ملجأ له إلاّ عند الله فهو ملجأ البائس والمسكين، وبقربه وحده يشعر الإنسان بالطمأنينة والسلام.

ويرتبط هذا المزمور بالمزامير: الخامس والسابع والعاشر والسابع عشر.ويعالج نفس المشكل: الإيمان في مواجهة الواقع، فلمن ستكون الغلبة؟

 يبدو أن داود المرنّم كان يشكو من مكايد الأشرار، شاول الملك وحاشيته ورجال بلاطه الذين كانوا يغارون من نجاح داود والتفاف الشعب حوله، وقد كتب  هذا المزمور أثناء مطاردة الملك شاول له ومحاولاته العديدة لقتله (صموئيل الأول 18:  12-30)، فنصحه أصحابه بالهرب إلى المنطقة الجبلية من أرض يهوذا، لينجو من الشر الذي يتهدده لو بقي حيث كان، لكنه يعلن لأصدقائه ثقته المطلقة بالله العادل الذي ينظر من علوّ سمائه إلى الأبرار بعين ساهرة لا تنام ويحفظهم وإلى الأشرار فيعاقبهم.

        يبرز في هذا المزمور فعل إيمان المرتّل بالهيكل وبالله الحاضر فيه، فهو مؤمن إيماناً راسخاً أن الله سوف  ينجيه لأنه مسحه ودعاه، ويعرف أن رسالته تكمن في أن يكون وسط شعبه لا أن ينجو بنفسه، ويوقن أن صاحب الرسالة لا يجب أن يهتم بنفسه على حساب رسالته.

         لقد ومرّ هذا الموقف بالكثير من شخصيات الكتاب المقدس، كنحميا بعد عودته من السبي وشروعه في بناء الهيكل حيث ثار الأعداء ضده ونصحه شمعيا ان يهرب ويلوذ بالله في الهيكل، مكان حضور الرب. فرفض وأجاب " أرجل مثلي يهرب " (نحميا 6:11) فكيف يحمي سلامته على حساب سلامة شعبه ورسالته، إنه لو فعل هذا فسيهلك نفسه ويضر برسالته (نحميا: الفصل الحادي عشر) .

        كما وقف الرب يسوع ذاته، نفس الموقف حين نصحه الأصدقاء أن يترك اليهودية متوجها إلى الجليل لأن هيرودس يريد قتله، فرفض وأجاب " امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج الشياطين وأشفي اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل…" (لوقا 13: 31 -32).  

        يُقدّم  هذا المزمور الله كشخص العلي الساكن في هيكله المقدّس وسط أبناء شعبه، وهو قريب من البشر(الملوك الأول 2: 28- 35). في الكتاب المقدس والتقليد اليهودي توجد ثلاث نظريات لاهوتية لوجود الله:

§   التقليد اليهوي: الذي ينادي الله باسم يهوه، فقط أي   "الكائن" الذي ظهر لموسى في العليقة وعندما سأله عن اسمه قال له  "أنا يهوه، إله آبائك إبراهيم واسحق ويعقوب" ( خروج ) فهو إله يتسامي حتى عن النطق باسمه، وعرشه في السماء بعيداً عن الناس.

§   التقليد الألوهيمي: يرفض هذا القول ويشعر أن الله قريب ويأتي إلى الأرض ويعيش مع البشر ويأكل معهم (تكوين 3: 8؛ خروج 24: 9- 11). لكنّه يرفض القول إن الله يسكن بيتًا صنعته أيدي البشر.

§   التقليد الكهنوتي: جاء فجمع غنى التقليدين السابقين، فقال: الله في السماء وسماء السماء لا تسعه. كما إن الله أيضًا في هيكله المقدّس وبين شعبه. فليس على المؤمن الذي يريد أن يلتقي بإله السماء والأرض،  سوى أن يذهب إلى الهيكل وهناك سوف يجده ويلمس حضوره.

