الرسالة الختامية لسينودس الأساقفة حول كلمة الله

"فلنقترب من مائدة كلمة الله"

الفاتيكان، الثلاثاء 28 أكتوبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي الرسالة الختامية لسينودس الأساقفة التي تمت الموافقة عليها بتاريخ 24 أكتوبر في المجمع العام الواحد والعشرين.

وقد تناولت السينودس هذا العام موضوع "كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها".

***

إخوتي وأخواتي،

"سلامٌ إلى الإخوة، ومحبةٌ مع إيمان، من الله الآب والرب يسوع المسيح! لتكن النعمة مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح محبة لا يعتريها الفساد". بهذه التحية الانفعالية، اختتم القديس بولس رسالته إلى مسيحيي أفسس (أف 6: 23 – 24). وبهذه الكلمات عينها، نفتتح نحن آباء السينودس، المجتمعون في روما للمشاركة في الجمعية العمومية العادية الثانية عشرة لسينودس الأساقفة، تحت إشراف الأب الأقدس بندكتس السادس عشر، رسالتنا الموجهة إلى جميع الذين يتبعون المسيح كتلامذة له، ويستمرون في محبته محبة غير فانية، في مختلف مناطق العالم.

إننا نقترح عليهم مجدداً سماع صوت كلمة الله ورؤية نورها، مرددين الدعوة القديمة: "الكلمة قريبة منك جداً في فيك وفي قلبك لتعمل بها" (تث 30، 14). وسيقول الله نفسه لكل واحد: "يا ابن البشر جميع الكلام الذي أكلمك به أوعه في قلبك واسمعه بأذنيك" (حز 3، 10). نحن على وشك اقتراح رحلة روحية من أربعة أطوار ستحملنا من السرمدية وطبيعة الله الأزلية إلى بيوتنا وشوارع مدننا.

أولاً: صوت الكلمة: الوحي

1- "فكلمكم الرب من وسط النار فكنتم سامعين صوت الكلام وأنتم لا تدركون صورة بل صوتاً فقط! (تث 4، 12). هذا هو الكلام الذي تكلم به موسى عن التجربة التي عاشها إسرائيل في مرارة العزلة في صحراء سيناء. لقد أظهر الرب نفسه ليس كصورة أو كتمثال، أو كشخص شبيه بعجل ذهبي، بل "كصوت كلمات". إنه الصوت الذي ظهر في بدء الخلق، عندما خرق سكون العدم: "في البدء… قال الله "ليكن نور" فكان نور… في البدء كان الكلمة: والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله… كلٌ به كُون وبغيره لم يُكون شيء مما كُون" (تك 1: 1، 3؛ يو 1: 1، 3).

إن الخليقة لم تولد من معركة ألوهيات، كما تعلم أساطير بلاد ما بين النهرين، بل من كلمة تُبطل العدم وتحدث الخلق. ويقول المرنم: "بكلمة الرب صُنعت السماوات وبروح فيه كل جنودها… فإنه قال فكان الخلق وأمر فوُجد" (مز 32: 6، 9). ويعيد القديس بولس القول: "الله يحيي الموتى ويستدعي إلى الوجود ما كان غير موجود" (رو 4، 17). بذلك، وُجد أول وحي "كوني" يجعل الخلق شبيهاً بصفحة كبيرة مفتوحة أمام البشرية جمعاء، تُقرأ فيها رسالة من الخالق: "ألسماوات تنطق بمجد الله والجلد يُخبر بعمل يديه. يومٌ ليوم يفيض قولاً وليلٌ لليل يبدي علماً. ليس قول ولا كلام لا يُسمع به صوتُهم. في الأرض كلها ذاع منطقهم وفي أقاصي المسكونة كلامهم" (مز 18: 2، 5).

2- ولكن كلمة الله هي أيضاً أصل تاريخ البشرية. إن الرجل والمرأة اللذين خلقهما الله "على صورته" (تك 1، 27) واللذين يحملان في داخلهما السمة الإلهية يمكنهما التحاور مع خالقهما أو الابتعاد عنه ورفضه بارتكاب الخطيئة. إن كلمة الله إذاً تحفظ وتحكم، بإدراك بنية التاريخ المحاكة بحكاياها وأحداثها: "إني قد نظرت إلى مذلة شعبي الذين بمصر وسمعت صراخهم… وعلمت بكربهم. فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأُخرجهم من تلك الأرض إلى أرض طيبة واسعة" (خر 3: 7، 8). لذلك فإن الألوهية حاضرة في الأحداث البشرية التي تدخل من خلال عمل رب الأزمان ضمن مخطط الخلاص العظيم من أجل "أن يخلص جميع الناس، ويُقبلوا إلى معرفة الحق بالتمام" (1 تيم 2، 4).  

3- ونتيجة لذلك، فإن كلمة الله الفعالة، والمبدعة، والخلاصية هي منبع الوجود والتاريخ، والخلق والفداء. ويلتقي الله بالبشرية قائلاً: "أنا الرب تكلمت وفعلت" (حز 37، 14). من ثم يتحول صوت الله إلى الكلمة المكتوبة، الكتاب المقدس، بحسب ما يذكر العهد الجديد. لقد نزل موسى من جبل سيناء "ولوحا الشهادة في يده لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا ومن هناك كانا مكتوبين. واللوحان هما صنعة الله والكتابة هي كتابة الله منقوشة على اللوحين" (خر 32: 15، 16). لقد أجبر موسى نفسه إسرائيل بالحفاظ على "لوحي الوصايا" وإعادة كتابتهما: "وتكتبون على الحجارة جميع كلام هذه التوراة كتابة واضحة" (تث 27، 8).

