الفقرة 4- الخالق

 

الفصل الأول: أؤمن بالله واحد، المقام الأول من 279-324

279- «في البدء خلق الله السماء والأرض» (تك1:1). هذه الكلمات الاحتفالية تتصدر الكتاب المقدس. وقانون الإيمان يكرر هذه الكلمات معترفاً بالله الآب الكلي القدرة على أنه «خالق السماء والأرض»[i]، «الكون المرئي وغير المرئي»[ii]. فسنتكلم إذاً على الخالق أولاً، ثم على خلقه، وأخيراً على عثرة الخطيئة التي أتى يسوع ابن الله ليخلصنا منها.

280- الخلق هو أساس «جميع تصاميم الله الخلاصية»، «بدءُ تاريخ الخلاص»[iii]الذي بلغ ذروته في المسيح. وبعكس ذلك، فسر المسيح هو النور الحاسم على سر الخلق؛ إنه يكشف عن الهدف الذي من أجله «في البدء خلق السماء والأرض» (تك1:1): منذ البدء كان في نظر الله مجد الخلق الجديد في المسيح[iv].

281- ولهذا نبدأ قراءات الليلة الفصحية، أي الاحتفال بالخلق الجديد في المسيح، بقصة الخلق؛ وقصة الخلق هذه تقوم بها دائماً، في الليترجيا البيزنطية، القراءة الأولى من قراءات عشية الأعياد السيدية الكبرى. وكان تعليم الموعوظين للمعمودية، على حد ما يرويه الأقدمون، ينهج النهج نفسه[v].

1ً. التعليم المسيحي في موضوع الخلق

282- للتعليم المسيحي في موضوع الخلق أهمية رئيسية. إنه يُعني بأُسس الحياة البشرية والمسيحية نفسها: إذ إنه يصرح بجواب الإيمان المسيحي عن السؤال البدائي الذي تساءله البشر في جميع العصور:«من أين نأتي؟»، «إلى أين نذهب؟»، «ما هو مصدرنا؟»، «ما هي غايتنا؟»، «من أين أتى وأين ينتهي كل موجود؟». والسؤالان، السؤال عن المصدر والسؤال عن الغاية، لا ينفصل أحدهما عن الآخر. إنهما تقريريان بالنسبة إلى معنى حياتنا وسلوكنا وتوجيههما.

283- كانت مبادئ العالم والإنسان موضوع أبحاث علمية كثيرة أغنت إغناء عظيماً معارفنا بالنسبة إلى عمر الكون وأحجامه، وصيرورة الأنواع الحية، وظهور الإنسان. هذه الاكتشافات تدعونا إلى زيادة في النظر إلى عظمة الخالق بإعجاب، وإلى حمده من أجل صنائعه ومن أجل ما يمنح العلماء والباحثين من الفهم والحكمة. هؤلاء يستطيعون أن يقولوا مع سليمان:«وَهَبني علماً يقيناً بالكائنات حتى أعرف نظام العالم وفاعلية العناصر (…) لأن الحكمة مُهندسة كل شيء هي علمتني» (حك17:7-21).

284- إن الفائدة الكبرى المعلقة على هذه الأبحاث يزيد الحاجة إلى تطلبها، زيادةً شديدة، سؤال من نظام آخر يفوق مجال العلوم الطبيعية الخاص. فالموضوع لا ينحصر في معرفة متى وكيف ظهر الكون مادياً، ولا متى ظهر الإنسان، بل بالأحرى في اكتشاف معنى مثل هذا الصدور: هل تتحكم به الصُّدفة، قدرٌ أعمى، ضرورةٌ غُفل، أو كائن أعلى، عاقلٌ وصالح، يُدعى الله. وإذا كان العالم صادراً عن حكمة الله وصلاحه، ففيمَ الشر؟ ما مصدره؟ مَن المسؤول عنه؟ وهل من تحرر منه؟

