بندكتس السادس عشر والكهنة: كيف ننشر الإيمان؟

(1)

اللقاء مع إكليروس روما (الخميس 26 فبراير)

روما، الثلاثاء 3 مارس 2009 (ZENIT.org)

في 26 فبراير الماضي كان للبابا بندكتس السادس عشر لقاء تقليدي مع الرعاة والكهنة في أبرشية روما، يجريه سنوياً في بداية زمن الصوم الكبير. في هذا اللقاء طرح الكهنة ثمانية أسئلة على البابا حول مواضيع مختلفة. ننشر في ما يلي خلاصة عن السؤال الأول والإجابة التي أعطاها عنه بندكتس السادس عشر.

السؤال الأول

أمام "العالم الواقعي" و"الأشخاص المتألمين من الحياة"، كثيراً ما يشعر كهنة الرعية بأنهم "ليسوا معدين جيداً أو على نحو مناسب". من خلال مخاطبة بندكتس السادس عشر، تساءل الأب جيانبييرو بالمييري، كاهن رعية "سان فرومنتزيو آي براتي فيسكالي" عن كيفية مساعدة هؤلاء الأشخاص على لقاء المسيح من غير الوقوع في "ملاحظات بيانية".

بندكتس السادس عشر – شكراً! إخوتي الأعزاء في الكهنوت، أود أولاً التعبير عن سروري لوجودي معكم، أنتم كهنة روما: كهنتي وعائلتي. لقد قال لنا الكاردينال النائب أننا في وقت استراحة روحية. من هنا أعبر عن الشكر لتمكني من بداية زمن الصوم بوقت استراحة روحية معكم. وأضاف: نحن هنا معاً لكيما تتمكنوا من إطلاعي على تجاربكم، ومعاناتكم، وإنجازاتكم وأفراحكم. إذاً لن أقول أن المتحدث هنا الذي تخاطبونه هو وسيط الوحي. على العكس نحن هنا في تبادل عائلي يسمح لي أيضاً من خلالكم بالتعرف إلى حياة الرعايا وتجاربكم مع كلمة الله في سياق عالم اليوم. أود كذلك أن أتعلم التقرب من الواقع الذي يشعر الساكن في القصر الرسولي بالبعد عنه. فأنتم تعيشون يومياً في اتصال مباشر مع عالم اليوم؛ أما أنا شخصياً فأعيش مع العديد من الأشخاص المفيدين. على سبيل المثال التقيت مؤخراً بأساقفة نيجيريا في زيارتهم إلى الأعتاب الرسولية. وتمكنت بالتالي من خلال اللقاء معهم من الإطلاع على حياة الكنيسة في بلد مهم في إفريقيا، البلد الأكثر كثافة سكانية إذ يضم 140 مليون نسمة، عدداً كبيراً من الكاثوليك، ومن استشفاف فرح الكنيسة ومعاناتها. إلا أنني أعتبر شخصياً أن هذا الوقت وقت استراحة روحية طبعاً لأن هذه الكنيسة مطابقة لما نقرأه في أعمال الرسل. كنيسة يملأها فرح جديد بعد لقياها المسيح، لقياها يسوع المخلص الذي أرسله الله. كنيسة تعيش وتنمو كل يوم. إن الشعوب سعيدة بلقياها المسيح. لديها دعوات وباستطاعتها تقديم كهنة "هبة الإيمان" في العديد من بلدان العالم. إذاً من المنعش روحياً الاكتشاف بأن الكنيسة ليست فقط متعبة كما يحصل غالباً في أوروبا بل أنها أيضاً نشيطة وممتلئة فرحاً من الروح القدس. ولكنني أعتبر أنه من المهم أيضاً مع كافة هذه التجارب العالمية أن أطلع على وضع أبرشيتي، وعلى المشاكل والوقائع التي تعيشها هذه الأبرشية.

إنني باختصار أؤيدكم في هذه المسألة: لا يكفي التبشير أو خدمة الرعية باستخدام المعارف الثمينة التي تُكتسب خلال دراسة اللاهوت. هذا أمر مهم وجوهري إلا أنه يجب ألا يبقى نظرياً بل يتحول من معرفة أكاديمية اكتسبناها وتأملنا بها إلى رؤية شخصية لحياتنا الخاصة نصل من خلالها إلى الغير. في هذا الصدد أقول أنه من المهم من جهة تجسيد كلمات الإيمان المهمة من خلال تجربة إيماننا الشخصية، ولقائنا مع أبناء رعايانا، من غير فقدان بساطة الإيمان. فكلمات مهمة في التقليد – تضحية التكفير، وفداء المسيح والخطيئة الأصلية – تكون اليوم مبهمة المعنى. لا نستطيع العمل ببساطة على استخدام عبارات عظيمة وحقيقية لا تجد سياقها في عالمنا المعاصر. لا بل يجب علينا من خلال الدراسة وما يمليه علينا أساتذة اللاهوت وتجربتنا الشخصية مع الله العمل على تجسيد هذه الكلمات المهمة وترجمتها لتصبح جزءاً مما يريد الله إعلانه للبشر في عالمنا المعاصر.

من جهة أخرى أقول أنه يجب عدم إخفاء بساطة كلمة الله وراء أحكام معقدة من صنع البشر. أذكر أن صديقاً لي كان يقول بعد إصغائه لعظات وتأملات إناسية مطولة حول الإنجيل: ولكن هذه المقاربات لا تهمني، أود أن أفهم ما يقوله الإنجيل! غالباً ما يبدو لي أنه بدلاً من المقاربات المطولة، من الأفضل القول – كما فعلت عندما كنت ما أزال أعيش حياتي العادية – بأن هذا الإنجيل لا يروق لنا وبأننا نعارض أقوال الرب! ولكن ماذا يعني هذا الأمر؟ إن قلت بصدق أنني لست موافقاً في بادئ الأمر، أسترعي الانتباه فيُنظر إلي كإنسان يريد أن يفهم أقوال الرب. إذاً لا حاجة لسلك دروب طويلة للدخول في صلب الكلمة. كما يتعين علينا أيضاً من غير التبسيط الخاطئ الأخذ بالاعتبار بأن الرسل الاثني عشر كانوا صيادين وحرفيين من مقاطعة الجليل هذه غير معدين إعداداً خاصاً وغير مطلعين على العالم اليوناني واللاتيني. ومع ذلك، ذهبوا إلى كافة البقاع في الامبراطورية وخارجها وصولاً إلى الهند وبشروا بالمسيح ببساطة وبقوة بساطة الحقيقة. يبدو لي أن هذا الأمر مهم أيضاً: يجب ألا نفقد بساطة الحقيقة. الله موجود والله ليس كائناً فرضياً بعيداً بل هو قريب إذ كلمنا وكلمني. وبذلك نؤكد ببساطة ماهيته وكيفية إيضاحه. إلا أنه يجب ألا نتغاضى عن موضوع أننا لا نقترح تأملات ولا فلسفة بل نقترح التبشير البسيط بالله الذي عمل والذي يعمل فيّ.

