الأنبا بيشوي يتحدث لـ"وطني":
نقاط الاتفاق بين الكنائس أكثر لكن نقاط الاختلاف أصعب
حوار :فيكتور سلامة
في البدء كان الكلمة,والكلمة كان عند الله,وكان الكلمة الله…
بهذه الآية بدأ القديس يوحنا إنجيله,واختتمه قائلا :وآيات أخري كثيرة صنع يسوع أمام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب,وإنما كتبت هذه لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح هو ابن الله,ولكي تكون لكم إذا أمنتم الحياة باسمه…
ولكن هل سارت الأمور علي هذا النحو…سنوات معدودة مضت في عمر الزمان,والكنيسة واحدة مقدسة رغم الأريوسيون في مجمع نيقية,والمقدونيون في مجمع القسطنطينية,والنساطرة في مجمع أفسس,إلي أن جاء عام451 الميلادي,وكان مجمع خلقدونية وثار الخلاف بين الشرق والغرب,وتجمعت كل الكنائس الأرثوذكسية مع القديس ديسقورس,وكل الكنائس الكاثوليكية مع البابا لآون الأول…وكانت بادرة الانشقاق في الكنيسة المسيحية..أقول الانشقاق ولا أقول الانقسام-كما يتداول الكثيرين-لأن الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية لا تنقسم باعتبارها جسد المسيح..ولكن المهم ماذا حدث علي امتداد خمسة عشر قرنا بين الخلقدونيين واللاخلقدونيين…هناك طابور طويل من القديسين الذين دافعوا عن الإيمان الحق والكنيسة:القديس أثناسيوس بابا الإسكندرية…البابا كيرلس عمود الدين,والقديس ساويرس الإنطاكي,والقديس إغريغوريوس النزيانزي,إلي أن وصلنا للبابا شنودة الثالث..طريق طويل كانت الأشواك فيه أكثر من البراعم الخضراء..ولكن بقي الأمل والإيمان.واستمرت الصلاة في القداس من أجل سلامة الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية…وشهدت الأجيال حوارات مسكونية…كان آخرها الحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الذي عقد بالفاتيكان في نهاية يناير2009,وشارك فيه نيافة الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ والبراري ورئيس دير القديسة دميانة للراهبات وسكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية-بصفته رئيسا مشاركا عن العائلة الأرثوذكسية الشرقية-وبعد عودته التقتوطني بنيافته في حديث طويل…سرنا علي الأشواك..نبصر البراعم الخضراء خلال رحلة طويلة من الانشقاق…وتوقفنا عند الأمل في مستقبل يعيد الكنيسة الواحدة…وتذكرت كلمات قداسة البابا شنودة الثالث عنه إنه في منتهي الدقة في التحقيق والتدقيق…وتركته وهو العائد من روما ليستعد للسفر إلي سويسرا في حوار لاهوتي آخر…
*الانشقاق…متي وكيف وأين؟…
**بداية الحوار الرسمي بين الكنيسة الكاثوليكية في العالم كله وبين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومن انضم إليها من باقي عائلة الكنائس الأرثوذكسية في العالم,كانت في سبعينيات القرن الماضي بعد زيارة قداسة البابا شنودة الثالث للبابا يوحنا بولس السادس في الفاتيكان عام1973…كانت أول زيارة للبابا شنودة بل أول زيارة لأي من بابوات الإسكندرية بعد مجمع خلقدونية سنة 451 ميلادية,وهو المجمع الذي عزل فيه بابا الإسكندرية ديسقورس,ومن بعدها كانت القطيعة بين الكنيسة الكاثوليكية-كنيسة روما-والكنيسة الأرثوذكسية-كنيسة الإسكندرية-والتي استمرت 15قرنا!!.
