ميراث لوقا – إختراق الحدود: من أورشليم إلى روما

 

 كيف كانت غاية لوقا من كتابته لأعمال الرسل هي أن يبيّن بالتحديد كيف أنّ العضو في إسرائيل الجديدة منفتح على اليهود والوثنيّين بالتساوي، وكيف يتحرّر في بنية مخطّطه.

 

لماذا يظلّ الدين عنصر تفرقة؟ وما هي إمكانيّة مداواة هذا الوضع في حالات التوتّر الدينيّ والصراع.

 

انطلاقة كتاب الأعمال

 

"دَوَّنْتُ في كتابـيَ الأوّلِ، يا ثاوفِـيلسُ، جميعَ ما عَمِلَ يَسوعُ وعَلَّمَ مِنْ بَدءِ رِسالَتِه 2إلى اليومِ الّذي اَرتفَعَ فيهِ …" (أع 1/1-2).

 

تذكّرنا الكلمات الأولى في أعمال الرسل أنّ الاستمراريّة مهمّة بالنسبة إلى لوقا: استمراريّة تاريخ إسرائيل في بشارة يسوع، واستمراريّة رسالة يسوع الأرضيّة ورسالة الرسل الّذين تابعوا عمل المسيح القائم من بين الأموات.

 

في الآية 4، يعد المسيح القائم من بين الأموات الرسل بأنّهم سيعتمدون قريباً بالروح القدس. فهبة الإله الخالق وقوّة الحياة الممنوحة هي هدم الحواجز بين اليهود وغير اليهود، وفتح باب الارتباط بالعهد أمام جميع الرجال والنساء على قدم المساواة.

 

لقد افتتح يسوع بعداً جديداً تماماً في العلاقة بين الله والجنس البشريّ. افتتح يسوع عهد الروح القدس (لو 4/18-21) وقيامة الأموات (أع 1/3).

 

إنّ غاية لوقا الأساسيّة من كتابته لأعمال الرسل هي أن يروي كيف أصبحت رسالة المسيح عالميّة في أبعادها.

 

مخطّط لوقا الضمنيّ

 

الداعي الأساسي الّذي دفع لوقا إلى كتابة أعمال الرسل هو إتمام وظيفة. ولكن، كما لاحظنا في اللقاء الثاني، مخطّط الله لخلاص العالم، كان لديه برنامج آخر. فقد كان يريد أن يوصي الحكومة الرومانيّة بممارسة الديانة المسيحيّة، وأن يبيّن استمراريّتها مع اليهوديّة كي تكتسب مكانةً مشابهة وتسامحاً مع المسيحيّين.

 

حين سنتتبّع قصّة أعمال الرسل من أورشليم إلى روما، سنرى أنّ لوقا ينطلق في مسيرته ليبيّن مقدار الاحترام الّذي عامل الضبّاط الرومان به بولس. وكيف أنّهم صادقوا على المسيحيّة وعاملوا المسيحيّين دوماً بطريقةٍ لائقة ومنصفة.

 

وفي الآن نفسه، يلمّح لوقا إلى أنّ المسيحيّين هم مواطنون أوفياء وأنّ السلطات الرومانيّة تعترف بهم كذلك.

 

« كيف نقلوا البشرى من أورشليم إلى روما »

 

يبني لوقا روايته على أساس ستّ مراحل، كلّ مرحلة تنتهي بما يمكننا تسميته تقريراً تقدّميّاً. مثلاً، «وكانت الكنائس تتقوّى في الإيمان ويزداد عددها يوماً بعد يوم».

 

تخطّط المراحل الستّ الانتشار الجغرافيّ للرسالة المسيحيّة. والحدث المحوريّ في مخطّط لوقا هو «مجمع أورشليم» (أع 15) حيث وافقت الكنيسة على قبول أنّ الوثنيّين مساوون لليهود.

 

ويتابع لوقا موضوعه في أنّ الوعد الّذي قُطِعَ للشعب المختار تمّ بيسوع المسيح. وعلى مثال المسيح، أعلن الرسل الإنجيل أوّلاً للشعب اليهوديّ، ولكن حين تمّ رفض رسالتهم، التفتوا إلى الوثنيّين وعرضوا لهم فوائد وعود الله.

 

1- الكنيسة في أورشليم (أع 1/1-6/7).