وهو بهذا يكون قد جمع بين النظريتين اللاهوتيتين متفاديا شطوط كلتاهما: فلا حلوليّة تجعل من الله إنسانا من الناس (كما في التقليد اليهوهي). ولا روحانيّة مشوَّهة تجعل الله بعيدًا كل البعد عن الإنسان (كما في التقليد الالوهيمي)، بل نظرة متوازنة تتجاوب ورغبة الإنسان الذي يحتاج إلى إله في السماء قويّ يعلو فوق مدارك البشر، وإلى إله ساكن في الهيكل يعرف الإنسان أين يجده ويسمع كلامه ويدخل في مخطّطه التاريخي.

يقدم لنا المزمور خلاصة خبرة داود الحياتية مع الرب، فقد اختبر المرنّم كلّ الناس وتعايش مع مختلف الظروف، ورأى أن وجه الرب على الأبرار، وهم يتأمّلونه ويستنيرون بنوره ويتمتّعون ببركاته. أمّا حظّ الأشرار هو النار والكبريت كما حدث مع سادوم وعامورة (تكوين 19: 24) وكما جرى على جوج ورفاقه (حزقيال 38: 24). ويعرف أنهم سيُدانون حتماً فيشربون كأس السموم.

ثانياً: نص المزمور وتقسيمه:

ينقسم هذا المزمور إلى قسمين متساويين وهو مكوّن من سبع آيات، ثلاث من آياته السبعة تتحدث عن الأشرار ومصيرهم.، وثلاثة أخرى تخص الأبرار والسابعة خاتمة كإعلان إيمان، ويمكن تقسيم المزمور للنقاط التالية:

القسم الأول:  تحذير ونصيحة بالهرب ( 1- 3):

1 – بالرب احتميت، فكيف تقولون لي: "اهرب إلى الجبال كالعصفور؟.

2- لأن الأشرار يحنون القوس ويسددون سهامهم في الظلام ليرموا كل مستقيم القلب.

3 – إذا انهدمت جميع الأسس فماذا يعمل الأبرار؟".

القسم الثاني: ثبات البطل بالإيمان: ( 4- 6):

4 – الرب في هيكله المقدس. الرب في السماء عرشه: عيناه تبصران بني البشر وبطرفة جفن يمتحنهم.

5 – الرب يمتحن الأشرار والأبرار ويبغض من يحب العنف.

6- يمطر على الأشرار جمراً وكبريتاً، ويجعل ريح السموم نصيبهم.

القسم الثالث: انتصار إيمان البطل: (7)

7- الرب عادل ويحب العدل والمستقيمون يبصرون وجهه.

ثالثاً: تفسير المزمور:

القسم الأول:  تحذير ونصيحة بالهرب ( 1- 3):

يتشكّى المرتّل من مكايد الأشرار، فينصحه أصحابه بالهرب بحجة استحالة تحقيق النصر وتعاظم الأخطار وغياب أركان العدالة حيث أن الملك شاول نفسه المؤتمن عل إقامة أركانها وتحقيقها هو المحرّض الأول والمحرك لعملية اصطياد حياة داود.

1 – بالرب احتميت، فكيف تقولون لي: "اهرب إلى الجبال كالعصفور؟:

v    بالرب احتميت :

الآية الأولى من المزمور تلخّص المزمور كله، إذ هي بمثابة فعل إيمان يعلنه المرنّم أمام أصدقاءه الذي ينصحونه بالهرب كالعصفور (المزمور 55: 7؛ 9: 10) إلى منطقة جبليّة تحتوي على بعض المغاور التي قد تساعده على الاختفاء عن أعين الأعداء، فيردّ عليهم: اتكلت على الله، فلماذا تقولون لي: "أهربي يا نفسي كالعصفور إلى الجبل". ونجد في ترجمة أخرى: "انتقل إلى الجبل مثل العصفور". وترجمة ثالثة: "بدّل مكانك".

وسائل الحماية كثيرة ومتعددة، تعدد الناس والحضارات: فمن اللجوء إلى التجمعات والتحالف مع أقوياء، إلى بناء القلاع والحصون، إلى إعداد الأسلحة وتجهيز الجيوش لصد هجمات العدو وحماية الذات والممتلكات والأوطان…، فإلى ماذا لجأ  داود الملك المرنّم ؟ يبدو اختيار داود اختيارا مختلفاًّ وعجيباً، يخالف توقعات جميع من حوله، " كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه" ( المزمور ا3: 2)بل ويتناقض مع رؤية ونصائح وترتيبات العالم، بما فيهم النفر الليل من الأصدقاء الأوفياء الذين ظلوا معه في محنته، بعد أن تخلى الجميع عنه وتنكر له أقرب المقربين، وتركوه لمصيره المحتوم.

