تعليم الأربعاء لقداسة البابا 11/12/2008

الفاتيكان، الخميس 11 ديسمبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس في الفاتيكان نهار الأربعاء 10 ديسمبر 2008.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

لقد رأينا، في خطى القديس بولس، في تعليم الأربعاء الماضي أمرين إثنين. الأول هو أن تاريخنا البشري قد تلوث منذ البدء بسوء استخدام الحرية المخلوقة، التي تود أن تتحرر من الإرادة الإلهية. وبهذا الشكل لا يجد الإنسان الحرية الحقة، بل يعاكس الحقيقة ويزيف بالتالي واقعنا البشري. يزيف بشكل خاص العلاقات الاساسية: العلاقة مع الله، العلاقة بين الرجل والمرأة، العلاقة بين الإنسان والأرض. لقد قلنا أن تلويث تاريخنا هذا قد انتشر في كامل نسيجه، وهذا الخلل الوراثي تزايد وتفشى في كل مكان. كان هذا الأمر الأول. والثاني هو هذا: لقد تعلمنا من القديس بولس أن هناك بدء جديد في التاريخ، وفي تاريخ يسوع المسيح، الذي هو إنسان وإله. يبدأ مع يسوع الآتي من الله تاريخ جديد يتألف من نَعَمه للآب، المبني، لا على كبرياء تحرر مزيف، بل على الحب والحق.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف يمكننا أن ندخل في هذا البدء الجديد، في هذا التاريخ الجديد؟ كيف يصل هذا التاريخ إليّ؟ نحن مرتبطون بشكل ضروري بالتاريخ الأول من خلال سلالتنا البيولوجية، لانتمائنا إلى رأس البشرية الواحد. ولكن كيف تتحقق الشركة مع يسوع، وكيف تتم الولادة الجديدة للدخول في عداد البشرية الجديدة؟ كيف يصل يسوع إلى حياتي وإلى كياني؟ الجواب الأساسي الذي يقدمه القديس بولس، والعهد الجديد بأسره هو: يصل بواسطة عمل الروح القدس. إذا كان التاريخ الأول ينطلق من الجسد، فالتاريخ الثاني ينطلق من الروح القدس، روح المسيح القائم. هذا الروح خلق في العنصرة بدء بشرية جديدة، جماعة جديدة، الكنيسة، جسد المسيح.

ولكن يجب أن نكون أكثر وضوحًا: كيف يمكن أن يضحي روح المسيح هذا، الروح القدس، روحي أنا؟ الجواب هو أن هذا الأمر يحدث بأشكال ثلاثة مترابطة حميميًا بعضها ببعض.

الشكل الأول هو هذا: يقرع روح المسيح باب قلبي، ويلمسني من الداخل. ولكن بما أن البشرية الجديدة يجب أن تكون جسدًا حقيقيًا، لأن الروح يجب أن يجمعنا وأن يخلق جماعة حقًا، وبما أنه من خاصة البدء الجديد تخطي الانقسامات وإعادة المشتتين، يستعين روح المسيح هذا بعُنصُرَيّ تجميع مرئي: كلمة التبشير والأسرار، وبشكل خاص المعمودية والافخارستيا.

يقول القديس بولس في الرسالة إلى أهل روما: "إذا أعلنت بشفتيك أن يسوع رب، وآمنت في قلبك أن الله أقامه من بين الأموات، تنال الخلاص" (10، 9)، أي تدخل في التاريخ الجديد، تاريخ الحياة لا الموت. ثم يتابع القديس بولس: "كيف يدعون من لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوه؟ وكيف يسمعونه من غير مبشر؟ وكيف يبشرون إن لم يرسلوا؟" (روم 10، 14 – 15). في نص آخر يقول: "الإيمان من السماع" (روم 10، 17).

