عظة قداس ذكرى الأربعين لنياحة مثلث الرحمات

عظة الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري

في قداس ذكرى الأربعين لنياحة مثلث الرحمات

غبطة البطريرك الكاردينال  الأنبا / اسطفانوس الثاني غطاس اللعازري

(كاتدرائية القيامة، الإسكندرية، الجمعة 6 مارس 2009)

 

"أذكروا رؤساءكم، إنهم خاطبوكم بكلمة الله، واعتَبِروا بما انتهت إليه سيرَتُهم، واقتدوا بإيمانهم.

إن يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عب 13/7-8)

 

سيدي صاحب الغبطة البطريرك الأنبا / أنطونيوس،

الأب / أنطوان – بيير نكد الرئيس الإقليمي للآباء اللعازريين في الشرق

حضرات القمامصة والآباء الأحباء،

الأخوة والأخوات الاعزاء.

 

أتحدث إليكم بتشريف من أبينا صاحب الغبطة البطريرك الأنبا / أنطونيوس، وبتكليف من الأب / أنطوان-بيير نكد، الرئيس الإقليمي للآباء اللعازريين في الشرق.

منذ أربعين يوماً غادرنا مثلث الرحمات غبطة البطريرك الكاردينال الأنبا / اسطفانوس الثاني غطاس إلى ملء الحياة مع المسيح، ولم تنقطع شهادات من عرفوه، ولدينا منها في الصحف والمجلات المسيحية الكثير والكثير. ومع ذلك، كل ما مرت الأيام، لاحت جوانب جديدة من حياته.

حقاً، إن المشاعر لتتشابك أمام شخصية راحلنا الكريم بسبب كثرة ما جمع من الخصال الإنسانية والفضائل الإنجيلية والمواهب الكهنوتية والرهبانية، فلا يدري من يعرفه، ولو قليلاً، من أين ينطلق الحديث الأساسي عنه: أمن الكاهن الورع، أم من المرشد الواعي، أم من المعرف المستنير، أم من الراهب الملتزم، أم من المرسل الغيور، أم من المطران الراعي، أم من البطريرك الحكيم، أم من الكاردينال المتواضع، أم من المريض الشجاع،  أم من شعاره الأسقفي- البطريركي "الطيبة والتدبير والمعرفة"؟

 بالنسبة لي شخصياً، جاء الخلاص من هذه الحيرة من وصيته الروحية التي قال فيها:

 

"ولدت فقيراً، وعشت فقيراً، وسوف أموت فقيراً،

 زاهداً العالم وما فيه لخير الفقراء.

وأصرح بأن كل ما لي أو أمتلكه أو مكتوب باسمي، ليس لي، بل للبطريركية".

 

نعم، ها هو مفتاح الدخول إلى شخصيته المحبوبة: هذا الفقر الاختياري هو أحد النذور الرهبانية الدائمة التي بها يكرس كاهن الرسالة (أو الراهب اللعازري) نفسه وبطريقة دائمة للسير على خطى الرب يسوع مبشر الفقراء.

  ولكن التزامه بهذه النذور كان يمكن أن يضحي غير ملزم بمجرد اختياره مطراناً. ثم إنه من اللافت للنظر، أيضاً، أن مثلث الرحمات قضي في الرهبنة خمسة عشر عاماً فقط، بينما قضى خارجها – كمطران ومدبر رسولي وبطريرك وكاردينال – أثنين وأربعين عاماً. على ضوء هذه الأرقام، أليس عجيباً أن ينطبع عمره الطويل بهذا الطابع الرهباني القصير؟

ليس في الأمر من غرابة، فلقد أنخرط في درب التكريس ناضجاً، وسار فيه أميناً مخلصاً، عاشه في صدق وقناعة، وتابعه في إصرار وشجاعة، محققاً قول الفيلسوف الكاثوليكي  إيمانويل مونييه (Emmanuel Mounier): "إن الإنسان لا يصل إلى نضجه الكامل إلا متى عرف أن يختار لنفسه إخلاصاً أثمن من الحياة".

 

الحق يقال، تفانى في الكثير من الأنشطة الرعوية، التي لم تكن إلا مصاحبة لمهمة أساسية أسندت إليه أثناء خدمته في لبنان، ألا وهي مهمة التكوين الرهباني، فكان بحق أول من كلف بها من اللعازريين الناطقين بالعربية، فقد تم تعيينه أول معلم للمبتدئين الذين كان عليه الاهتمام بإعدادهم رهباناً وكهنة "حسب قلب الرب"، وحسب موهبة القديس منصور دى بول.

