إيمان المرأة الكنعانية يكشف سرّ الخلاص

 

السيد المسيح والكنعانية… بريشة الأيقونة

في لقاءات يسوع المسيح سواء ضمت معجزة أو لا نجد يسوع دائماً في حوارٍ مع الآخر، فالمُشترك بين جميع من قابلهم يسوع شيئان هما الحوار أولاً ثم الخلاص. فقد أعطى فرصة للجميع أن يتحدثوا إليه وعنه، وان يخبروه عن حياتهم قبل مجيئه وحياتهم بعد لقائه. لكن ما من مقابلة مع يسوع المسيح كان حوارها أقسى وأعمق من حواره مع المرأة الكنعانية. التي استطاعت أن تحاوره برغم العائق الذي وضعه يسوع أمامها لكنها ذهبت حيث ذهب في الحديث ونالت ما جاءت في طلبه.

 

يذكر لنا مرقس الإنجيلي (مر7: 24- 30) في هذا النص أن يسوع المسيح انتقل من مكان إلى آخر حتى وصل صور ودخل بيتاً وكان لا يريد أن يعلم به أحد، لكنه لم يستطع أن يخفي أمره، وفي وقت قصير رآها أمامه، إنها المرأة الكنعانية التي جاءت تطلب منه الشفاء لابنتها. أتوقف عند بطلة هذا اللقاء، هذه المرأة التي تُعتبر أجرأ من قابلهم يسوع  المسيح. تُصيبني الدهشة لجرأتها وكلامها في ذلك الوقت كما تصدمني كلمات يسوع في حواره معها.

 

لماذا تُدهشني هي؟ ولماذا يصدمني السيد المسيح؟… تُدهشني لأنها في زمن لا مكان فيه لغير اليهود، فاليهود "مختارون وغيرهم مجرد خليقة لا ترقى إلى مستواهم". وبالرغم من ذلك أجابته ولم تكترث انه يهودي. تُدهشني لأنها امرأة. فالمرأة التي طالما كانت في العهد القديم اقل مكانة من الرجل وليست أكثر من جارية في اغلب الأحوال يعُترف بها الآن في هذا الحوار مع ابن الله المتجسد أنها استطاعت أن تُغير هذه النظرة اليهودية القديمة في حوار إيماني عمقه الألم. هذا الألم كان سبب لقائها بالرب يسوع وبه استطاعت أن تنال رجاءها في شفاء ابنتها وان تنال كرامة لم تشعر بها يوماً قبل هذا اللقاء.

 

ويأتي سبب إصرارها وردها على يسوع المسيح بكلمة تحمل الكثير من القوة والجرأة عندما قالت له "يا سيدي حتى الكلاب تأكل تحت مائدة البنين!" وليس السبب فقط في جرأتها وإنما هما سببان. الأول لأنها عرفت في قلبها أن شفاء ابنتها معه، ولم تكن تتجرأ بالرد على رجل يهودي هكذا إلا لانها عرفت انه هو المسيح ووحده يستطيع شفاء ابنتها. آمنت وإيمانها أعطاها قوة لتحمل في إجابتها رداً قاطعاً به نالت طلبها. والسبب الثاني يكمن في احتياجها. الاحتياج فقط يجعلنا نتخطى كل الحدود وننسى كل شيء ماعدا هذا الاحتياج. واحتياج المرأة الكنعانية هنا ليس مادة أو طلبا عاديا إنما احتياج حياة لابنتها التي تغيرت بفعل هذه الروح الشريرة، احتياج لان تتخلص هي من هذا الشرّ الساكن في ابنتها والذي يجلب عليهما العار.

 

على الطرف الآخر من الحوار نجد يسوع المسيح وقد كان مختلفاً في هذا الحوار. وأقول صدمني لأن المسيح المتجسد من اجل جميع البشر يتكلم بهذه القسوة مع امرأة راكعة أمامه!؟ هذا يصعب إدراكه. ولستُ مقتنعة أن هذه كانت طريقته في اختبار إيمانها لأنه ما اعتاد هذه الطريقة التي بها أهانها "دعي البنين أولا يشبعون، فلا يجوز أن يؤخذ خبز البنين ويُرمى للكلاب". كانت إهانة ولم تكن لها وحدها بل لكل قومها. بالتفكير العقلاني ارفض قبول هذا التصرف من يسوع المسيح. لكني أتأمل الحوار واذهب حيث كانت تلك المرأة الوسيطة راكعة عند ركبتي السيد والمعلمّ راجية التغيير في حياة ابنتها وحياتها أيضاً، وكيف قاوم المسيح طلبها ووضع لها عائقا وذكرها أن الوثنيين هم كلاب كما يشبههم اليهود "كل مَن يأكل مع وثني كمَن يأكل مع كلب" ولا ينبغي أن يُعطى لهم شيئ، فاليهود فقط هم شعب الله. ويأتي هنا الخبز تشبيها للخلاص الذي في نظرهم فقط لليهود، فلا خلاص للوثنيين. وبذلك اتسعت المسافة بين المرأة الكنعانية ويسوع المسيح، فتعدت فارق الإيمان واللغة والثقافة. لكن برغم كل هذا لم تنقص ثقتها فيه، فصدقت على قوله وأكدت أنهم بالفعل كما يقول كلاب ولكن أليس للكلاب نصيب في هذا الخبز؟! ألم يحن الوقت لنرتفع إلى مستوى البنين ويكون لنا نصيب في هذا الخبز أي في هذا الخلاص الذي جئت من اجله؟!…. لم يكن يختبر إيمانها فقط كما قلت بل كان يكشف عن الإيمان الذي تعمق بالألم. الألم الذي سيكون طريق لخلاص الجميع يهوداً كانوا أم وثنيين.

 

مع المرأة الكنعانية يُخبرنا يسوع بطريق غير مباشر عن ألم الصليب الآتي الذي سيدفعه ثمناً لخلاص جميع البشر وليس فقط اليهود. 

 

 

استطاع إيمان المرأة الكنعانية أن يكشف لها سرّ التجسد الإلهي، فكشف بدورها للمسيح أنها عرفت السرّ، سرّ سبب مجيئه، السبب الذي لم يصل إليه أعلى اليهود الذين قابلهم، ولم تكتفي الكنعانية بمعرفة سرّ الخلاص بل وطالبت به.

 

حوار المرأة الكنعانية يحوي في أعماقه إيمانٌ شجاع، لا يعرف الهزيمة. إيمان جعلها تنتزع من يسوع المسيح شفاء ابنتها، الطلب الذي جاءت من اجله وركعت وتوسلت وقبلت تشبيهها بالكلاب لتُنهي هذه المقابلة في صالحها وتنل ما جاءت في طلبه بل وأخبرته أنها علمت بسرّ مجيئه إلى العالم وبسرّ الألم الذي ينبغي أن يذوقه حتى يتم هذا الخلاص.