وعن السياق الثقافي الروماني – الضروري – أقول أن المساعدة الأولى تكمن في تجربتنا الشخصية. نحن لا نعيش على القمر. أنا إنسان من هذا الزمان أعيش إيماني بصدق في ثقافة اليوم كشخص يعيش مع وسائل الإعلام الحالية، مع تبادل الأخبار، مع وقائع الاقتصاد، مع كل ذلك آخذ هذه التجربة على محمل الجد وأسعى إلى تجسيد هذا الواقع في. وهكذا يفهمني الآخرون. فقد قال القديس برنار دو كليرفو لتلميذه البابا أوجين في كتاب التأملات: تأمل أنك تشرب من ينبوعك الخاص أي من بشريتك الخاصة. إن كنت صادقاً مع نفسك وبدأت ترى الإيمان انطلاقاً من ذاتك من خلال تجربتك الإنسانية، شارباً من بئرك الخاص كما يقول القديس برنار، استطعت أيضاً أن تقول لغيرك ما ينبغي قوله. من هنا، أرى أنه من المهم الانتباه إلى عالم اليوم، والانتباه أيضاً إلى الرب فينا: أن نكون إنساناً من هذا الزمان وفي الوقت عينه إنساناً مؤمناً بالمسيح يحول الرسالة الأبدية إلى رسالة معاصرة.

من يعرف إنسان اليوم أكثر من الكاهن؟ إن بيت كاهن الرعية ليس في العالم وإنما على العكس في الرعية. إلى هنا كثيراً ما يأتي الناس لرؤية الكاهن من دون قناع. هم لا يأتون مقنعين بل متألمين من أوضاع معاناة ومرض وموت ومسائل عائلية. هم يأتون إلى كرسي الاعتراف من دون قناع بل بشخصهم الحقيقي. أعتقد أنه ما من عقيدة أخرى تسمح بالتعرف إلى الإنسان في إنسانيته وليس في الدور الذي يؤديه في المجتمع. من هنا نستطيع التعرف إلى أعماقه بعيداً عن دوره الاجتماعي والتعرف إلى ماهية الإنسان في نهج المسيح. وأقول أنه من المهم التعرف إلى ماهية إنسان اليوم فينا ومع الآخرين بالإصغاء إلى الرب وبقبول بذار الكلمة لأنها تتحول فينا إلى ثمار فنتمكن من مشاركتها مع الآخرين.      

(2)

 

 

السؤال الثاني

 

أعرب دون فابيو روسيني، كاهن رعية سانتا فرنشيسكا رومانا آل أرديياتينو عن قلقه حيال "تطور العلمنة وتبعاتها الاجتماعية والحياتية" التي تدفعنا إلى العودة إلى "تبشير أولي" بالإنجيل. ويوضح أن "تجارب التبشير الأولي تتضاعف حالياً محققة نتائج مشجعة للغاية. إلا أن النجاح الرعوي يمكنه على نحو متناقض أن يحجب خطأ ما أو مقاربة سيئة التعريف ربما لا تظهر مباشرة". فسأل دون روسيني البابا عن "المعايير الأساسية التي يجب اعتمادها في عملية التبشير بالإنجيل المستعجلة وعن … العناصر التي تضمن ألا تذهب سدىً كافة جهود العمل الرعوي في تبشير الجيل الجديد بالإنجيل".

بندكتس السادس عشر – يسعدني سماع أن هذا التبشير الأولي يتم بشكل فعال، وأن حدود جماعة المؤمنين في الرعية يجري تجاوزها بحثاً عن "الخراف الضالة": فلنجدّ في الذهاب إلى لقاء إنسان اليوم الذي يعيش من دون المسيح والذي نسي المسيح، فنبشره بالإنجيل. يسعدني أيضاً سماع أنه لم يتم فقط التوصل إلى هذه النتيجة بل أيضاً إلى نتائج مشجعة بالأرقام. من هنا أرى أنكم قادرون على مخاطبة الأشخاص الذين يجب أن يترسخ فيهم الإيمان أو يعاد ترسيخه فيهم.

للقيام بهذه المهمة ليست لدي طريقة واحدة أطلعكم عليها. فالسبل التي يجب اتباعها تختلف مع الأشخاص والمهن والأوضاع. إن التعليم المسيحي يشير إلى جوهر ما يجب التبشير به إلا أنه يتعين على الشخص الذي يعرف الأوضاع أن يتبع الإرشادات في سبيل إيجاد طريقة تفتح القلوب وتدعو إلى السير على طريق الرب والكنيسة.

أنتم تتحدثون عن معايير تمييز لكي لا تذهب جهودكم سدىً. أود أولاً أن أقول بأن الطرفين مهمان. فجماعة المؤمنين ثمينة ويجب عدم التقليل من شأن الواقع الإيجابي والرائع الذي يشكله هؤلاء المؤمنون – من غير إشاحة النظر عن أعداد البعيدين –. لقد قبلوا الرب في الكنيسة ويسعون إلى عيش إيمانهم جادين في السير على خطى الرب. كما ذكرت في إجابتي عن السؤال الأول، لا بد لنا من مساعدة هؤلاء المؤمنين على إدراك وجود الإيمان فيفهموا بأنه ليس من الماضي بل أنه يدلنا اليوم على الدرب ويعلمنا على عيش حياتنا الإنسانية. من المهم جداً أن يجدوا فعلاً في كاهنهم راعياً يحبهم ويساعدهم اليوم على الإصغاء إلى كلمة الله، وعلى الفهم بأنها كلمة موجهة لهم وليس فقط لأبناء الماضي أو المستقبل؛ راعياً يساعدهم أيضاً في الحياة السرية، في تجربة الصلاة، في الإصغاء إلى كلمة الله وفي حياة عدالة ومحبة لكيما يكون المسيحيون خميرة في مجتمعنا المتخبط في العديد من المشاكل والمخاطر والفساد الهائل.

بذلك أعتقد أنهم قادرون على التفكير في دور تبشيري "من دون كلام" لأنهم أشخاص يعيشون حقيقة حياة صحيحة مقدمين مثالاً عن طريقة العيش على الدروب التي يرشدنا إليها الرب. إن مجتمعنا يحتاج حقاً إلى هذه الجماعات القادرة اليوم على عيش العدالة ليس فقط من أجل ذاتها بل أيضاً من أجل الآخرين. إنه يحتاج إلى أشخاص يعرفون كيفية عيش الحياة، كما ورد في القراءة الأولى التي سمعناها اليوم. تقول هذه القراءة في البداية: "اختر الحياة": وهنا تكون الموافقة سهلة. إلا أن القراءة تضيف لاحقاً: "حياتك هي الله". بناءً على ذلك فإن اختيار الحياة هو اختيار خيار الحياة أي خيار الله. إن قام أشخاص أو جماعات بهذا الاختيار الكامل للحياة مظهرين أن الحياة التي اختاروها هي الحياة فعلاً، فإنهم يقدمون شهادة قيمة.

