بيان اللقاء المسكوني الذي جمع رؤساء الكنائس الأرثوذكسية في العالم

عن الأنوار

البطريرك تيودوروس الثاني، بطريرك الإسكندرية وأفريقيا للروم الأرثوذكس، أثناء قداس الأحد الذي جمع رؤساء الكنائس الأرثوذكسية في العالم في كاتدرائية القديس جورج في اسطنبول

عقد رؤساء وممثلو الكنائس الأرثوذكسية في العالم اجتماعا في البطريركية المسكونية في اسطنبول عرضوا فيه شؤون الطائفة والإنسان وأصدروا بيانا جاء فيه:

نحن رؤساء وممثلي الكنائس الأرثوذكسية المحلية في العالم، اجتمعنا بنعمة الله من 10-12 تشرين الأول 2008 في فنار اسطنبول، برئاسة المتقدم فيما بيننا البطريرك المسكوني، وذلك بمناسبة إعلان هذا العام عاما احتفاليا بالقديس بولس رسول الأمم. تناقشنا بمحبة أخوية المواضيع والهموم التي تشغل الكنيسة الأرثوذكسية، وشاركنا باحتفالات هذه المناسبة، وأقمنا سرّ الشكر معا في كنيسة البطريركية المسكونية، في 12 تشرين الأول 2008، والمصادف فيه أحد آباء القديسين للمجمع المسكوني السابع في نيقية.

عزّانا في هذه الأيام التأمّل في مقدار النعمة والعناية والمواهب الإلهية التي وهبت لرسول الأمم، والتي صار بها "إناء مصطفى" (أ ع 15،9) لله، ومثالا أسمى لكل الكنيسة في خدمة التبشير. ان تكريم الرسول بولس هذا العام يضع مثاله قدوة للكنيسة جمعاء لشهادة إيمانها في العالم المعاصر من أجل (القريبين والبعيدين) (أفسس 2،17).

تدرك الكنيسة الأرثوذكسية، إنها تحتضن التفسير الحقيقي لتعاليم رسول الأمم بولس على مدى ألفي عام من تاريخ طويل مضطرب حينا وسلامي حينا آخر. لذلك تشعر بمسؤوليتها وواجبها أن تقدّم ذلك للعالم المعاصر، خاصة تعليم الرسول حول إعادة جمع شمل الجنس البشري، وشمولية العمل الإلهي الخلاصي وعالميته، حيث ترفع كل أسباب الانقسامات وتتأكد وحدة الجنس البشري.

لهذا، إن التبشير بهذه التعاليم يفرض على الكنيسة الأرثوذكسية أولا، ان تتجاوز داخليا أي اختلافات قومية أو إثنية أو فكرية، لأنه دون ذلك لا يمكن للشهادة الأرثوذكسية ان تلقى قبولا جيدا في عالمنا المعاصر.

تحثّنا تعاليم وأعمال بولس الرسول على واجب البشارة، الأمر الهام لحياة الكنيسة عامة وخدمة كل منّا خاصة. وذلك طاعة لوصية السيد الأخيرة "وتكونون لي شهودا في أورشليم وكل اليهودية والسامرية وحتى أقصى الأرض" (أ ع 1،8). إن البشارة الداخلية لشعب الله المؤمن والخارجية لغير المؤمنين هما واجب أساسي على الكنيسة. هذا الواجب، لا نتمّمه بشكل قسري ولا بأي لون من ألوان الاقتناص، وإنما عن طريق المحبة والتواضع، واحترام هوية كل إنسان وميزات حضارة كل شعب. يتوجب على كل الكنائس الأرثوذكسية المساهمة في هذا العمل البشاري وذلك بكامل الاحترام والترتيب القانوني.

 

ازدياد الخلافات

تتمّم الكنيسة اليوم شهادتها ورسالتها في عالم سريع التبدّل، عالم غدا مرتبطا جدا بعضه ببعض بفضل وسائل الاتصال العديدة والتكنولوجيا الحديثة. لكن في الوقت ذاته، في عالم تزداد فيه الخلافات والشقاقات والصدامات. يعيد المسيحيون سبب كل هذه الأمور الأخيرة إلى ابتعاد الإنسان عن الله في عالمنا الحاضر.

لا تكفي التحولات الاجتماعية ولا تحسين القواعد الأخلاقية وحدها لشفاء هذا الواقع العالمي الأليم. تعلّم الكنيسة على الدوام أن هذا الواقع الخاطىء لا يمكن ان يواجه إلاّ عن طريق الحياة المشتركة بين الله والإنسان.