إن الكتاب المقدس "يشهد" لكلمة الله في الكتابة. وهو يحيي ذكرى حدث الوحي المبدع والخلاصي بوسائل كنسية، تاريخية، وأدبية. لذلك، فإن كلمة الله تسبق وتتخطى الكتاب المقدس الذي "قد أوحى به الله" والذي يشمل كلمة الله الفعالة (2 تيم 3، 16). لهذا السبب لا يتركز إيماننا فقط على كتاب، بل على تاريخ خلاص، وكما سوف نرى، على شخص هو يسوع المسيح، كلمة الله المتجسدة، في إنسان وفي حقبة تاريخية. ولأن قدرة كلمة الله تنتشر أبعد من الكتاب المقدس، فإن الوجود الثابت للروح القدس الذي "يرشدكم إلى الحق كله" (يو 16، 13) ضروري لمن يقرأ الكتاب المقدس. هذا هو التقليد العظيم: الوجود الفعال "لروح الحق" في الكنيسة، الأمين على الكتاب المقدس، الذي تفسره تعاليم الكنيسة. إن هذا التقليد يخول الكنيسة فهم كلمة الله، وتفسيرها، ومشاركتها، والشهادة لها. وفيما يُعلن العقيدة المسيحية الأولى، سوف يدرك القديس بولس نفسه الحاجة إلى "تسليم" ما قد "تسلمه" من التقليد (1 كور 15: 3، 5).

ثانياً: وجه الكلمة: يسوع المسيح

4- في اللغة اليونانية الأولى، لم يكن هناك سوى ثلاث كلمات أساسية: لوغوس ساركس إغينيتو، ما يعني "الكلمة صار جسداً". هذه ليست فقط قمة الجوهرة الشعرية واللاهوتية التي تشكل مقدمة إنجيل يوحنا (1، 14)، بل هي القلب الفعلي للإيمان المسيحي. إن الكلمة الأبدية والإلهية يدخل في المكان والزمان فيأخذ وجهاً ويتقلد هوية لدرجة أنه من الممكن الاقتراب منه طالبين إليه كما فعل بعض اليونانيين في أورشليم: "نريد أن نرى يسوع" (يو 12: 20،21). إن الكلمات من دون وجه ليست كاملة إذ لا تتمم اللقاء بالكامل، كما كان يذكر أيوب عند وصوله إلى نهاية رحلة بحثه المأساوية: "كنتُ قد سمعتك سمع الأذن أما الآن" … "فعيني قد رأتك" (أي 42، 5).

المسيح هو "الكلمة الذي كان عند الله، وكان الكلمة هو الله" (يو 1، 1). "هو صورة الله الذي لا يُرى، والبكر على كل ما قد خُلق" (كول 1، 15)؛ ولكنه أيضاً يسوع الناصري الذي يجوب شوارع منطقة هامشية من الامبراطورية الرومانية، ويتكلم اللغة المحلية، ويكشف سمات الشعب اليهودي، وثقافته. لذلك فإن يسوع المسيح هو جسد ضعيف وفانٍ، وهو تاريخ وبشرية، ولكنه أيضاً مجد، وألوهية، وسر خفي، هو الذي كشف لنا الله، الله الذي ما من أحد قد رآه قط (يو 1: 18). ويستمر يسوع في كونه ابن الله حتى في الجسد الميت الموضوع في القبر، والقيامة هي الدليل الحي والواضح على ذلك.

5- إن التقليد المسيحي كثيراً ما وضع الكلمة الإلهية المتجسدة بالتوازي مع هذه الكلمة المكتوبة. هذا ما يظهر في العقيدة عندما يعترف الإنسان بأن ابن الله "تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وصار إنساناً"، وعندما يعترف اعتراف إيمان "بالروح القدس عينه الناطق بالأنبياء". إن المجمع الفاتيكاني الثاني يجمع هذا التقليد القديم الذي يقول بأن "جسد الابن هو الكتابة التي تسلمناها" – وفقاً للقديس أمبرواز – ويعلن بوضوح: "إن كلمات الله التي تم التعبير عنها بلغات بشرية، جُعلت شبيهة بلغة الإنسان، تماماً مثل كلمة الآب الأبدي الذي صار كالبشر عندما تجسد في ضعف الطبيعة البشرية".

كما أن الكتاب المقدس هو حقاً "جسد" و"رسالة" إذ يعبر عن نفسه بلغات خاصة، بأشكال أدبية وتاريخية، بمفاهيم مرتبطة بثقافة قديمة، ويحتفظ بذكريات أحداث كثيراً ما تكون مؤلمة، وكثيراً ما تنطوي صفحاته على الدم والعنف، وتضج بضحك البشرية والدموع المنهمرة، وببكاء المكروبين، وبفرح المحبين. لذلك، يتطلب بعده "الجسدي" تحليلاً تاريخياً وأدبياً يحصل من خلال مختلف الطرق والمقاربات التي يقدمها التفسير البيبلي. يجب على كل من يقرأ الكتاب المقدس، وحتى على القارئ الأكثر بساطة، أن تكون لديه معرفة متناسبة عنه، متذكرين بأن الكلمة مغلفة بكلمات ملموسة، تتشكل بها وتتأقلم معها لتسمعها البشرية جمعاء وتفهمها.

إن هذا الالتزام ضروري. إن استبعدناه، وقعنا في الأصولية التي تُنكر عملياً تجسد الكلمة الإلهية في التاريخ، ولا تقر بأن هذه الكلمة تعبر عن نفسها في الكتاب المقدس بلغة بشرية يجب أن تُفكك رموزها، وتُدرس، وتُفهم. كما أن هذا الموقف يجهل بأن الوحي الإلهي لم يمحُ الهوية التاريخية وشخصيات الكتاب البشر. ولكن الكتاب المقدس هو أيضاً الكلمة الأبدية والإلهية، لذلك يتطلب فهماً آخر، يمنحه الروح القدس الذي يكشف البعد السامي للكلمة الإلهية الموجودة في الأقوال البشرية.