 

يسود المرحلة الأولى من الرحلة إلى روما الحدث الهام بأورشليم الّذي تمّ في العنصرة. ويقود منح الروح القدس أعمال الرسل نحو الأمام كلّما تقدّم التلاميذ في رسالتهم من خلال الشهادة ليهودٍ من كلّ أنحاء العالم.

 

ويرى لوقا أنّ حلول الروح القدس في بداية المسار سيبدّل طبيعة عهد الله مع إسرائيل. فقد كان الروح القدس صورة لله الخالق وقوّة الحياة المعطاة وحلول جديد لروح الله كان منتظَراً في زمن إصلاح إسرائيل.

 

وشهدت السنوات الثلاث أو الأربع التالية نموّاً راسخاً للكنيسة بين اليهود في أورشليم.

 

2- البشارة تصل إلى السامرة (أع 6/8-9/13)

 

وتسارعت الخطى مع استشهاد اسطفانس، وهو يهوديّ يتكلّم اليونانيّة، وله خلفيّة هلّينيّة. فبسبب الاختلاف الثقافيّ بين اليهود الهلّينيّين واليهود الفلسطينيّين، كان لليهود المتكلّمين باليونانيّة مجامعهم.

 

وتبع ذلك اضطهاد للكنائس الهلّينيّة. فهربوا من أورشليم وحملوا البشارة معهم، فانتشرت هكذا الحركة الرسوليّة في اليهوديّة، وفي «أراضي الأعداء» السامرة!

 

وقام فيليبُّس، وهو هلّينيّ، برسالةٍ ناجحة بين السامريّين. ثمّ انطلق فيليبُّس إلى أرضٍ جديدة من خلال استقباله لأوّل وثنيّ في إسرائيل الجديدة، وهو الخصيّ الحبشيّ (أع 8/25-40).

 

وكما أنّ الله استعمل الاضطهاد ليطلق الرسالة المسيحيّة في السامرة، استعمله ليقلب شاول، وهو شديد الغيرة على الطريقة، إلى مدافعٍ رائعٍ عن المسيح.

 

3- الكنيسة في أنطاكية: الرسالة بين الوثنيّين (أع 9/32-12/24)

 

قادت الاضطهادات اليهود المتنصّرين الناطقين باليونانيّة نحو الشمال بعيداً عن الأرض اليهوديّة التقليديّة، عبر فينيقية (سورية) إلى أنطاكية، وهي مدينة كبيرة في الزاوية الشماليّة الشرقيّة للبحر الأبيض المتوسِّط.

 

وازدهرت الرسالة بين الوثنيّين الّذين ينجذبون إلى الإيمان اليهوديّ. وفي حوالى السنة 40 أصبحت كنيسة أنطاكية جماعةً متماسكة يتساوى فيها اليهود والوثنيّون في انتمائهم إليها. واتّخذت المشاركة في الطعام معناها الأعمق إذ أشارت إلى زوال الحواجز بين اليهود وغير اليهود.

 

أثّرت السمة المميّز للكنيسة في كنيسة أنطاكية، فأطلِقَ على أتباع الطريق اسماً يونانيّاً وسُمّيوا مسيحيّين. وظهرت مؤازرتهم للكنيسة اليهوديّة المتنصّرة من خلال إرسال معوناتٍ غذائيّة إلى أورشليم في أثناء المجاعة.

 

 4- البشارة تصل إلى آسية الصغرى (أع 12/25-16/5)

 

أصبحت أنطاكية المركز الجديد للرسالة المسيحيّة، وبدأت تشعّ إلى قبرص وآسية الصغرى. وتشير أحداث بافوس (قبرص) إلى نموّ العدوانيّة بين المسيحيّين واليهود وعلاقة الصداقة بين المرسلين المسيحيّين والسلطات الرومانيّة.

 

إنّ عظة بولس في أنطاكية هي مثال على مفهومه حين يكلّم اليهود. والجملة الأساسيّة هي 46: "كانَ يَجبُ أنْ نُبَشِّرَكُم أنتُم أوَّلاً بِكلِمَةِ اللهِ، ولكنَّكُم رَفَضْتُموها، … ولذلِكَ نتَوجَّهُ الآنَ إلى غيرِ اليَهودِ".

