العظة الثانية للأب كانتلاميسا في زمن المجيء

روما، الخميس 18 ديسمبر 2008 (ZENIT.org)

ننشر في ما يلي النص الكامل للعظة الثانية في زمن المجيء التي ألقاها الأب رانييرو كانتلاميسا الكبوشي، واعظ الدار الحبرية، بتاريخ 12 ديسمبر في كابيلا أم الفادي في الفاتيكان بحضور البابا بندكتس السادس عشر وأعضاء الكوريا الرومانية.

"الله يدعونا إلى الاتحاد مع ابنه يسوع المسيح"

في سبيل الالتزام بنهج القراءة الإلهية lectio divina الذي يوصي به سينودس الأساقفة الأخير، دعونا نبدأ بالإصغاء إلى كلمات القديس بولس التي نود التفكير بها خلال هذا التأمل:

"ولكن، ما كان لي من ربح، فقد اعتبرته خسارة، من أجل المسيح. بل إني أعتبر كل شيء خسارة، من أجل امتياز معرفة المسيح يسوع ربي؛ فمن أجله تحملت خسارة كل شيء، وأعتبر كل شيء نفاية، لكي أربح المسيح ويكون لي فيه مقام، إذ ليس لي بري الذاتي القائم على أساس الشريعة، بل البر الآتي من الإيمان بالمسيح، البر الذي من عند الله على أساس الإيمان. وغايتي أن أعرف المسيح وقوة قيامته والشركة في آلامه؛ والتشبه به في موته، على رجاء القيامة من بين الأموات! لستُ أدعي أني قد نلت الجائزة أو بلغتُ الكمال. ولكني أسعى لاقتنائها، كما أن المسيح يسوع قد اقتناني" (في 3: 7، 12).

1.    "غايتي أن أعرف المسيح…"

لقد تأملنا في عظتي الأولى في اهتداء بولس الذي وصف بالتوبة، أي عودة الذهن، في طريقة فهم الخلاص. ولكن بولس لم يهتدِ إلى عقيدة أي إلى التبرير بالإيمان، بل اهتدى إلى إنسان! وقبل أن يكون الأمر عودة للفكر، كان اهتداء للقلب، ولقاءاً مع إنسان حي. كثيراً ما نستخدم عبارة "صعقة الحب" للإشارة إلى محبة أسقطت منذ اللقاء الأول جميع الحواجز؛ وهذا التعبير المجازي يتوافق كثيراً مع وضع القديس بولس. دعونا نرى كيف يظهر اهتداء القلب هذا في النص الذي أصغينا إليه. يتحدث بولس عن "الخير السامي" (hyperechon) المتمثل في معرفة المسيح. وإننا نعلم بأن المعرفة في هذه الحالة وفي كل الكتاب المقدس لا تقتصر على مجرد اكتشاف فكري، وتكوين فكرة عن أمر ما، بل تشير إلى رابط حيوي عميق وهو التواصل مع الأمر الذي تمت معرفته. وهذا ينطبق أيضاً على عبارة "غايتي أن أعرف المسيح وقوة قيامته والشركة في آلامه". ومن البديهي أن "معرفة الشركة في آلامه" لا تعني تكوين فكرة عنها بل اختبارها.

حدث لي أن قرأت هذا النص من الإنجيل في فترة معينة من حياتي حيث وجدت نفسي أنا أيضاً أمام خيار معين. انهمكت في دراسة المسيح، وقرأت وكتبت الكثير عن هذا الموضوع. إلا أنني عندما قرأت "غايتي أن أعرفه"، فهمت فجأة بأن هذا الضمير البسيط كان ينطوي على الحقيقة عن يسوع المسيح أكثر من جميع الكتب التي قرأتها وكتبتها عنه. لقد أدركت أن المسيح لم يكن بالنسبة للرسول مجموعة عقائد وبدع ومبادئ بل كان إنساناً حياً، موجوداً وواقعياً، يمكننا الإشارة إليه بضمير بسيط كما لو كنا نتحدث عن شخص حاضر نشير إليه بإصبعنا.

إن الوقوع في هذا الحب له تأثير مزدوج. فهو من جهة يحدث تحولاً مجبراً إلى إنسان واحد مع التركيز على الشخص المحبوب مما يطرح كل الباقي جانباً. ومن جهة أخرى فإنه يمنح القدرة على تحمل كل شيء من أجل هذا الشخص المحبوب، وقبول خسارة كل شيء. ونلاحظ بأن هذين التأثيرين يتحققان بالكامل عندما يكتشف الرسول المسيح: "فمن أجله تحملت خسارة كل شيء، وأعتبر كل شيء نفاية".