*زيارة قداسة البابا شنودة لروما…جاءت بلا مقدمات؟
**في ديسمبر 1971 أثناء خلو الكرسي المرقسي بنياحة البابا كيرلس السادس نظمت مؤسسة نحو الشرق مؤتمرا للحوارات اللاهوتية في فيينا…وانتدبت الكنيسة القبطية-الأنبا بيشوي أسقف التعليم وقتئذ-لتمثيلها في هذه الحوارات التي انعقدت منها خمس حلقات نقاشية كبيرة-وكان هذا اللقاء هو الثاني-حول طبيعات السيد المسيح..والمعروف أن الخلاف الذي حدث في مجمع خلقدونية كان خلافا عقائديا حول طبيعة السيد المسيح…والأكثر أهمية من هذا أن عنوان مؤتمر فيينا كانطبيعة واحدة متجسدة لله الكلمةوهي عبارة القديس كيرلس الكبير عمود الدين-البابا السكندري الرابع والعشرين-فضلا عن أن هذا الحوار كان يدور بين الكنائس الشرقية كعائلة-كنيسة الإسكندرية القبطية ومعها الحبشية والإريترية,والسريانية في أنطاكيا ومعها الهند,والأرمينية في تشيميازين وأنتيلياس بلبنان,والكنائس البيزنظية الروم الأرثوذكسوهي القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكيا وأورشليم واليونان وروسيا ورومانيا وبلغاريا وتشيكو سلوفاكيا وجورجيا وبولندة وقبرص وصربيا وفنلندة وألبانيا-وكان يمثل هذه الكنائس من اللاهوتيين مطارنة وأساقفة وآباء كهنة وأساتذة لاهوت,ومن الجانب الآخر كانت تحضر عن الكنيسة الكاثوليكية أعداد كبيرة من الكاردينالات اللاهوتيين في العالم كله…وفي الوقت الذي اشتد فيه الحوار بين المجتمعين وقدمت دراسات وأوراق عمل علي جانب كبير من الأهمية والعمق,انتحي البابا شنودة -أسقف التعليم وقتئذ -في حجرته..وكتب صيغة وثيقة بخط يده باللغة الإنجليزية,وعاد إلي قاعة المؤتمر ليقدمها للمجتمعين,ووافق عليها لاهوتي العالم كله سواء من عائلة الكنائس المشتركة معنا في الإيمان,أو لاهوتي الكنيسة الكاثوليكية…وهذا نص الوثيقة:
نؤمن كلنا أن ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الكلمة المتجسد هو كامل في لاهوته وكامل في ناسوته,وأنه جعل ناسوته واحدا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تشويش,وأن لاهوته لم ينفصل عن ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين,وفي نفس الوقت نحرم كل من تعاليم نسطور وأوطاخي.
واستخدم هذا النص فيما بعد في كثير من المحافل الدولية والحوارات المسكونية لوضع اتفاق حول طبيعة المسيح بين الكنيسة الكاثوليكية وبين كثير من رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية,وأيضا ما بين بعض كنائس عائلتنا مع طوائف أخري,فهو يمثل نقطة انطلاق للتقارب حول طبيعة السيد المسيح.
وافق كل اللاهوتيين في مؤتمر فيينا علي الصيغة التي وضعها الأنبا شنودة وصدر عنها بيان مشترك بعد أن أضافوا إليها مقدمات ومؤخرات,ولكن بقيت هذه الصيغة هي قلب البيان الذي صدر,وشعر الأنبا شنودة أن هناك التفاف حول صيغة مشتركة لطبيعة المسيح,وأن هناك أملا في وحدة الكنيسة الجامعة المقدسة,وأن الباب الذي ظل مغلقا لقرون بدأ ينفتح أمام العالم المسيحي للالتفاف حول نص كريستولوجي لطبيعة المسيح,مثل قانوني الإيمان الذي وضع في مجمع نيقية واستكمل في مجمع القسطنطينية وتردده كل كنائس العالم…ولهذا عندما اعتلي البابا شنودة الكرسي المرقسي وجاءته دعوة-عام1973- من الفاتيكان لزيارة بابا روما لم يتردد وخلال لقائه بالبابا يوحنا بولس السادس ناقشه في أمور عديدة بنظرة تميل إلي وحدة الكنيسة…وصدر بيان مشترك وقعا سويا فيه علي نقاط الاتفاق حول طبيعة السيد المسيح المتجسد الإلهي,كما نص البيان علي تشكيل لجنة مشتركة للحوار الرسمي لمناقشة باقي النقاط من أجل الوصول إلي حل للخلافات العقائدية بين الكنيستين.
عندما زار قداسة البابا ألمانيا عام1992 أقامت جامعة بون حفل استقبال كبير لتكريم قداسته قدم فيه رئيس الجامعة درجة الدكتوراه الفخرية لقداسته تقديرا للنص الكريستولوجي عن طبيعة السيد المسيح الذي كتبه في فيينا عام1971,وأشاد رئيس الجامعة بدور البابا شنودة في السعي نحو وحدة الكنيسة,وفي العمل المسكوني,ودوره الفعال في مجلس الكنائس,ومجلس كنائس الشرق الأوسط,ومجلس كنائس كل أفريقيا,ومجلس كنائس أمريكا..وفي الحوارات المسكونية التي تجريها الكنيسة القبطية علي مستوي الكنائس,أو علي مستوي الحوار الثنائي.