لا يأتي الإيمان من فكرنا، من تفكيرنا، فهو شيء جديد لا يمكننا أن نبتكره، بل فقط قبوله كهبة، كجِدَّة تأتي من الله. والإيمان لا يأتي من القراءة بل من الإصغاء. ليس فقط أمرًا داخليًا، بل علاقة مع شخص. ويتطلب الإيمان لقاءً مع إعلان البشارة، يتطلب وجود الآخر الذي يعلن ويخلق الشركة.

وأخيرًا الإعلان: من يعلن لا يتكلم انطلاقًا من ذاته، بل هو مُرسَل. يدخل في إطار رسالة تبدأ مع يسوع المرسل من الآب، وتمر عبر الرسل – وكلمة رسول تعني "موفد" – ثم تستمر في خدمة الدرجة، في الرسالة التي ينقلها الرسل. يظهر نسيج التاريخ في بنية الرسالة هذه، التي نسمع فيها الله نفسه، "كلمة" الله الشخصي، الابن، يخاطبنا ويصل إلينا. الكلمة صار جسدًا، يسوع، لكي يخلق بشرية جديدة. ولذا تضحي كلمة التبشير سر المعمودية، الذي هو ميلاد من الماء والروح، كما سيقول القديس يوحنا.

في الفصل السادس من الرسالة إلى أهل روما يتحدث القديس بولس بشكل عميق عن المعمودية. لقد أصغينا لهذا النص. ولكن ربما كان مفيدًا أن نعيد قراءته: "أوتجهلون أننا، وقد اعتمدنا جميعا في يسوع المسيح، إنما اعتمدنا في موته فدفنا معه في موته بالمعمودية لنحيا نحن أيضا حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب؟" (6، 3 – 4).

طبعًا، لا أستطيع في هذا التعليم الدخول في تفسير موسع لهذا النص غير السهل. أود بشكل وجيز أن ألفت النظر إلى أمور ثلاثة فقط. الأول: "اعتمدنا" هو فعل مجهول [في اليونانية]. ما من أحد يستطيع أن يعمّد ذاته، بل يحتاج إلى آخر. ما من أحد يستطيع أن يصير مسيحيًا من تلقاء نفسه. الصيرورة المسيحية هي عملية انفعالية؛ نستطيع أن نضحي مسيحيين فقط بفضل آخر. وهذا "الآخر" الذي يصيرنا مسيحيين، والذي يهبنا عطية الإيمان، هو في المقام الأول جماعة المؤمنين، الكنيسة. من الكنيسة نتقبل الإيمان، المعمودية. لا يمكننا أن نصير مسيحيين إذا لم نسمح لهذه الجماعة أن تُشكلنا. إن مسيحية مستقلة، تكون ذاتها بذاتها، هي تناقض في حد ذاته. في المقام الأول هذا الآخر هو جماعة المؤمنين، الكنيسة، ولكن في المقام الثاني، هذه الجماعة بالذات لا تعمل انطلاقًا من ذاتها، طبقًا لآرائها ورغباتها. فالجماعة عينها تعيش هذه العملية الانفعالية: وحده المسيح يستطيع أن يبني الكنيسة. يسوع هو الواهب الحقيقي للأسرار. هذه هي النقطة الأولى: ما من أحد يستطيع أن يعمّد نفسه، ما من أحد يجعل ذاته مسيحيًا، بل نضحي مسيحيين.

الأمر الثاني هو هذا: المعمودية هي أكثر من غسل. هو موت وقيامة. وبولس نفسه، يتحدث في الرسالة إلى الغلاطيين عن التحول الذي تم في حياته لدى لقائه بالمسيح القائم فيصفها قائلاً: لقد متُّ. تبدأ في هذه اللحظة حياةٌ جديدة. أن نضحي مسيحيين هو أكثر من عملية تجميل، نضيف فيها شيئًا جميلاً إلى وجود متكامل نوعًا ما. المعمودية هي بداية جديدة، هي ولادة جديدة: موت وقيامة. بالطبع، يظهر مع القيامة كل الخير الذي كان في الوجود السابق.