لقد قبل خسارة امتيازاته كعبراني ابن عبرانيين، وتقدير ومحبة أسياده ومواطنيه، وحقد وعطف جميع الذين لم يفهموا كيف تاه شخص مثله في طائفة متعصبين لا يصلحون لشيء. وتتضمن الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس السلسلة المؤثرة من الآلام التي قاساها من أجل المسيح (2 كور 11: 24، 28).

إن الرسول وجد هو أيضاً الكلمة التي تشمل كل المعاني وهي"المسيح يسوع قد اقتناني". يمكننا كذلك ترجمتها على الشكل الآتي: المسيح يسوع قد أدركني، جذبني أو "أسرني" بحسب تعبير إرميا. والعشاق لا يتمالكون أنفسهم كالعديد من الصوفيين في ذروة هذيانهم. وبالنسبة إلي لا أجد أي صعوبة في تصور بولس جذلاً بعد اهتدائه، وحيداً أمام الأشجار أو على شاطئ البحر، يصرخ بما سيكتبه لاحقاً إلى أهل فيليبي "إن المسيح قد اقتناني! إن المسيح قد اقتناني! ونحن نعرف جيداً هذه الكلمات الجوهرية والزاخرة بالمعاني التي قالها الرسول والتي يتمنى كل منا تكرارها في حياته: "فالحياة عندي هي المسيح" (في 1، 21)، و"فيما بعد لا أحيا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2، 20).

2.    "في المسيح"

بغية الالتزام ببرنامج العظات المحدد، أود الآن تسليط الضوء على المعاني التي يحملها فكر بولس حول هذه النقطة للاهوت اليوم أولاً ومن ثم لحياة المؤمنين الروحية.

إن تجربة بولس الشخصية أرشدته إلى رؤية شاملة عن الحياة المسيحية التي يعبر عنها مستخدماً عبارة "في المسيح". وتتكرر هذه الصيغة 83 مرة في مدونات بولس، باستثناء العبارة المشابهة لها "مع المسيح" والعبارات الضميرية النظيرة لها "فيه" أو "في من".

من شبه المستحيل ترجمة محتوى هذه العبارات المفعم بالمعاني بمجرد كلمات. إن حرف الجر "في" يحمل دلالة تارة مكانية وطوراً زمنية (عندما يموت المسيح ويقوم بعدها)، أو حتى دلالة أدويّة (بواسطة المسيح). فهو يرسم المناخ الروحي الذي يعيش ويعمل فيه المسيحي. وبولس يطبق على المسيح ما قاله في كلمته عن الله في الأريوباغوس في أثينا نقلاً عن شاعر وثني: "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجَد" (أع 17، 28). ولاحقاً يعبر الإنجيلي يوحنا عن الرؤية عينها من خلال صورة "الثبات في المسيح" (يو 15: 4، 7).

ومن يتحدث عن العلم البولسي يتلاعب بهذه التعابير. فالجمل مثل "ذلك أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم مع نفسه" (2 كور 5، 19) هي شمولية إذ لا تترك شخصاً أو شيئاً خارج المسيح. كما أن القول بأن المؤمنين "القديسين المدعوين" (رو 1، 7) يساوي بالنسبة إلى الرسول القول بأنهم مدعوون "إلى الشركة مع ابنه يسوع ربنا" (1 كور 1، 9). حالياً وحتى في قلب العالم البروتستانتي بدأ حقاً اعتبار الرؤية المركبة في عبارة "في المسيح" أو "في الروح" أكثر أهمية ودلالة على فكر بولس من عقيدة التبرير بالإيمان عينها.

قد تكون سنة القديس بولس الفرصة المناسبة من أجل إنهاء فترة من المناقشات والنزاعات المتعلقة بالماضي أكثر من الحاضر، وافتتاح فصل جديد في استخدام فكر بولس. لا بد من إعادة استخدام رسائله، ابتداءً من الرسالة إلى أهل روما، وإدراك الغاية الأولى التي كتبت من أجلها، والتي لم تكن طبعاً تزويد الأجيال المستقبلية بميدان تطبق فيه ذكاءها اللاهوتي، بل ميدان تبني عليه إيمان الجماعة التي كثيراً ما تكون مؤلفة من أشخاص بسطاء وأميين. وقد كتب إلى أهل روما: "فإني أشتاق أن أراكم لأحمل إليكم موهبة روحية لتثبيتكم، أي ليشجع بعضنا بعضاً بالإيمان المشترك، إيمانكم وإيماني" (رو 1: 11، 12).