 

وبمجرد نقل الأب / اندراوس غطاس إلى دير الآباء اللعازريين بالإسكندرية، كان لا بد لهذا المرسل الغيور أن يلمس الحاجة الملحة إلى تكوين خدام التربية الدينية.

في ذلك الوقت لم تكن بالإسكندرية ولا في غيرها من المدن المصرية مؤسسة كنسية تعليمية تختص بهذا النوع من التكوين. فقرر الأب / اندراوس غطاس أن يبادر بالعمل على الفور، فأسس لهذا الغرض، عام1960، "لجنة مدارس الأحد = Comité des patronages". وسرعان ما انضمت لهذا التكوين الخاص بالخدام والخادمات رهبانيات نسائية عديدة بالإسكندرية ومجاوراتها. بفضل احتياج الكنيسة المحليّة لهذه الخدمة، استمرت إلى اليوم، بل وتطورت قلباً وقالباً إلى حد تعدد المسميات خلال هذا التاريخ الطويل مروراًً بـ "مركز الثقافة الدينية"، ووصولاً إلى "المعهد الكاثوليكي للعلوم الدينية".

       وقعت عليه عيناي لأول مرة في مدينة صدفا (محافظة أسيوط)، ما بين 1966 و1967، وقد كان مكلفاً وقتها بالإرشاد الروحي لراهبات المحبة. أتذكره كاهناً جليلاً، وقوراً وورعاً، يسير على قدميه من محطة القطار إلى دير راهبات المحبة، في سوتانته السوداء، يحمل حقيبة سفر يدوية صغيرة. لقد وهبه الله حكمة وضعها في خدمة الجميع، خصوصاً في الإرشاد والاعتراف. سمعته، لاحقاً، وهو يلخص خبرته قائلاً: "من بين كل 100 كاهن جيد، تجد معرفاً واحداً جيداً، ومن بين كل 100 معرف جيد، تجد مرشداً واحداً جيداً".

يعلمنا تاريخ القديس منصور دى بول أن انفتاح عينيه على الفقر المادي والروحي في عصره، قاده إلى سلسلة إجراءات متتابعة لمكافحتهما، وخصوصاً إلى محاربة أسباب الظلم التي تولّد دائماً المزيد والمزيد من الفقراء. ليس من المعقول تجفيف المكان الذي يعلوه صنبور ماء متدفق، إلا بعد إحكام إغلاق الصنبور.

اكتسب الأب / أندراوس غطاس هذا المنطق المنصوري في التعامل مع الفقراء وكل ما يتعلق بهم، على أي مستوى كان، ومن أي جهة أتى، وإلى أي نتيجة أدى.  

لقد كان رئيساً للجنة الملاجئ الكاثوليكية، بتكليف من النائب الرسولي، فكان المدافع المستميت عن حقوق هذه المؤسسات الكنسية والرهبانية التي كانت تؤدي خدمة لا بديل عنها. ومع ذلك، تعرضت هذه الملاجئ لمخاطر التصفية والمصادرة. فانبرى للدفاع عن الفقراء والأيتام، عن العجزة والمسنين، عن الرهبانيات وعن الوجود الكاثوليكي من خلالها.

يحفل الأرشيف بالكثير من الوثائق (الأصل والنسخ) بتواريخ متتابعة، وأحيانا في ساعات متلاحقة في نفس اليوم، من برقيات وخطابات، من محاضر اجتماعات، مع مسئولين بالدولة وبالكنيسة، مع الراهبات ومع المحامين، بين الناطقين بالعربية والناطقين بالفرنسية، وعناء الترجمة في الاتجاهين من وإلى أصحاب الشأن. دفاع قانوني بحت لا تملق فيه ولا استعطاف، يستعين فيه بقرارات رسمية وقوانين سارية المفعول وتفسيرات أهل الاختصاص.

ماذا كانت نتيجة كل هذه المساعي التي دامت سنتين؟ إذا كان حي محرم بك ما زال يحفل، حتى اليوم، بنشاط ملجأ العجزة الدولي التابع لراهبات سيدة الآلام، وبنشاط مدرسة سان جوزيف التابعة لراهبات المحبة، فما ذلك إلا ثمرة تفاني جندي مجهول، هو الأب / أندراوس غطاس اللعازري، وربما قد لا يعرف الفريق الحالي من راهبات المؤسستين تفاصيل كل ما عمله لوقف التصفية الفورية لهما في الستينيات.