الأمر الثالث هو هذا: المادة هي جزء من السر. المسيحية ليست واقعًا روحيًا بحتًا، بل تتضمن الجسد والكون، وتمتد نحو الأرض الجديدة والسماء الجديدة. نعود إلى الكلمة الأخيرة في نص القديس بولس حيث يقول: "لنحيا حياة جديدة". هذا الأمر هو موضوع فحص ضمير لنا جميعًا: أن نعيش حياة جديدة بفضل المعمودية.

نصل الآن إلى سر الافخارستيا. لقد بينت في تعاليم سابقة جزيل الاحترام الذي ينقل فيه القديس بولس التقليد حول الافخارستيا الذي تلقاه بدوره من شهود الليلة الأخيرة عينهم. ينقل هذه الكلمات ككنز ثمين أوكل إلى أمانته. وبهذا الشكل نسمع حقًا في هذه الكلمات شهود الليلة الأخيرة. فلنسمع كلمات الرسول: " فإني تسلمت من الرب ما سلمته إليكم، وهو أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزا وشكر، ثم كسره وقال: "هذا هو جسدي، إنه من أجلكم .اصنعوا هذا لذكري". وصنع مثل ذلك على الكأس بعد العشاء وقال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. كلما شربتم فاصنعوه لذكري"" (1 كور 11، 23 – 25).

إنه نص لا يسبر غوره. وهنا أيضًا، في هذا التعليم، أعطي ملاحظتين موجزتين. ينقل بولس كلمة الرب حول الكأس هكذا: هذه الكأس هي "العهد الجديد بدمي". تخفي هذه الكلمات دلالة إلى نصين أساسيين في العهد القديم. الإشارة الأولى هي إلى وعد العهد الجديد في كتاب النبي إرميا. يقول يسوع إلى التلاميذ وإلينا: الآن، في هذه الساعة، معي ومع موتي يتحقق العهد الجديد؛ من دمي يبدأ في العالم تاريخ البشرية الحديث هذا. ولكن هذه الكلمات تتضمن أيضًا إشارة إلى لحظة العهد في سيناء، حيث قال موسى: "هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم في كل هذه الأقوال" (خر 24، 8). في ذلك المقام، كان دم العهد دم حيوانات. كان دم الحيوانات يشكل فقط تعبيرًا عن توق، انتظار الذبيحة الحقة، العبادة الحقة. مع هبة الكأس يهبنا الرب الذبيحة الحقة. الذبيحة الحقة الوحيدة هي حب الابن. بواسطة هبة هذا الحب، الحب الأبدي، يدخل العالم في العهد الجديد. الاحتفال بالافخارستيا يعني أن المسيح يهبنا ذاته، وحبه، لكي يجعلنا مشابهين له ولكي يخلق بالتالي العالم الجديد.

يظهر البعد الثاني الهام في عقيدة الافخارستيا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس حيث يقول بولس: "أليست كأس البركة التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فلما كان هناك خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد" (10، 16 – 17). يظهر في هذه الكلمات البعد الشخصي والبعد الاجتماعي لسر الافخارستيا. يتحد المسيح شخصيًا بكل منا، ولكن المسيح عينه يتحد بالرجل وبالمرأة إلى جانبي. والخبز هو لي وللآخر أيضًا. وهكذا يوحدنا المسيح جميعنا بذاته، ويوحدنا أحدنا بالآخر. نتلقى في المناولة المسيح، ولكنه يتحد بالشكل عينه بقريبي: المسيح والقريب لا ينفصلان في الافخارستيا. وبهذا الشكل نحن جميعنا خبز واحد، وجسد واحد. إن إفخارستيا لا تعاش في تعاضد مع الآخرين هي افخارستيا أسيء استعمالها. نحن في الوقت عينه أمام جذور ومحور عقيدة الكنيسة كجسد المسيح، المسيح القائم.

