تعليم الكنيسة الإجتماعي، على الرغم من كونه جزئاً أساسيا من إيمان الكنيسة ومن رسالتها في إعلان الإنجيل، هو تعليم غير معروف عموماً نظراً لأنّ نصوصه الأساسية هي نصوص مجرّدة عموماً، ونظراً لكونه جزء من تعليم الكنيسة الأدبي أو الأخلاقي ولارتباط هذه الأخيرة في أذهان الناس بمواقف الكنيسة من الجنس والعلاقات الزوجية وتحديد النسل، ونظراً أخيراً لكونه يشكّل تحديّاً إلى العديد من المسيحيين والمؤسسات الكنسية ذات الرساميل الضخمة.
علم اللاهوت عامّة هو الخطاب الّذي تعبّر الكنيسة من خلاله كلاميًّا عن سرّ الله بالاستناد إلى وحيه وإلى إيمانها. من خلال هذا الخطاب تقول الكنيسة هويّتها وتحدّد المعايير الّتي تحكم مواقفها وممارساتها. وتعبير الكنيسة عن هويّتها يبقى أمينًا لهذه الهويّة، لكنّه يسعى أيضًا إلى أن يكون مفهومًا من سامعيه. لذلك فعلم اللاهوت علم متطوّر متغيّر بتغيّر البيئة الّتي فيها ينشأ، وبذلك يبقى أمينًا لخدمة الوحي الّذي لا يتغيّر. وعلم اللاهوت هو إذًا أحد أشكال الشهادة للمسيح وله أقسام متعدّدة (عقائدي، أساسي، روحي، أدبي، إلخ)
تعليم الكنيسة الإجتماعي هو جزء من تعليم الكنيسة واللاهوت الأدبي(الخطاب اللاهوتيّ الّذي يفكّر في السلوك البشريّ على ضوء المسيح، وفي معايير السلوك المسيحيّ) الذي يهتمّ بحياة الناس داخل المجتمعات البشرية المختلفة التي يشكلونها (من العائلة النواة الصغرى للمجتمع إلى الدولة ومروراً بكافة أشكال المجتمعات المتموضعة بين هذين المجتمعين). هذا التعليم هو أساساً تطبيق لمبادئ اللاهوت الأدبي الأساسية والثابتة على الحياة في المجتمع وهو نضال الكنيسة من أجل تحقيق وإرساء العدالة الإجتماعية (يعني بحسب التعريف السابق هو نوع من الإلتزام في التاريخ الإنساني والثقافة البشرية).
لمحة تاريخية
جذور كتابية :
1. في العهد القديم : خبرة الخروج التي هي أساساً خبرة تحرير. الوصايا ولاسيما السبع الأخيرة المرتبطة أساساً بالعلاقة مع القريب. الأنبياء ودعوتهم إلى العدالة وأعمال الرحمة بدلاً من الممارسات الطقسية (أشعيا، وخصوصاً عاموس).
2. في الأناجيل : المسيح رسول ومحررّ المساكين (لوقا 4)، يسوع يتماهى مع الصغار والمهمّشين (متى 25)، علاقته مع الحكم والحكّام (ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ليس لك من سلطان لو لم يعطَ لك من فوق، إلخ).
3. بولس وأعمال الرسل: الشركة في حياة الجماعة المسيحية الأولى. دعوات بولس إلى مساعدة الكنائس وإلى أهميّة العمل (فيليبي)، موقفه من البنى الأجتماعية (المرأة، الأولاد، العبيد في رسالته إلى أهل أفسس وكورنثوس وفيلمون)، موقفه اللاهوتي للعلاقة بين الثقافات في ظلّ الإيمان بالمسيح (كولوسي 3).
الآباء :
1. القرون الثلاثة الأولى :روح التعاضد بين أعضاء الكنيسة. تمايز المواقف بما يختصّ بالنظرة إلى العالم والثقافة (يوستينوس، صاحب الرسالة إلى ديوجينس وأوريجانس ونظرتهم الإيجابية للعالم، و ترتليانس من ناحيةٍ أخرى ونظرته السلبية للعالم.).