*ماذا عن الجهود الساعية لوحدة الكنيسة بعد زيارة قداسة البابا شنودة الثالث للفاتيكان؟
**بابا روما وبابا الإسكندرية وقعا بيانا مشتركا يتضمن اتفاق الكنيستين حول طبيعة المسيح المتجسد الإلهي,كما جاء في النص الذي قدمه البابا شنودة في فيينا وما نود أن نسجله وأوصي البيان بتشكيل لجنة مشتركة للحوار الرسمي تستكمل مناقشة نقاط الخلاف بين الكنيستين للوصول إلي الوحدة المسيحية…وتم بالفعل تشكيل لجنة الحوار وبدأت في العمل منذ عام1974,وقطعت خطوات إيجابية في مناقشات لاهوتية حول كثير من موضوعات الخلاف,واستطاعت الوصول إلي نقاط اتفاق إلي أن كانت قرارات السادات في سبتمبر 1981,وأقام علي أثرها البابا شنودة في الدير لأكثر من ثلاث سنوات فتعطلت الحوارات…وما أن عاد قداسته إلي كرسيه في يناير1985 حتي عمل علي إحياء تلك الحوارات,وفي أول اجتماع للمجمع المقدس-بعد عودة قداسة البابا-تم انتخابي سكرتيرا للمجمع المقدس,وكان أول تكليف لي من قداسة البابا أن أبعث بخطاب إلي الفاتيكان لإعداد جدول أعمال للحوار,وسافرت إلي روما1986 حيث وضعنا وثيقة باتفاق الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية حول طبيعة السيد المسيح…وفي فبراير 1988 جاء وفد من الفاتيكان ضم الأب دوبريه الرئيس المشارك للجنة الحوار الرسمي مبعوثا من بابا روما-البابا يوحنا بولس الثاني- وعقدنا اجتماعا برئاسة البابا شنودة الثالث بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون,حضره بطريرك الأقباط الكاثوليك-المتنيح -الأنبا إسطفانوس الأول,ومطارنة من الكاثوليك,وأساقفة من كنيستنا,والدكتور موريس تاوضروس,والدكتور إميل ماهر-الأب شنودة ماهر كاهن الكنيسة القبطية حاليا بأمريكا-ووقعنا جميعا علي هذا الاتفاق.
وواصلت لجنة الحوار بعد تشكيلها الجديد اجتماعاتها بين روما ومصر…ووضعنا أيدينا علي نقاط الأتفاق ونقاط الاختلاف أيضا…وبدأنا في مناقشة قضيتي انبثاق الروح القدس,والمطهر,وهما من أهم موضوعات الاختلاف بعد موضوع طبيعة السيد المسيح…واستغرقت الحوارات سنوات طويلة,تعثرت أحيانا,ونشطت أحيانا وتوقفت أحيانا أخري,إلي أن أصبح الكاردينال فالتركسبر رئيسا للمجلس البابوي للوحدة المسيحية في الفاتيكان..وكان اختياره مكسبا كبيرا للحوار…وجاء إلي مصر عام2003 وقابل قداسة البابا شنودة الثالث,وطلب عودة الحوار مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية…وكانت كنيستنا خلال هذه السنوات قد وقعت اتفاقات مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية,وكنيسة الأرمن الأرثوذكسية…وكان من غير المقبول أن نواصل الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية دون أن تشارك معنا الكنائس الأرثوذكسية التي وقعنا معها اتفاقيات مشتركة…وطالبنا أن نستأنف الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية ومعنا كل كنائس العائلة الأرثوذكسية…وبالفعل عاد الحوار باجتماع تحضيري بروما في عام2003 انتخب فيه الكاردينال فلتر كاسبر رئيسا مشاركا للجنة الحوار عن العائلة الكاثوليكية,وتم انتخابي رئيسا مشاركا عن الكنيسة الأرثوذكسية في العالم كله…ووضعنا في الاجتماع التحضيري أجندة للحوار خلال السنوات التالية علي أن يعقد اجتماع سنوي بين القاهرة وروما بالتناوب,تمثل فيه كل كنيسة من الجانب الأرثوذكسي بعضوين -بإجمالي14عضوا-ويماثلهم14عضوا من الكنيسة الكاثوليكية من كل العالم,بالإضافة إلي الأعضاء المراقبين الذين يمكنهم حضور الاجتماعات,وغالبا ما كان يحضر في كنيستنا كمراقبين الأنبا دانييل أسقفنا في سيدني,والأنبا برنابا أسقفنا في تورينو وروما.
*ماذا كانت حصيلة هذه الحوارات المتواصلة؟
**الحوار سار في اتجاهات كثيرة,وتناول نقاطا عديدة,وفقا للأجندة التي وضعناها عام2003…كانت أمامنا عشر نقاط ناقشناها,ولم تتبق منها إلا ثلاث..وفي اجتماع هذا العام أصدرنا وثيقة عن طبيعة الكنيسة,وافق عليها كل ممثلي الكنائس لعرضها علي المجامع المقدسة لكنائسهم الوثيقة تقع في16صفحة تتضمن 67 فقرة عن طبيعة الكنيسة وتكوينها ورسالتها,وأسرار الكنيسة السبعة وأهميتها,ومفهوم الكنيسة باعتبارها جسد المسيح,ودور المجامع المقدسة وسلطات الأسقف…وكلها نقاط اتفق عليها الجميع…ولكن هناك أيضا نقاط اختلاف مازالت موجودة بالأجندة.
*هل استطيع أن أقول إننا اقتربنا من الوحدة المسيحية والكنسية الواحدة؟
…لا…لا…الحقيقة ليست بهذه الصورة ولا بهذه البساطة..نقاط الاختلاف رغم أنها تبدو قليلة إلا أنها أكبر وأصعب من نقاط الاتفاق..وعندما نصل إلي وحدة الإيمان الكامل لن تكون هناك فروقا ولذلك نحن نصلي من أجلي الوحدة…نحن نري الطريق طويل لكننا لا نتوقف عن العمل من أجل وحدة الكنيسة علي أساس الوحدة في الإيمان.