بالانتقال إلى ملاحظتي الثانية حول التبشير، نحن بحاجة إلى العنصرين: الكلمة والشهادة. من خلال الرب نعرف أن الكلمة ضرورية. فهي تقول لنا ما قاله هو لنا مظهرة حقيقة الله، وجود الله في المسيح والطريق التي تنفتح أمامنا. إننا نتحدث إذاً كما ذكرتم عن تبشير في الحاضر يُترجم كلمات الماضي في عالم تجربتنا. ومن المهم والأساسي منح مصداقية لهذه الكلمة من خلال الشهادة لكي لا تظهر فقط كفلسفة رائعة أو خيال وإنما كالحقيقة. حقيقة يمكننا العيش معها بل أيضاً حقيقة تسمح لنا بالعيش. من هنا أرى أن شهادة جماعة المؤمنين كأساس الكلمة والتبشير مهمة جداً. إضافة إلى الكلمة، لا بد لنا من فتح مجالات لاختبار الإيمان أمام الذين يبحثون عن الله. هذا ما قامت به الكنيسة الأولية مع روحانية الموعوظين الجدد التي لم تكن تقتصر على مجرد تعليم ديني عقائدي بل كانت تشكل مجالاً لاختبار متقدم لحياة الإيمان التي تنكشف فيها لاحقاً الكلمة التي لا يمكن فهمها إلا إن تُرجمت وتحققت في الحياة.

لذلك أعتبر أنه من المهم أن يكون إلى جانب الكلمة مكان لقبول الإيمان، مكان يجري فيه اختبار متقدم للإيمان. وأرى هنا أنه يتعين على الرعية القيام بمهمة أخرى وهي استقبال من لا يعرفون هذه الحياة المميزة للجماعة الرعوية. يجب ألا نتقوقع على أنفسنا. لدينا عاداتنا الخاصة إلا أنه يجب علينا الانفتاح والسعي وراء خلق "أروقة" أي منتديات لقاء. فالآتي من بعيد لا يستطيع الدخول مباشرة في حياة رعية تأسست مسبقاً ولها عاداتها الخاصة. والقادم الجديد يجد كل شيء مذهلاً للوهلة الأولى بعيداً عن حياته. إذاً لا بد لنا من العمل بمساعدة الكلمة على خلق ما خلقته الكنيسة الأولية مع روحانية الموعوظين الجدد: أماكن تتوافق فيها بداية عيش واتباع الكلمة وجعلها واضحة وواقعية مع أشكال تجربة حقيقية. في هذا الصدد أرى أن ما ذكرتموه مهم جداً أي ضرورة ربط الكلمة بالشهادة لحياة عادلة، ومساعدة الآخرين، والانفتاح على الفقراء والمحتاجين وإنما أيضاً على الأثرياء المحتاجين إلى رؤية قلوبهم تنفتح على الغير. إذاً هذه المجالات متعددة تختلف بحسب الوضع.

أعتقد أنه لا يمكن التحدث كثيراً على الصعيد النظري إلا أن التجربة الملموسة ستظهر الدرب التي يجب اتباعها. وطبعاً هناك معيار مهم لا بد من مراعاته وهو أن نكون في وحدة الكنيسة الكبيرة حتى في مجال بعيد بعض الشيء، مما يعني أن نكون في وحدة مع الأسقف، ومع البابا، وبالتالي مع عظمة ماضي الكنيسة ومستقبلها. وفي الواقع أن الحضور في الكنيسة الكاثوليكية لا يتضمن فقط التواجد على درب عظيمة وسامية بل يتضمن أيضاً آفاق انفتاح كبير على المستقبل. هذا المستقبل الذي لا ينفتح إلا بهذه الطريقة. بإمكاننا ربما الاستمرار في الحديث عن المضمون إلا أننا سنحظى بفرصة أخرى للقيام بذلك.

 (3)

السؤال الثالث

أراد الأب جيوسيبي فورلاي، الكاهن المعاون في رعية "القديس يوحنا فم الذهب" الكائنة في شمال أبرشية روما أن يسأل البابا عن جانبين من جوانب "الإلحاحية التربوية". فالكهنة الشباب كثيراً ما يُدعون إلى الانتقال إلى رعية أخرى، لذا تناول أولاً الأب جيوسيبي فورلاي أهمية حضور الكاهن الدائم إلى جانب الشبيبة، وأهمية "الاستقرار" في سبيل "التربية" خلال مدة زمنية محددة. ومن ثم شدد على ضرورة تنشئة الشبيبة تنشئة ثقافية لأن "شاباً بلا ثقافة قد يصبح فقير الغد".

بندكتس السادس عشر – فلنبدأ بالحديث عن النقطة الثانية. دعونا نعتبر بأنها أوسع وأسهل إلى حد ما. من المؤكد أن الرعاية الرعوية التي لا تقتصر إلا على الألعاب واستهلاك المشروبات لن تجدي نفعاً أبداً. فمعنى الرعاية الحقيقية يجب أن يتخذ له معنى التنشئة الثقافية والإنسانية والمسيحية لشخصية ستصبح ناضجة. إننا نوافق تماماً على هذه النقطة وأرى أننا نشهد اليوم بخاصة فقراً ثقافياً: لدينا معرفة واسعة إلا أننا لا نملك الرابط الباطني لأن ما ينقصنا هو رؤية موحدة للعالم. لذلك فإن الحل الثقافي الملهم من عقيدة الكنيسة ومعرفة الله التي منحتنا إياها هو ضروري حتماً. أقول أن واجب الرعاية يقوم على أن يجد الشاب بخاصة إعداداً إنسانياً تاماً يكمل شخصيته وليس فقط نشاطات لأوقات فراغه.

ينبغي طبعاً على الكاهن المربي أن يتمتع بإعداد جيد وحضور في ثقافة اليوم. كما ينبغي عليه أن يكون مثقفاً فيتمكن من مساعدة الشبيبة على التعرف إلى ثقافة مستوحاة من الإيمان. أضيف هنا أن نقطة التوجه في كل ثقافة هي الله. الله الحاضر في المسيح. إننا نرى اليوم العديد من الأشخاص الذين يمتلكون معرفة واسعة إلا أنهم يفتقرون إلى التوجه الروحي. في هذه الحالة، قد يشكل العلم خطراً على الإنسان لأن الإنسان الذي يفتقر إلى توجهات أخلاقية عميقة، يصبح رهن الاعتباط فيتقدم محروماً من التوجهات الضرورية التي تخوله أن يصبح إنساناً حقيقياً. من هنا لا بد من أن يتكون طبعاً جوهر كل تنشئة ثقافية ضرورية من الإيمان أي لقاء وجه الله الذي ظهر في المسيح، فتتمتع الثقافة بنقطة توجه وإلا تظل تائهة وغير مستقرة. فالثقافة من دون معرفة شخصية بالله ومن دون معرفة وجه الله في المسيح هي ثقافة قد تكون مدمرة لأنها لا تعرف التوجهات الأخلاقية الضرورية. من هنا أعتبر أنه يتوجب علينا القيام بتنشئة ثقافية وإنسانية عميقة تنفتح على كافة الثروات في ثقافة عصرنا، لكنها تعطينا أيضاً معياراً نعرف من خلاله إلى أي مدى نتكلم عن ثقافة حقيقية وإلى أي مدى قد تصبح مضادة للثقافة.