6- من هنا، تظهر الحاجة إلى "التقليد الحي للكنيسة جمعاء"، وإلى الإيمان من أجل فهم الكتاب المقدس بطريقة موحدة وتامة. إذا ما توقفنا عند "الحرف" الواحد، أصبح الكتاب المقدس فقط وثيقة مفخمة من الماضي، وشهادة أخلاقية وثقافية رفيعة. إضافةً إلى ذلك، إذا ما استبعدنا التجسد، لوقعنا في الأصولية الملتبسة، أو في روحانية أو نفسانية غامضتين. وبالتالي، يجب على المعرفة التفسيرية أن تندمج بطريقة سرمدية في التقليد الروحي واللاهوتي لكي لا تُلغى الوحدة الإلهية والبشرية بين يسوع المسيح والكتاب المقدس.

ومن خلال هذا التناغم المستعاد، سيتألق وجه المسيح كلياً ويساعدنا على اكتشاف وحدة أخرى، وحدة الكتابات المقدسة العميقة والجوهرية التي تتألف من 73 كتاباً وتشكل كلها "قانوناً" واحداً، حواراً واحداً بين الله والبشرية، لمخطط خلاص واحد. "إن الله، في الأزمنة الماضية، كلم آباءنا بلسان الأنبياء في اوقات كثيرة بطرق عديدة ومتنوعة. أما الآن، في هذا الزمن الأخير، فقد كلمنا بالابن" (عب 1: 1، 2). بذلك يلقي الرب نوره استعادياً على كل تاريخ الخلاص ويكشف ترابطه، ومعناه، واتجاهه.

إنه العهد، "الألف والياء" (رؤ 1، 8) في حوار بين الله ومخلوقاته مستمر عبر الزمن، ومؤكد في الكتاب المقدس. وعلى ضوء هذا العهد الأخير، تكتسب كلمات موسى والأنبياء "معناها التام". لقد أشار يسوع إلى ذلك بنفسه من بعد ظهر يوم ربيعي، عندما كان في طريقه من أورشليم إلى عماوس، وهو يتحدث مع كليوباس وصديقه، مفسراً لهما "ما ورد عنه في جميع الكتب" (لو 24، 27).

هذا لأن الكلمة الإلهية أصبحت وجهاً وسط الوحي. لهذا السبب تحديداً، إن الهدف الأخير للمعرفة البيبلية "ليس النتيجة لخيار أخلاقي، أو فكرة رفيعة، لا بل اللقاء مع حدث، مع شخص، الذي يعطي الحياة آفاقاً جديدة وتوجهاً حاسماً (الله محبة 1).

ثالثاً: بيت الكلمة: الكنيسة

وكما بنت الحكمة الإلهية بيتها في العهد القديم في مدن الرجال والنساء، ونحتت أعمدتها السبعة (أم 9، 1)، كذلك فإن كلمة الله بنت بيتها في العهد الجديد. إن الكنيسة تقتدي بالجماعة الأم في أورشليم. والكنيسة مبنية على بطرس والرسل، وتستمر اليوم من خلال الأساقفة بالاشتراك مع خليفة بطرس في الحفاظ على كلمة الله، وإعلانها، وتفسيرها. وفي أعمال الرسل (2، 42)، يرسم لوقا الهندسة المبنية على أربعة أعمدة مثالية التي ما تزال تشهد لها اليوم مختلف أشكال الجماعات الكنسية: "وكان الجميع يداومون على تلقي تعليم الرسل، وعلى حياة الشركة، وكسر الخبز، والصلوات".

7- إنه أولاً التعليم الرسولي أي التبشير بكلمة الله. وفي الواقع، يعلمنا القديس بولس بأن "الإيمان نتيجة السماع، والسماع هو من التبشير بكلمة المسيح" (رو 10، 17). ويأتي صوت البشير من الكنيسة التي تقترح الإعلان الأول والأساسي الذي بشر به يسوع في بداية خدمته: "قد اكتمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر 1، 15). إن الرسل يعلنون بداية ملكوت الله، وبالتالي التدخل الحاسم لله في التاريخ البشري، كما يعلنون موت المسيح وقيامته: "وليس بأحد غيره الخلاص، إذ ليس تحت السماء اسمٌ آخر قدمه الله للبشر به يجب أن نخلص" (أع 4، 12). والمسيحي يشهد لهذا الرجاء "برقة واحترام، وضمير طاهر"، ولكن يبقى على استعداد للوقوع أو الانجراف في عواصف الرفض والاضطهاد، مدركاً أنه "من الأفضل أن تتألموا وأنتم تفعلون الخير لا الشر" (1 بط 3: 16، 17).

من ثم يدوي في الكنيسة التعليم الديني الذي يرمي إلى تعميق فكرة لدى المسيحي وهي "فهم سر المسيح على ضوء كلمة الله، لكي تتأثر البشرية جمعاء بهذه الكلمة" (يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي حول التعليم الديني في زماننا هذا). ولكن نقطة الأوج في التبشير تكمن في الإرشاد الذي ما يزال اليوم بالنسبة إلى الكثير من المسيحيين الوقت الأساسي للقاء مع كلمة الله. بفعل هذا الأمر، يجب على الخادم أن يصبح نبياً أيضاً. ويجب عليه بلغته الواضحة، القاطعة، والغنية، ألا يعلن فقط بقوة "صنائع الله الرائعة في تاريخ الخلاص" المقدمة أولاً من خلال قراءة واضحة وحية للنص البيبلي الذي تقترحه الليتورجية؛ لا بل أن يقوم أيضاً بالعمل بها وفقاً للأزمنة، والأوقات التي يعيشها السامعون، لتزهر في قلوبهم مسألة الاهتداء والالتزام الأساسي: "ماذا نعمل أيها الإخوة؟" (أع 2، 37).

