عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير

بكركي،الأحد 22 فبراير 2009  (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.

* * *

"كان ميتا فعاش"

هذا الأحد هو أحد مدخل الصوم، والكنيسة تدعونا فيه الى الصوم، والقطاعة عن أكل اللحم والبياض لمن يقدر على ذلك، وهي تفسح من هذا الواجب، وتدعونا دائما الى الصوم عن الكلام النابي والتجريح الذي يتعمد الهدم لا البنيان.

ونتحدث اليوم عن مثل الإبن الشاطر كما ورد في كتاب قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر "يسوع الناصرة".

وكان لا يزال بعيدا، حين رأه ابوه وذهب الى لقائه، وإستمع الى إعتراف ابنه وقدر الطريق الداخلية التي قطعها. ورأى أنه وجد طريق الحرية الحقيقية. وإذ ذاك لم يتركه ينهي، فأخذه بذراعية، وقبله، وأمر بإعداد وليمة كبيرة ليعرب عن فرحه. وكان ينبوع هذا الفرح ان هذا الإبن الذي كان ميتا. عندما ذهب مع ثروته، عاد الآن الى الحياة كان ضائعا فوجد.

وضع الأباء كل محبتهم في شرح هذا المشهد. الإبن المبذر، بالنسبة اليهم، هو صورة الرجل "ادم بإمتياز الذي نحن هو جميعا، هذا الأدم الذي ذهب الله الى ملاقاته، والذي إستقبله مجددا في بيته، في المقل، يطلب الأب الى خدمة لياتوا على عجل بأجمل ثوب. بالنسبة الى الآباء، هذا "الثوب الاجمل" يعود الى النعمة الضائعة التي كان الإنسان يتزين بها في البدء، وأضاعها بإرتكابه الخطيئة. والان، قدم له هذا الثوب الأجمل مجددا، ثوب الإبن، وراى الآباء، في العيد الذي كان يعد، صورة الإيمان، والإحتفال بالأفخارستيا التي تتقدم الوليمة الأبدية. وإذا أخذنا بحرفية النص اليوناني، سمع الأبن الأكبر لدى عوده الى البيت، "سيمفونية وأجواقا": بالنسبة الى الاباء، كانت هذه صورة جديدة لسمفونية الإيمان الذي يجعل من الوجود المسيحي فرحا وعيدا.

ولكن النقطة الأهم في النص ليست، على وجه التأكيد، في هذه التفاصيل، المهم هو الآن بوضوح صورة الأب، هل هي مفهومة؟ هل يقدر أب، هل عليه، أن يتصرف هكذا؟ ان الأب غرولو يلفت النظر الى ان كلمة يسوع هنا هي قائمة بكاملها على العهد القديم. انا نجد النموذج الأصلي رؤية الله هذه، الأب، في سفر هوشع. فهو يبحث أولا في قضية أختيار إسرائيل وخيانته: "وكلما دعوتهم ابتعدوا عني، فكانوا يقدمون ذبائح للبعل، ويحرقون البخور للأصنام"، ولكن الله يرى ايضا في أي وضع من الاكتئاب كان هذا الشعب، وبأي عنف كان السيف يجول في مدنهم". وقد جرى على وجه الدقة ما رسمه مثلنا: "كيف اعاملك يا إفرائيم، وأصنع بك يا إسرائيل.. ان قلبي ينقلب علي، والأسف يبريني، ولن أعمل فق إضطرام غضبي، ولن أحطم إسرائيل، لأني انا الله، لا إنسان: "وفي وسطكم انا الله القدوس". لأن الله هو الله، القدوس، فهو يتصرف كما ما من إنسان يمكنه أن يتصرف. ان لله قلبا، وهذا القلب يجد نفسه، إذا صح التعبير، ضد ذاته: لدى النبي، على ما يقول الإنجيل، نجد هنا كلمة "رأفة" التي ترسل الى صورة ثدي الأم.ان قلب الله يحول غضبه، وعوض ان يعاقب، فهو يغفر.

ويطرح المسيحي إذ ذاك السؤال الآتي: اين يجد يسوع المسيح موضعه هنا؟ في المثل، يظهر الأب وحده. هل هو مجرد من كل بعد مسيحياني؟ حاول اغوسطينوس إدخال البعد المسيحاني حيث قيل ان الأب يأخذ ابنه بين ذراعيه. "ذراع الأب هو الغبن". عندما يضع هذه الذراع على كتفنا، مثل "نيره الخفيف الحمل"، فهو لا يحملنا حملا ثقيلا، بل على العكس من ذلك، انه يتقبلنا بمحبة. "نير" هذه الذراع ليست بحمل علينا ان نحمله، انها هبة محبة يحملنا وتجعل منا أبناء. هذه ترجمة موحية كل الإيحاء، ولكن هذا يظل "إستعارة تذهب بصراحة الى أبعد من النص".