v     فكيف تقولون لي: "اهرب إلى الجبال:

يستخدم المرنم كلمة "كيف" كسؤال استنكاري استفهامي، وهي تعبير عن التعجب، حيث يتعجب النبي ممن ينصحونه بالهرب، والحقيقة أن العجب متبادل، هم يتعجبون من إستراتيجيته الغريبة في مواجهة العدو، وما يتخذه من ترتيبات لا تتناسب ، حسب رؤيتهم، مع خطورة ما يواجه من مواقف وجسامة ما يهدده من مخاطر.

حقاً هناك شيء غريب في تحركات ومواقف هذا القائد، يخالف  كل ما تعلموا من بديهيات القتال وتكتيك الحروب وخطط المواجهات العسكرية، إنه لا يبدو  اليوم ذلك القائد العظيم الذي قهر الكثير من الأعداء وخرج منتصرا في العديد من المعارك… هو اليوم محُاصر في الوادي بين التلال والجبال، يحيط به أعداءه من كل اتجاه، والبديهية الأولى عسكرياً هي أن يهرب من هذا الطوق الذي يحاصره أو يكسره في اضعف نقطة.

v    كالعصفور؟

العصفور صديق داود، وهو كثيراً ما يذكره في مزاميره العذبة، لاسيما حين يكون في شدة أو ضيق. إن صغر حجمه وهشاشة تكوينه، وضعف قدراته أمام ما يواجهه من قوة أعداءه من الجوارح والصقور والنسور والزواحف، بل ومن بني البشر الذين يطاردونه بالفخاخ والنبال… تجعل من استمراره في الوجود إلى اليوم، علامة قوية على حضور أقوى.أما كان لهذا العصفور الضعيف أن ينقرض أمام كل هذا التهديد الحياتي اليومي من كائنات تفوق قدرته وقوته وحجمه عشرات بل مئات المرات…؟ لكنه باق…علامة أن من خلقه وأوجده جالس هناك يرقبه ويحميه ويعتني به، بل وينصره على مواجهة أعداءه الذين يطلبون حياته، على الرغم من قوتهم الجبارة ومكرهم وسعة حيلتهم، أمام بديهية انتصار وتفوق قوتهم الجبارة على ضعفه وهشاشته.

لقد استخدم الرب يسوع نفس الصورة، للتعبير عن عناية الرب بأحبائه ورعايته لهم،  وذلك في الموعظة على الجبل" تأملوا طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يقونها" (متى 5 : 57 ) " أليست عشرة عصافير تباع بفلسين لكن واحدٌ منها لا ينسى قدام الله" … وهكذا لم يُسمع في تاريخ الكون كله، ولا حتى في تاريخ الكوارث والمجاعات والقحط الذي كثيراً ما أصاب البشر في مختلف البقاع على مدار التاريخ، أنّ عصفوراً واحداً وُجد ميّتاً من الجوع!!! فالله نفسه هو الذي يعوله ويحميه ويدعم وجوده وينصره على جميع أعداءه " الفخ انكسر ونجوت كالعصفور" ( المزمور222) وأعظم دليل على هذا الدعم الإلهي لذلك الكائن الهش، هو بقاءه إلى اليوم دون أن ينقرض.

2- – لأن الأشرار يحنون القوس، ويسددون سهامهم في الظلام، ليرموا كل مستقيم القلب:

تقدم لنا الآية الثانية صورة عن الخطر المحدق بالمرتّل (القوس- السهم). في هذه الحالة الخطيرة، يرفض المرتّل نصائح الأصدقاء، ويعلن إيمانه بإله صهيون وإله السماء الجالس فوق الكون كله. "لأن الأشرار يحنون القسيّ، وقد هيّأوا سهامهم في جعبتهم ليضربوا في الظلمة "أصحاب القلوب المستقيمة". وحسب ترجمة أخرى: "كما في الظلمة".