3.    تخطي الإصلاح وحركة الإصلاح

أعتقد أنه آن الأوان للتفكير أبعد من الإصلاح وأبعد من حركة الإصلاح. فرهان بداية الألفية الثالثة لم يعد الرهان عينه في بداية الألفية الثانية عندما حدث الفصل بين الشرق والغرب. كما أنه لم يعد هو نفسه في نصف هذه الألفية عندما تم الانفصال بين الكاثوليك والبروتستانت ضمن المسيحية الشرقية. ومثالاً على ذلك، فإن المشكلة لم تعد مشكلة لوثر حول معرفة كيفية تحرير الإنسان من الشعور بالذنب الذي يدمره بل كيفية إعطاء الإنسان مجدداً معنى الخطيئة الحقيقي الذي اختفى تماماً. فما نفع الاستمرار في مناقشة "كيفية تبرير الكافر"، عندما يكون الإنسان مقتنعاً بأنه ليس بحاجة إلى أي تبرير بل يعلن بكبرياء: "أنا أتهم نفسي اليوم، وأبرئ نفسي، أنا الإنسان"؟ (1).

أعتقد أن جميع المناقشات القديمة بين الكاثوليك والبروتستانت حول الإيمان والأعمال أدت بنا إلى فقدان رؤية جوهر الرسالة البولسية بإشاحة نظرنا عن المسيح للتركيز على العقائد عن المسيح، أي عملياً بإشاحة نظرنا عن المسيح والتركيز على الإنسان. وما يود الرسول إعلانه في الفصل الثالث من الرسالة إلى أهل روما هو أننا لسنا مبررين بالإيمان، بل إننا مبررون بالإيمان في المسيح؛ ولسنا مبررين بالنعمة بل بنعمة المسيح. وهنا يبرز التشديد على المسيح أكثر منه على الإيمان والنعمة.

وبعد أن تم تقديم البشرية في الفصلين الأولين من الرسالة بوضعها العالمي المتمثل في الخطيئة والضلال، كانت للرسول الشجاعة النادرة للإعلان بأن هذا الوضع قد شهد الآن تغييراً جذرياً "بالفداء بالمسيح يسوع"، "بطاعة الواحد" (رو 3، 24؛ 5، 19). إن الإعلان الذي يعتبر أن هذا الخلاص يتم بالإيمان وليس بالأعمال هو في غاية الأهمية إلا أنه ثانوي وليس أولي. لقد أخطأنا عندما حولنا ما كان بالنسبة للرسول إعلاناً كبيراً، كونياً وعالمياً إلى مسألة منهجية ضمن المسيحية.

إن رسالة الرسول حول اعتبار المسيح نقطة مركزية هي اليوم في غاية الأهمية. وقد أدى العديد من العوامل إلى وضع شخصه بين قوسين. وبالتالي لا يجري الحديث عن المسيح في أي من الحوارات الثلاثة الأكثر حيوية القائمة اليوم بين الكنيسة والعالم. لا يأتي ذكره في الحوار بين الإيمان والفلسفة لأن الفلسفة تبحث في مفاهيم ماورائية وليس في حقائق تاريخية كما هو شخص يسوع الناصري؛ ولا في الحوار مع العلم الذي لا يناقش سوى وجود أو عدم وجود الله الخالق، ومشروع التقدم؛ ولا في الحوار بين الأديان حيث يتم الاهتمام بما تستطيع الديانات القيام به مع بعضها البعض باسم الله من أجل خير البشرية.

إضافةً إلى ذلك، إذا سألنا المؤمنين بما يؤمنون به، قد يجيب البعض منهم بالقول: "أؤمن بأن المسيح قد مات من أجل خطاياي وقام من بين الأموات من أجل تبريري". وقد يجيب البعض الآخر: "أؤمن بأن الله موجود وأؤمن بالحياة بعد الموت. ومع ذلك فإن الإيمان المخلص هو فقط بالنسبة إلى بولس وكل العهد الجديد، الإيمان في موت وقيامة المسيح: "إن اعترفت بفمك بيسوع رباً، وآمنت في قلبك بأن الله أقامه من الاموات، نلت الخلاص" (رو 10، 9).