وجد بيار غريلو تفسيرا يبقى محافظا على النص، ويأخذنا الى أعمق منه. فهو يلاحظ ان يسوع، في هذا المثل كما في الأمثال السابقة، يشرع جودته تجاه الخطأة، وإستقباله اياهم، إستقبال اب ويسوع، بموقفه الخاص، يصبح عينه صورة الذي يدعوه اباه. وان "دراسة ضمنية" للمسيح تظهر لذاتها ما دمنا نعتبر إطار المثل التاريخي. والامه وقيامته ترسخان هذا المظهر "كيف أظهر الله للخطأة محبته الرؤوفة؟ لان "المسيح مات من اجلنا عندما كنا لا نزال خطأة". لا يمكن يسوع ان يدخل في إطار مثله الوصفي، لأنه يعيش وهو يتماهى مع الأب السماوي، بإقتدائه في مسلكه بمسلك الأب. والحال، ان المسيح القائم من الموت، يبقى الآن، بما خص هذه النقطة، في وضع يسوع الناصرة في حال قيامه برسالته". وفي الواقع، يشرع يسوع موقفه في هذا المثل، على قدر ما يعود به الى ابيه، ويجعله معه واحدا. فعبر صورة الآب اذن، بقدر ما يحقق حسيا عمل الأب، يكون المسيح في وسط هذا المثل.

وهوذا الأبن الأكبر يتدخل. فقد عاد من العمل في الحقل، وسمع بالعيد القائم في البيت عنده، واخذ علما بذلك وغضب. انه من المستحيل، بالنسبة اليه، أن يجد من العدالة أن يحتفل على شرف هذا الصعلوك الذي أنفق كل ثروته -أي خيور ابيه- مع الزواني، بعيد رائع، دون أن يمتحن وأن يمضي وقت توبة. ان هذا يخالف مفهومه للعدالة، فهو قد قضى حياته في العمل، وهذا يبدو انه لا أهمية له بالنسبة الى ماضي ذاك الآخر الفاحش. وتغلبت عليه المرارة: "اني منذ سنوات في خدمتك، دون أن أخالف لك امرا"، قال لأبيه، "وما أعطيتني البتة جديا لأتنعم مع أصدقائي". وخرج الأب لملاقاته ايضا، وحاول تهدئته، والإبن الأكبر لا يعرف شيئا عن مسيرة أخيه وتغيراته الباطنية، ولا عن انه ذهب الى البعيد، ولا انه سقط سقوطا مريعا قبل أن يجد نفسه. فهو لم ير سوى الظلم. وفي هذا، قد أظهر، ولا شك، انه هو ايضا كان يحلم سرا بحرية لا حدود لها، وإن طاعته، في أعماقه، جعلته يشعر بالمرارة، انه لا يعرف شيئا عن نعمة وجوده في الحظيرة، وعن الحرية الحقيقية التي كان يتمتع بها بوصفه أبنا. "انت، يا ابني، دائما معي "قال له ابوه، "وما هو لي هو لك". وشرح له بذلك عظمة ان يكون ابنا، وهذه هي الكلمات التي وصف بها يسوع في صلاته الكهنوتية علاقته بالأب: "ان كل ما هو لي هو لك، وكل ما هو لك هو لي".

وتوقف المثل هنا دون أن يقول لنا شيئا عن ردة فعل الإبن البكر. ولا يمكن ان يكون الأمر خلاف ذلك، لأن الواقع يتدخل لدى هذه النقطة: عبر عبارات الآب هذه، يتوجه يسوع الى قلب الفريسيين والكتبة المستانين الذي رأوه يظهر جودته بوضوح تجاه الخطأة. وانا نرى الآن بوضوح ان يسوع بما هي جودته تجاه الخطأة بجودة الاب في المثل، وكل الكلمات التي نجدها في فم الأب هي التي يوجهها هو عينه الى اهل التقى. ان المثل لا يقص رواية بعيدة، انه يعالج ما يتأتى عبره هنا الان. وهو يريد أن يكتسب قلب الخصوم. انه يدعوهم الى دخول بيته، ومشاركته افراح الجميع في هذه الساعة، ساعة عودة ابنه الى الحظيرة، والمصالحة، لقد أستعاد بولس هذه الدعوة وهذا الطلب عندما كتب "باسم المسيح أسالكم ، تصالحوا مع الله".