آلات الحرب معدّة، ورحى القتال توشك أن تدور، لتطحن عظام الصدّيق… لقد وضع الأشرار السهام في أقواسها وجذبوا أوتارها، ووجهوها بدقة وحنكة نحو الهدف الوديع الساكن في سلام لا يدري عما يُحاك له شيئاً، وسينطلق السهم في ظلام الليل دون أن يتوقعه الصدّيق، أو يبصره أو حتى يعرف مصدره ليتلافى شره ولو بالانبطاح على الأرض أو الاختباء خلف ساتر…

أين المفر إذن وقد أحاط الأشرار به إحاطة السوار بالمعصم، وحاصروه يريدون  التخلص منه ومن نسله، بل من كل من يتبعه أو يتشبّه به أو ينحاز إليه…كل مستقيم القلب هو عدوهم يعدّون له نفس المصير، فكيف يهرب من هذا الطوق الذي يحاصره من أعلى نقطة ومن جميع الجهات؟.

3- إذا انهدمت جميع الأسس فماذا يعمل الأبرار؟":

"لأنهم دمّروا كل ما صنعته باتقان". وحسب ترجمة أخرى: "لأن النواميس قد انقلبت". وترجم مفسّر آخر: "لأن تعاليم الحقيقة قد ديست بالأرجل" نجد في الآية الثالثة فكرة عن الفوضى الضاربة في المجتمع بسبب غياب المسئول عن إجراء هذه العدالة، من مسحه الله وأقامه ملكاً، ليحكم بالعدل والاستقامة لشعبه…

 " العدالة الغائبة "  كانت قضية داود وكل الأنبياء من عاموس النبي إلى المسيح،  ومازالت إلى اليوم تمثل قضية البشرية الأولى وأزمتها. فالقوانين والنواميس والشرائع تحدد أساس التواصل بين الخالق والخلائق وتنظم العلاقة بين الخلائق وبعضها. ولقد ميز الله البشر بما هو أعلى وأسمي لتأكيد وتوطيد هذه العلاقة بينه وبين الناس، حتى أنه زرع شريعته في ضمائرهم، وعقد معهم العهود وسلمهم الشريعة وسن لنا لهم القوانين التي تحفظ النظام والتكافؤ والعدالة بين الجميع ، لا تفرق بينهم فهم جميعاً أبناء شعبه المحبوب " إذا حفظتم شريعتي وسرتم حسب وصاياي تكونون لي شعباً وأكون لكم غلهاً وأعطيكم…" وأقام الملوك والكهنة ومسحهم أمناء على شريعته

v       فماذا يعمل الأبرار؟":

يتساءل النبي البار المظلوم المطارد من العدو المحاصر بالجيوش والمرفوض من أحباءه، أين العدل أين الحق أين النظام أين القانون؟ هل يحق للابن أن يرث أباه حيّاً؟ وهل له أن يطرده من قصره ويغتصب نساءه ويجلس على عرشه؟ ولم يكفه ذلك بل راح يطارده طالباً نفس أبيه ليهلكه!!! أين نحن وكيف يبغى الإنسان على أقرب الناس إليه فيدوس الشريعة ويخرق القانون ويحتقر الناموس ويسحق البريء بلا ذنب أو جريمة؟

إذا كان الأمر هكذا وإذا تُرك كل شيء للانهيار تحت أقدام البغي والظلم والعدوان فماذا يفعل الأبرار؟ سؤال وجيه وجهه داود إلى نفسه قبل أن يوجهه إلى البشرية، وأصوات حوله تصرخ وقد صارت الهزيمة واضحة جلية "اهرب" هلم لذ بالفرار لتنجو بجلدك، توقف عن البر فلن ينفعك، استسلم فلا فائدة من المقاومة، لم تعد في أمان، ولا موقع لك في المجتمع، فالجميع قد تركوك، والأعداء متربصون بك ملتفّون حولك، ولا أحدٌ يجرؤ حتى أن يرفع صوته دفاعاً عنك.

هكذا ينتهي القسم الأول من المزمور ونحن مع داود محاصرين مهزومين لا أمل لنا ولا رجاء، والجميع حولنا يصرخون وقد رأوا نهايتنا تقترب فاليد على الزناد والرصاص موجه إلى رؤؤسنا ولا نعرف من أين ينطلق، اهرب أيها العصفور الضعيف، لا حياة لك هنا ولا مجال للنجاة امام قوة بطش العدو وعجزك وضعف حيلتك، هلم أعلن انسحابك ولذ بالفرار.