أما السؤال الأول فأرى أنه أصعب بكثير من الثاني – السؤال موجه أيضاً إلى نيافته – . ويتعلق بمدة إقامة الكاهن الشاب المطلوبة لكي يتمكن من إعطاء التوجيهات للشبيبة. إن العلاقة الشخصية بين الشاب والمربي هي مهمة من دون شك، تماماً كما هي القدرة على الاعتماد على مدة معينة للتوجه مع بعضهما. من هنا أؤيد فكرة أن الكاهن الذي يشكل مرجعية للشباب، لا يمكن تغييره في كل يوم وإلا يفقد الشباب هذا التوجه. إلا أنه ينبغي على الكاهن الشاب من جهة أخرى أن يعيش تجارب مختلفة في ظروف ثقافية متنوعة للتوصل أخيراً إلى اكتساب المعرفة الثقافية الضرورية ليكون بصفة الكاهن مرجعاً في الرعية على المدى الطويل. أضيف أن أبعاد الزمان في حياة الشاب مختلفة عن أبعاد حياة الكهل. فالسنوات الثلاث من 16 إلى 19 سنة، هي طويلة ومهمة تماماً كالسنوات بين الأربعين والخمسين عاماً. ففي الواقع أن الشخصية تتكون في هذه الفترة: وبالتالي فإنها درب روحية على مستوى كبير من الأهمية ومن التنمية الحياتية. لذلك أعتبر أن ثلاث سنوات تكفي كاهناً معاوناً لتنشئة جيل من الشباب؛ وتمكنه من جهة أخرى من التعرف إلى ظروف أخرى واختبار حالات مختلفة في رعايا أخرى، وتنمية معرفته الإنسانية. إنها فترة طويلة كفاية للحصول على استمرارية معينة، والمضي في درب تعليمية من التجربة المشتركة والتعلم كإنسان. فضلاً عن ذلك أعتبر كما قلت سابقاً أن السنوات الثلاث في فترة الشباب تشكل وقتاً حاسماً وطويلاً جداً لأن الشخصية المستقبلية تتكون فعلاً خلالها. إذاً أعتبر أنه من الممكن التوفيق بين الحاجتين: قدرة الكاهن الشاب من جهة على عيش تجارب مختلفة لإغناء معرفته بالتجربة الإنسانية؛ ومن جهة أخرى الحاجة إلى البقاء لوقت محدد مع الشباب لإدخالهم فعلاً إلى الحياة وتعليمهم أن يكونوا كائنات بشرية. من هنا أفكر أنه يجب التوفيق بين الجانبين: التجارب المتنوعة للكاهن الشاب واستمرارية مرافقة الشباب لإرشادهم في الحياة. ولكن دعونا نرى ما سيقوله الكاردينال النائب في هذا الصدد.

الكاردينال النائب:

قداسة البابا، أؤيدك الرأي في موضوع الحاجتين وضرورة توحيد هاتين الحاجتين. ووفقاً لاستنتاجاتي المتواضعة، أرى أننا نحافظ في روما على استقرار معين للكهنة الشباب في الرعايا، أقله خلال بضع سنوات، عدا عن بعض الاستثناءات إذ لا يخلو الأمر منها. إلا أن المشكلة الحقيقية غالباً ما تنشأ عن حاجات مهمة أو أوضاع ملموسة بخاصة في العلاقات بين الكاهن والمعاون – هذه نقطة حساسة – وندرة الكهنة الشباب. فكما سبق لي أن أخبرتكم خلال لقائي معكم، يشكل عدد الدعوات إلى الكهنوت أحد أهم المشاكل في أبرشيتنا. أنا مقتنع شخصياً أن الرب يدعو ويستمر دوماً في الدعوة. ربما يجب علينا نحن أيضاً بذل المزيد من الجهود. بإمكان روما تقديم الدعوات وأنا مقتنع أنها ستقدمها. ولكن غالباً ما تندرج العديد من الجوانب في هذه المسألة المعقدة. أعتقد أننا تمكنا فعلاً من ضمان بعض الاستقرار وسأبذل قصارى جهدي للتقيد بتوجيهات الأب الأقدس.

(4)

السؤال الرابع

السؤال الرابع طرحه دون جيامبييرو إيالونغو الذي يؤدي خدمته في أرباض روما حيث سببت الأزمة تبعات مأساوية للغاية. تسعى الرعية إلى جانب "كاريتاس" إلى إعانة الأشخاص المحتاجين إلا أن الأب إيالونغو اعتبر أنها حالة طارئة حقيقية موضحاً أن الكنيسة تقوم بمساعدة ملموسة إلا أنها لا تعطي حلاً للأزمة. وتساءل حول أسباب هذه الأزمة العامة…

بندكتس السادس عشر – بداية أود أن أشكر الكاردينال النائب على كلماته المفعمة بالثقة حول قدرة روما على تقديم المزيد من المرشحين لحصاد الرب. فلبتهل بخاصة إلى رب الحصاد، ولكن من غير أن ننسى دورنا المهم في تشجيع الشباب على الاستجابة للرب. كما أن الكهنة الشباب بخاصة مدعوون إلى إظهار منفعة العمل من أجل الرب أمام الشببية. وبذلك نمتلئ رجاءً. فلنصل إلى الرب ولنقم أيضاً بواجباتنا.

أنتقل الآن إلى هذا السؤال الذي يتناول جوهر مشاكل عصرنا. أميز مستويين. الأول هو مستوى الاقتصاد الجمعي الذي يتحقق لاحقاً وصولاً إلى آخر مواطن يتحمل تبعات إخفاق نظام ما. من واجب الكنيسة طبعاً استنكاره. وإننا كما تعلمون نعد منذ زمن بعيد رسالة عامة حول هذه المواضيع. إنني أدرك في هذا المسار الطويل صعوبة التحدث بجدارة عن واقع اقتصادي معين لأننا إن لم نعالجه بجدارة، لن تكون أقوالنا قابلة للتصديق. ومن جهة أخرى، يتطلب هذا الأمر وعياً أخلاقياً كبيراً يخلقه ويحركه وعي ناشئ عن الإنجيل. إذاً يتعين على الكنيسة استنكار هذه الأخطاء الأساسية التي يكشفها اليوم انهيار المصارف الأميركية الكبيرة، هذه الأخطاء الأساسية: ومنها جشع الإنسان كخطيئة أو الجشع كعبادة أصنام كما هو مذكور في الرسالة إلى أهل كولوسي. لا بد لنا من استنكار عبادة الأصنام هذه التي تعمل ضد الله الحق وتشكل تزييفاً لصورة الله من خلال إله آخر وهو المال. لا بد لنا من القيام بذلك بشجاعة وعلى نحو ملموس لأن الأفكار الأخلاقية العظيمة تكون غير مجدية ما لم تعتمد على معرفة الواقع التي تساعد أيضاً على فهم الأمور التي يمكننا القيام بها حسياً لتغيير الوضع تدريجياً. بغية التوصل إلى هذا الهدف، هناك أمران ضروريان هما معرفة هذه الحقيقة ووجود النوايا الطيبة لدى الجميع.