285- الإيمان المسيحي قُوبل منذ ظهوره بأجوبة تخالف جوابه في موضوع المبادئ. هكذا فإننا نجد في الأديان والثقافات القديمة أساطير كثيرة في موضوع المبادئ. فقد قال بعض الفلاسفة بأن الكل هو الله، بأن العالم هو الله، أو بأن صيرورة العالم هي صيرورة الله (حلولية)؛ وقال آخرون بأن العالم فيض حتمي من الله، جارٍ من هذا الينبوع وعائد إليه؛ وأثبت آخرين وجود مبدأين خالدين، الخير والشر، النور والظلمة، في صراع دائم (ثنائية، مانوية)؛ وفي بعض هذه التصورات أن العالم (على الأقل العالم المادي) قد يكون شريراً، ثمرة سقطةٍ، ويجب من ثمَّ نبذه أو الترفع عليه (غنوصية)؛ ويُسلم آخرون بأن العالم من صُنع الله، ولكن على طريقة الساعاتي الذي جعل حبله على غاربه بعد إذ صنعه (تأليه طبيعي)؛ ورفض أخيراً آخرون مبدأ متسام للعالم، ويرون فيه مجرد تفاعل لمادةٍ وُجدت على الدوام (مادية). جميع هذه المحاولات تشهد بتواصل مسألة المبادئ وشمولها. وهذا التحري هو من خواص الإنسان.

286- مما لا شك فيه أن العقل البشري يستطيع أن يجد جواباً عن مسألة المبادئ. فمن الممكن أن يُعرف وجود الله الخالق معرفة يقين عن طريق أعماله بفضل نور العقل البشري[vi]، وإن جعل الضلال هذه المعرفة، في أحيان كثيرة، غامضة ومشوَّهة. ولهذا يبادر الإيمان ليثبت العقل ويُنيره في تفهم هذه الحقيقة تفهماً صحيحاً:«بالإيمان نعلم أن العالم قد أُنشئ بكلمة الله بحيث إن ما يُرى صدر عما لا يُرى» (عب3:11).

287- إن حقيقة الخلق هي بهذه الأهمية للحياة البشرية كلها بحيث الله أراد، في عطفه، أن يكشف لشعبه عن كل ما معرفته خلاصية في الموضوع. وعلاوةً على المعرفة الطبيعية التي يستطيع كل إنسان أن يعرف بها الخالق[vii]، كشف الله مرحلياً لإسرائيل عن سر الخلق، هو الذي اختار الآباء، وأخرج إسرائيل من مصر، والذي، باختياره إسرائيل، خلقه ونشأه[viii]، وهو يكشف عن نفسه على أنه يملك جميع شعوب الأرض، والأرض كلها، على أنه وحده الذي «صنع السماء والأرض» (مز15:115؛ 8:124).

288- وهكذا فالوحي بالخلق لا ينفصل عن الوحي بعهد الله الواحد لشعبه وتحقيق ذلك العهد. لقد أوحى بالخلق وكأنه الخطوة الأولى نحو هذا العهد، وكأنه الشهادة الأولى الشاملة لمحبة الله الكلية القدرة[ix]. ولهذا فحقيقة الخلق يُعبر عنها بشدة متصاعدة في رسالة الأنبياء[x]، في صلاة المزامير[xi] والليترجيا، في تأملات حكمة[xii] الشعب المختار.

289- بين جميع أقوال الكتاب المقدس في الخلق تحتل فصول سفر التكوين الثلاثة الأولى محلاً فريداً. من الناحية الأدبية قد يكون لهذه النصوص مصادر مختلفة. وقد جعلها الكتّاب الملهمون في فاتحة الكتاب المقدس بحيث إنها تعبر، بلغتها الإحتفالية، عن حقائق الخلق، عن مصدره وانتهائه في الله، عن نظامه وجودته، عن دعوة الإنسان، وأخيراً عن مأساة الخطيئة ورجاء الخلاص. عندما تُقرأ هذه الأقوال على ضوء المسيح، في وحدة الكتاب المقدس وفي تقليد الكنيسة الحي، تظل الينبوع الرئيسي لتعليم أسرار "البداية": الخلق والسقوط والوعد بالخلاص.

2ً. الخلق – عمل الثالوث

290- «في البدء خلق الله السماء والأرض»: ثلاثة أمور أُعلنت في هذه الكلمات الأولى من الكتاب: الله الأزلي بدءاً لكل ما يوجد خارجاً عنه. هو وحده خالق (الفعل «خلق»، وبالعبرانية «برا»، فاعله الله دائماً). كل ما يُوجد (المعبَّر عنه بالقول «السماء والأرض») يتعلق بالذي يمنحه الوجود.