لذا، يفترض التبشير، والتعليم الديني، والإرشاد، قراءةً وفهماً، وشرحاً وتفسيراً، ومشاركة العقل والقلب. وفي التبشير، تتحقق حركة مزدوجة. يعود الإنسان بالأولى إلى جذور النصوص المقدسة، والأحداث، والكلمات الأولى في تاريخ الخلاص، من أجل فهمها في معناها وفي رسالتها. أما بالحركة الثانية، فيرجع الإنسان إلى الحاضر، إلى اليوم الذي يعيشه السامعون، والقراء، الذين يحملون دوماً في أذهانهم المسيح، النور الهادي الذي يوحد الكتابات. وقد قام يسوع بهذه الحركة المزدوجة – كما ذكرنا مسبقاً – في رحلته من أورشليم إلى عماوس، بصحبة اثنين من تلاميذه. وهذا ما سيقوم به الشماس فيلبس على الطريق بين أورشليم وغزة، عندما سيبدأ حديثاً رمزياً مع وزير ملكة الحبشة: "أتفهم ما تقرأ؟ … كيف يمكنني ذلك إن لم يشرح لي أحدٌ؟" (أع 8: 30، 31). ونتيجة لذلك، يتم اللقاء مع المسيح في السر. بهذه الطريقة يظهر العمود الثاني الذي يدعم الكنيسة، بيت كلمة الله.

8- لنتحدث الآن عن كسر الخبز. إن مشهد عماوس (لو 24: 13، 35) هو مثالي مرة أخرى إذ يتكرر كل يوم في كنائسنا، عندما يأتي كسر الخبز على المذبح بعد عظة يسوع عن موسى والأنبياء. هذه هي اللحظة التي يتكلم فيها الله شخصياً مع شعبه. إنه العهد الجديد بدم المسيح (لو 22، 20). إنه عمل الكلمة العظيم الذي يقدم نفسه قوتاً بجسده المذبوح. إنه منبع وقمة حياة الكنيسة ورسالتها. إن السرد الإنجيلي للعشاء السري، ذكرى تضحية المسيح، يصبح حدثاً وسراً عندما يُعلن في الاحتفال بسر القربان المقدس، من خلال التضرع للروح القدس. لهذا السبب أعلن المجمع الفاتيكاني الثاني في مقطع مركز أن "الكنيسة لطالما كرمت الكتابات المقدسة، كما تكرم جسد الرب، لأنها بخاصة في الليتورجية المقدسة، لا تتوقف عن تلقي ومنح المؤمنين خبز الحياة من مائدة كلمة الله وجسد المسيح. لذلك، فإن "ليتورجية الكلمة، والليتورجية القربانية مرتبطتان بثقة ببعضهما البعض ويشكلان فعل عبادة واحد". وهذا ما يجب إعادته إلى وسط الحياة المسيحية.

9- أما الركيزة الثالثة للبناء الروحي للكنيسة، بيت الكلمة، فهي مؤلفة من صلوات مكونة – كما يذكر القديس بولس – من "مزامير، وتسابيح، وأناشيد روحية" (كول 3، 16). والمكان الممتاز فتشغله ليتورجية الساعات، وصلاة الكنيسة بامتياز، الرامية إلى تنظيم أيام السنة المسيحية وأزمنتها، بتقديم الغذاء اليومي الروحي للمؤمن، بخاصة من خلال كتاب المزامير. وإضافة إلى ليتورجية الساعات والاحتفالات الجماعية بالكلمة، فقد قدم التقليد القراءة الإلهية، القراءة الملتمسة من الروح القدس، القادر على إظهار كنز كلمة الله إلى المؤمن، وعلى خلق اللقاء مع المسيح، الكلمة الإلهية الحية. هذه القراءة الإلهية تبدأ بقراءة النص الذي يطرح سؤالاً حول المعرفة الحقيقية لمعناه الفعلي: ماذا يقول النص البيبلي بذاته؟ ويلي هذا الأمر التروي الذي يطرح السؤال التالي: "ماذا يقول لنا النص البيبلي؟ وننتقل بعد ذلك إلى الصلاة التي تفترض هذا الطلب الآخر: ماذا نقول للرب رداً على كلمته؟ ونختتم بالتأمل الذي نضطلع من خلاله وكهبة من الله بالرؤية عينها للحكم على الواقع ونسأل أنفسنا: "ما التبدل الذي يطلب منا الرب إحداثه في عقلنا، وقلبنا، وحياتنا؟"

وأمام "القارئ المصلي" لكلمة الله، تظهر صورة مريم أم الرب التي "كانت تحفظ هذه الأمور جميعاً، وتتأملها في قلبها" (لو 2، 19؛ 2، 51) أي أنها كما يقول النص اليوناني الأصلي كانت تجد العلاقة العميقة التي توحد الأحداث، الأعمال والأمور المنفصلة ظاهراً، في مخطط الله العظيم. كما يمكننا اقتراح موقف مريم أخت مرتا على المؤمن الذي يقرأ الإنجيل، لأنها جلست عند قدمي يسوع تسمع كلمته، من غير أن تسمح للأمور الأخرى بشغلها روحها بالكامل، واختارت "النصيب الصالح" الذي لن يُؤخذ منها (لو 10: 38، 42).

10- أخيراً، نصل إلى الركيزة الأخيرة التي تدعم الكنيسة، بيت الكلمة: الاتحاد الأخوي، الاسم الآخر للمحبة المسيحية. وكما ذكر يسوع، يجب علينا أن نكون مثل "الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" من أجل أن نصبح إخوة وأخوات له. إن الإصغاء الحقيقي هو الإطاعة والعمل، وجعل العدالة والمحبة تزهران في الحياة. إن الإصغاء الحقيقي هو أيضاً تقديم شهادة في الحياة والمجتمع، كدعوة الأنبياء التي وحدت باستمرار كلمة الله والحياة، الإيمان والاستقامة، العبادة والالتزام الاجتماعي. هذا ما قاله يسوع مراراً وتكراراً، انطلاقاً من التنبيه الشهير خلال العظة على الجبل: "ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب! يدخل ملكوت السماوات" (مت 7، 21). يبدو أن هذه الجملة ترجع صدى الكلمة الإلهية التي يقترحها أشعيا: "إن الشعب يتقرب إلي بفيه ويكرمني بشفتيه وقلبه بعيد مني" (29، 13). إن هذه التنبيهات تشمل كذلك الكنائس عندما لا تتمسك بالسماع المطيع لكلمة الله.