2. في زمن الإمبراطورية : باسيليوس ومؤسساته الخيرية (البازيلياد). يوحنّا فم الذهب وتأنيبه للأغنياء الظالمين بما فيهم الإمبراطورة نفسها. أمبروسسيوس ودعوته إلى العدالة الإجتماعية وموقفه من الحكم. أوغسطينوس ولاسيما في فكره السياسي في مدينة الله. الخيرات عند الآباء عموماً هي خيرات الله والغنى بالتالي هو نعمة طالما أُحسن استخدامه وهو شرٌٌّ عندما لايكون فيه مشاركة مع الآخرين.
في العصر الوسيط في الغرب :
(بدأ مع سقوط روما وبلغ ذروته في القرن الحادي-ثاني عشر)
1. النظام الديني مسيحاني Chrétienté – Christendom (ربّ واحد، دين واحد وملك واحد، مما يعني نظرة وحيدة وموحّدة للعالم) والكنيسة في كلّ مقاطعة عندها نفوذ سياسي واقتصادي كبيران (تضفي نوع من القدسية على السلطة الحاكمة وتستمد منها الدعم الكافي لحماية مصالحها. الأديار هي مراكز مهمّة اقتصادياً لكونها تملك الآراضي الواسعة. هي أيضاً مراكز علم مهمّة من خلالها تكوّنت الجامعات (نشوء الفكر المدرسي الفلسفي واللاهوتي = اعتماد مبادئ الفلسفة الكلاسيكية ولاسيما الأرسطوطالية في الخطاب اللاهوتي، ومن هنا ابتدأ الكلام عن الشرع الطبيعي، الخير العام، التمييز بين ما هو طبيعي وما هو فوق الطبيعة ولاسيما في الفضائل، وحاجة الإنسان إلى النعمة لبلوغ ماهو فوق الطبيعي. هذا التعليم مهمّ جداً للاهوت الأدبي بشكل عام وتعليم الكنيسة الإجتماعي بشكل خاص.)
2. النظام الإقتصادي اقطاعي تحت سلطة الأمير أو الملك. الغالبية العظمى من الناس تعمل في الزراعة. بعضهم يعمل في الجيش وبعضهم حرفيون. الكلّ يسعى من خلال عمله إلى الخير العام واستخدام هذا الأخير كمعيار وحيد للعدالة. هناك تنظيمات تضمّ الحرفيين (اصحاب العمل مع العمّال) وتضمن عدالة الأجور والأسعار وذلك وفقاً لتعليم الكنيسة عن العدالة. لاتوجد مشاكل بطالة إلاّ لغير القادرين على العمل وكلّ هذه الأنشطة تسعى إلى تحقيق الخير العام حيث أنّ الهدف الأساسي للمؤسسات ليس الربح وإنّما خدمة الجماعة.
3. النظام السياسي : مركزية الملك. ولاء الأمراء وكبار الإقطاعيين (نوع من الهرمية). حروب وخلافات أحياناً بين الممالك والإمارات.
4. اضطراب هذا النظام نتيجة: الطاعون الذي قضى على حوالي ثلث سكّان أوروبا في القرن الرابع عشر مما أدّى إلى فوضى في المجتمع. انحسار في الحياة الدينية (رجال دين وباباوات سيئون، كنائس تزداد غنىً وشعب يزداد فقراً، إلخ). الإصلاح البروتستانتي (لا وسيط بين الله والإنسان مما يؤدي إلى نمو الفردانية على حساب الخير العام، انعتاق من تأثير وسلطة الكنيسة، بداية الحداثة الفردانية أساساً). هذه الفردانية ستكون الأساس في نشوء نظرية الإقتصاد الحرّ.
5. الإكتشافات الجغرافية الحديثة (العالم الجديد) وماآلت إليه من توسّع للأسواق وللتجارة ولنشوء الفكر الاستعماري مع نظرياته الإقتصادية الموافقة. ظهور فكر الأنسنة Humanisme.