291- «في البدء كان الكلمة (…) وكان الكلمة الله (…) به كُون كل شيءٍ وبدونه لم يكن شيئاً مما كُون» (يو1:1-3). فالعهد الجديد يكشف عن الله خلق كل شيء بالكلمة الأزلية، ابنه الحبيب:«ففيه خُلق جميع ما في السماوات وعلى الأرض (…) به وله خُلق كل شيء. إنه قبل كل شيء وفيه يثبت كل شيء» (كول16:1-17). وإيمان الكنيسة يُثبت أيضاً عمل الروح القدس الخلاق: إنه «واهب الحياة»[xiii]، «الروح الخالق» («هلم أيها الروح الخالق»)، «ينبوع كل خير»[xiv].

292- إن عمل الابن والروح الخَلقي، الذي أشير إليه في العهد القديم[xv]، وكُشف عنه في العهد الجديد، الواحد مع عمل الآب في غير انفصال، وقد أثبتته بوضوح قاعدة إيمان الكنيسة:«لا يوجد إلا إله واحد (…) هو الآب، وهو الله، وهو الخالق، وهو الصانع، وهو المنظم. صنع كل شيء بنفسه، أي بكلمته وبحكمته»[xvi]، «بالابن والروح» اللذين هما بمثابة «يديه»[xvii]. الخلق هو عمل الثالوث الأقدس المشترك.

3ً. «العالم خُلق لمجد الله»

293- إنها حقيقة أساسية لا يكف الكتاب والتقليد عن تعليمها والاحتفال بها:«خُلق العالم لمجد الله»[xviii]. ويُفسر ذلك القديس بونفنتوره بقوله: لقد خلق الله كل شيء «لا لزيادة مجده، بل لإظهار ذلك المجد والإشراك فيه»[xix]. فما من داعٍ يدعو الله إلى الخلق سوى محبته وجودته: «مفتاح المحبة هو الذي فتح كفه لإنشاء الخلائق»[xx]. والمجمع الفاتيكاني الأول يشرح:

«هذا الإله الواحد الحقيقي، في صلاحه وبقوته الكلية القدرة، لا لزيادة سعادته ولا لتحصيل كماله، بل لإظهاره بالخيرات التي يوفرها لخلائقه، وفي التصميم الأكثر حرية أيضاً، خلق، منذ بدء الزمان، كلتا الخليقتين، الروحانية والجسدانية»[xxi].

294- مجد الله هو أن يتحقق هذا الظهور لصلاحه وهذه المشاركة فيه اللذين من أجلهما خُلق العالم. فأن يجعلنا «أبناء بالتبني بيسوع المسيح: هذا ما كان تصميم إرادته العطوف لتسبحه مجد نعمته» (أف5:1-6): «إذ إن مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان، هي رؤية الله: فإذا كان الكشف عن الله بالخلق وفّر الحياة لجميع الكائنات التي تعيش على الأرض، فكم بالأحرى يوفر ظهور الآب بالكلمة الحياة للذين يرون الله»[xxii]. إن غاية الخلق القصوى هي في أن يصبح الله «خالق جميع الكائنات»، أخيراً «كلاًّ في الكل» (1كو28:15)، «موفراً مجده وسعادتنا معاً»[xxiii].

4ً. سرُّ الخَلق

الله يخلق بحكمة ومحبة

295- نحن نؤمن أن الله خلق العالم بحسب حكمته[xxiv]. فالعالم ليس من صنع إحدى الحتميات، صنع قدر أعمى أو صدفة. نحن نؤمن أنه يصدر عن إرادة حرة لله الذي أراد أن يُشرك الخلائق في كينونته وحكمته وجودته:«لأنك أنت خلقت جميع الأشياء، وبمشيئتك كانت وخُلقت» (رؤ11:4). «ما أعظم أعمالك يارب، لقد صنعت جميعها بالحكمة» (مز24:104). «الربُّ صالحُ للجميع ومراحمه على كل صنائعه» (مز9:145).

