مجروحون، نعم، لكننا نغني ونرقص، لأن الله معنا

 

فتيات يعملن في مركز سيدة السلام لذوي الحاجات الخاصة في عمان، مع الأب بطرس حجازين

رشا ارنست – ايطاليا

عن موقع أبونا

أتذكر خبرتي الأولى مع ذوي الاحتياجات الخاصة الذهنية في مصر منذ ثماني سنوات حين تفاجأت من نفسي إنني لم استطيع للوهلة الأولى تقبل حياة كمثل هؤلاء. لكني اذكر أنني وقتها صرخت في صمتٍ إلى الله "يا واهب الحياة أين أنت من تفكيري؟ أرجوك أتمسك بكَ فلا تتركني وحيدة في التجربة، ولا تسمح لعقلي السيطرة على إيماني. أنت تعلم (عندي إيمان، ساعدني حتى يزيد)". وفي لحظات سمعته يقول لي: "أنا هو لا تخافوا"، نعم كانت استجابة سريعة وقاطعة لي في تلك اللحظات التي مرت عليّ كعاصفة شديدة وصرخت في صمتٍ استجدي معونته. وجاء الرد في هدوء داخل قلبي "أنا هو لا تخافوا".

 

زرعت هذه الخبرة في داخلي حينها يقيناً أن هناك أسرارا لم نعرفها بعد، ولن تنكشف إلا بالإيمان. وفي هذا اليوم انكشف لي بعضاً من سرّ الخلق. هذا الخلق التي أبدع الله فيه وكان فائق إبداعه في خلق الإنسان، فأكرمه وخلقه على صورته كمثاله، وأعطاه عقلا وإرادة وعاطفة ومنحه حرية مطلقة في هذا العالم. ولكنه في نفس الوقت سمح بحجب بعض من هذه النعم عن البعض منا، فأصبح هناك من ينقصهم شيئ منها. والسبب مهما حاولنا أن نكتشفه وحدها التجربة تكشفه لمن اختاره. وعلمت يومها إن قبول هذا النقص يحتاج إلى إيمان غير عادي، بالإيمان تتحوّل إلى نعمة وهبة من الله، ولكن إن خلت الإيمان تُصبح كارثة، وتتحول الحياة إلى جحيم ارضي للشخص الذي تنقصه إحدى هذه النعم ولجميع من حوله. ولكن في كل الأحوال سواء ينقصنا شيء أو لا ينقصنا أن نبقى جميعاً كاملين في عين الله ومخلوقين على صورته كمثاله.

 

أتذكر تلك الخبرة وأنا الآن في ايطاليا، وفي داخل خبرتي بالرهبنة أجد خبرة ثانية مع هؤلاء بشكل مستمر. التقي بهم مرتين في الأسبوع، اجلس معهم، أشاركهم جزءا من وقتهم الذي يمضونه هنا في مركز لخدمة المتألمين (Centro Volontari Della Sofferenza) وهو من خدمات الرهبنة "رهبنة عمال الصليب الصامتون Silenziosi Operai Della Croce". ورغم أني في البداية مع تعلم اللغة الايطالية ورغم أنهم يتكلمون بطرق مختلفة يصعب فهمها إلا إننا استطعنا التواصل، فهم يجدونني فتاة جاءت من بلد فرعون والأهرام والنيل -هذا ما استطاعوا إدراكه عني- بجانب اسمي الذي يجدونه مختلفاً، ومع بعض الاختلاف وكثير من القبول والحب، استطعنا التواصل حتى وان اختلفت اللغة.

 

بين مصر وايطاليا هناك عيوب تزيد وميزات تنقص أو العكس في كل منهما. لا اكتب للمقارنة ولكني اكتب خبرة معاشة أجد أنها تستحق وقفة جادة. ولن ادخل في مقارنة حقوق ودولة وسأكون أكثر خصوصية هذه المرة واخص الكنيسة.

 

رغم أن إمكانيات الكنيسة في مصر عالية، إلا أن الاهتمام الأكبر منصب على البناء والتعمير داخل الكنيسة سواء من الجانب الكاثوليكي أو الأرثوذكسي. لا أنكر أن هناك أماكن خاصة لتلك الحالات ولكنها ليست مراكز للتأهيل أكثر منها للرعاية الدائمة، بمعنى أنها مراكز بديلة عن الأسر التي رفضت أطفالها. هذا بجانب بعض الأنشطة غير المجدية. فالاهتمام بهذه الفئات داخل الكنيسة شبه مفقود، واقصد هنا الاهتمام بكل ذوي الاحتياجات الخاصة ولكني اخص قليلاً المجروحين بذكائهم لأنهم الأصعب حالة.

 

فالكنيسة وأقولها بكل صراحة ويقين حتى الآن لم تستوعب دورها تماماً ورسالتها الحقيقية تجاه هذه الفئات وخاصة في بلادنا العربية وكأنهم جزء لا يرتقى إلى مستوى الآخرين، وكأن ما كتب في المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني لم يُكتب للكنيسة. ولا أقول هذا من باب النقد ولكني أقوله لأني واحدة من ضمن هذه الفئات وأعيش هذه الخبرة كاملة، واقل ما يقال إنني هنا الآن مُتغربة عن بلدي التي اعشقها وأهلي الذين أعاني الكثير في البعد عنهم فقط لأنني أريد تحقيق حلم التكريس الذي لم أجد له مكان في كل أديرة مصر لأنني على كرسي متحرك.