العصر الحديث :
الثورة الصناعية، نشوء البرجوازيات وسيطرتها على المجتمع من خلال سيطرتها على وسائل الإنتاج، إفقار عدد كبير من الناس ولاسيما الفلاحين ووضع مزري للعمّال ولاسيما عمّال المناجم، هجرة إلى المدينة وتوسّع المدن مع نشوء بئر فقر فيها.
النظريات الاقتصادية المختلفة ولاسيما الاقتصاد الحر (الاقتصاد له قوانينه الخاصة، أساسه المنافسة الحرة المبنية أساساً على حق الملكية الفردية المطلق ولا يجب أن يكون خاضعاً لأي ضوابط أخلاقية. آدام سميث) والاشتراكية الماركسية (التاريخ يصنع بصراع الطبقات، من يملك وسائل الإنتاج هو الذي يحكم، ثورة البروليتاريا التي ستؤدي إلى الملكية عامّة وخير عام مطلق).
أمام هذين التيارين المتناقضين تقول الكنيسة كلمتها من خلال رسالة البابا لاوون الثالث عشر الشؤون الحديثة سنة 1891.
المبادئ الأساسية في تعليم الكنيسة الإجتماعي
1. مبدأ الكرامة الإنسانية: كلّ إنسان وذلك نظراً لكونه مخلوقاً على صورة الله ومثاله ومفتدىً بدم يسوع المسيح هو جدير بالإحترام وذلك بغضّ النظر عن كلّ ما يملكه من صفات شخصية.
2. مبدأ احترام الحياة الإنسانية منذ اللحظة الأولى للحمل حتّى نهاية الحياة.
3. مبدأ كرامة العمل ليس العمل مصدراً للكرامة الإنسانية ولكنّه الوسيلة الفضلى التي من خلالها يتوصّل الإنسان إلى تحقيق ذاته وصون كرامته.
4. مبدأ الشراكة المرتبط أساساً بكون الإنسان كائناً اجتماعياً.
5. مبدأ المشاركة وحقّ كلّ إنسان بالمشاركة في تحديد الخير العام وتصور السبل الكفيلة بتحقيقه ووضعها حيز التنفيذ.
6. مبدأ الإختيار التفضيلي للفقراء والضعفاء وإلاّ فإنّ النسيج الإجتماعي بكليّته (على اعتبار أنّ الفقراء هم جزء هام من المجتمع) سيكون غير متوازن ومهزوز مما سيكون له آثار سلبية على الجميع (ضرب بالخير العام).
7. مبدأ التعاضد هو دعوة إلى العمل من أجل خلق بنى إجتماعية أكثر عدالة وليس فقط العمل على مستوى أفعال الرحمة.
8. مبدأ الإدارة نحن موكّلون بالخليقة وبإدارتها. الله الخالق هو مالكها الأوحد وعلى الإنسان أن يسعى إلى حمايتها وتنميتها.
9. مبدأ الإنابة أو الإعاضة: تعني أنّ على الدولة أن تترك الأشخاص والجماعات والمؤسسّات (غير الحكومية خصوصاً) يقومون بالمهام التي يستطيعون أن يؤمنوها بأنفسهم. فلا تتدخّل الدولة، خارج إطار دورها كحارسة للخير العام والنظام العام إلاّ بصفة من ينوب أو من يعوّض لتسدّ النقص عند هؤلاء الأشخاص أو المؤسسات في إداء مهماتهم.
10. مبدأ المساواة البشرية وما يترتبّ عليه من عمل من أجل العدالة الإجتماعية.
