أزمة بين الفاتيكان واسرائيل

عن جريدة المستقبل اللبنانية

 

هناك حالياً أزمة قائمة بين اسرائيل والفاتيكان جراء تصريحات للأسقف البريطاني الكاثوليكي ريتشارد وليامسون الذي خفف من حجم المحرقة النازية لليهود، وانكر وجود غرف للغاز، وقال ان عدد قتلى اليهود في معسكرات الاعتقال النازي لم تزد على 300 ألف يهودي، وليس ستة ملايين.

بعد تلك التصريحات للأسقف وليامسون الذي أدلى بها لتلفزيون أسوجي، قامت قيامة اليهود في العالم ولم تقعد. وقد تسبب هذا الأمر بأزمة نشبت في العلاقات الفاتيكانية الاسرائيلية، ولاسيما أن البابا بندكتس السادس عشر مزمع على زيارة الأراضي المقدسة في هذا العام. فما هي احتمالات تفاقم الأزمة وما هي حظوظ حلها قريباً؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من وضع موقف المطران وليامسون في اطاره الحقيقي.

في الواقع، رفع، مؤخراً، البابا بندكتس السادس عشر الحرم الكنسي الذي كان قد أنزله الفاتيكان على اربعة اساقفة كاثوليك تابعين لأسقف اشتهر في العام 1988 بسيامته دون اذن من روما الأساقفة الأربعة ومنهم المطران وليامسون، وهذا الاسقف يدعى مارسيل لوفيفر الذي انشق عن الفاتيكان.

 اشتهر المطران مارسيل لوفيفر المحافظ بتمسكه الشديد بالعادات والتقاليد الكاثوليكية حتى الوقوع في التزمت والرفض والاصولية.

هذا وابان انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) عارض المطران لوفيفر بعض مقررات هذا المجمع الذي تميز بانفتاحه الكبير على عالم اليوم. اما الحدث الذي فجّر الخلاف ما بين الفاتيكان والأسقف لوفيفر، فهو إقدام الفاتيكان على إيقاف استخدام خدامة القداس باللغة اللاتينية كما كان متعارفاً عليه عند اللاتين واستبدال هذه الخدمة بخدمة تكون باللغة الحية لكل بلد من بلدان العالم. تمسك المطران مارسيل بالقداس اللاتيني وأبقى كل الاكليريكيات التي أنشأها في فرنسا وسويسرا وافريقيا تستخدم القداس باللغة اللاتينية.

بعد هذا الخلاف اقدم الأسقف لوفيفر على سيامة أربعة كهنة من كهنة اساقفة دون أخذ الاذن بذلك من الفاتيكان. عند هذا الحد، لم يعد بامكان الفاتيكان إلا إعلان كسر الشراكة الكنسية مع لوفيفر واساقفته الجدد. وهكذا انزل بهؤلاء حرماً كنسياً. لكن ما لبث المطران لوفيفر ان توفي وبقيت مؤسساته الاكليريكية قائمة على نهجه. الى ان قام البابا الحالي بمبادرة اراد منها رأب الصدع بين الفاتيكان وجماعة المطران لوفيفر وذلك باستيعاب هؤلاء وبالتالي رفع الحرم الذي كان قد أنزل بهم.

لكن، صادف ذلك مع التصريحات التي صرح بها أحد هؤلاء الأساقفة الذين رفع الحرم عنهم حول محرقة اليهود، وهو الأسقف البريطاني ريتشارد وليامسون.

ما أن أدلى الأسقف وليامسون بتصريحاته هذه حتى قام اليهود من كل صوب ناعتين الأسقف بشتى الألقاب. فرئيس منظمة "كريف" اليهودية الفرنسية قال: "نؤكد بشدة ان انكار المحرقة ليس رأياً بل جريمة". وكذلك رأى المؤتمر اليهودي العالمي. اما نائب امين عام هذا المؤتمر فقد اجرى محادثات مع رئيس مجلس الفاتيكان للعلاقات الدينية مع اليهود الكاردينال والتر كاسبر، وصرح على اثرها قائلاً: "نريد ان يدرك الفاتيكان انه خلال استيعاب معادين للسامية امثال وليامسون، ستوضع انجازات اربعة من عقود من الحوار الفاتيكاني اليهودي في دائرة الشك".

وانتقد تصريحات وليامسون ناجون من المحرقة، وكاثوليك، وبرلمانيون اميركيون وقيادات اسرائيلية والمستشارة الالمانية أنغيلا ميركل، والكاتب اليهودي الحائز على جائزة نوبل ايلي فايزل.

ماذا كان موقف البابا بندكتس من كل ذلك؟

بداية، استنكر الحبر الأعظم تصريحات الأسقف وليامسون. وكان اليهود ينتظرون منه ان يعود عن رفع الحرم عن هذا الأخير. الا ان بابا روما بقي على مبادرته في استيعاب الأساقفة المحرومين، لكنه شدد من استنكاره وطلب من الأسقف ان يسحب كلامه ويعتذر عن تصرفه هذا.

الا أن الأسقف وليامسون لم يسحب ما قاله ولم يعتذر. وفي مقابلة اجرتها معه مجلة دير شبيغيل الالمانية قال: "لقد قمت بدراسة هذا الموضوع في عقد الثمانينات من القرن الماضي، فقد قرأت العديد من الكتابات في ذلك الوقت، وقد ترسخت لدي القناعة الآن بأن تلك المحرقة قد تم دحضها من الناحية العلمية".

وعندما سئل: "سيسافر البابا عما قريب الى اسرائيل، حيث يخطط لزيارة النصب التذكاري لمحرقة اليهود هناك. هل أنت معارض لذلك أيضاً؟ أجاب وليامسون: "القيام بالحج الى الأراضي المقدسة هو بمثابة الفرحة الكبيرة للمسيحيين. وأتمنى لقداسة البابا كل الخير في رحلته. كما اتمنى ان ينظر البابا بعين الشفقة أيضاً للنساء والأطفال الذين اصيبوا خلال الحرب الاسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة، وان يتحدث بشكل داعم للمسيحيين في بيت لحم التي تم احاطتها الآن بأسوار"…

كيف ستنتهي هذه المسألة وما هي الخلاصة من كل هذه القصة.

لا اعتقد ان الأزمة الناشبة حالياً بين اسرائيل والفاتيكان بسبب ما صرّح به الاسقف وليامسون ستتفاقم، لا بل على العكس ستجد لها حلاً بالتي هي أحسن.

الا ان ما أود التوقف عنده في تقويم هذا الحدث هو مدى اهمية التعرّض لمحرقة اليهود. ليست هي المرة الأولى التي يشكك فيها مفكرون وعلماء بمدى حصول المحرقة. لا ينفع شيء ان نتوقف عند العدد حتى لو كان مبالغاً به. المهم ان محرقة ما حصلت مع اليهود في عهد النازية لكون اليهود يهوداً. وهذه جريمة ضد الانسانية حتى لو كان عدد اليهود يحصى على الاصابع.

المهم أن لا تتكرر مثل هذه المحرقة. والأهم ان لا يتحول احفاد الضحايا الى جلادين يحرقون نساء وأطفال غزة!.