لقد عُقدت الشهر الفائت في الفاتيكان في "كازينا بيوس الرابع" ندوة حملت عنوان "رؤى علمية حول تطور الكون والحياة" برعاية الأكاديمية الحبرية للعلوم. وقد شارك فيها أبرز علماء العالم. خلال برنامجي التلفزيوني حول الإنجيل الذي يعرض مساء كل سبت، كان لي حديث مع أحد المشاركين وهو البروفسور فرنسيس كولينز، مدير مجموعة البحث التي تمكنت عام 2000 من حل الجينوم البشري بالكامل. ولمعرفتي بأنه مؤمن طرحت عليه السؤال التالي: "هل آمنت أولاً بالله أو بيسوع المسيح؟" أجابني قائلاً: "حتى سن الـ25 سنة، كنت ملحداً ولم تكن لي أي تنشئة دينية. كنت عالماً ينظر إلى جميع الأمور كمعادلات وقواعد فيزيائية. ولكنني كطبيب بدأت أرى الأشخاص يواجهون مسألة الحياة والموت، مما دفعني إلى التفكير بأن إلحادي لم يكن فكرة راسخة. فرحت أقرأ نصوصاً عن الحجج العقلية للإيمان التي لم أكن أعرفها. وقد توصلت أولاً إلى الاقتناع بأن الإلحاد كان البديل الأقل قبولاً وتوصلت تدريجياً إلى الاستنتاج بأنه لا بد من وجود الله الذي خلق كل شيء إلا أنني لم أكن أعرف ما كانت طبيعته".

من المفيد جداً أن نقرأ في كتابه "كلام الله" كيف تخطى هذه الطريق المسدودة:

"كنت أجد صعوبة في بناء جسر نحو الله. وكلما كنت أتعرف إليه، كلما كانت نقاوته وقداسته تبدوان لي بعيدتي المنال. في هذا الجو من الإحباط المتزايد، برز لي شخص يسوع. سنة كاملة انقضت على اتخاذ قراري بالإيمان بالله، ودُعيت الآن إلى التفكير. في يوم خريفي وفيما كنت أتنزه في الجبال خلال رحلتي الأولى إلى غرب ميسيسيبي، بهرني جلال وجمال خلق الله. عندئذ علمت أن بحثي قد انتهى. وفي صباح اليوم التالي، جثوت على ركبتي على العشب الندي عند شروق الشمس وسلمت نفسي ليسوع المسيح" (2).

هذا الأمر يذكرني بكلام المسيح عندما قال بأنه ما من أحد يأتي إلى الآب إلا من خلالي. فقط من خلاله يتم بلوغ الله والإيمان به. بفضل استعادة هذا الإيمان، كان وقت اكتشاف الجينوم البشري وفقاً له تجربة تمجيد علمي وسجود ديني.

يدلنا اهتداء هذا العالم على أن الحدث الذي تم في دمشق يتجدد في التاريخ؛ فالمسيح هو نفسه اليوم وآنذاك. ليس من السهل أبداً بالنسبة إلى عالم، وبخاصة إذا كان عالماً أحيائياً، أن يقول اليوم علناً بأنه مؤمن كما لم يكن ذلك سهلاً بالنسبة إلى شاول: إذ يبرز خطر التعرض "للطرد من الهيكل". وهذا ما حصل تماماً للبروفسور كولينز إذ تعرض لانتقادات العديد من العلمانيين بسبب إيمانه.

4.    من وجود الله إلى وجود المسيح

يبقى لي أن أضيف شيئاً في معنى مثال بولس في حياة المؤمنين الروحية. إن أحد أكثر المواضيع التي تم تناولها في الروحانية الكاثوليكية هو موضوع "فكر وجود الله" (3). وقد نشرت العديد من الدراسات حول هذا الموضوع من القرن السادس عشر ولغاية يومنا الحالي. وتقول إحداها: "يجب على المسيحي الصالح أن يعتاد على هذه الممارسة المقدسة في كل زمان ومكان. فإنه عندما يستفيق يجب أن يوجه روحه فوراً إلى الله، ويتكلم معه كأبيه الحبيب. وعندما يجوب الشوارع، يجب أن يبقي عيني جسده منخفضتين ومتواضعتين ويرفع عيني روحه نحو الله" (4).