إن رسالة الكنيسة الأرثوذكسية اليوم تجاه المشاكل الإنسانية الحادة ملحّة، ليس من خلال إبراز أسبابها فقط، لكن أيضا من خلال التصدّي المباشر لنتائجها المأساوية، ان الخلافات المتنوعة القومية، الجنسية، الايديولوجية والدينية تتسبب باضطرابات تهدّد بشكل دائم، ليس فقط وحدة الجنس البشري بل أيضا علاقة الإنسان مع خليقة الله. ان قدسية الشخص البشري تتعرّض للانتهاك بسبب التشديد على الحياة (الفردية). كما تهبط علاقته مع الخليقة الإلهية إلى مستوى الاستخدام فقط أو حتى الاستهلاك أيضا.

تتولد عن اضطرابات العالم هذه عدم مساواة ظالمة في تقاسم البشر والشعوب لخيرات الخليقة، فيفتقر ملايين البشر للخيرات الأساسية، ويشقَوّن، كما يتسبب ذلك في هجرات جماعية للسكان ويثير فوارق وصدامات قومية ودينية واجتماعية، فيتهدد الرابط التقليدي للمجتمعات. إن هذه النتائج مقيتة جدا لأنها تساهم جذريا في تدمير البيئة والنظام البيولوجي بمجمله.

يتشارك المسيحيون الأرثوذكس بالمسؤولية تجاه الأزمة المعاصرة مع الآخرين، المتدينين منهم أو غير المتدينين على سطح كوكبنا، لأنهم جميعا يتشاركون أو يقبلون بحلول متطرّفة ملحدة لا إيمانية تجاه قضايا الإنسان، وبالتالي يترتب عليهم أيضا واجب المساهمة في التغلب على الشقاقات العالمية.

إن تعليم الكنيسة الأرثوذكسية حول وحدة الجنس البشري وحول الخليقة الإلهية، كما يعلنه سرّ التدبير الإلهي، يشكل الأساس المتين لتفسير علاقة الإنسان بالله وبالخليقة.

 

فصل الدين عن الدولة

يتجه الكثير من الدول المعاصرة نحو محاولة فصل الدين عن الدولة والحياة الاجتماعية. يجب طبعا حفظ القواعد المدنية للدولة، لكن من غير المجاز اعتبار ذلك تهميشا للدين من مختلف أطر حياة الناس.

تتسع الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء بشكل مأساوي بسبب الأزمة الاقتصادية والتي تنتج عادة عن السعي الجشع للربح لأطراف اقتصادية، وعن نشاطاتها غير الصحيحة الملتوية، والتي بافتقادها للأبعاد الأنثروبولوجية والحسّ الإنساني، لا تخدم في النهاية الحاجات البشرية الفعلية. التطور الاقتصادي المقبول هو الذي يجمع بين تحسين الانتاج وتحسين العدالة والتعاضد الاجتماعي.

تجنّبت الكنيسة الأرثوذكسية، في ما يتعلق بعلاقة الإيمان والعلم، الميل إلى قيادة التطور العلمي وتفسير كل منجزاته والاجابة على كل معضلاته. للأرثوذكسية، حرية البحث هي هبة إلهية أعطيت للإنسان. إلى جانب هذا الموقف الايجابي، ان الأرثوذكسية تحذّر من الأخطار التي تتخفّى أحيانا وراء بعض الانجازات العلمية، وتشير إلى حدود المعرفة العلمية وأطرها الحقيقية، إلى وجود (معرفة) أخرى لا تخضع للعلوم التطبيقية. هذه المعرفة ضرورية جدا من أجل توجيه البحث الحرّ ومن أجل ضمانة الثمار الصالحة من العلوم، وذلك عن طريق الحد من المصلحة الفردية والتأكيد على قيمة الشخص الإنساني.

ترى الكنيسة الأرثوذكسية أن التقدم التكنولوجي والاقتصادي يجب ألاّ يقود إلى تدمير البيئة أو إضعاف الموارد الطبيعية. يقود الجشع في إشباع الرغبات المادية إلى إفقار النفس البشرية والبيئة. يجب عدم إغفال أن الغنى الطبيعي للأرض ليس فقط ثروة للإنسان، إنما وقبل ذلك هو هبة إلهية: (للرب الأرض بكمالها، المسكونة وجميع الساكنين فيها) (مز 23،1). علينا أن نتذكر أن الخيرات الطبيعية التي وهبنا إياها الخالق هي حق ليس فقط للجيل الحالي وإنما لكل الأجيال القادمة.