الله يخلق «من العدم»

296- نحن نؤمن أن الله ليس بحاجة إلى شيء سابق الوجود، ولا إلى عون لكي يخلق[xxv]. والخلق كذلك ليس انبثاقاً حتمياً من جوهر الله[xxvi]. الله يخلق خلقاً حراً «من العدم»[xxvii].

«هل يكون الأمر عجيباً لو أخرج الله العالم من مادة موجودة؟ عندما يُعطي صانعٌ بشريٌ مادة مافإنه يصنع بها ما يشاء. أما قدرة الله فإنها تظهر بوضوح عندما ينطلق من العدم لكي يصنع كل ما يريد»[xxviii].

297- الإيمان بالخلق «من العدم» مثبتٌ في الكتاب كحقيقةٍ مليئةٍ بالوعد والرجاء. وهكذا فأم الأبناء السبعة تحثهم على الاستشهاد:

«إني لست أعلم كيف نشأتم في أحشائي، ولا أنا منحتكم الروح والحياة، ولا أحكمت تركيب أعضائكم؛ على أن خالق العالم الذي جبل تكوين الإنسان وأبدع لكل شيء تكوينه سيُعيد إليكم برحمته الروح والحياة، لأنكم الآن تبذلون أنفسكم في سبيل شريعته (…). أنظر، يا ولدي، إلى السماء والأرض وإذا رأيت كُلَّ ما فيهما فأعلم أن الله صنع الجميع من العدم، وكذلك وُجِدَ جنس البشر» (2مك22:7-23، 28).

298- وبما أن الله يستطيع أن يخلق من العدم، فهو يستطيع أيضاً، بالروح القدس، أن يمنح الخطأة حياة النفس خالقاً فيهم قلباً طاهراً[xxix]، والأموات وحياة الجسد بالقيامة، هو الذي «يُحيي الأموات ويدعو ما هو غير كائن إلى أن يكون» (17:4). وبما أنه استطاع بكلمته أن يُطلع النور من الظلمات[xxx]، فهو يستطيع أيضاً أن يمنح نور الإيمان لمن يجهلونه[xxxi].

الله يخلق عالماً منظماً وحسناً

299- إذا كان الله يخلق بحكمة، فخلقه يكون منظماً:«رتبت كل شيء بمقدارٍ وعددٍ ووزن» (حك11: 21). وإذ جرى الخلق في الكلمة الأزلي وبالكلمة الأزلي «صورة الله غير المنظورة» (كو15:1) فهو مُعدٌّ للإنسان ومُجهٌ إليه على أن صورة الله[xxxii]، ومدعو هو نفسه إلى علاقة شخصية بالله. وإذ كان عقلنا مشتركاً في نور العقل الإلهي، فهو يستطيع أن يُدرك ما يقوله لنا الله بخلقه[xxxiii]، ولو بجهدٍ غير يسير، وبروح اتضاعٍ واحترامٍ أمام الخالق وصنعيه[xxxiv]. وإذا كان الخلق صادراً عن الصلاح الإلهي فهو يشترك في هذا الصلاح («ورأى الله ذلك إنه حسن (…) حسنٌ جداً»: تك4:1، 10، 12، 18، 21، 31). ذلك أن الله أراد الخلق هبةً موجهةً إلى الإنسان، بمثابة إرثٍ خُصَّ به وأُودِعَه. وقد اضرت الكنيسة، مرات عدة، إلى أن تدافع، عن جودة الخلق، وفيه العالم المادي[xxxv].

الله يسمو بالخليقة ويحضر فيها

300- الله أعظم من صنائعه على وجه غير محدود[xxxvi]:«عظمته فوق السماوات» (مز2:8)، «ليس لعظمته استقصاء» (مز3:145). ولكن بما أنه الخالق المطلق والحر، والعلة الأولى لكل موجود، فهو حاضرٌ في خلائقه حضوراً حميماً جداً:«به نحيا ونتحرك نوجد» (أع28:17). وهو، على حد قول أوغسطينوس، «أعلى من كل ما هو أعلى فيّ، وأعمق مما هو أعمق»[xxxvii].