لا بد من التمييز بين "فكر وجود الله" و"الشعور بوجوده" إذ أن الأول يتوقف علينا ولكن الثاني هو هبة النعمة التي لا تتوقف علينا (ونعلم بأن "الشعور بوجود" الله، كان بالنسبة إلى القديس غريغوريوس النيصي شبه مرادف للتجربة الصوفية).

وهذا الأمر عبارة عن رؤية لاهوتية محض تدفع بعض الكتاب للإرشاد إلى "وضع إنسانية المسيح المقدسة جانباً". إلا أن القديسة تريزيا الأفيلية تعارض بشدة هذه الفكرة التي تظهر مجدداً ودورياً منذ أيام أوريجانوس في قلب المسيحية الشرقية والغربية. ولكن روحانية وجود الله تستمر بعده في تركيزها على اللاهوت، مع جميع المشاكل والآراء المتعارضة التي تنشأ عنها والتي يوضحها لكتاب الذين يتحدثون عنها (5).

بإمكان فكر القديس بولس أن يساعدنا على تخطي الصعوبة التي أدت إلى انحطاط روحانية وجود الله. فهو يتحدث دوماً عن وجود الله "في المسيح"، هذا الوجود الذي لا ينعكس والذي لا يمكن لأحد تجاوزه. لا توجد أي مرحلة في الحياة نتمكن فيها من تخطي المسيح أو تجاوزه. فالحياة المسيحية هي "حياة مستورة مع المسيح في الله" (كول 3، 3).

والتركيز الذي يوليه بولس على المسيح لا يخفف الأفق الثالوثي للإيمان بل يبرزه لأن بولس يعتقد بأن كل حركة تنطلق من الآب وترجع إليه، من خلال المسيح في الروح القدس. كما أنه يستخدم في كتاباته عبارة "في الروح" بدلاً من عبارة "في المسيح".

أما ضرورة تخطي إنسانية المسيح لبلوغ كلمة الله الأبدي والألوهية مباشرةً فقد نشأت عن نقص في الاهتمام بقيامة المسيح. وقد تم النظر إلى القيامة بمعناها التبريري، كدليل على ألوهية يسوع وليس بمعناها السري كبداية حياته "بحسب الروح" التي بفضلها تظهر الآن بشرية المسيح بوضعها الروحي والحالي والدائم الوجود.

وماذا ينتج عن ذلك عملياً؟ أننا نتمكن من القيام بكل شيء "في المسيح" و"مع المسيح"، أن نأكل ونشرب ومهما نفعل، كما يقول الرسول (1 كور 10، 31). إن القائم  من بين الأموات ليس موجوداً فقط لأننا نعتقد ذلك بل لأنه هو حقاً إلى جانبنا؛ ليس علينا نحن أن نتناول حياته الأرضية ونستعرض مراحل حياته في عقولنا وخيالنا (كما نجهد أنفسنا في القيام بذلك في تأمل "أسرار حياة المسيح")؛ ولكن المسيح القائم من بين الأموات هو الذي يأتي إلينا. لا ينبغي علينا نحن أن نصبح معاصري المسيح في خيالنا؛ بل أن المسيح هو الذي يصبح معاصرنا حقاً. "أنا معكم دائماً حتى نهاية العالم" (وفي هذا الصدد، لماذا لا يقوم حالاً بفعل إيمان؟ لأنه حاضر هنا في هذه الكنيسة، حاضر أكثر من أي واحد منا وهو يبحث عن نظرة قلوبنا إليه التي تفرحه عندما يجدها).

إن الصلاة التي نقدمها للقديس باتريك تعكس بشكل رائع رؤية الحياة المسيحية هذه: "إن المسيح معي، المسيح أمامي، المسيح ورائي، والمسيح في! إن المسيح تحتي، المسيح فوقي، المسيح على يميني، المسيح على يساري!" (6).

إن كلمات القديس لويس ماري غرينيون دي مونفور تكتسب دلالة جديدة وأكثر عمقاً إن طبقنا على "روح المسيح" ما يقوله عن "روح مريم":

"يجب أن نسلم أنفسنا لروح المسيح لكي يحركنا ويرشدنا بالطريقة التي يريدها. كما يجب أن نضع أنفسنا بين يديه، كأداة بين يدي العامل، كعود بين يدي عازف ماهر. ويجب أن نتلاشى فيه كحجر نرميه في البحر: "يمكن القيام بذلك بكل بساطة، بلمح البصر، بحركة إرادية صغيرة أو بشكل شفهي" (7).