وهكذا ان المثل يتسجل، بطريقة جد عملية، في الإطار التاريخي الذي لفظه فيه المسيح، ولكن في الوقت ذاته، فهو يسمو اللحظة التاريخية، لأن الله يستمر في إرساله الينا نداءات لكي يستميلنا اليه، ولكن الى من يتوجه الآن؟ وروى الآباء، بقاعدة عامة، قصة أخوين لهما علاقة بين اليهود والوثنيين. ولم يكن صعبا عليهم أن يتبينوا في الإبن الفاسد الذي إبتعد عن الله، ومن ذاته، العالم الوثني الذي فتح له يسوع الباب الذي يقود الى المشاركة مع الله في النعمة، والذي من اجله يقيم عيد محبته. ولم يكن من الصعب ايضا ان يرى في الأخ الذي بقي في البيت شعب إسرائيل الذي كان يقول بحق: "انا في خدمتك منذ سنين كثيرة، دون أن أخالف لك وصية واحدة من وصاياك". وتتجلى الأمانة لإسرائيل وصورة الله من خلال الأمانة للتوراة.

ان التفسير الذي يحيل الى اليهود ليس بدون أساس ما دمنا نأخذه مثلما ظهر في النص: هناك من قبل الله محاولة دقيقة لإقناع إسرائيل، وهي محاولة نجدها بكاملها بين يدي الله. ولنلاحظ جيدا ان الأب، في المثل، لا يعيد النظر في أمانة الإبن الأكبر، وهو يثبته بطريقة واضحة في وضعه كابن:انت، ابني، وانت دائما معي، وكل ما هو لي هو لك. ولكن هذا التفسير يصبح خاطئا ما ان نجعل منه شجبا لليهود، وهذا ليس بوارد في النص على الاطلاق.

إذا كنا نستطيع ان نطبق مثل الأخوين على إسرائيل وعلى الوثنيين بما انه بعد ضمني للنص، فيبقى ان هناك إبعادا أخرى حاضرة، في فم يسوع، لا يقصد خطاب الأخ الأكبر إسرائيل ببساطة (الخطأة الذين كانوا ياتون اليه كانوا ايضا يهودا)، لكنه يقصد التهديد الخاص الذي يثقل على الناس الأتقياء، اولئك الذين هم "على القاعدة" مع الله بحسب تعبير غرولو. وغرولول يوضح الجملة الصغيرة: "ما خالفت يوما احدى وصاياك". بالنسبة الى الأتقياء، ان الله هو قبل كل الشريعة، وهم يتمثلون انهم في علاقة قانونية بالنسبة الله، وفي هذه النقطة انهم يضاهونه. ولكن الله هو اكبر. عليهم ان يرتدوا ويجتازوا من الله، الشريعة الى الله الأكبر، الله المحبة، وهذا لا يعني انهم يطلقون الطاعة، ولكن هذه الطاعة تصدر من ينبوع أعمق وأكبر وأصفى، وخاصة تصبح متواضعة.

ولنعد، إكمالا لذلك، الى منظور رأيناه، ان المرارة التي يشعر بها رجال الخير بالنسبة الى الله تكشف ان الطاعة التي يبرهنون عنها تستدعي مرارة داخلية تظهر حدود هذه الطاعة، في داخلهم كانوا يودون، هم ايضا، أن يذهبوا الى البعيد، الى الحرية الكبرى، وهم يشتهون سرا ما إستطاع سواهم ان يسمح لنفسه به، لم يقطعوا كل هذه الطريق الذي أتاح للأصغر ان يتنقى ويفهم ما هو معنى الحرية، وما معنى ان يكون ابنا. في الواقع، انهم يحملون حريتهم كعبودية، دون ان يصلوا الى نضج حالة الإبن الحقيقية. انهم، هم ايضا في حاجة الى إكمال الطريق. هذا الطريق، بإمكانهم ان يجدوه اذا كانوا ببساطة يقولون ان الله على حق، وإذا كانوا يقبلون بأن يكون عيده عيدا لهم ايضا، في هذا المثل، يحدثنا الأب عبر المسيح، نحن الذين بقينا في الحظيرة، لكي نهتدي حقا، نحن ايضا، ولكي نفرح بإيماننا.

أيها الاخوة والأبناء الأعزاء،
في هذا المثل امثولات كبيرة علينا ان نفيد منها، خرج الأبن الأصغر على القواعد، لكنه رجع الى ابيه تائبا. أما الأبن الأكبر فكان الى جانب ابيه، لكن قلبه وإهتماماته كانت بعيدة عنه، والمهم ان نبقى مع الله لبقى الله معنا.

ومنذ أكثر من اسبوع، غاب احد المواطنين يوسف صادر، وهو في طريقه الى مقر عمله في العاصمة، ولم يعثر له على اثر بعد، وهذا امر يدعو الى القلق، ان واجب القوى الأمنية يقضي بالعثور عليه، مهما كلف الأمر لئلا تتهم بالتعاون، وهذا مضر بأمن البلد على وجه الإجمال.