الله يصون الخليقة ويحملها

301- يخلق الله ولا يترك خليقته على ذاتها. إنه لا يكتفي بمنحها الكينونة والوجود، فيصونها في الكينونة كل حين، ويهبها أن تعمل، ويقودها إلى نهايتها. والإقرار بهذه التبعية الكاملة بالنسبة إلى الخالق هو ينبوع حكمةٍ وحرية، وفرح وثقة:

«أجل، إنك تحب جميع الكائنات، ولا تمقت شيئاً مما صُنعت؛ فإنك لو أبغضت شيئاً لم تكوّنه. وكيف يبقى شيءٌ لم ترده، أم كيف يُحفظ ما لست أنت داعياً له. إنك تشفق على جميع الكائنات لأنها لك، أيها الرب المحب الحياة» (حك24:11-26).

5ً. الله يُحقق تصميمه: العناية الإلهية

302- للخليقة جودتها وكمالها الخاصان، ولكنها لم تخرج من يدي الخالق كاملة الكمال. إنها مخلوقة في حالة مسيرة إلى كمال أقصى عليها أن تبلغه بعد، كمالٍ أعدها الله له. ونحن ندعو عنايةً إلهيةً التدابير التي يقود بها الله خليقته إلى كمالها.

«الله يصون ويسوس بعنايته كلَّ ما خلق، "بالغةً من غايةٍ إلى غايةٍ بالقوة، ومدبرة كل شيء بالرفق" (حك1:8). "فلذلك ما من خليقة مستترةٌ عنها، بل كل شيء عارٍ لعينيها" (عب13:4)، حتى الأشياء التي يأتي بها عمل الخليقة الحُرّ[xxxviii]».

303- شهادة الكتاب المقدس إجماعية: اهتمام العناية الإلهية واقعيٌ وفوري، فهي تُعني بكل شيء، من أحقر الأمور الصغيرة إلى أحداث العالم والتاريخ العظيمة. والأسفار المقدسة تشدد على سيطرة الله المطلقة على مجرى الأحداث:«إلهنا في السماء وعلى الأرض، كل ما شاء صنع» (مز3:115). وعن المسيح قيل:«يفتح فلا يُغلق أحدٌ، ويُغلق فلا يفتح أحد» (رؤ7:3)؛ «في قلب الإنسان أفكارٌ كثيرة، لكن مشورة الرب هي تثبت» (أم21:19).

304- هكذا نرى الروح القدس، وهو مؤلف الكتاب المقدس الرئيسي، كثيراً ما ينسب إلى الله أعمالاً، بدون أن يذكر لها عللاً ثانية. ليس ذلك «أسلوباً في التحدث» بدائياً، ولكنه نهج عميق في التذكير بأولية الله وسيادته المطلقة على التاريخ وعلى العالم[xxxix]، ويبعث الثقة. وصلاة المزامير هي المدرسة الكبرى لهذه الثقة[xl].

305- يسوع يطلب استسلاما بنوياً لعناية الآب السماوي الذي يُعني بأصغر حاجات أبنائه:«لا تقلقوا إذن قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب؟ (…) أبوكم السماوي عالمٌ بأنكم تحتاجون إلى هذا كله. بل أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذا كله يُزاد لكم» (متى31:6-33)[xli].

العناية والعِلَلُ الثانية

306- الله هو سيد تصميمه المطلق. ولكنه يستعين أيضاً، في تحقيقه، بعمل خلائقه. وليس ذلك علاقة ضعفٍ، ولكنه دليل عظمة الله الكلي القدرة وجودته؛ لأن الله لا يمنح خلائقه أن يوجدوا وحسب، بل يمنحهم أيضاً كرامة العمل الذاتي، وأن يكون بعضهم عِلَلَ البعض الآخر ومبادئه، ويشتركوا هكذا في إتمام تصميمه.

307- والله يمنح البشر المقدرة على الاشتراك الحر في عنايته بأن يُلقي إليهم بمسؤولية «إخضاع» الأرض والتسلط عليها[xlii]. وهكذا يُعطي الله البشر أن يكونوا عللاً عاقلة وحُرة لإتمام عمل الخلق، وتحقيق التناغم لصالحهم وصالح قريبهم. وإن كان البشر في كثير من الأحيان شركاء غير واعين في إرادة الله، فإنهم يستطيعون أن يدخلوا اختيارياً في التصميم الإلهي، بأعملهم، وصلواتهم، ثم بآلامهم أيضاً[xliii]. وهم يصبحون إذ ذاك كلياً «عاملين مع الله» (1كو9:3)[xliv] وملكوته[xlv].