هنا نتحدث عن نقطة جوهرية: هل الخطيئة الأصلية موجودة فعلاً؟ إن لم تكن موجودة، يمكننا الاعتماد على الإدراك البصير على قاعدة الحجج المناسبة والصريحة، وكذلك على النية الطيبة الموجودة لدى الجميع. بهذه الطريقة نتمكن بسهولة من المضي قدماً وإصلاح البشرية. إلا أن الأمر مغاير هنا إذ أن الإدراك – حتى إدراكنا نحن – غامض وفقاً لما نلاحظ يومياً. لأن الأنانية التي هي أصل الجشع تكمن في حب الذات قبل الآخر، وفي إرادة ذاتية لاقتناء العالم. والأنانية موجودة فينا جميعاً وتسبب تماماً الغموض لإدراكنا إذ يمكنه أن يتمتع بمعرفة واسعة ويستند إلى حجج علمية رائعة إلا أنه لا يكون بمنأى عن مقدمات منطقية خاطئة. وبذلك يبدأ المجازفة بذكاء كبير وبخطى عظيمة على الطريق الخاطئة. حتى أن النية تتقوس حسبما يلاحظ آباء الكنيسة فلا تميل إلى القيام بالأعمال الحسنة بل تسعى أولاً إلى المنفعة الذاتية أو منفعة جماعتها الخاصة. من هنا ليس من السهل دوماً إيجاد طريق العقل أي الصواب كما أنه من الصعب جداً تنميته في الحوار. فمن دون ضوء الإيمان الذي يخرق غياهب الخطيئة الأصلية، لا يقدر العقل على التقدم. إلا أن الإيمان يتصادم لاحقاً مع مقاومة إرادتنا التي ترفض رؤية الطريق، طريق نكران الذات وتأديب الإرادة الذاتية لصالح الآخر وليس لصالح الذات.

وبالتالي أقول أنه يجب استنكار الأخطاء بطريقة حكيمة وعقلانية ليس من خلال الدعوة إلى الأخلاقيات بل على قاعدة الحجج الملموسة والواضحة للجميع في عالم الاقتصاد الحالي. إن القيام بهذه الخطوة أمر في غاية الأهمية لأن رسالة الكنيسة لطالما قامت على ذلك. إننا نعلم أن عقيدة الكنيسة الاجتماعية سعت خلال الوضع الجديد الذي حدث مع العالم الصناعي ومنذ زمن ليون الثالث عشر، ليس فقط إلى استنكار الأخطاء – غير الكافي – بل إلى الإرشاد إلى الطريق، الدروب الصعبة حيث يتطلب الأمر تدريجياً قبول العقل وقبول الإرادة، وتأديب ضميرنا، وإرادة نكران الذات في سبيل القدرة على التعاون مع الغاية الحقيقية للحياة البشرية، للبشرية جمعاء.

إضافة إلى ذلك، يترتب على الكنيسة أن تكون دوماً متنبهة وتبذل قصارى جهدها سعياً وراء معرفة حجج عالم الاقتصاد، والاستدلال وتجلية هذا الاستدلال بفضل الإيمان الذي يحررنا من الأنانية والخطيئة الأصلية. من هنا يجب أن تكون الكنيسة قادرة على التمييز والاستدلال فتعبر عن آرائها على مختلف الصعد الوطنية والعالمية في سبيل المساعدة والإصلاح. إن القيام بهذا العمل ليس سهلاً نظراً إلى تعدد المصالح الشخصية والوطنية التي تعترض على الإصلاح الجذري. ربما تبدو هذه النظرة وكأنها تشاؤمية إلا أنني أعتبرها واقعية، إذ ما دامت الخطيئة الأصلية موجودة فلن نتوصل أبداً إلى إصلاح جذري وشامل. مع ذلك، لا بد لنا من بذل قصارى جهودنا لتتم إصلاحات مؤقتة على الأقل كافية لإحياء البشرية ولتحدي هيمنة الأنانية المتمثلة في ذرائع علمية واقتصادية وطنية وعالمية.

هذا كله كان على المستوى الأول. أما المستوى الثاني فيقوم على أن نكون واقعيين ونفهم أن هذه الأهداف العظيمة للعلم الجمعي لن تتحقق في العلم الفردي – الاقتصاد الجمعي في الاقتصاد الفردي – من غير اهتداء القلوب. فلا وجود للعدالة من غير الصالحين. يجب أن نتقبل ذلك. لذا تعتبر التنشئة على العدالة هدفاً أولوياً لا بل الأولوية. لأن القديس بولس يقول أن التبرير هو نتيجة عمل المسيح وليس مفهوماً مجرداً يتعلق بالخطايا التي لا تهمنا اليوم بل يتعلق تحديداً بالعدالة التامة. والله وحده قادر على منحنا إياه وإنما يمنحنا إياه إن أظهرنا تعاوننا على مختلف المستويات، على كافة المستويات الممكنة.

من الضروري وجود أشخاص مثاليين في عالم الاقتصاد إلا أنهم لا يستطيعون وحدهم إحلال العدالة في العالم. لا تتحقق العدالة إلا مع أشخاص صالحين. وهؤلاء الأشخاص لا يكون لهم وجود من غير العمل المتواضع واليومي في سبيل هداية القلوب وإحلال العدالة في القلوب. هكذا فقط تنتشر العدالة الإصلاحية. من هنا تبرز أهمية عمل الكاهن ليس فقط للرعية بل أيضاً للبشرية، لأنه في غياب الرجال الصالحين كما ذكرت مسبقاً تظل العدالة مجردة، وفي ظل تعارض أنانية الأشخاص وحتى الأكفاء منهم معها، لن تتحقق البنى الجيدة.

إن عملنا المتواضع واليومي هو أساسي من أجل بلوغ الأهداف العظيمة للبشرية. لذا لا بد لنا من العمل معاً على كافة المستويات. يجب على الكنيسة جمعاء الاستنكار وإنما يجب عليها أيضاً الإعلان عن كيفية القيام بالأعمال الممكنة. كذلك يجب على مجالس الأساقفة والأساقفة التحرك سريعاً إلا أنه يتعين علينا جميعاً التربية على العدالة. أعتقد أن حديث إبرهيم مع الله ما يزال حقيقياً وواقعياً (تك 18: 22، 23)، عندما يقول الأول: أستهلك المدينة فعلاً؟ ربما هناك خمسون باراً في المدينة! وربما عشرة أبرار. يكفي أن يكون فيها عشرة لتحيا المدينة كلها. اليوم، في حال عدم وجود عشرة أشخاص أبرار في العقيدة الاقتصادية للعالم سيهلك المجتمع حتماً. لذا لا بد من بذل كافة الجهود من أجل تنشئة وضمان عشرة أبرار على الأقل أو أكثر إذا أمكن. من خلال إعلاننا فلنعمل على أن يكثر الأبرار وتحل العدالة في العالم.

وبالحديث عن التبعات، فإن المستويين متلازمان. فإن لم نعلن من جهة العدالة الجمعية لن تنتشر العدالة الفردية. ولكننا من جهة أخرى في حال لم نقم بعمل متواضع في العدالة الفردية، فلن تتطور العدالة الجمعية. وكما ذكرت في رسالتي العامة الأولى، تعتبر المحبة ضرورية دوماً في كافة الأنظمة التي تتطور في العالم، إلى جانب العدالة التي نسعى إليها. فانفتاح القلوب على العدالة والمحبة يعني التنشئة على الإيمان والإرشاد نحو الله.   