 

الوضع هنا في ايطاليا لا يختلف كثيراً من حيث نظرة المجتمع المدني والكنسي لذوي الاحتياجات الخاصة، ففي مصر التي ترجع حضارتها إلى 7000 سنة وايطاليا إحدى الدول المتقدمة لا يوجد فيهما مَن يَعرف أو يعترف بإمكانيات ذوي الاحتياجات الخاصة الحقيقية إلا إذا فعل احدنا شيء من الابتكار وأصبح من المشاهير. بخلاف ذلك النظرة هي ذاتها اقل درجة من باقي البشر. وهذا يرجع للنظرة المحدودة للماديات التي يعاني منها اغلب البشر مهما فاق مستواهم الحضاري أو الثقافي ونحن ذوي الاحتياجات الخاصة مَن يدفع الثمن. ولكن ما يختلف هنا في إحدى دول أوروبا أن الكل هنا متساوون داخل الكنيسة. من حيث توفير إمكانيات خاصة لمَن هم على كراسي متحركة أو طباعة البرايل للمكفوفين أو تواجد مراكز تأهيل في كل النواحي لذوي الاحتياجات الخاصة الذهنية. بجانب أن هناك الكثير من الرهبانيات مكرسة لخدمة هؤلاء ليس فقط الراهبات الهنديات كما في مصر. كما يتواجد بكل أبراشية كهنة مختصون للإرشاد الروحي وتلقي الاعترافات التي تحتاج إلى طريقة خاصة مع الأشخاص المجروحين ذهنياً. ويكفي إنني شخصياً وجدت هنا من يَقبلني كما أنا ويثق أن هناك الكثير استطيع أن أقدمه في الحياة الرهبانية على كرسيّ المتحرك. هذا بالإضافة إلى الكثير لا أود التطرق له هذه المرة يخص ما تقدمه الدولة.

 

فما يزيد هنا أن هناك مَن لديهم الرغبة في عمل الأفضل لذوي الاحتياجات الخاصة وان قل إحساسهم بالمساواة الإنسانية مع الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أنهم يمضون قدماً في تقديم المساواة الاجتماعية والحياتية في كافة المجالات بما فيها خدمة الكنيسة. أما عن مصر ما يزيد هو ذلك الحب والخير لأبنائها الذي لا مثيل له في أي مكان، لكن مع الأسف الكثير من الآباء المتسلطين يحجبون هذا الحب والعطاء عن الأبناء. في مصر عرفت كيف تكون الخدمة المجانية والعطاء الذي بلا حدود فقط مع شباب خدمت معهم في أماكن متفرقة. أما هنا فشعارهم قليل من الخدمة كثير من العمل للعيش بمستوى مادي جيد. إن زادت الاختلافات أو قلت ليست هي المشكلة، لكن المشكلة الحقيقة تتركز في نقطتين: الأولى متى ستنظر الكنيسة بعين الأم المسئولة مسئولية متساوية لجميع أبنائها؟، والثانية كيف ستغير الكنيسة من نظرتها للأولويات داخلها؟ ومتى؟… فقبل أن نتكلم عن كيف تواكب الكنيسة عصر التقدم والتكنولوجيا نفعل ما يواكب المساواة الإنسانية وتحقيق العدالة الإنجيلية في حياتنا المسيحية.

 

حين نرى هؤلاء الأطفال أو الشباب الذين حرموا من نعمة كمال العقل نشعر بكثير من الحزن مع فيض من التساؤلات يتخللها بعضاً من الشفقة على حالهم. لكن إذا توقفت نظرتنا إلى هذا الحدّ ستخلو من الرجاء. بمقدار إيماننا يكون رد فعلنا الايجابي ورجاؤنا. الواقع يُظهر لنا هؤلاء الأشخاص كأجساد خالية من العقل، ومن الفهم، ولا إرادة لها. وعندما نتعمق في التفكير نرى أنها أجساد لم تعرف معنى الحرية، ولم تُجرب يوماً شعور النجاح فهي في هزيمة مستمرة في نظرنا. أجساد خالية من معنى الكبرياء أو الكرامة، لا تعرف كيف تقبل أو كيف ترفض. لكن ما يحتاج منا إلى نظرة ابعد من تلك، نظرة فيها استغاثة بالإيمان الكامن فينا والذي يظهر على حقيقته ونحن وسط هؤلاء. الإيمان الذي أدركه أهل كل طفل وُلد وعقله ناقص النمو. الإيمان الذي ساعدهم على قبوله، ويساعدهم كل يوم مع إشراقة الشمس وهم يرددون "لتكن مشيئتك". هذا الإيمان فقط يجعلنا نحن أيضاً نقبل هؤلاء ولا نترك أنفسنا إلى تلك النظرة المحدودة التي تفتقد البصيرة ويكون لدينا ما هو أكثر من النظر.

 

"نعمة العقل حقاً كم هي غالية، ولا عوض عنها للشخص ذاته، أما نحن أهله وكل من حوله فعوضنا هو رجاء القيامة" بهذه الكلمات حدثتني ذات مرة سيدة طفلها وُلد مجروحا في عقله عندما رأت الحيرة في عينيّ. مع كل مرة أكون فيها مع هؤلاء اعرف أن الله معهم، وما نراه نحن ناقصاً يراه هو كاملاً ويزيد. في نظرنا هم يعيشون هزيمة مستمرة لكن ما لا يعلمه إلا مَن يستطيعون الحياة معهم أنهم يعيشون انتصاراً جديداً كل يوم مع الحياة، انتصاراً مع البقاء، مع كل مَن يراهم ويمجد الله في ابتسامتهم أو لعبهم أو حبهم غير المحدود.

 

"أنا هو لا تخافوا". كيف نخاف وأنت معنا، كيف لا نغلب كل يأس أو نقص وأنت معنا. كيف نخشى الحياة وأنت معنا. سنواجه.. وننطلق.. سنغني ونرقص فرحاً لأنك أنت معنا.

rachaernest47@hotmail.com