لذا يجب أن تكون واضحة وسهلة القراءة على وجوه المؤمنين، وبين أيديهم، كما اقترح القديس غريغوريوس الكبير الذي رأى في القديس بندكتس، وفي رجال الله العظام، شهود اتحاد مع الله ومع إخوتهم، أن كلمة الله صارت حياة. إن الرجل المؤمن والعادل لا "يفسر" فقط الكتابات، ولكنه "يظهرها" أمام الجميع كحقيقة حية ومعمول بها. لهذا السبب، إن حياة الرجال الصالحين هي قراءة حية للكلمة الإلهية. وقد لاحظ القديس يوحنا فم الذهب أن الرسل نزلوا من جبل الجليل، حيث التقوا بالرب القائم من بين الأموات، من دون أي لوحة منقوشة، كما حدث مع موسى: ومنذ ذلك الحين أصبحت حياتهم الإنجيل الحي.

في بيت الكلمة نلتقي أيضاً بإخوة وأخوات من كنائس وجماعات كنسية أخرى يشاركوننا على الرغم من التفريقات التي ما تزال موجودة، في تكريم ومحبة الكلمة الإلهية، المبدأ والمنبع لوحدة فعلية أولى، حتى ولو كانت هذه الوحدة غير تامة. يجب دوماً تعزيز هذا الرابط من خلال الترجمات البيبلية المشتركة، نشر النص المقدس، الصلاة البيبلية المسكونية، الحوار التفسيري، دراسة مختلف ترجمات الكتابات المقدسة والمقارنة بينها، تبادل القيم المرتبطة بمختلف التقاليد الروحية، وتوحيد الإعلان والشهادة لكلمة الله في عالم علماني.

رابعاً: دروب الكلمة: الرسالة

"لأنها من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب" (أش 2، 3). إن كلمة الله المتجسدة "تخرج" عن بيته، المعبد، وتسير على طرقات العالم من أجل لقاء الحج الكبير الذي باشرت به شعوب الأرض سعياً وراء الحق، والعدالة، والسلام. وفي الواقع، حتى في المدينة العلمانية الحديثة، في ساحاتها وشوارعها – حيث تبدو سيطرة الجحود واللامبالاة، وحيث يبدو الشر مسيطراً على الخير، تاركاً انطباع انتصار بابل على أورشليم – يمكننا إيجاد رمق خفي، رجاء نابت، وارتعاش انتظار. وكما نقرأ في كتاب النبي عاموس: "ها إنها ستأتي أيام يقول السيد الرب أُرسل فيها الجوع على الأرض لا الجوع إلى الخبز ولا العطش إلى الماء بل إلى استماع كلمة الرب" (8، 11). والرسالة التبشيرية للكنيسة تريد الإجابة على هذا الجوع.

حتى المسيح القائم من بين الأموات دعا الرسل المترددين إلى الخروج عن آفاقهم المحمية: "فاذهبوا إذن، وتلمذوا جميع الأمم، … وعلموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به" (مت 28: 19، 20). إن الكتاب المقدس يزخر بالدعوات إلى "عدم السكوت"، و"الصراخ بقوة"، و"إعلان الكلمة في كل الأوقات"، وإلى أن نكون الحراس الذين يكسرون صمت اللامبالاة. إن الدروب التي تُفتح أمامنا ليست فقط الدروب التي سار عليها القديس بولس والمبشرون الأولون، بل هي أيضاً دروب جميع المرسلين الذين يذهبون من بعدهم نحو الشعوب في الأراضي البعيدة.

11- في عصرنا هذا، تمتد الاتصالات في شبكة تغطي الكرة الأرضية بأكملها. لذا تكتسب دعوة المسيح صدىً جديداً: "ما أقوله لكم في الظلام، قولوه في النور؛ وما تسمعونه همساً، نادوا به على السطوح". ( مت 10، 27). بكل تأكيد يجب على الكلمة المقدسة أن تحافظ على شفافيتها وانتشارها الأولين من خلال النص المطبوع – من خلال ترجمات بمختلف لغات كوكبنا – ولكنه يجب على صوت الكلمة الإلهية أن يرجع الصدى عبر الإذاعة، وقنوات التداول الافتراضية على الإنترنت، والأقراص المدمجة، وأقراص الفيديو الرقمية، والبودكاست وغيرها. يجب عليه الظهور على جميع شاشات التلفزة والسينما، في الصحافة، وفي الأحداث الثقافية والاجتماعية.

هذا الشكل الجديد من الاتصالات، اعتمد نسبة إلى الطريقة التقليدية على قواعد تعبير خاص به، لذا يحتم علينا هذا الأمر الاستعداد لهذه المهمة ليس فقط تقنياً لا بل أيضاً ثقافياً. وفي زمن تهيمن فيه الصور التي تنقلها وسيلة الاتصالات السائدة وهي التلفزيون، ما يزال اليوم المثال المميز لدى المسيح معبراً وإيحائياً: فهو كان يستعين بالرموز، والسرد، والأمثلة، والتجربة اليومية: "فكلمهم بأمثال في أمور كثيرة… وبغير مثل لم يكن يكلمهم" (مت 13: 3، 34). خلال إعلان ملكوت الله، لم يكن يسوع يتكلم مع محادثيه باستعمال أسلوب مبهم، مجرد وروحي؛ بل كان على العكس يأسر سامعيه منطلقاً بالتحديد من الأرض التي وطأتها أقدامهم، من أجل إرشادهم، من خلال الأحداث اليومية، إلى وحي ملكوت السماوات. وبالنظر إلى ذلك، يصبح المشهد الذي يذكره القديس يوحنا معبراً جداً: "وأراد بعضهم أن يُلقوا القبض عليه؛ ولكن أحداً لم يُلق عليه يداً. ورجع حراس الهيكل إلى الفريسيين ورؤساء الكهنة، فسألوهم: "لماذا لم تحضروه؟" فأجابوا: "لم نسمع قط ‘نساناً يتكلم بمثل كلامه!" (7: 44، 46).