308- حقيقة لا تنفصل عن الإيمان بالله الخالق: أنَّ الله يعمل في كل عمل لخلائقه. إنه العلة الأولى التي تعمل في العلل الثانية وبها:«الله هو الذي يفعل فيكم الإرادة والعمل نفسه على حسب مرضاته» (فيل13:2)[xlvi]. وهذه الحقيقة بعيدة عن أن تحط من كرامة الخليقة، فهي تُعليها. فالخليقة التي أنشأتها من العدم قدرةُ الله وحكمتهُ وجودته، لا تستطيع شيئاً إذا اجتُثت من أصلها، لأن «الخليقة تتلاشى بدون الخالق»[xlvii]؛ وهي إلى ذلك لا تستطيع أن تبلغ غايتها القصوى بدون معونة النعمة[xlviii].

العناية الإلهية ومشكلة الشر

309- إذا كان الله الآب الكلي القدرة، خالق العالم منظماً وحسناً، يعتني بجميع مخلوقاته، فلماذا الشر موجود؟ عن هذه المسألة الملحة بقدر ما هي حتمية، والأليمة بقدر ما هي سرّية، ما من جواب سريع يكفيها. الجواب هو مجموعة الإيمان المسيحي: جودة الخلق، مأساة الخطيئة، أناة محبى الله الذي يسعى إلى ملاقاة البشر بعهوده، بتجسد ابنه الخلاصي، بموهبة الروح، بتجميع الكنيسة، بقوة الأسرار، بالدعوة إلى حياةٍ سعيدة والمخلوقات الحرَّة مدعوةٌ مسبقاً إلى قبولها، كما هي قادرة أيضاً مُسبقاً، وبسر رهيب، أن تتجنبها. ما من حرفٍ في الرسالة المسيحية لا يدخل في الجواب عن مسألة الشر.

310- لماذا لم يخلق الله عالماً من الكمال بحيث لا يتمكن أيُ شر من الوجود فيه؟ الله، في قدرته غير المتناهية، يستطيع دائماً أن يخلق شيئاً أفضل[xlix]. ومع ذلك فقد أراد الله، في حكمته وجودته، واختياره أن يخلق عالماً «في حالة مسيرةٍ» إلى كماله الأقصى. وهذه الصيرورة تقتضي، في تصميم الله، مع ظهور بعض الكائنات انقراض غيرها، مع الأكمل الأقل كمالاً أيضاً، مع أعمال بناء الطبيعة أعمال هدمها أيضاً. فمع الخير الطبيعي يوجد أيضاً الشر الطبيعي ما دام الخلق لم يبلغ كماله[l].

311- الملائكة والبشر، بكونهم مخلوقاتٍ عاقلة وحُرة، يجب أن يسيروا نحو غايتهم القصوى باختيار حرّ ومحبة للأفضل. فبإمكانهم أن يضلوا. وقد خطِئوا فعلاً. وهكذا دخل الشر الأدبي العالم، وهو، وإن لم يكن له وللشر الطبيعي قياسٌ مشترك، يفوقه خطورةً. والله ليس البتة علة الشر الأدبي، ولا مباشرةً ولا بوجهٍ غير مباشر[li]. ولكنه يسمح به، مراعياً حرية خليقته، ويعرف، بطريقةٍ سرية، كيف يستخرج منه الخير:

«فالله الكلي القدرة (…)، في صلاحه المطلق، لا يدع أبداً أيَّ شر يكون في صنائعه لو لم يكن له من القدرة والجودة ما يكفي لاستخراج الخير من الشر نفسه»[lii].

312- وهكذا، مع الوقت، يمكن اكتشاف أن الله، في عنايته الكلية القدرة، يستطيع أن يستخرج خيراً من عواقب شرٍ، ولو أدبياً، سببته خلائقه. قال يوسف لإخوته: «لا أنتم بعثتموني إلى ههنا بل الله؛ (…) أنتم نويتم علىَّ شراً والله نوى به خيراً لكي يُحيي شعباً كثيراً» (تك8:45؛ 20:50)[liii]. ومن أعظم شر أدبي اقترف على الدهر، أي نبذ ابن الله وقتله، بسبب خطيئة جميع البشر، استخرج الله، في فيض نعمته[liv]، أعظم الخيور: تمجيد المسيح وفداءَنا. والشر لا يتحول مع ذلك إلى خير.