القسم الثاني: ثبات البطل بالإيمان: ( 4- 6):

4 – الرب في هيكله المقدس. الرب في السماء عرشه: عيناه تبصران بني البشر وبطرفة جفن يمتحنهم:

v        الرب في هيكله المقدس

نتساءل ماذا يفعل البار أمام هذا الهول الموشك أن يحلّ به؟ هو لم يحن قوسه مثل خصمه، ولم يهيّئ نفسه للقتال ولا ملأ جعبته بالسهام على مثاله، ولم يُعدّ في السرّ وسائل الهجوم. فسلاحه الوحيد ضد جميع أعدائه كان الثقة المطلقة بالله مخلصه،  طلب ملجأ في الله الذي هو في السماوات ويملأ بوسعه كل شيء. "الرب يقيم في هيكله المقدّس. عرش الربّ هو في السماء".

كيف يجيب بإيجاز على هتاف العدو وصراخ الصديق؟ فيشير إلى العون الذي ينتظره، لقد وضع أمام الأسلحة الموجهة نحوه، ذاك الذي لا يحتاج إلى أيّ من هذه الوسائل الدفاعيّة… بل يفعل كل شيء بإشارة من مشيئته.

أي ثقة وأي إيمان يقدّم النبي الله كسند لا يُقهر، كأنه بداخله يصرخ : برغم كل ظواهر الهزيمة النكراء وبرغم اقتراب العدو لينهي حياتي، هناك قول آخر لعلكم لا تذكرونه فهو غير ساكن في قلوبكم ولا تعرفونه، هناك قوة أعلى تسندني وتراعني…

يبدو أن النبي قد باع القضية أو يمكن أن تكون الضغوط قد أثرت على قواه العقلية فلم يعد مدركاً لخطورة موقفه، لا يفكر فيما يحيق به من أهوال، ولا تبصر عيناه اقتراب انقضاض الخصم، ولا تسمع أذناه صراخ ونصيحة أحباءه الذين ينصحونه " اهرب"…

لقد انتقل بذهنه وعقله وقلبه إلى موضع آخر، إلى دنيا لا تُرى ولا تحس، ولا يدخلها سواه ومن  سار مثله من الأبرار والصديقين السالكين  سبله، الساكنين في طريق البر، العائشين تحت رعاية الله الأبوية، فلا يفارق عيونهم نوره… لقد ترك النبي ساحة المعركة الحامية الوطيس ونسي الأعداء المحيطين المتأهبين للانقضاض وتجاوز الحصار المادي وانتقل إلى الهيكل، حيث سُكنى الله بين البشر، يعرف انه هناك، حاضر، كم قابله والتقى به كم حادثه وناجاه، كم وقف بين يديه متضرعاً وكم قدّم من ذبائح ومحرقات…

v           الرب في السماء عرشه:

وكأن رؤية الله في الحاضر في هيكله المقدس لم ترو عطش نفسه، فانطلق إلى الأعالي محلقا إلى السماء، لينظر الله جالسا على عرشه المهيب، قادراً جباراً. كم هي عظيمة قوّة الرجاء بالله. إنها حصن لا يؤخذ، وسور لا يُقهر، وعون قوّي، وميناء هادئ… وقوّة تفوق الطبيعة، تؤمّن للمتقين مخرجًا سهلاً وسط أعظم الأخطار. بها أنتصر أناس بلا سلاح، على أعداء مدجّجين بالسلاح…

v           عيناه تبصران بني البشر وبطرفة جفن يمتحنهم:

ما أبهى هذا المنظر، إنه كفيل بأن ينزع عن نفس المرنم كل خوف وجزع واضطراب، ها هو في حضرة الله واقف فممن يخاف؟ ها هو لله جالس على عرشه ينظر، فكيف يجزع قلبه؟.

"عيناه تهتمان بالنظر إلى الفقير، وجفناه يسألان بني البشر. الرب يدين البار والشرّير. وهكذا من يحبّ الإثم يكره نفسه. ويقول مترجم آخر: "الرب يتفحّص بعناية". وآخر: "يمتحن البار والشرير، فتمقت نفسُه ذاك الذي يحبّ الجور". وآخرون في النهاية: "ذاك الذي يحبّ الجور يبغض نفسه".