12- يتقدم المسيح في شوارع مدننا ويتوقف عند عتبة بيوتنا: "ها أنا واقف خارج الباب أقرعه. إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه فأتعشى معه وهو معي" (رؤ 3، 20). إن العائلة التي تخبئ جدرانها الأفراح والأتراح، هي مكان أساسي يجب أن تدخل إليه كلمة الله. والكتاب المقدس يحوي على قصص عائلية صغيرة وكبيرة، ويصف فيه المرنم بنباهة الإطار الهادئ لأب يجلس إلى الطاولة، محاطاً بزوجته الشبيهة بجفنة مثمرة، وببنيه "كفروع زيتون" (مز 127). هكذا كان يحتفل المسيحيون الأولون بالليتورجية في الحياة البيتية اليومية، تماماً كما عهدت إسرائيل باحتفال الفصح إلى العائلة (خر 12: 21، 27). إن تناقل كلمة الله يتم عبر الأجيال من أجل أن يصبح الأهل "أول المبشرين بالإيمان". ويذكر المرنم مرة أخرى بأن: "ما سمعناه وعرفناه وأخبرنا به آباؤنا، فلا نكتمه عن بنيهم بل نخبر الجيل الآتي بتسابيح الرب وعزته ومعجزاته التي صنع… لكي يعلم الجيل الآتي البنون الذي سيولدون فيقوموا هم ويخبروا بنيهم" (مز 77: 3، 4 ،6).

لذلك، يجب أن يكون لكل بيت كتابه المقدس، وأن يحافظ عليه بعناية، ويقرأه، ويصلي معه. كما يجب على العائلة أن تقترح أشكال ونماذج تربية تزخر بالصلاة، والتعليم الديني، والإرشاد حول استخدام الكتابات من أجل أن يسمع "الأحداث والعذارى، الشيوخ مع الصبيان" (مز 148، 12) كلمة الله، ويفهموها، ويمجدونها، ويعيشونها. ويجب أن يتوجه علم تربية ملائم بخاصة إلى الأجيال الجديدة، والأطفال والشباب، لكي يرشدهم إلى اختبار فتنة صورة المسيح، فاتحين عقولهم وقلوبهم. كما يجب ان يتم ذلك من خلال اللقاء مع الراشدين، وشهادتهم الصادقة، والتأثير الإيجابي للأصدقاء، والمرافقة العظيمة للجماعة الكنسية.

13- يذكرنا يسوع في مثل الزارع بأن هناك أرضاً قاحلة، صخرية، ومخنوقة بالشوك (مت 13: 3، 7). ومن يذهب إلى شوارع العالم يكتشف أيضاً أحياء الفقر والألم، والخزي والانسحاق، والتهميش والبؤس، والأمراض الجسدية والنفسية، والوحدة. وكثيراً ما تكون الحجارة على الطريق مضرجة بالدماء جراء الحروب والعنف، أما في قصور القوة، فيتنافس الفساد مع الظلم. وتعلو صرخات المضطهدين بسبب وفائهم لضميرهم، وإيمانهم. وهناك أيضاً من تعتريهم أزمة حياتية، أو من تكون روحهم محرومة من معنى يعطي دلالة وقيمة للحياة نفسها. وهم يشبهون "الظلال"، حتى أن الكثير منهم يشعرون بثقل صمت الله، وغيابه ولامبالاته الظاهرين. "إلى متى يا رب تستمر على نسياني وحتى متى تواري وجهك عني؟" (مز 12، 2). وأخيراً، يقف سر الموت أمام الجميع.

إن لهاث الألم هذا الذي يرتفع من الأرض نحو السماء يصوره الكتاب المقدس باستمرار، مقترحاً إيماناً تاريخياً ومتجسداً. ويكفي أن نتأمل بالصفحات المطبوعة بالعنف والقمع، ببكاء أيوب المرير والمتواصل، بالابتهالات الملتهبة في المزامير، بالأزمة الداخلية الثاقبة التي تخرق روح يوئيل، وبالشجب النبوي الشديد ضد أشكال الظلم الاجتماعي. إضافة إلى ذلك،ومن دون أي ظروف تخفيفية، تُدان الخطيئة الأصلية التي تظهر بكل قدرتها المدمرة منذ بدء البشرية في نص أساسي من سفر التكوين (الفصل الثالث). في الواقع، إن "سر الفساد" هو حاضر ويعمل في التاريخ، ولكن كلمة الله تكشفه وتؤكد في المسيح على انتصار الخير على الشر.

ولكن في الكتابات المقدسة، تهيمن بخاصة صورة المسيح الذي يبدأ خدمته بإعلان رجاء للمعذبين على الأرض: "روح الرب علي، لأنه مسحني لأبشر الفقراء؛ أرسلني لأنادي للمأسورين بالغطلاق وللعميان بالبصر، لأطلق المسحوقين أحراراً، وأبشر بسنة القبول عند الرب" (لو 4: 18، 19). إنه يضع باستمرار يديه على المرضى والموبوئين، وينطق بكلمات تعلن العدالة، وتشجع البؤساء، وتمنح المغفرة للخطأة. أخيراً، يقترب من المستوى الأدنى "أخلى نفسه" من مجده، "متخذاً صورة عبد، صائراً شبيهاً بالبشر؛ وإذ ظهر بهيئة إنسان، أمعن في الاتضاع، وكان طائعاً حتى الموت، موت الصليب" (فيل 2: 7، 8).