نرى أيضًا كل واقعية هذه العقيدة. يهبنا المسيح في الافخارستيا جسده، يهبنا ذاته في جسده، ويجعل منا بالتالي جسده، ويضمنا إلى جسده القائم من الموت. عندما يأكل الإنسان الخبز العادي، يضحي هذا الخبز عبر عملية الهضم جزءًا من جسده، ويتحول إلى مادة بشرية. ولكن في المناولة المقدسة تتحقق العملية المعاكسة. يستوعبنا المسيح في ذاته، ويدخلنا في جسده الممجد وهكذا نصبح كلنا سوية جسده هو.

من يقرأ فقط الفصل الثاني عشر من الرسالة الأولى إلى الكورنثيين، والفصل الثاني عشر من الرسالة إلى الرومانيين، قد يظن أن الكلام بشأن جسد المسيح كجسم مواهبي هو مجرد نوع من مثل سوسيولوجي-لاهوتي. وبالفعل ففي العلم السياسي الروماني، كان يجري استخدام مثل الجسد بمختلف أعضائه التي تشكل وحدة للحديث عن الأمة بالذات، للإشارة إلى أن الأمة هي جسم ولكل مكانه. إذا ما قرأنا الفصل الثاني عشر من الرسالة الأولى إلى الكورنثيين، قد نعتقد بأن بولس يكتفي بتطبيق هذا المفهوم على الكنيسة، وأننا فقط بصدد سوسيولوجية كنسية. ولكن إذا ما اعتبرنا الفصل العاشر رأينا أن واقعية الكنيسة هي أكثر من ذلك، وهي أعمق وأحقّ من واقعية أمة-جسم. لأن المسيح يهب جسده حقًا، ويجعلنا جسده بالفعل. نضحي فعلاً متحدين بجسد المسيح القائم، وبالتالي متحدين أحدنا بالآخر. ليست الكنيسة شركة مثل الأمة، بل هي جسد. ليست فقط منظمة، بل هي جسم حقيقي.

وأخيرًا، فقط كلمة وجيزة حول سر الزواج. في الرسالة إلى الكورنثيين نجد فقط بعض الإشارات، بينما تتوسع الرسالة إلى الأفسسين بالتعمق في لاهوت الزواج. يصف بولس الزواج بـ "السر العظيم". ويقوله "إشارة إلى المسيح وإلى كنيسته" (5، 32). ينبغي أن نبين في هذا المقطع علاقة تبادلية تظهر في إطار عمودي. يجب على الخضوع المتبادل أن يعتنق لغة الحب، الذي مثاله حب المسيح للكنيسة. هذه العلاقة بين المسيح والكنيسة تجعل البعد اللاهوتي للحب الزوجي بعدًا أولويًا، وترفع العلاقة العاطفية بين الأزواج. يعاش الزواج الأصيل إذا ما جهد الزوجان، في سعيهما الدؤوب للنمو البشري والعاطفي، أن يبقيا مرتبطين دومًا بفعالية "الكلمة" وبمعنى المعمودية. لقد قدّس المسيح الكنيسة، مطهرًا إياها بواسطة غسل الماء، المرفق بالكلمة. الاشتراك في جسد ودم الرب لا يقوم إلا بتدعيم، وإظهار الرباط الذي صار غير منفصم بفضل النعمة.

وفي الختام، نصغي إلى كلمة القديس بولس إلى أهل فيليبي: "الرب قريب" (فيل 4، 5). يبدو لي أننا فهما، بواسطة الكلمة وبواسطة الأسرار، أن الله قريب في كل معارج حياتنا. فلنرفع صلاتنا إليه لكي يلمسنا دومًا قربه هذا في أعماق وجودنا، لكي يولد الفرح، ذلك الفرح الذي يتولد عندما يكون يسوع قريبًا حقًا.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.