313- «كلُّ شيء يسعى لخير الذين يحبون الله» (رو28:8). وفي شهادة القديسين المتواصلة ما يُثبت هذه الحقيقة:

وهكذا فالقديسة كاترينا السيينية تقول: «للذين يتشككون ويثورون من جراء ما يصيبهم»: «كلُّ شيءٍ يصدر عن المحبة، كل شيءٍ موجه لخلاص الإنسان. الله لا يعمل شيئاً لهذه الغاية»[lv]. والقديس توما مور، قُبيل استشهاده، يقول معزياً ابنته: «لا شيء يمكن أن يحصل بغير إرادة الله. ومن ثمّ فكل ما يريده، مهما ظهر لنا سيئاً، هو مع ذلك أفضل ما يكون لنا»[lvi]. وتقول الليدي جوليان دي نورويتش: «لقد أدركت، بنعمة الله، أنه من الواجب أن أتشبث بالإيمان تشبثاً شديداً، وأن أعتقد اعتقاداً ليس دونه ثباتاً، أن الأمور كلها ستكون حسنة … وسترى أن الأمور كلها ستكون حسنة»[lvii].

314- نحن نؤمن إيماناً ثابتاً أن الله سيد العالم والتاريخ. ولكن سُبل عنايته كثيراً ما تخفى عنا. ففي النهاية فقط، عندما تنتهي معرفتنا الجزئية، عندما نر الله «وجهاً إلى وجه» (1كو12:13)، ستتضح لنا السُّبل اتضاحاً كاملاً، السُّبل التي، حتى في ما بين مآسي الشر والخطيئة، يقود الله خليقته عبرها إلى راحة السبت[lviii] النهائي، الذي لأجله السماء والأرض.

بإيجاز

315- في خلق العالم والإنسان أرسى الله الشهادة الأولى والشاملة لمحبته الكلية القدرة وحكمته، الإعلان لـ «تصميمه العطوف» الذي ينتهي بالخليقة الجديدة في المسيح.

316- وإن كان عمل الخلق منسوباً، على وجه خاص، إلى الآب، فمن حقيقة الإيمان أيضاً أن الآب والابن والروح القدس هم المبدأ الواحد والغير المنفصل للخلق.

317- الله وحده خلق الكون باختياره، ومباشرةً، ومن دون أية معونة.

318- ما من خليقة تملك القدرة الغير متناهية الضرورية «للخلق» بمعناه الدقيق، أي إحداث الوجود وإعطائه لما لم يكن له قط (الدعوة إلى الوجود «من العدم»)[lix].

319- الله خلق العالم ليُظهر مجده ويُشرك فيه. أن تشترك خلائقه في حقيقته، وجودته، وجماله، وهذا هو المجد الذي خلقها لأجله.

320- الله الذي خلق الكون يبقيه في الوجود بكلمته، «هذا الابن الذي يضبط كل شيء بكلمته» (عب 3:1) وبروحه الخالق المحيي.

321- العناية الإلهية، هذه هي التدابير التي يقود بها الله جميع الخلائق، بحكمةٍ ومحبة، إلى غايتها القصوى.

322- المسيح يدعونا إلى الاستسلام البنوي لعناية أبينا السماوي[lx]، والرسول القديس بطرس يعيد القول: «ألقوا عليه همكم كله، فإنه يعتني بكم» (1بط7:5)[lxi].

323- العناية الإلهية تعمل أيضاً بعمل الخلائق. الله يُعطي الكائنات البشرية أن تشترك في تصاميمه باختيارها.

324- سماح الله بالشر الطبيعي والشر الأدبي سرٌّ يجلوه الله بابنه يسوع المسيح الذي مات وقام للتغلب على الشر. الإيمان يُثبت لنا أن الله لا يسمح بالشر لو لم يكن يستخرج الخير من الشر نفسه، بسبلٍ لن نعرفها معرفةً كاملة.