هكذا يشعر بالخوف من الموت (يا أبي، كل شيء مستطاع لديك، فأبعد عني هذه الكأس)، ويختبر الوحدة بسبب تخلي أصدقائه عنه وخيانتهم له، ويدخل في ظلام الآلام الجسدية المريرة بالصلب، وحتى في ظلام سكوت الآب ("إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟)، ويصل إلى اللجة الأخيرة لكل إنسان، وهي الموت ("فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح"). فعليه ينطبق التعريف الذي أعطاه أشعيا إلى خادم الرب: "مزدرى ومخذول من الناس رجل أوجاع" (53، 3).

حتى في هذه اللحظة الأخيرة، لا يتوقف عن كونه ابن الله: فهو في قوة محبته، وبذل نفسه، يضع في البشرية وشرها بذوراً إلهية، أي مبدأ تحرير وخلاص. وهو من خلال بذل نفسه لأجلنا، يفدينا من الألم والموت اللذين ذاقهما، ويفتح لنا فجر القيامة. لذلك، يجب على المسيحي إعلان كلمة الرجاء الإلهية هذه بمشاركتها مع الفقراء والمتألمين، من خلال الشهادة بإيمانه في ملكوت الحق والحياة، القداسة والنعمة، والعدالة والمحبة والسلام، ومن خلال قربه المحب الذي لا يحكم ولا يدين، بل يدعم، وينير، ويعزي، ويغفر وفقاً لكلمات المسيح: "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والرازحين تحت الأحمال الثقيلة، وأنا أريحكم" (مت 11، 28).

14- على دروب العالم، توجِد الكلمة الإلهية لنا نحن المسيحيين لقاءاً كبيراً مع الشعب اليهودي الذي تربطنا به المعرفة والمحبة المشتركتين لكتابات العهد القديم، ولأن "المسيح جاء حسب الجسد" من إسرائيل. وتوضح جميع الكتابات المقدسة اليهودية سر الله والإنسان، وتكشف كنوز التأمل والعبر، وترسم طريق تاريخ الخلاص إلى تحقيقه الكامل، وتظهر بقوة تجسد الكلمة الإلهية في الوقائع البشرية. كما أنها تمكننا من فهم صورة المسيح بالكامل هو الذي قال: "لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء. ما جئت لألغي، بل لأكمل" (مت 5، 17). وتشكل وسيلة حوار مع شعب الله المختار: "الذين مُنحوا التبني والمجد والعهود والتشريع والعبادة والمواعيد" (رو 9، 4)، وتسمح لنا بإغناء تفسيرنا للكتابات المقدسة بالموارد المثمرة التي يحملها التقليد التفسيري العبري.

"مبارك شعبي مصر وصنعة يدي أشور وميراثي إسرائيل" (أش 19، 25). إذاً، يلقي الرب جزيل بركاته على جميع شعوب الأرض: "فهو يريد لجميع الناس أن يخلصوا، ويُقبلوا إلى معرفة الحق بالتمام" (1 تيم 2، 4). ونحن أيضاً كمسيحيين مدعوون على دروب العالم – من غير الوقوع في التأليفية التي تربك وتذل هويتنا الروحية – إلى التحاور باحترام مع الرجال والنساء من الأديان الأخرى الذين يصغون إلى تعاليم كتبهم المقدسة ويعملون بها، بدءاً من الإسلام الذي يرحب بالكثير من الوجوه، والرموز والمواضيع البيبلية، ويقدم لنا شهادة إيمان صادق بالله الواحد "الرؤوف والرحيم"، خالق كل الخليقة وديان البشرية.

هذا ويجد المسيحي تناغماً مشتركاً مع التقاليد الدينية العظيمة في الشرق التي تعلمنا، في كتاباتها، احترام الحياة، التأمل، الصمت، البساطة، والزهد، كما في البوذية مثلاً. أو كما في الهندوسية التي تشيد بكل ما هو مقدس، بالتضحية والحج والصوم والرموز المقدسة. أو كما في الكونفوشيوسية التي تعلم الحكمة والقيم العائلية والاجتماعية. نحن نريد أيضاً الاهتمام من كل قلبنا بالديانات التقليدية وقيمها الروحية المعبر عنها في طقوس وفي الثقافات الشفهية، كما نريد بدء حوار محترم معها. كما يجب أن نعمل مع أولئك الذين لا يؤمنون بالله ولكنهم يجتهدون في إجراء الحكم، ومحبة الرحمة، والسير بتواضع (مي 6، 8)، من أجل التوصل إلى عالم أكثر عدلاً وسلاماً وتقديمنا في الحوار شهادة حقيقية لكلمة الله التي يمكن أن تظهر لهم آفاقاً جديدة من الحق والمحبة الساميين.

15- في رسالته إلى الفنانين (1999)، ذكر يوحنا بولس الثاني بأن "الكتاب المقدس أصبح نوعاً من "المعجم الكبير" (بول كلوديل)، و"لوحات أيقونية" (مارك شاغال) استمدت منهما الثقافة والفن المسيحيان. لقد كان غوتيه مقتنعاً بأن الإنجيل هو "اللغة الأم في أوروبا". وكما نقول اليوم جميعاً، فإن الكتاب المقدس هو "الرمز الكبير" للثقافة العالمية: بطريقة مثالية، غط الفنانون ريشتهم في هذه الأبجدية الملونة بالقصص، والرموز، والوجوه، التي تتمثل في صفحات الكتاب المقدس. أما الموسيقيون، فقد ألفوا إيقاعاتهم حول النصوص المقدسة، وبخاصة حول المزامير. وعلى مر القرون، كرر الكتاب القصص القديمة التي أصبحت أمثلة حياتية، وتساءل الشعراء عن سر الروح، والأبدية والشر والمحبة، والحياة والموت، ململمين ارتعاشات شعرية كانت تحيي صفحات الكتاب المقدس. وفي ما يتعلق بالمفكرين، ورجال العلم، وبالمجتمع نفسه، فكثيراً ما استندوا إلى المفاهيم الروحية والأخلاقية (الوصايا العشر) لكلمة الله. وحتى عندما كانت الصورة أو الفكرة الموجودة في الكتابات المقدسة محرفة، كانت معروفة بأنها عنصر أساسي ومقوم في حضارتنا.