صحيح إن مهامه الكبيرة والكثيرة، كمطران ثم كمدبر رسولي وأخيراً كبطريرك، ستأخذ كل وقته واهتمامه، إلا أنه ظل راهباً قلباً وقالباً، متحلياً بالفضائل الخمس المنصورية: البساطة والتواضع والوداعة والإماتة والغيرة الرسولية.

عن تواضعه العميق، سيذكر المؤمنون ما قاله لهم في أول احتفال يرأسه بعد قبول استقالته: "لقد أرسلني إليكم صاحب الغبطة البطريرك الأنبا / أنطونيوس نجيب".

من جميل خصاله المغفرة لمسيئين حقيقيين معروفين للداني والقاصي، ولم أتفاجأ أن تتضمن وصيته الروحية هذا الأمر، فقد كتب فيها: "سعيت قدر استطاعتي أن أحب الجميع وأخدم الجميع، دون تفرقة: مطارنة وكهنة ورهباناً وراهبات وأفراد الشعب. وإن كان صدر مني عفواً كلمة، أو أسأت إلى أحد منهم، فأطلب الصفح منه. وكل من ظنّ فيّ سوءاً أو تكلم في حقي، أصفح لهم جميعاً". الأغلبية تظن أنها عبارة محفوظة، ولكن البعض فقط يعرف إنها واقع عاشه، فلم يستثني أحداً من هذا الصفح، ولم أسمعه يتلفظ بكلمة سلبية واحدة عن أي شخص، ولا حتى عن الشخص المعروف الذي أكرمه وأحسن إليه، فما كان عرفانه بالجميل إلا أن يفتري علي غبطته علناً بنفس السهولة التي يشرب بها الماء، ولم يكف عن هذا رغماً عن كل المرات التي كان يتبادل معه فيها سلام المسيح.

أسوق مثالاً أخر: حينما عينه طيب الذكر البابا يوحنا بولس مدبرأ رسولياً، في 24 فبراير 1984، لاعتلال صحة وكبر سن مثلث الرحمات البطريرك الأنبا / اسطفانوس الأول، أقام كهنة رعية بالقاهرة الدنيا ولم يقعدوها، ظانين وجود مؤامرة دبرها الأنبا / أندراوس غطاس وتتلخص في الحجر على  الأنبا / اسطفانوس الأول في أحد الأديرة، ليستولي على منصب البطريرك. حتى قبل مجيء يوم الدينونة واعتلان الحقيقة للأحياء والأموات، أثبتت الأيام أن هذا وهم أوهى من نسيج العنكبوت. العجيب في الأمر أن الأنبا / اسطفانوس الثاني عامل مثل هؤلاء بكل محبة، إلى الدرجة التي لم  يشك أحد أساساً في وصول خبر هذه الافتراءات إلى سمع غبطته، ولا لعمق الألم الذي سببته له هذه الأكاذيب. ويكفي أنه كتب في وصيته: "أوصي بأن يدفن جثماني (…) تحت مدفنة البطريرك الكاردينال اسطفانوس الأول سيداروس".   

هناك الكثير يمكن قوله، أيضاً، عن "نوعية" محبته للناس، حتى وهو في مرضه الأخير بالمستشفى. لقد تم نقله إليها على أثر وعكة صحية صاحبتها متاعب في الجهاز التنفسي. وحتى وهو في هذه الحالة، وقناع الأوكسيجين يغطي وجهه، كان ينزعه ليتبادل مع كل واحد من زواره حدبثاً طيباً يسأله فيه عن كل من يعرفهم. ولما اشتدت أزمة التنفس، ولم يعد من الممكن نزع قناع الأوكسيجين، فاجأ الجميع بطلب الورقة والقلم، ليكتب ما يريد قوله. هكذا فعل لحظة أن جاء يسأل عنه أحد الرهبان من أخوة يسوع الأصاغر وكان له، في نفس المستشفى أخاً مريضاً اسمه (Le Frère François Guillot) ، فما كان من الأنبا اسطفانوس الثاني إلا أن تناول الورقة والقلم وكتب: "كيف حال الأخ فرانسوا؟ قولوا له إني أصلى من أجل شفائه".