 

وابتهجت جماعة أنطاكية بأنّ «الله فتَحَ بابَ الإيمانِ لِغيرِ اليَهودِ» من دون فرض الختان عليهم (أع 14/27)، لكنّ الكنيسة المترئسة في أروشليم لم توافق. كان مناصرو الختان في الكنيسة يريدون أن يفرضوه على الوثنيّين كي يستطيعوا مشاركتهم في منافع وعد الله لإبراهيم (أع 15/1-5). ولكن، بعونٍ كبيرٍ من الروح القدس، توصّلوا إلى حلٍّ توفيقيّ.

 

5- البشارة تصل إلى أوروبا (أع 16/11-40)

 

أبحر بولس ورفاقه الآن في رسالةٍ أوروبيّة حول المناطق الساحليّة لبحر إجّة. ويقدّم لنا لوقا رواية حيّة عن الأحداث في فيليبي، وهي مدينة رئيسة في الإمبراطوريّة. وقد بلبلت الاختلافات بين المسيحيّة واليهوديّة عامّة الشعب (الّتي كانت تعتبر المسيحيّين بدعةً يهوديّة) وأثارت غضب العناصر اليهوديّة. وبعد حادثٍ مربك للسلطات الرومانيّة، دعمت هذه السلطات المرسلين.

 

ركّز لوقا على المدن الرئيسيّة الّتي زارها بولس وألحّ على إظهار أنّ المعارضة والاضطهاد لا يستطيعان أن يعيقا تقدّم الرسالة المسيحيّة. كانت استراتيجيّة بولس عند وصوله إلى أيّة مدينة هي زيارة المجمع وتفنيد الكتب المقدّسة ليبيّن أنّ يسوع هو المسيح، فيخلق الشقاق بين المجتمعين. وسيثير أعضاء عدوانيّون البلبلة، وستتدخّل السلطات الرومانيّة من أجل النجدة وستبرّئ المسيحيّين (مثلاً في كورنثس 18/1-17).

 

6- البشارة في قلب الإمبراطوريّة (أع 19/21-28/31)

 

عودة إلى أورشليم، ظهرت بين اليهود المتنصّرين المحافظين مشاعر استياءٍ عميقة من موقف بولس تجاه الشريعة. فهم لم يتمكّنوا من الانتقال الّذي انتقله بولس من حكم الشريعة كالختان مثلاً الّذي لم يعد علامة هويّة أهل العهد (أع 21/17-26).

 

وبلغت العدوانيّة تجاه بولس خارج الكنيسة ذروتها حين نذر أربعون مقاتلاً أن يقتلوا بولس. فوضعت السلطات الرومانيّة بولس تحت الحماية. لقد كانت مقتنعة ببراءته من التهم الّتي اتّهمه بها قادة اليهود لكنّه طالب بأن ينظر الإمبراطور في قضيّته، وهكذا أتى بولس إلى روما.

 

تنتهي أعمال الرسل مع بولس وهو في السجن ينتظر محكمته، ويبيّن موقفه صعوبة الوصول إلى الهويّة المسيحيّة. وهو يلحّ على أنّه لم يشوّه التقليد الكتابيّ لإسرائيل. فالمسيحيّة الآن لم تعد بدعةً يهوديّة بل أساس لإسرائيل الجديدة المرمّمة والمنتشرة، الّتي لم تعد تتحدّد بعرقٍ أو جنسيّة بل هي حركة عالميّة حقيقيّة تحوّل إيمانها بإله إسرائيل بتأثيرٍ من يسوع.

 

 لوقا وكنيسة اليوم

 

لم يكلّمنا لوقا على ما حدث لبولس لأنّ غايته قد تمّت. فقد أظهر كيف انتقلت الكنيسة طوال ما يقارب الـ 30 سنة عبر العالم لتصل إلى روما، وانتشرت من بدعةٍ يهوديّة صغيرة إلى عالم إيمانٍ يشمل رجالاً ونساءً من جميع الثقافات والخلفيّات الدينيّة.

 

على الرسالة نفسها، أي المشاركة في سعة محبّة الله وعمقها مع كلّ الناس في مجتمعنا الثقافي والدينيّ المتنوّع، أن تكون بكلّ تأكيد أولويّة كنيسة اليوم

 

 

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب