كلمة المونسنيور لويس ساكو في مؤتمر حول الوجود المسيحي في العراق

"حضور إلى إحتضار… أم إلى قيامة؟"

زوق مصبح، لبنان، الخميس 19 فبراير 2009 (zenit.org).

ننشر في ما يلي كلمة المونسنيور لويس ساكو، رئيس أساقفة كركوك للكلدان التي ألقاها في مؤتمر عن "الوجود المسيحي في العراق" تحت عنوان "حضور إلى إحتضار… أم إلى قيامة؟" تنظمه الكنائس المشرقية في لبنان (الكلدان، الأشوريون، السريان الأرثوذكس، السريان الكاثوليك)، بالتعاون مع جامعة سيدة اللويزة، وذلك اليوم الخميس 19.02.2009 عند الساعة الثالثة بعد الظهر، في قاعة عصام فارس- جامعة سيدة اللويزة- زوق مصبح.

 تحديات إستمرار وجود المسيحيين في العراق

في العراق مأساة بشرية حقيقية مزقت الوطن، وقسمت المواطنين وشتّتهم: ثلاث حروب من دون مبرّر، وتفاقم الوضع بعد سقوط النظام: تفجيرات وخطف وقتل وتهديدات وتهجير. هذا الوضع يرتبط بالدرجة الأولى بغياب الأمن، لكن استهداف المسيحيين وتهجيرهم وهجرتهم المتزايدة تهدّد وجودهم وتاريخهم وتشكّل التحدي الأكبر. ولدينا شعور بالقلق عظيم حول المستقبل، خصوصاً بعد أحداث الموصل وقبلها الدورة ببغداد. فما الأسباب؟ إن الأسباب عديدة ومعقّدة أذكر بعضاً منها على سبيل المثال:

1- الأمريكان باحتلالهم العراق ارتكبوا أخطاء جسيمة بحلّ المؤسسات: كالجيش والشرطة، وفتح الحدود من دون رقابة ومخازن الأسلحة للنهب والسلب، ممّا أفرز فلتاناً أمنياً.

2- دول الجوار، لها نفوذها وتأثيرها المباشر في الداخل العراقي.

3- صراع القوى السياسية الداخلية الكبرى على السلطة واستئثارها بورقة الأقليات لكسبها لصالحها بالتهديد أو بالترغيب.

4- الخطاب الديني الإسلامي المتشدّد والدعوة إلى إقامة "نظام ثيوقراطي" كان له أثر كبير في محنة المسيحيين، فدمجوا بالمحتل ولا علاقة لهم به، ولا بالصليبيين وقد عانوا منهم واتهموا بالكفر والشرك وهم براء منهما: قتل حتى الآن 500 شهيداً منهم أسقف و3 كهنة. وقد دفعت هذه الظروف 50% من المسيحيين إلى النزوح إلى إقليم كوردستان الآمن، أو الهجرة إلى الخارج.

5- الشعور بالغبن والتهميش في التمثيل والمشاركة في مؤسسات الدولة ودليل ذلك انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة.

6- دور بعض وسائل الإعلام في الإثارة والتهويل والترهيب بدل إشاعة ثقافة الوحدة الوطنية والعيش المشترك.

7- البطالة وفقدان دولة القانون فتحت المجال أمام اللصوص ليصولوا ويجولوا.

حلول مقترحة لمواجهة التحديات ومعالجتها

1- إن بقاء المسيحيين في العراق ومستقبلهم يرتكز كثيراً على جهود الكنيسة في احتضان أبنائها وحمايتهم والدفاع عنهم وتوعيتهم بدورهم الوطني وبشهادتهم المسيحية، شهادة المحبة، وتوظيف امكانياتها المادية والبشرية من أجل ذلك وهذا لا يحصل إلا إذا كان لها رؤية واضحة وخطّة عمل راعوية مدروسة وقيادة جماعية حكيمة.

2- لكن هذا لا يتم إلا بحماية الدولة العراقية لهم وضمانها في تثبيت حضورهم ودعمه، والحفاظ على تاريخهم الطويل وتراثهم الديني والثقافي الذي هو جزء لا يتجزأ من التراث العراقي. إن هجرتهم هي خسارة للمسلمين قبل أن تكون ربحاً لأحد، وإن مخطط إفراغ العراق والشرق من المسيحيين خطيئة مميتة: نحن بحاجة الواحد إلى الآخر.

3- لكن يترتب على المسيحيين بدل التشكي، الصبر والصمود وعدم الإنسحاب والتراجع وأن يكونوا صوتاً واحداً بخطاب موحّد وانتماء وطني صريح ورفض بقوة كل مخطط يهدف إلى تهجيرهم أو تهميشهم أو عزلهم في شبه واحات عن سائر مواطنيهم من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات. فالعراق واحد للجميع ويجب أن يبقى المسيحيون، من شماله إلى جنوبه، أشبه بخميرة في العجين، كما جاء في بيان مجلس أساقفة نينوى إثر الحملة البشعة على أبنائهم في الموصل.

4- لربما هناك حاجة ماسة لإيجاد مؤسسة حكومية عراقية، وزارة أو مديرية عامة تعمل من أجل طمأنة الأقليات في الدفاع عن حقوقها ونشر تراثها وعدم تعتيمه.

5- لا بد من المصالحة بين كل الأطراف حتى يستقر الأمن والأمان وأن تبسط الدولة سيطرتها وقانونها على أسس وطنية ومهنية، وليس على أسس طائفية ومذهبية، فالمصالحة وسيلة حضارية لخلق جو من السلام والوفاق، لأن ما يحدث هو للتقسيم. إن انقسامات السياسيين أو اتفاقهم ينعكس سلباً أو إيجاباً على الشارع.

6- إجراء تعديلات على الدستور واعتبار المواطنة المقياس الحقيقي في الحياة العامة وفي المسؤولية ونشر ثقافة العيش المشترك الذي يرتكز على ذهنية تقبل الخروج من الفردية إلى الجماعية، أي إلى الحياة المدنية المتعددة والمتنوعة واحترام حق الآخرين في أن يكونوا مختلفين. إن الله تعال خلقنا مختلفين وهذا تصميمه علينا قبوله واحترامه وهذا التقبل عامل نمو وتعاون وتعزيز الروابط بيننا ويجب أن يدخل في برامج التنشئة.

كيف؟ بإيجاد قاعدة أخلاقية عامة مستمدة من الحضارة الإنسانية والدينية.

7- احترام الحريّة الدينية، أي حرية الضمير التي هي أساس بقية الحريات ومقياس حقوق الإنسان وضمانها. إن الكل يتكلّمون عن " اللا إكراه في الدين"، لكن الواقع مختلف: فالمبادئ شيء والتطبيق شيء آخر. يجب احترام قواعد الخطاب الديني الإسلامي والمسيحي معاً في الدعوة إلى الإيمان بالله ومحبة جميع البشر والعمل على تنشئة المؤمنين لينموا في احترام الآخر مهما كان انتماؤه الديني أو القومي. وشجب كل أنواع القمع والإضطهاد والعنف والإرهاب بإسم الدين. وللكنيسة مسؤولية في تفعيل حوار صريح، منفتح وصادق مع المرجعيات الإسلامية لتعميق نقاط التقارب وتقريب نقاط الإختلاف يفتح أجواء بديعة للتعاون بمحبة وسلام أوليست المحبة موحدة؟

8- من الضروري، أن نعمل هنا في هذا الشرق مسيحيين مسلمين على إزالة النعرات وما يثير التفرقة للإرتقاء بالعيش المشترك والثقة المتبادلة. وفي هذا الصدد لربما حان الأوان ليتجنب أخوتنا المسلمون ما يثير الإشمئزاز لدى المسيحيين كاتهامهم بالكفر والشرك والصليبية واستعمال عبارة "أهل الذمة" التي فيها شيء من الإنتفاض والذل وإن كان لها أسبابها. اليوم كلنا سواسية في الحلو والمر والدفاع عن الوطن والمواطن والقيم.

9- لربما تقع مسؤولية كبيرة على الدول العربية بضمان وجود المسيحيين بينهم والعمل على دعم وجودهم وتثبيته. وقد يحتاج إلى تشريع ملزم يصون حقوقهم في عيش حر كريم أسوة ببقية المواطنين وإشراكهم في المسؤولية والسلطة. لقد عشنا 14 قرناً جنباً إلى جنب مع أخوتنا المسلمين وأعطينا الكثير للعراق بولائنا ومهاراتنا وإخلاصنا، ولانزال نريد العيش في فضاء الثقافة العربية والإسلامية بشكل يضمن حياتنا ويحفظ حقوقنا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات مع سائر القوميات والديانات في الوطن.

وهنا أتوجه إلى أحبائنا المسلمين داعياً إياهم ألا ينسوا أن أول حماية تلقوها في تاريخهم، عندما هربوا من بطش العرب في مكة، كانت من المسيحيين، مسيحيي الحبشة، واليوم ما أكثر الجاليات الإسلامية التي تتلقى الحماية والرعاية من الغرب المسيحي!

10- على المجتمع الدولي، والكنائس في الغرب، التضامن في إظهار المزيد من الإهتمام بالأقليات، وعدم تشجيع الهجرة والتوطين إلا في حالات إنسانيّة معيّنة والسعي إلى دعم المهاجرين الحاليين في دول الجوار وفي الداخل مادياً ومعنوياً لتمكينهم على تجاوز محنتهم من خلال مساعدتهم في خلق فرص عمل وتمويل برامج ومشاريع لتطوير التعليم والبيئة والخدمات في قراهم.

إن الله محبة يأمرنا بمحبة القريب والجار، ألم يحن الأوان لنسمع كلام الله ونبادر إلى تحقيقه في حياتنا اليومية؟

وشكراً