5.    أنسى الماضي

نستنتج بالعودة إلى الفصل الثالث من الرسالة إلى أهل فيليبي بأن القديس بولس يختتم اعترافاته بالإعلان التالي: "أيها الإخوة، أنا لا أعتبر نفسي قد نلت الجائزة، ولكني أفعل أمراً واحداً: أنسى ما هو وراء وأتقدم إلى ما هو أمام، إذ أسعى إلى الهدف، لنوال تلك الجائزة التي يدعونا الله إليها دعوة عليا في المسيح يسوع" (في 3: 13، 14).

"نسيان الماضي". ما هو الماضي؟ أهو ماضي الفريسي الذي تحدث عنه سابقاً؟ كلا إنه ماضي الرسول في الكنيسة! إن الربح الذي يجب اعتباره الآن خسارة هو ربح آخر: إنه اعتباركل شيء خسارة من أجل المسيح. لقد كان من البديهي التفكير: "كم كانت شجاعة بولس عظيمة في تخليه عن عمل الحاخام الملتزم بطائفة من الجليليين! وما هي الرسائل التي كتبها! وكم قام بأسفار وكم أسس كنيسة!"

لقد ارتبك الرسول من خطر وضع "عدالته" بينه وبين المسيح، هذه العدالة التي تنشأ عن أعماله – الأعمال المنجزة من أجل المسيح – وقد كانت ردة فعله قوية فقال بأنه ليس يدعي ببلوغه الكمال. وقبيل موته كان يقوم القديس فرنسيس الأسيزي بوضع حد لكل محاولة للإرضاء الذاتي بالقول: "فلنبدأ أيها الإخوة بخدمة الرب لأننا لم نقم بأي شيء حتى الآن" (8).

هذا هو الاهتداء الذي يحتاج إليه جميع الذين تبعوا المسيح وعاشوا في خدمته في الكنيسة! إنه اهتداء خاص لا يقوم على التخلي عن الشر ولكن إلى حد ما على التخلي عن الخير! أي على الانفصال عن كل ما قمنا به مكررين على أنفسنا بحسب اقتراح المسيح بأننا: "عبيد غير نافعين، قد عملنا ما كان واجباً علينا" (لو 17، 10).

إن فعل التخلص من كل ادعاء بروح فقر واتضاع هو أفضل طريقة للاستعداد للميلاد. وتذكرنا بذلك حكاية ميلاد رائعة أرغب في قصها مجدداً. يُحكى أن من بين الرعاة الذين جاؤوا ليلة الميلاد للسجود للطفل، كان هناك راع فقير جداً لم يستطع إهداء شيء ليسوع فانتابه شعور بالخجل. وكان الرعاة جميعاً يتدافعون لدى وصولهم إلى المغارة من أجل تقديم الهدايا. لكن مريم لم تكن تعلم كيف تأخذ جميع الهدايا لأنها كانت تحمل الطفل. عندئذ نظرت إلى الراعي، وعندما رأته فارغ اليدين وضعت يسوع في عهدته. لقد كان سعيد الحظ لأنه فارغ اليدين، وهكذا سيكون حظنا نحن أيضاً.

ملاحظات

(1)            جان بول سارتر (الشيطان والرب الصالح)

(2)            ف. كولينز (كلام الله): عالم يقدم حجج الإيمان، ص. 219 – 255.

(3)            م. دوبوي، حضور الله، في د. روح. 12، 2107- 2136.

(4)            ف. أرياس (+1605) نقله دوبوي، 2111.

(5)            دوبوي 2121: "ما لم يتم التمييز بين الوجود الكلي لله وجوهره، فإن وجود الله لا يضيف ذكرى الله، بل جهداً خيالياً"

(6)            "المسيح معي، المسيح أمامي، المسيح ورائي، المسيح تحتي، المسيح فوقي، المسيح على يميني، المسيح على يساري".

(7)            راجع غرينيون دو مونفور، الدراسة حول التعبد الحقيقي للعذراء القديسة، رقم 257، 259.

(8)            تشيلانو، Vita Prima، 103، (مصادر فرنسيسكانية، رقم 500).  

        

ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)