الله مستعدّ دومًا للإسراع إلى معونة اصفيائه ومتعجل في الدفاع عنهم. هكذا يملأ كل شيء بحضوره. هكذا يرى، هكذا ينظر إلى كل شيء. وعمله الذي يحبّه وهوايته المفضلة، أن يمدَّ عنايته إلى بني البشر ويهتمّ بهم، أن يوقف مجهود الظلم ويعين ضحاياه، أن يجازي فضيلة هؤلاء ويعاقب إثم أولئك. إذن، لا يستطيع شيء أن يفلت منه، ووسع نظراته يضمّ الأرض كلها. وهو لا يكتفي بأن ينظر إلى الشرّ بل يريد أن يصلحه. و"الرب العادل". لا يستطيع أن ينظر بلامبالاة إلى الشرّ الذي يُقترف أمام ناظريه. فهو حقًا يمقت الأشرار ويوافق على سلوك الأبرار. (يوحنا فم الذهب).

5 – الرب يمتحن الأشرار والأبرار ويبغض من يحب العنف:

تأكيد لقدرة الرب  ومتابعته للموقف خارجياً وداخلياً وعلمه اللامحدود بما يعتمل في نفوس البشر أبراراً كانوا أم أشرار. فهو يبصر من عرشه ويراقب بني البشر بعينيه، ليس غافل ينظر بعيداً، ولا هو إله يشيح بوجهه ويختفي كما يظن الأشرار، وهو لا من يهمل أحباءه حين يلجئون إليه، ويركز النبي على اتجاه عيني الله فيجد أنهما:

Ø     ترصدان بني البشر وتتابعانهم فهو "محب البشر".

Ø     بطرفة عين يمتحنهم فهو فاحص القلوب والكُلى يعرف ما في الضمائر وما يدور في الصدور والقلوب.

Ø     يميز بينهم كما يميز الراعي الخراف عن الجداء، فيضع الخرف عن يمينه والجداء عن يساره.

Ø     يجازي كل واحد كأعماله فهو إله عادل

v           ويبغض من يحب العنف:

الراعي الصالح يعرف خرافه ويتابعها  كما يعرف الجداء ويبغض عدوانيتها ورغبتها الدائمة في العنف والتناطح والجور على حقوق الحملان الوديعة، وبرغم انه يبغض العنف ومن يحب العنف، وهو لا يستخدم هذا الأسلوب إلا نادراً وبعد العديد من النصح والتوجيه والتحذير والإنذارات؛فإنه في الوقت المناسب يتدخل.

6- يمطر على الأشرار جمراً وكبريتاً، ويجعل ريح السموم نصيبهم:

برغم هذا الصبر والتأني، عندما يرى الله أنهم لا يرتدعون عن طرقهم الشريرة لاسيما عندما يجورون ويظلمون البريء ويسحقون المسكين، يصب عليهم نيران غضبه، جمرا ملتهباً لا ينطفئ، وكبريتاً مشتعلا لا يعرف هوادة، ويجعل ريحا من السموم تهب على هذه النيران المشتعلة فتزيدها التهاباً وتأججاً، وقدرة على التدمير والإهلاك والإبادة… يا له من مصير رهيب ويا لها من نهاية مأساوية ويا له من مصير محتوم للأشرار سبق أن فعله في سادوم وعامورة.

 

7- الرب عادل ويحب العدل والمستقيمون يبصرون وجهه:

المصير المحتوم هو إذن هلاك الأشرار وخلاص الأبرار، حقيقة يؤكد عليها الوحي ويبشر بها الأنبياء وتتحدث عنها المزامير وتثبتها أحداث التاريخ البشري أفراداً وشعوباً. حقاً إن في هذه الآية تفسير وبرهان واعتراف وتسبيح:

Ø     تفسير لمعضلة الشر في أبسط معانيها

Ø     برهان على قدرة الله على خلاص الأبرار وعقاب الأشرار

Ø     اعتراف: يعترف له الأبرار بما عمله معهم

Ø     وتسبيح: يسبحه المستقيمون لما تم في حياتهم من خلاص عظيم.