لهذا السبب، إن الكتاب المقدس – الذي يعلمنا أيضاً درب الجمال لفهم الله وبلوغه (كما يدعونا المزمور 47: 7: "أشيدوا لله أشيدوا") – ضروري ليس فقط للمؤمن، بل للجميع من أجل إعادة اكتشاف المعاني الحقيقية للتعابير الثقافية المتنوعة، وأولاً من أجل العثور على هويتنا التاريخية، والمدنية، والإنسانية، والروحية. إنها الهوية التي تشكل عظمتنا، والتي نستطيع من خلالها تقديم أنفسنا بإرثنا الشريف إلى حضارات وثقافات أخرى، من دون أي عقدة نقص. لذلك، يجب على الجميع معرفة الإنجيل ودراسته، عبر هذا الجانب الرائع من الجمال، والخصوبة البشرية والثقافية.

بالمقابل، فإن كلمة الله – بحسب صورة معبرة للقديس بولس – "لا تكبلها القيود" (2 تيم 2، 9) إلى ثقافة؛ بل على العكس تطمح إلى عبور الحدود، وقد كان الرسول حرفياً ماهراً في ترسيخ رسالة الكتاب المقدس في مراجع ثقافية جديدة. هذا هو الأمر الذي تُدعى الكنيسة اليوم إلى القيام به من خلال عملية دقيقة بل ضرورية لقيت الدعم الكبير من تعاليم البابا بندكتس السادس عشر. يجب أن تجعل كلمة الله تدخل في مختلف الثقافات، وأن تعبر عنها بمختلف اللغات، والمفاهيم، والرموز، والتقاليد الدينية. ولكن يجب أن تكون قادرة دوماً على الحفاظ على المادة الأصلية لمضمونها، بمراقبة مخاطر الانحلال.

لذلك، يجب على الكنيسة أن تجعل القيم التي تقدمها كلمة الله إلى جميع الثقافات تلمع لكيما تتطهر هذه الأخيرة وتثمر بها. وكما قال يوحنا بولس الثاني إلى أساقفة كينيا خلال رحلته إلى إفريقيا سنة 1980، فإن "نشر الثقافة يصبح حقاً انعكاس تجسد الكلمة عندما تعبر ثقافة متغيرة ومتجددة بالإنجيل، في تقليدها الخاص عن الحياة، والاحتفال والتأمل، المتعلقين بالمسيحية".

خاتمة

"ثم كلمني الصوت السماوي ثانيةً وقال لي: "اذهب، خذ الكتاب الصغير المفتوح في يد الملاك القوي الواقف على البحر والأرض". فذهبت إليه وطلبت الكتاب منه، فأجابني: "خذه والتهمه. ستجد طعمه في فمك حلواً كالعسل، ولكنه سيجعل بطنك مراً!" ولما أخذته من يده والتهمته، كان حلواً كالعسل في فمي، ولكن ما إن ابتلعته حتى ملأ بطني مرارةً!" (رؤ 10: 8، 11).

إخوتي وأخواتي في العالم أجمع، دعونا نلبي نحن أيضاً هذه الدعوة، فلنقترب من مائدة كلمة الله، لنتغذى منها، ولئلا نحيا "بالخبز وحده، بل بكل ما يخرج من فم الرب" (تث 8، 3؛ مت 4، 4). إن الكتاب المقدس، ووفقاً لما أعلنه وجه عظيم من وجوه الثقافة المسيحية، "منح مقاطع لتعزية كل الأوضاع وتحذيرها" (ب. باسكال، تأملات رقم 532، طبعة برونشفيك).

في الواقع، إن كلمة الله "أحلى من العسل وقطر الشهاد" (مز 18، 11)، "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي" (مز 119، 105)، ولكنها أيضاً: "كالنار، وكالمطرقة التي تحطم الصخر" (إر 23، 29). إنها كالمطر الذي يروي الأرض، ويُخصبها لتؤتي، وبذلك يُزهر جفاف صحرائنا الروحية (أش 55: 10، 11). كما أنها: "حية وفعالة، وأمضى من كل سيف له حدان، وخارقة إلى مفترق النفس والروح والمفاصل ونخاع العظام، وقادرة أن تميز أفكار القلب ونياته" (عب 4، 12).

نحن ننظر بمحبة إلى جميع الملتزمين بالدراسة، إلى معلمي الدين والخدام الآخرين لكلمة الله للتعبير عن امتنانا الكبير والقلبي لخدمتهم الثمينة والمهمة. ونتوجه أيضاً إلى إخوتنا وأخوتنا المضطهدين، أو الذين تُسفك دماؤهم من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي يؤدونها إلى الرب يسوع (رؤ 6، 9): وهم كشهود وشهداء يخبروننا عن "قدرة الكلمة" (رو 1، 16)، مصدر إيمانهم، ورجائهم، ومحبتهم لله وللبشر.

دعونا نحافظ على هدوئنا من أجل سماع كلمة الرب بفعالية، ودعونا نلزم الصمت بعد الإصغاء لكيما تستمر هذه الكلمة في السكنى فينا، وفي التحدث إلينا. فلنجعلها ترجع الصدى في بداية نهارنا من أجل أن يكون لله الكلمة الأولى، ولندعها تدوي فينا في المساء لكي يكون لله الكلمة الأخيرة.

إخوتي وأخواتي، "جميع الذين معي يسلمون عليكم. سلموا على محبينا في الإيمان. لتكن النعمة معكم جميعاً!" (تيط 3، 15).

 نقلته من الإنكليزية إلى العربية غرة معيط – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)