 زاره  أحدهم وقال له: "نحن نصلي من أجل صحتك يا سيدنا"، فرد قائلاً: "لا تصلوا من أجلي، بل صلوا من أجل أصحاب النيافة، الأنبا فلان والأنبا فلان والأنبا فلان، حتى يعطيهم الرب الصحة لخدمته سنوات عديدة".

وما دمنا في مجال الصلاة، فكم هي مؤثرة شهادة غبطة البطريرك الأنبا / أنطونيوس نجيب عنه: "كانت حياته مدرسة صلاة وتقوى (…). تميز بحب خاص لسيدتنا مريم العذراء، كان أميناً على صلاة المسبحة، وعلى الصلوات المريمية الأخرى". أثناء السنة اليوبيلية، عام 2000، قاد الأنبا / اسطفانوس الثاني وفد الكنيسة القبطية الكاثوليكية (مطارنة، كهنة، رهبان وراهبات وعلمانيون) في زيارة روما وغيرها. كانت إحدى الرحلات طويلة في الأوتوبيس. فبالإضافة إلى صلاة المسبحة والترانيم المختلفة، أدهشني غبطته بحفظه عن ظهر قلب طلبة العذراء القديسة كاملة.

التزامه بالفقر الاختياري، كثمرة لتكريسه الرهباني، تجرد لافت للانتباه: وقت انتهاء مسئوليته كمطران خرج من مطرانية الأقصر بحقيبة يد صغيرة، وهكذا فعل وقت انتهاء مسئوليته كبطريرك، منتقلاً إلى دار الكهنة المسنين بالمعادي، ومنها إلى المستشفى الإيطالي، حيث قضى أيامه الأخيرة، بنفس الطيبة المؤثرة التي امتاز بها طيلة حياته.

عن هذه الطيبة، سمعت يوماً أحدهم يقول متهكماً: "إن سيدنا / اسطفانوس الثاني لم يحقق من شعاره الأسقفي – البطريركي "الطيبة والتدبير والمعرفة"، إلا الكلمة الأولى: الطيبة". ولكن أليس الله "محبة"؟ أينقص المحبة شيء تعاب عليه؟ في المصير الأبدي، ألا تتفوق المحبة على الإيمان والرجاء؟ ألم يقل عنها يسوع أنها خلاصة الناموس والأنبياء؟ ألم يجعلها وصيته الواحدة الوحيدة بلا منافس؟

إذا كان الأنبا / اسطفانوس الثاني طيباً إلى هذه الدرجة، فكم يكون اللهٌ طيباً!!!

أنظروا ثمار الطيبة، حتى بعد دخوله في الغيبوبة. إحدى الممرضات، من غير المعمدين، كان لديها انطباع بأن حركات جسمه اللا شعورية تدل على أنه يستمع لكلام من حوله ويشعر بهم، خصوصاً حينما كانوا يصلون بجواره. وفي يوم الجمعة 23/1/2009، بعد انتهاء صفوف الراغبين في إلقاء نظرة وداعية على جثمانه المسجي أمام المذبح، وبدء الذبيحة الإلهية، فوجئ الجميع بتقدم كاهن الرعية مصطحباً سيدة محجبة ذات وقار واحترام، إلى حيث وضع الجثمان، حيث وقفت خاشعة وكأنها لا تريد أن تبرح المكان بسرعة. أيا كان موقف تلك الممرضة من العمل في ذلك اليوم (عملٌ، أم عطلة)، فقد جاءت تعطي شهادة دفعتها دفعاً إلى لمحة تقدير، إنساني شخصي ونبيل، لم ترد إلا أن يتزامن مع ما يعبر عنه المسيحيون المتجمعون بالكاتدرائية في ذلك الوقت بالذات. بوركت أيتها الممرضة الملائكية الرحمة.

وتبارك الرب في شهادة خادمه الأمين حتى النهاية

مثلث الرحمات البطريرك الكاردينال الأنبا / اسطفانوس الثاني غطاس اللعازري.

 

لقد حقق بحياته الرسولية تلك المقولة الشهيرة: "الرسالة هي إشعاع القداسة.

لذلك فعلى المرسل أن يكون قديساً مرتين: مرة لنفسه ومرة لغيره".

 

تبارك الرب في ملائكته وقديسيه، وفي أمانة خدامه ومحبيه.

له وحده المجد والإكرام والعز والسجود، الآن وكل أوان وإلى الآبد. آمين.