ما هي الخطيئة الأصلية؟

بندكتس السادس عشر يقدم تفسيرًا وجوديًا

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الأربعاء 3 ديسمبر 2008 (Zenit.org).

فتحت نظريات التطور الداروينية أبواب السؤال حول أصل الجنس البشري، أهو أحادي أو تعددي، أي هل نحن نسل رجل وامرأة فريدين أو نسل تطور أجناس متعددة. وكان لا بد أن يؤثر هذا التفكير على طريقة فهم الخطيئة الأصلية. فإمكانية تعدد أصول الجنس البشري ترمي عرض الحائط بفكرة خطيئة أولى تنتقل مفاعليها المدمرة إلى نسل الوالدين الأولين. على ضوء إمكانية تعددية الأصل البشري (ونقول إمكانية لا يقين، لأن العديد من نظريات التطور الحديثة أقرب إلى التصريح بأن أصل الجنس البشري هو أحادي لا تعددي، وترجح أن هذا الأصل انطلق من إفريقيا) نرانا مضطرين إلى النضوج في فهم الخطيئة الأصلية والعدول عن الفكرة البدائية التي تفهم هذه الخطيئة كوباء أولي أٌصيب به آدم وحواء وانتقل إلينا كما تنقل خصائص الحمض النووي الأمراض الوراثية. ففهم الخطيئة الأصلية فقط كثمرة وراثية شبه بيولوجية يبعد عن المفهوم العميق لعقيدة الخطيئة الأصلية، وبناء على ذلك، يُفقد مسألة الفداء والفادي ركيزتها.

في مقابلة الأربعاء العامة أمس، توقف البابا بندكتس السادس عشر بوضوحه المعتاد على هذه المسألة الهامة، والتي غالبًا ما تقض مضجع المؤمنين، وخصوصًا عندما تواجههم اعتراضات المشككين والمنتقدين، والتي غالبًا ما تكون صدى للشكوك التي يعيشها المؤمن في حميميته. وتساءل البابا، بعد أن أشار إلى أن محور الإيمان المسيحي ليس الخطيئة بل الفداء، ولا يكرس بولس بعضًا من الوقت للحديث عن الخطيئة إلا لإظهار عظمة الفداء. فالحديث عن الخطيئة ليس إلا مرحلة قصيرة جدًا تقود إلى هدف أسمى: إلى إعلان بشارة من أحبنا فافتدانا بدمه من عبودية ومنفى الخطيئة.

هل هناك خطيئة أصلية أم لا؟

 انطلق البابا في الإجابة عن هذا السؤال مقدمًا بعدين في عقيدة الخطيئة الأصلية.

هناك بعد اختباري، أي واقع ملموس، يخبره الجميع. وهناك بعد سري، يرتبط بالركيزة الأنطولوجية لهذا الواقع، يمكننا أن نسميه أيضًا البعد الوجودي.

البعد الملموس والاختباري هو أن هناك "تناقض في كياننا". وشرح الأب الأقدس أنه "من ناحية يعرف كل إنسان أنه يجب عليه أن يفعل الخير و في حميميته يريد أن يفعله. ولكن في الوقت عينه، يشعر أيضًا بزخم آخر ليفعل العكس، ليتبع سبيل الأنانية، العنف، ويقوم فقط بما يطيب له عارفًا بأنه يقوم بهذا الشكل بعكس الخير، ضد الله وضد القريب".

ولقد تحدث القديس بولس بشكل بديع عن هذه الخبرة قائلاً: "الرغبة في الخير هي باستطاعتي، وأما فعله فلا. لأن الخير الذي أريده لا أفعله، والشر الذي لا أريده إياه أفعل".

وهذا التناقض الداخلي في وجودنا ليس نظرية، بل هو خبرة يعيشها الأفراد والجماعات على حد سواء. فكل منا يخبر يوميًا انتشار هذه الإرادة الثانية، كفانا أن نفكر بالأخبار اليومية حول الظلم، والعنف والرياء، والخلاعة.

في هذا الإطار – ذكر البابا – بما يسميه المفكر الفرنسي الكبير بليز باسكال "الطبيعة الثانية" والتي تطغى على طبيعتنا الأصلية الصالحة. هذه "الطبيعة الثانية" تبين الشر وكأنه أمر عادي بالنسبة للإنسان. وتابع بندكتس السادس عشر: "من هنا يأخذ التعبير المعتاد: هذا بشري معنى مزدوجًا. فيمكن لـ هذا بشري أن يعني: هذا الرجل صالح، ويتصرف كما يجب أن يتصرف الإنسان. ولكن هذا بشري يستطيع أن يعني الزيف: الشر عادية، إنه بشري. يبدو وكأن الشر قد صار طبيعة ثانية".