(5)

السؤال الخامس

هذا السؤال طرحه دون ماركو فالنتيني، الكاهن المساعد في رعية "القديس أمبرواز": مع حفظ أهمية التنشئة الإنسانية والفلسفية والنفسية في الجامعات والإكليريكيات، أود الاستفسار عما إذا كان عملنا لا يتطلب تنشئة ليتورجية معمقة أو عما إذا كانت العبادة وتنظيم الدراسات الحالي يتفقان بشكل مرضٍ مع دستور المجمع المقدس  رقم 16، الذي يعتبر أنه يجب إحصاء الليتورجية مع المواد الضرورية والرئيسية الأكثر أهمية، وتعليمها من الجانب اللاهوتي والتاريخي والروحي والرعوي والقانوني، وأنه يجب على أساتذة المواد الأخرى الحرص على أن تكون الصلة مع الليتورجية واضحة. إنني أطرح هذا السؤال لأنني بالاستناد إلى مقدمة مرسوم "التنشئة الكهنوتية" أعتقد أن أعمال الكنيسة المتعددة في العالم وأعمالنا الرعوية الخاصة تعتمد بشكل كبير على إدراكنا للسر غير الفاني الذي ينشأ عن عمادنا، وتثبيتنا، وسيامتنا الكهنوتية.

بندكتس السادس عشر – إذاً سؤالك هو التالي: ما هو حيز التربية الليتورجية وواقع الاحتفالات السرية في إطار عملنا الرعوي المتنوع والمتعدد الأبعاد؟ هنا أرى أنه أيضاً سؤال حول وحدة تبشيرنا وعملنا الرعوي المتعددة الأبعاد. فلا بد لنا من البحث عن نقطة الوحدة التي تصبح من خلالها جميع اهتماماتنا عملاً يقوم به الراعي. وحسبما فهمت فإنكم تؤيدون فكرة أن يكون الاحتفال بالأسرار نقطة الوحدة التي تخلق خلاصة كافة أبعاد عملنا وإيماننا. مما يعني بالتالي التدريب على الأسرار الذي يعلمنا كيفية الاحتفال.

إنني أرى أنه من المهم جداً ألا تكون الأسرار، أي الاحتفال القرباني بالأسرار، غريبة إلى جانب أعمال أكثر معاصرة كالتربية الأخلاقية والاقتصادية والأمور الأخرى التي ذكرناها. قد يحدث أن يبقى السر منعزلاً بعض الشيء في سياق أكثر واقعية ويصبح واقعاً لا ينصهر كلياً في كياننا البشري. شكراً على هذا السؤال لأنه لا بد لنا حقاً من التعليم على كيفية أن نكون بشراً. لا بد لنا من تعليم هذا الفن العظيم: كيف نكون بشراً؟ هذا الأمر يتطلب الكثير كما لاحظنا مسبقاً: من استنكار الخطيئة الأصلية في قاعدة اقتصادنا ومختلف الميادين في حياتنا، إلى توجهات ملموسة حول العدالة، وإلى تبشير غير المؤمنين. إلا أن الأسرار ليست غريبة في عالم الحقائق الأكثر واقعية. إن السر هو القلب الذي تنبع منه قوتنا ونلجأ إليه لإيجادها. لذلك أعتقد أن التعليم الديني المدرب على الأسرار هو مهم حقاً لأنه واقعي يتعلق بحياتنا نحن رجال اليوم. إذا صح أن الإنسان لا يتمتع بذاته بالفطنة – التمييز بين الأمور الصحيحة وغير الصحيحة – بل يجد هذه الفطنة في الله، فمن المهم ألا يكون الله بعيداً بل معترفاً به وواقعياً فيدخل إلى حياتنا ويكون لنا صديقاً نتحدث معه ويتحدث معنا. ينبغي علينا أن نتعلم كيفية الاحتفال بسر الافخارستيا، والتعرف عن كثب إلى يسوع المسيح، الله المتأنس، والتواصل معه، وتعلم الإصغاء إليه وجعله دوماً يخيم فينا. لأن المناولة السرية تقوم تحديداً على هذا التداخل بين شخصين. فأنا لا آكل قطعة خبز أو جسد وإنما أفتح قلبي للقائم من بين الأموات فيخيم فيّ وليس فقط خارجاً عني، ويتكلم فيّ ويغيرني ويعطيني معنى العدالة، وحيوية العدالة، والحماسة للإنجيل.

هذا الاحتفال الذي لا يقترب فيه الله منا فقط بل يدخل في بنية وجودنا هو أساسي من أجل العيش فعلاً مع الله ومن أجل الله وحمل نور الله في هذا العالم. لا نريد الآن الدخول في التفاصيل. وإنما من المهم دوماً أن يكون التعليم السري تعليماً وجودياً. فمن خلال تقبل أكبر لأهمية السر – حيث تتوقف الكلمات والملاحظات – يصبح التعليم واقعياً إذ يرشدني إلى الله ويرشد الله إلي. إنه يرشدني إلى الآخر لأن الآخر يقبل المسيح بدوره مثلي تماماً. إذاً إن كان المسيح عينه يسكن في وفيه، فإننا لم نعد كائنين منفصلين. من هنا تولد عقيدة جسد المسيح لأننا جميعاً واحد إن نلنا سر الافخارستيا في المسيح نفسه. وبالتالي فإن الآخر قريب مني فعلاً إذ لسنا بروحين منفصلتين بل إننا واحد في "سر" المسيح، أي أن التعليم القرباني والسري يجب أن يبلغ جوهر وجودنا ويرشدنا إلى الانفتاح على صوت الله وقبول الانفتاح لكيما يحطم الخطيئة الأصلية المتمثلة في الأنانية ويصبح انفتاحاً تاماً لوجودنا فنصبح أبراراً حقيقيين. لذا ينبغي علينا جميعاً أن نتعلم المزيد عن الليتورجية التي ليست بالغريبة وإنما هي جوهر وجودنا كمسيحيين لا تنكشف بسهولة أمام الإنسان البعيد بل تشكل من جهة أخرى الانفتاح على الآخر وعلى العالم. يجب أن نتعاون جميعاً من أجل الاحتفال بتعمق بسر الافخارستيا: ليس فقط كطقس بل كعملية وجودية تخاطب كياننا أكثر من أي شيء آخر فتغيرنا وتبدلنا. ومن خلال تبديلنا، تستهل تبديل العالم الذي أراده الرب من خلالنا.

(6)

السؤال السادس

هذا السؤال طرحه الأب الكرملي لوسيو ماريا ثاباتوري حول الخدمة الأبوية.