[i] قانون الرسل: د30

[ii] القانون النيقاوي- القسطنطيني: د150

[iii] د ت ع 51

[iv] رَ: رو18:8-23

[v] رَ: إيتيريا، رحلة46، 2؛ القديس أوغسطينوس، تعليم3، 5

[vi] رَ: م ف 1ً، الدستور العقائدي "ابن الله"، في الوحي، ق1:د3026

[vii] رَ: أع 24:17-29؛ رو19:1-20

[viii] رَ: أش1:43

[ix] رَ: تك5:15؛ إر19:33-26

[x] رَ: اش1:43

[xi] رَ: مز104

[xii] رَ: أم22:8-31

[xiii] قانون نيقية – القسطنطينية: د150

[xiv] الليترجيا البيزنطية، قطعة غروب العنصرة

[xv] رَ: مز6:33؛ 30:104؛ تك2:1-3

[xvi] القديس إيريناوس، الرد على الهرطقات 2، 30، 9

[xvii] م س4، 20، 1

[xviii] م ف 1ً، الدستور العقائدي "ابن الله"، في الله خالق كل الأشياء، ق5: د3025

[xix] أقوال 2، 1، 2، 2، 1

[xx]  توما الأكويني، أقوال2؛ مدخل

[xxi]  د3002

[xxii] القديس إيريناوس، الرد على الهرطقات 4، 20، 7

[xxiii]  ن ر2

[xxiv] رَ: حك9:9

[xxv] رَ: م ف1ً، الدستور العاقائدي "ابن الله"، ق1: د3002

[xxvi] رَ: المرجع السابق، في الله خالق كل الأشياء، ق1-4: د30023- 3024

[xxvii] مجمع لاتران4ً، فصل2، في الإيمان الكاثوليكي: د800؛ م ف 1ً، الدستور العاقائدي "ابن الله"، في الله خالق كل الأشياء، ق5: د3025

[xxviii] القديس تيوفيلوس الأنطاكي، إلى أوتوليكوس 2، 4

[xxix] رَ: مز12:51

[xxx] رَ: تك 3:1

[xxxi] رَ: 2كو6:4

[xxxii] رَ: تك26:1

[xxxiii] رَ: مز2:19-5

[xxxiv] رَ: أي 3:42

[xxxv] رَ: القديس لاون الكبير، رسالة Quam Laudabiliter : د286، مجمع براجا 1ً، إبسالات ضد البريسيليانيين 5-13: د455-463؛ مجمع لاتران 4ً، فصل2، في الإيمان الكاثوليكي: د800؛ مجمع فلورنسة، قرار لليعاقبة: د1333؛ م ف 1ً، الدستور العقائدي "ابن الله"، ق1: د3002

[xxxvi] رَ: سي30:43

[xxxvii] القديس أوغسطينوس، اعترافات 3، 6، 11

[xxxviii] م ف 1ً، الدستور العقائدي "ابن الله"، ق1: د3003

[xxxix] رَ: أش10: 5-15؛ 45: 5-7؛ تث39:32؛ سي14:11

[xl] رَ: مز22؛ 32؛ 103؛ 138؛ إلخ

[xli] رَ: متى 29:10-31

[xlii] رَ: تك26:1-28

[xliii] رَ: كو24:1

[xliv] رَ: 1تس 2:3

[xlv] رَ: كو11:4

[xlvi] رَ: 1كو6:12

[xlvii] ك ع 36، 3

[xlviii] رَ: متى26:19؛ يو5:15؛ في13:4

[xlix] رَ: توما الأكويني، خ ل 1، 25، 6

[l] رَ: توما الأكويني، ضد الأمم 3،71

[li] القديس أوغسطينوس، في الحرية 1، 1، 1؛ توما الأكويني، خ ل 1-2، 79، 1

[lii] القديس أوغسطينوس، مختارات 11:3

[liii] رَ: طو12:2-18 فولغاتا

[liv] رَ: رو20:5

[lv] حوار العناية الإلهية 138

[lvi] رسالة

[lvii] وحي 13: 32

[lviii] رَ: تك2:2

[lix] رَ: مجمع الدروس المقدس، قرار (27/7/1914): د3624

[lx] رَ: متى26:6-34

[lxi] رَ: مز23:55