هذا التناقض في كياننا البشري العميق يولد فينا صرخة إلى إمكانية فداء، "ويل لي من ينجيني من جسد الموت هذا". وإذا ما نظرنا إلى ظواهرية الوجود البشري، في القديم والآن لرأينا تجلي هذا التوق إلى الفداء في وعود السياسيين، والنظم التوتاليتارية والدينية. وقد قال البابا بهذا الصدد: "بالواقع، إن الشوق لتغيير العالم والوعد بخلق عالم عدالة وسلام وخير هو حاضر في كل مكان: في السياسة، على سبيل المثال، يتحدث الجميع عن ضرورة تغيير هذا العالم، وخلق عالم أكثر عدالة. وهذا تعبير عن التوق إلى التحرر من التناقض الذي نعيشه في أنفسنا".

من هذا المنطلق، يمكننا أن نفهم ما يقوله المفكر باسكال عندما يصرح: "آدم هو سلفي، هو أبي، وهو أنا". فحالة الانقسام الوجودي بين التوق إلى الخير والميل إلى الشر هي خبرة مشتركة يعيشها كل إنسان؛ هي خبرة كل "أرضي" و "ترابي"، وهذا هو المعنى الأصلي لكلمة "ها آدم" العبرية.

 

كيف يمكننا تفسير هذا الميل إلى الشر؟

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه مباشرة: إذا كان الله صالحًا، كيف يمكن أن يوجد هذا التناقض في الإنسان؟

حاولت تيارات فكرية عديدة على مر العصور أن تجيب على هذه المسألة. واستعرض البابا أمس تيارين الازدواجي والأحادي.

تقول النظرة الازدواجية بأن الكائن بحد ذاته هو متناقض، ويحمل في ذاته الخير والشر. في القديم كان هذا الرأي يعني أن هناك مبدآن أساسيان بشكل متساو: مبدأ الخير ومبدأ الشر. هذه الازدواجية هي أمر لا يمكن تجاوزه؛ فالمبدآن يقومان على المستوى عينه، وبالتالي سيكون هناك دومًا، منذ بدء الكيان، هذا التناقض. وبالتالي، تبعًا لهذا الرأي، التناقض الكامن في كياننا، ليس إلا انعكاسًا لتضارب المبدأين الإلهيين، إذا جاز التعبير.

في المنظور التطوري الإلحادي، نجد النظرة عينها للعالم. حتى ولو أن النظرة إلى الكائن في هذا المفهوم هي أحدية (monism)، إلا أن هناك فكرة سائدة بأن الكائن منذ البدء يحمل في ذاته الشر والخير على حد سواء. الكائن بحد ذاته ليس جيدًا ببساطة، بل هو منفتح على الشر والخير. فالشر هو أصلي تمامًا كالخير. والتاريخ لا يُطوّر إلا النموذج الموجود مسبقًا في كل التطور السابق.

أما الإيمان المسيحي –  بحسب ما لخص البابا – فهو يؤكد واقع المنافسة بين الطبيعتين، واقع هذا الشر الذي تثقل طبيعته على كل الخليقة. ويقول أن الشر موجود ببساطة. "وكتفسير، خلافًا للازدواجية وللأحدية التي تطرقنا إليهما بإيجاز ووجدناهما كئيبتين، يقول الإيمان: هناك أسرار النور وسر الليل، ولكن هذا الأخير تغمره أسرار النور".

وتابع الأب الأقدس: سر النور الأول هو التالي: يقول لنا الإيمان أن ليس هناك مبدآن، الخيّر والشرير، بل هناك مبدأ واحد، الإله الخالق، وهذا المبدأ هو صالح، وصالح فقط، دون أي ظل من الشر".

وبالتالي فالكائن نفسه "ليس خليطًا من الخير والشر؛ الكيان بحد ذاته هو خير، وبالتالي فالوجود هو أمر حسن، إنه أمر حسن أن نعيش. وهذه هي بشرى الإيمان السارة؛ هناك منبع واحد وخير، وهو الخالق. وبالتالي فالعيش أمر حسن، وأن نكون رجالاً ونساءً هو أمر حسن، الحياة هي أمر حسن. ومن ثم يتبع سر الظلام، الليل".

ولخص قائلاً: "لا يأتي الشر من منبع الخير بالذات، ليس واقعًا أصليًا. الشر يصدر عن حرية مخلوقة، عن حرية أسيء استعمالها". وفي هذه الحرية نجد إيضاحًا، لا تفسيرًا كاملاً للشر، لأن الشر ليس منطقيًا، بل الخير والله فقط هما منطقيان. فالخير هو خليقة اللوغوس (Logos ومن هنا logic  و logical)، الأقنوم الثاني من الثالوث، أما الشر فهو ظل، نقصان في الخير، تشويه للخير.

خلاصة القول: الخطيئة الأصلية ليست فقط خطيئة الأصل، بل هي خطيئة متأصلة في وجودنا الحر القادر على أن يقول لا للنور ونعم للظلمة. ولكن هذا الخيار هو باب الحرية للمحبة، لأنه لولا قدرة الحرية على الرفض، لما كان لها حرية حقة في القبول. وفخر القديسين هو هذا: رغم حريتهم أمام الحب سلبًا وإيجابًا، فهُم يستسلمون للحب بالكلية، ويضحون في المسيح ومثله نَعمًا كاملاً ونِعَمًا للبشرية.