"تحدثتم عن الخدمة الفريدة والخاصة بأسقف روما الذي يشرف على وحدة المحبة العالمية. أطلب منكم متابعة هذا التأمل بتوسيعه إلى الكنيسة جمعاء: ما هي الهبة اللدنية الفريدة لدى كنيسة روما، وما هي الخصائص التي تجعل منها بفعل نعمة إلهية فريدة في العالم أجمع؟ إن أسقف كنيسة روما هو البابا المسؤول عن الكنيسة جمعاء: ما هي تأثيرات ذلك على خدمته بخاصة في أيامنا الحالية؟… نود أن نعرف كيف نعيش هذه الهبة، هبة العيش ككهنة في روما وما تتوقعونه منا ككهنة رومانيين. بعد أيام قليلة، سوف تزورون مقر بلدية روما للقاء السلطات المدنية في روما وعرض المشاكل المادية التي تعاني منها مدينتنا: نسألكم اليوم أن تطلعونا على المشاكل الروحية التي تقاسيها روما وكنيستها. وعن زيارتكم إلى مقر البلدية، سمحت لنفسي أن أهديكم موشحة باللهجة الرومانية، طالباً منكم التحلي بالصبر للاستماع إليها: زيارة البابا إلى مقر البلدية/ زيارة مثيرة للدهشة/ لأن خروجه هذه المرة من مقره/ يصب في مصلحة جيرانه./ دعاه رئيس البلدية والمجلس البلدي/ بكل فخر ومحبة/ ففي روما إن شئت أم أبيت/ لا سبيل للاستغناء عن البابوية./ في قلبك روما/ حملت قوة الحضارة./ فعندما اختارك بطرس/ جعلك الله سرمدية./ رحبي بالبابا بندكتس الذي جاء يباركك ويشكرك!"

بندكتس السادس عشر – شكراً. لقد استمعنا إلى القلب الروماني، قلب الشعر. من الممتع الاستماع إلى حديث باللهجة الرومانية ومعرفة أن الشعر متأصل في القلب الروماني. ربما يكون امتيازاً طبيعياً منحه الرب لأهل روما. إنه هبة لدنية تفوق الهبات الكنسية.

أعتقد أن السؤال الذي طرحتموه يتألف من قسمين. تسألون أولاً عن المسؤولية الفعلية لأسقف روما في أيامنا هذه، ومن ثم توسعون الامتياز الأبوي لكنيسة روما جمعاء – كان الأمر سيان في الكنيسة الأولية – فتسألون عن واجبات كنيسة روما لتلبية هذه الدعوة.

ليس من الضروري هنا عرض عقيدة الأولية إذ أنكم تعرفونها جيداً. إلا أنه من المهم التوقف عند الموضوع القائم على أن خليفة بطرس وخدمته يضمنان فعلاً شمولية الكنيسة، والتفوق على الانتماءات الوطنية والحواجز الأخرى الموجودة اليوم لدى البشرية لتكون حقاً كنيسة في تنوع وغنى الثقافات المتعددة.

نلاحظ أن الجماعات الكنسية الأخرى والكنائس الأخرى تشعر بالحاجة إلى نقطة مشتركة للحؤول دون الوقوع في شرك الانتماء الوطني وتعريف ثقافة محددة، ولتصبح منفتحة على بعضها البعض، فتكون مرغمة نوعاً ما على الانفتاح دوماً على الأخريات. هنا تظهر خدمة خليفة بطرس الأساسية المتمثلة في ضمان هذه الكاثوليكية التي تتضمن التعددية والتنوع وغنى الثقافات واحترام الاختلافات، وتنبذ التسلط وتوحد الجميع مرغمة إياهم على الانفتاح والتواجد في وحدة عائلة الله التي أرادها الرب وضمن من أجلها خليفة بطرس كوحدة للتنوع كله.

طبعاً يجب على كنيسة خليفة بطرس أن تحمل مع أسقفها فرح هذه المسؤولية. ففي الرؤيا، يظهر الأسقف فعلاً كملاك كنيسته أي ككمال كنيسته الذي يجب أن تلبيه الكنيسة عينها. وبالتالي يجب على كنيسة روما، كنيسة خليفة بطرس، أن تضمن تحديداً هذه الشمولية، هذا الانفتاح، هذه المسؤولية من أجل سمو المحبة، تفوق المحبة هذا الذي ينبذ الخصوصيات. كما يتعين عليها أن تضمن الوفاء لكلمة الرب ولهبة الإيمان التي لم نخترعها نحن بل الله منحنا إياها. هذا هو دوماً واجب كنيسة روما وامتيازها الذي يقضي بنبذ العادات والخصوصيات والبدع والهرطقات. هذا واجب ضمان الشمولية والوفاء للكمال وغنى إيمانها ودربها في التاريخ المنفتح دوماً على المستقبل. ومع شهادة الإيمان والشمولية هذه، يجب أن تكون قدوة محبة.

هذا ما يقوله لنا القديس أغناطيوس الذي يرى في هذه الكلمة الخفية سر الافخارستيا وفعل المحبة للآخرين. إن هذا الأمر مهم جداً بالعودة إلى النقطة السابقة: أي هذا التماثل مع سر الافخارستيا، سر المحبة وحضور المحبة التي أعطيت في المسيح. لا بد لها من أن يكون دوماً محبة، رمزاً ودافعاً للمحبة في الانفتاح على الآخرين، ولبذل أنفسنا للآخرين، ولهذه المسؤولية تجاه المحتاجين والفقراء والمنسيين. إنها مسؤولية عظيمة.

إن الترؤس في سر الافخارستيا يؤدي إلى الترؤس في المحبة التي لا يمكن إظهارها إلا من خلال الجماعة عينها. هذا هو الواجب الكبير، السؤال الكبير الذي يُطرح على كنيسة روما: أن تكون قدوة ونقطة انطلاق للمحبة. من هنا فإنها معقل المحبة.

إننا في بيت الكهنة في روما من مختلف القارات والأعراق والفلسفات والثقافات. لذا يسعدني أن يعبر بحق بيت الكهنة في روما عن الشمولية وأن يتواجد حضور الكنيسة جمعاء في وحدة الكنيسة المحلية الصغيرة. ومن الصعب والموجب أيضاً أن نكون رسل شهادة المحبة وأن نكون في عداد الآخرين مع ربنا. لا يسعنا إلا الابتهال إلى الرب ليساعدنا في الأبرشيات والجمعيات الخاصة فنتمكن معاً من أن نكون أوفياء لهذه الهبة ولهذا التفويض: الترؤس في المحبة.

 (7-8)

 

السؤال السابع

تساءل الأب غييرمو م. كاسونه من جماعة Schoenstatt حول "كيفية تحسين العلاقة بين كلمة الله والتقوى المريمية، سواء في الحياة الروحية الكهنوتية أم في العمل الرعوي". وطلب من البابا تقديم الإيضاحات من خلال تعليمه حول هذا الموضوع.

بندكتس السادس عشر – أعتقد أنكم أجبتم عن سؤالكم. ففي الحقيقة أن مريم هي المرأة المصغية كما نراها في اللقاء مع الملاك ومجدداً في كافة مشاهد حياتها، من العرس في قانا وحتى يوم عيد العنصرة عندما تقف وسط الرسل تحديداً من أجل استقبال الروح. هذا هو رمز انفتاح الكنيسة التي تنتظر مجيء الروح القدس.