هكذا يختم داود المرنم مزموره مقدماً لنا نموذجاً رائعاً للإيمان والثقة بالله ويثبت لنا انه رجل الإيمان والتسليم المطلق على مرّ التاريخ فيظل لكل من يمرّ بمحنة أو اختبار راية وعلما ونورا وعزاء .

رابعاً: تطبيق المزمور:

o       كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

 نستطيع القول أن المزمور ينطبق على بعض مراحل حياة الرب يسوع فالمسيح هو:

– أحاط الأشرار بيسوع وأرادوا القضاء على البار، فنصبوا له الشراك ليصطادوه ولو بكلمة من فيه.

– ورفض يسوع قبول نصيحة القديس بطرس بالفرار (مرقس 8 :32)،  فعندما أعلن يسوع لتلاميذه في طريق صعودهم إلى أورشليم " أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم…أخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره ويقول حاشا يارب، لا نريدك أن تموت، لماذا تذهب غلى هناك لتموت؟ لماذا وأنت تعلم كل شيء تعرّض حياتك للخطر؟. في كلام بطرس منطق، لكنه عكس منطق الله، لهذا انتهره يسوع كما كان ينتهر الأرواح الشريرة " ابعد عني يا شيطان لأنك لا تهتم بما لله بل بما هو للناس" .(مرقس 8 :33 )

– وبرغم أن يسوع دعانا لأن نعلن إيماننا بدون خوف. إلا أنه هرب يومًا من اليهود لأن ساعته لم تكن جاءت بعد (يو 7: 30).

– ولكن عندما جاءت ساعته، وجه وجهه إلى أورشليم ولم يقبل بنصيحة بطرس التي تدعوه إلى رفض الألم والموت (مر 8: 23).

– بل توسّل القوّة من أبيه لكي يجابه مصيره (يو 16: 32) ويقبل كل شيء من يد الآب (يو 19: 11) فكان له أن يجلس على عرش القداسة فوق الملائكة الذين ينشدون مجده أبد الدهر.

– الرب يسوع يشبه الرجل البار في المزمور في حبه لأبيه ولشريعة أبيه وفي التنفيذ الدقيق لإرادته ومشيئته في حياته.

– وهو الذي حفظه الله وحتى حين ظن الأشرار أنهم تغلبوا عليه وقتلوه، أقامه ناقضاً أوجاع الموت منتصراً على شر ومكائد المنافقين.

o       كيف نعيش هذا المزمور ‏في حياتنا كمسيحيين:

لا اختلاف على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي:

        الاعتصام والحماية بالله: هما موقف المؤمن الذي يلتجئ إلى الهيكل ليحتمي بالرب. كان القاتل الذي لم يتعمّد القتل، يلتجئ إلى مدينة عيّنها الله (خروج 21: 13) أو إلى الهيكل كما فعل أدونيّا لما هرب من وجه سليمان الملك (الملوك الأول 1: 50). هناك في الهيكل المقدس يطلب الإنسان حمى الله القدير، ويسلّم نفسه لعدالته. ذاك كان مضمون صلاة سليمان يوم دشّن الهيكل: "إذا أساء أحد وأتى ليحلف أمام مذبحك في هذا الهيكل، فاسمع أنت من السماء، وكُن بين عبيدك قاضيًا يحكم على الشرّير ويبرّئ البار" (الملوك الأول 8: 31- 32). حينئذ نستطيع أن نهنّئ الذين احتموا عند الرب (2: 11)، لأنهم سيجدون عنده الخلاص (7: 2). يظلّلهم فيهلّلون له (5: 12)، ويحفظهم فيعلنون له: أنت ربّنا (16: 1).
إذًا تكون الحماية في مكان محدّد، في خيمة الرب، أو تحت ستر جناحه (61: 5) فيظلّلهم بريشه (91: 4).

        ولكن نلاحظ ميلاً إلى المعنى الروحي وإلى الموقف الداخلي. فحين يحتمي الإنسان بالرب، فكأنه يطلب منه أن ينقذه ويحفظه (الملوك الأول 25: 20). فمن احتمى بالربّ، يستطيع أن يتذوّق صلاحه ورحمته (الملوك الأول 34: 9). في هذا الخطّ نفهم كيف أن الرحمة السبعينيّة ترجمت الفعل العبري: ترجَّى، وثق، اتكل. وكذا فعلت الآرامية فسمت الاعتصام استنادًا إلى كلمة الله وتوكلاً عليها.