نحيّي الجهود الأخوية للكنيستين الأرثوذكسيتين في كل من روسيا وجورجيا، وللدور السلمي الذي لعبتاه أثناء الحرب الأخيرة للمصالحة العادلة بين بلديهما، ونرجو أن هذا الدور السلمي المشترك لهما سيؤول إلى تجاوز النتائج المؤلمة للأعمال الحربية، والى المصالحة بين الشعبين.

 

أزمة الزواج

يواجه الرابط العائلي والزواج المسيحي أزمة حادة في زمننا المضطرب، لذلك يتوجب على الكنيسة الأرثوذكسية بعد تفهم الظروف الاجتماعية الجديدة أن توجد طرقا لدعم الشباب والعائلات الواسعة ماديا وروحيا.

توجّه تفكيرنا بشكل خاص نحو الشباب، لكي ندعوهم للمشاركة بشكل فعّال في حياة العبادة والتقديس، كما في العمل البشاري والاجتماعي للكنيسة، ولأن ينقلوا إليها مشاكلهم وآمالهم، باعتبارهم يشكّلون ليس فقط حاضر الكنيسة ولكن مستقبلها أيضا.

إننا نحن رؤساء وممثلي الكنائس الأرثوذكسية في العالم، وبمعرفتنا الكاملة لخطورة المشاكل السابق ذكرها وبجهادنا لمواجهتها بشكل مباشر كـ "خدّام للمسيح ووكلاء أسرار الله" (1 كور 4،1)، هنا في الكرسي الرسولي الأول، نؤكد على:

– موقفنا الثابت وواجبنا من أجل حفظ وحدة الكنيسة الأرثوذكسية من خلال "الحفاظ على الإيمان المسلّم مرّة للقديسين" (يهوذا 3)، إيمان آبائنا، ومن خلال سر الشكر المشترك بيننا ان حفظ النظام القانوني لإدارة الكنيسة يمكنه أن يعالج جيدا بروح المحبة والسلام أي مشكلة يمكنها أن تظهر بين كنائسنا وفي علاقاتنا.

– تصميمنا على المعالجة السريعة لأي خلل قانوني ناتج من ظروف تاريخية أو حاجات رعوية، كما في مسألة الاغتراب الأرثوذكسي، وذلك لإنهاء أي تأثير غريب عن الاكليزيولوجيا الأرثوذكسية، لهذا نرحّب باقتراح البطريركية المسكونية، التي تدعو، بهدف مناقشة هذا الأمر ومن أجل متابعة التهيئة للمجمع المقدس الأرثوذكسي العام، لعقد لقاءات أرثوذكسية خلال العام الجاري 2009، والتي ستدعو إليها جميع الكنائس المستقلّة، عملا بترتيب ومقررات مؤتمر رودوس.

– رغبتنا بمتابعة الحوار اللاهوتي مع الطوائف المسيحية الأخرى، رغم كل صعوبة، كما بمتابعة الحوارات الدينية عامة وخاصة مع اليهودية والإسلام، باعتبار الحوار يشكّل الطريقة الوحيدة لحلّ الخلافات بين البشر، خاصة في عصرنا الحالي حيث تهدّد جميع التفرقات، بما فيها الحاصلة باسم الدين، سلام البشر ووحدتهم.

– دعمنا لموقف البطريركية المسكونية وغيرها من الكنائس الأرثوذكسية، الذي يدعو لحماية البيئة. تفرض الأزمة الايكولوجية الحالية، والتي تعود لأسباب روحية وأخلاقية، واجبا ملحّا على الكنيسة بأن تساهم، من خلال وسائلها الروحية، في حماية خليقة الله من نتائج الطمع البشري، لأجل هذا نعيد التأكيد علي تحديد الأول من أيلول، رأس السنة الكنسية، كيوم صلاة لحماية خليقة الله، وندعم دخول موضوع البيئة في نشاط كنائسنا التعليمي، الوعظي والرعائي عامة، كما يتم حاليا في البعض منها.

– قرارنا بتحقيق الإجراءات الضرورية لإقامة لجنة أرثوذكسية لدراسة مواضيع علم أخلاقيات الحياة، والتي ينتظر العالم الرأي الأرثوذكسي فيما يختص بها.

متوجهين بما سبق نحو أرثوذكس كل العالم خاصة ونحو كل البشر عامة، نصلي أيضا وتكرارا أن يعمّ السلام والعدل وان تسود المحبة الإلهية في حياة الناس أجمعين.

فالمجد لله الذي يستطيع أن يبلغ بنا، بقوته العاملة فينا، مبلغا أكثر مما نسأله أو نتصوره، وذلك في الكنيسة وفي المسيح يسوع على مدى جميع الأجيال والدهور، آمين. (أفسس 23: 20 – 21)