عند البشارة، يمكننا أن نستشف حالة الإصغاء، هذا الإصغاء حقيقي، الإصغاء الباطني الذي لا يكتفي فقط بالقبول بل يستوعب الكلمة ويحفظها – وتليه الطاعة الحقيقية كما لوكانت كلمة باطنية أي كلمة أصبحت فينا ولنا، كشكل من أشكال حياتنا. أعتقد أنه من الرائع ملاحظة هذا الإصغاء الفعال أي الإصغاء الذي يجذب الكلمة بطريقة تدخل فينا فتصبح كلمة، مع قبولها في أعماق قلوبنا. وهكذا تصبح الكلمة تجسداً.

هذا الإصغاء يظهر أيضاً في نشيد مريم. إننا نعلم أنه يتألف من كلمات من العهد القديم ونرى أن مريم هي حقاً امرأة مصغية كانت تحفظ الكتاب المقدس في قلبها. لم تكن تعرف بعض النصوص فقط وإنما كانت تتماثل مع الكلمة بحيث تبلورت كلمات العهد القديم كنشيد في قلبها وعلى شفتيها. نرى أن حياتها كانت ممتلئة من الكلمة، وأنها غاصت في الكلمة وحفظتها فأصبحت حياة فيها لتصير لاحقاً ومجدداً نشيد تسبحة وإعلان لعظمة الله.

ألاحظ أن القديس لوقا يذكر في حديثه عن مريم ثلاث أو أربع مرات على الأقل أنها فهمت الكلمات وحفظتها في قلبها. وهذا ما كان للآباء مثال الكنيسة، ومثال المؤمن الذي يحفظ الكلمة ويحملها في داخله، فلا يقرأها فقط بل يترجمها في نفسه ليعرف ما كانت عليه في تلك الحقبة وما هي المسائل الفقهية اللغوية. كل هذا مفيد ومهم لكن الأمر الأكثر الأهمية هو الإصغاء إلى الكلمة التي يجب حفظها والتي تصبح فينا كلمة وحياة وحضور الرب. لذلك فإن الرابط بين العلم المريمي ولاهوت الكلمة الذي تحدث عنه أيضاً آباء السينودس والذي سوف نتناوله في وثيقتنا ما بعد السينودس رابط في غاية الأهمية.

من البديهي أن العذراء هي كلمة الإصغاء، الكلمة الهادئة، وإنما أيضاً كلمة التسبيح والبشارة لأن الكلمة في الإصغاء تتحول مجدداً إلى جسد فتصبح حضوراً لعظمة الله.

السؤال الثامن

قال الأب السالسي بييترو ريغي: "لقد أحدث المجمع الفاتيكاني الثاني الكثير من التغيرات المهمة في الكنيسة لكنه لم يبطل ما كان موجوداً سابقاً. يبدو لي أن العديد من الكهنة واللاهوتيين يميلون إلى اعتبار بعض الأمور وكأنها ناشئة عن روح المجمع مع أنها لا تمت إلى المجمع عينه بصلة. أذكر منها مثلاً الغفرانات؛ هناك كتاب غفرانات المتابة الرسولية. نعود من خلال الغفرانات إلى كنز الكنيسة ونتمكن من الصلاة من أجل الأنفس المطهرية. كما تتوفر أيضاً روزنامة ليتورجية توضح كيفية وأوقات الحصول على الغفرانات الكاملة إلا أن العديد من الكهنة لا يتحدثون عنها ويحرمون بالتالي الأنفس المطهرية من صلوات مهمة. وعن البركات، يوجد كتاب البركات الذي ينص على تبريك الأشخاص، والأماكن والأشياء وحتى الأغذية. إلا أن العديد من الكهنة يجهلون هذه الأمور في حين أن آخرين يعتبرونها سابقة للمجمع ويردون بذلك المؤمنين الذين يطالبون بحقوقهم.

أما أعمال التقوى المعروفة، فلم يبطل المجمع الفاتيكاني الثاني أيام الجمعة الأولى في كل شهر إلا أن العديد من الكهنة توقفوا عن الحديث عن ذلك أو يتحدثون بالسوء عنها. هناك اليوم شعور بالنفور لأن هذه الأعمال تعتبر قديمة ومؤذية وسابقة للمجمع. إنني على العكس أعتقد أن هذه الصلوات والممارسات المسيحية هي عصرية ومهمة وبالتالي لا بد من استعادتها وإيضاحها بطريقة مناسبة لشعب الله في توازن صحيح وفي الحقيقة الكاملة للمجمع الفاتيكاني الثاني".

بندكتس السادس عشر – إننا نتحدث هنا عن حقائق لم يتناولها المجمع إلا أنه يعتبرها حقائق كنسية. هذه الحقائق تعيش وتنمو ضمن الكنيسة. هذا ليس الوقت المناسب للتطرق إلى موضوع الغفرانات الواسع. لقد عدل بولس السادس هذا الموضوع وأوضح لنا السياق المناسب لفهمه. وباعتقادي أن الأمر يتعلق ببساطة بتبادل هبات أي بالأمور الحسنة في الكنيسة، الأمور المتوفرة للجميع. مع مفتاح الغفران هذا، نستطيع المشاركة في خيرات الكنيسة. أما البروتستانت فيعترضون على ذلك معتبرين أن الكنز الوحيد هو المسيح. إلا أنني أرى أنه من الرائع أن المسيح – في محبته اللامتناهية وألوهيته وإنسانيته – أراد أن يضيف فقرنا إلى كل ما صنعه. فهو لا يعتبرنا فقط كموضوع رحمته بل يجعلنا معه علة رحمته ومحبته كما لو أنه – حتى ولو أن الطريقة ليست كمية ولكن على الأقل سرية – أراد إضافتنا إلى الكنز الكبير لجسد المسيح. لقد أراد أن يكون الرأس مع الجسد. كما أراد أن يكتمل سر فدائه مع جسده. إن يسوع أراد الكنيسة جسداً له تتحقق فيه كل ثروة أعماله. يتضح عن هذا السر تحديداً وجود كنز كنسي، وقدرة الجسد والرأس على إعطاء الكثير مما يجعلنا قادرين على الأخذ من الآخر وإعطائه.

الأمر سيان بالنسبة للأمور الأخرى مثل أيام الجمعة المخصصة للقلب الأقدس والرائعة في الكنيسة. هذه ليست بالأمور الضرورية إلا أنها نضجت في غنى التأمل حول السر. وبذلك فإن الرب يقدم لنا هذه الإمكانيات ضمن الكنيسة. لا أظن أن الوقت مناسب للدخول في التفاصيل. بإمكان كل شخص التمييز بين المهم وغير المهم، إلا أن يجب ألا يستخف أحد بهذه الثروة التي تطورت على مر الأزمنة كهبة وكتكاثر الأنوار في الكنيسة. إن نور المسيح نور أوحد يظهر في كافة ألوانه ويقدم معرفة وغنى هبته، والتفاعل بين الرأس والجسد، والتفاعل بين الأعضاء، لكيما نتمكن من أن نكون معاً جسداً حياً يقدم فيه كل عضو للأعضاء الأخرى وتقدم كلها للرب الذي بذل نفسه من أجلنا.   

 

***********

نقلته من الفرنسية إلى العربية غرة معيط (ZENIT.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009