– في صراع الكنيسة التي بُررت بدمّ مخلّصها، مع الشيطان، تعرف أنها ستنتصر حتماً وستنظر وجه الله وتتمتّع به مع كل أبنائها الذين عانوا في أجسادهم آلام المسيح وموته.

– كثيراً ما يقدم لنا الأصدقاء نصائح من قلب مخلص، لكن بفكر خاطئ: ينصحونا بالتخلي عن طر قنا ومبادئنا التي لا تتناسب والعقلية والظروف المحيطة بنا تماما كما فعل الأصدقاء مع داود حينئذ يجب أن نميّز مشيئة الله ولا ننسى الإحساس بالمسئولية.

– والمؤمن المسيحي، في حياته الخاصة إذ يُعاني من آلام واضطهاد في سبيل إيمانه، يجب أن يكون على ثقة من أن الله الذي يرعاه، لا يمكن أن يهمله أو ينساه ولا يتخلى عنه ولن يتركه فريسة في يد أعداءه ويدعه لمصيره المحتوم، فقياسات الله غير قياسات البشر .

 

 

 

 

صلاة

 ربي فيك أنت ثقتي

يا ربي وإلهي ما اقرب هذا المزمور إلى قلبي،

كم أحياه وأعيش مرارته كل أيام حياتي

§        كل مرّة تألمت وعانيت من الظلم والعدوان،

§        كل مرة تعرضت للاضطهاد، فلا مسيحية بلا صليب، وكل مرة تعذبت فلا مسيحية بدون آلام وعزاء، وكل مرة شعرت بالضيق والألم.

§        كل مرة خنقني شعوري بالخوف، ومخالب العدوان تنهش لا حقوقي المشروعة فحسب، ولا كرامتي المهدرة وحدها بل جسدي وعرضي وحياتي بمجملها.

§        كل مرة شعرت بالعدو يحاصرني ويحيط بي ويصوب نحوي سهامه وينصب لي الفخاخ؟ فارتجف القلب فيّ وهو لا يعرف من أين تنطلق السهام وكيف ستخترقه وهززت رأسي مضطرباً في أسىً وبؤس وجزع؛

§        كل مرة شعرت بالظلام يحيط بي والهاوية تكاد تُطبق فاها وتبتلعني وأنا أرى العدو رافعا رايات النصر فأشعر بالمزيد من الفشل واليأس والإحباط، بينما منكسة في الأرض رأسي، وممرغة في الوحل راياتي التي تحمل اسمك؛

§        كل مرة فكرت فيها بقبول نصيحة الأهل والأصدقاء بالهرب وهجر الأوطان وترك كل شيء والتخلي عن كل مسئولية، أو على الأقل غسل اليدين لإعلان براءتي وقبول دور الضحية المستسلمة وسلوك سلوك الذبيح المهزوم.

 ربي وإلهي سامح ضعف إيماني واعن هشاشة قلبي

لقد تعلّمت اليوم درساً  من أبي  داود 

§        أنه برغم شر ومكائد المنافقين

§        برغم قوتهم الجبارة وأسلحتهم الفتّاكة

§        برغم قوة منطق القوة

§        برغم واقعية منطق الواقع

§        فإن يدك أيها  الرب قوية ونجدتك قريبة من طالبيك 

§        عيناك مفتوحتان ترقبان

§        وأذناك مرهفتين تسمعان

§        ويداك ممتدين تسعفان

§        ورجلاك مسرعتين تبادران

§        وعدلك حاضر للتدخل في الوقت المناسب منصفا الأبرار، معاقباً للأشرار، مجازياً كل واحد حسب أعماله.

أنحتاج يا سيدي أن تزرع في قلبي هذا الإحساس الدائم بوجودك وجودك.

علّمنّي أن أدرك أن

·        وجودك في حياتي قوة تفوق كل قوة

·        وأن طبعك العدل لن تهمل صرخة المظلوم

·        وأن نعمتك تفوق كل قياس

آمـــــين