11. مبدأ الخير العام هو مجموع الشروط الإجتماعية التي تسمح للأفراد المندمجين بجماعات بتحقيق ذواتهم وحفظ كرامتهم. بحسب أرسطو إنّ مصلحة المجتمع هي التي توجّه حياة الأفراد، لأنّها أهمّ وأعلى (إلهية) من المصالح الضيّقة لكلّ فرد بعينه. هذا المبدأ أثّر مباشرة على حياة الكنيسة واعتُبر أنّه متأصّل في الكتاب المقدّس من خلال وصية محبّة الله والقريب. لهذا فإنّ القديس توما الأكويني يعتبر أنّ الخير الأعظم الذي من الممكن أن يطاله إنسان هو الله ذاته (فوق الطبيعة)، وهذه العلاقة مع الله تتطلب بحسب الأكويني أن يلتزم الشخص بمصلحة الجماعة والتي هي بالأصل منعلّقة بالقريب وأن يلتزم كذلك بمصلحة الخليقة كلّها. بشكل عام المصلحة العامّة تعبّر عن الرغبة التي تتملك جماعة ما (هذه الجماعة مؤلّفة من أفراد عبّروا بطريقة ما عن رغبتهم بأن يكونوا معاً. هذه الجماعة ممكن أن تتسع لتشمل الأوطان والمناطق الأشمل في عالم معولم) بالعيش بسعادة. هذا التعريف البسيط يعبّر تماماً عن المعنى الأصلي لكلمة سياسة، أي كيف نعيش معاً بسعادة. في الفكر السياسي الكلاسيكي (أفلاطون، أرسطو، أوغسطينس، توما) نقطة الإنطلاق هي فكرة المجتمع المثالي الذي من خلاله يُملى على الأفراد طريقة عيشهم لتحقيق هذا المجتمع المثالي. في زمن الحداثة وخصوصاً في عالمنا اليوم، عالم ما بعد الحداثة ، أخذ الفكر السياسي المنحى المعاكس تماما، فالمجتمع المثالي يمكن أن يُصمّم بدءاً ومن خلال مصالح أفراده الشخصية. (طالما كل فرد قد حقق مصلحته فهو حتماً سعيد، وبالتالي محصلّة سعادة الأفراد ستجعل المجتمع مثالياً).
آفاق و تحدّيات جديدة
1. عصرنا اليوم قد تخطّى الثورة الصناعية (التي شكلّت مع عصر الحداثة المنطلق الأساسي لتعليم الكنيسة الإجتماعي)، هو عصر المعلوماتية وثورة الإتصالات، هو عصر الثورة الجينية، هذه التغيّرات ستخلق في الثقافة شيئاً جديداً لم يسمّه أحد بعد.
2. عصر الحداثة بالنسبة لكثير من المفكرين قد ولّى وقد دخل عالمنا اليوم في ثقافة ما بعد الحداثة، التي من أهمّ مميزاتها التعددية و النسبانية، التي ما انفكتّ تفتش عن توجهات جديدة لإضفاء معنى على الحياة. هذا العصر هو في آن معاً فرصة للكنيسة لتوسيع آفاقها وتحدٍّ لمنظوماتها العقائدية والتعليمية.
3. الحرب الباردة قد ولّت وتركت مكانها مكاناً للعديد من الحروب الصغيرة، الإرهاب، …مع السيطرة المطلقة لقوّة عظمى واحدة.
4. السيادات الوطنية تواجه تحديّات واقعية من خلال سيطرة آليات العولمة (تبادل تجاري حرّ، شركات عالمية كبرى لاحدود واضحة لها، دول كبرى ترسم سياساتها بحسب رغبة هذه الشركات، إلخ) وخصوصاً لدى الدول التي في طور النمو (سيطرة البنك الدولي، مؤسسة التجارة، صندوق النقد الدولي، إلخ).
5. نظام العولمة يخلق فرقاً كبيراً بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وفي داخل كلّ دولة بين الفقراء والأغنياء وذلك على حساب الطبقة المتوسّطة.
6. مشاكل الهجرة المشروعة وغير المشروعة منها، اللاجئين، إلخ.
7. التغيّرات البيئية الكبرى وما ستولّده من مشاكل للأجيال القادمة.
8. تحرير المرأة وإعطاؤها دورها الكامل.
9. مشاكل الكنيسة الداخلية (فساد داخلي، أصولية، تعصّب، مركزية القرار وخصوصاً على حساب العلمانيين، …)
عن موقع حلب للتعليم المسيحي