عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 8/3/09

بكركي،الأحد 8 مارس 2009  (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.

"والذي شهد ، شهادته حق"

 

 نتابع الحديث عن كتاب البابا بنديكتوس السادس عشر: "يسوع الناصرة". ونتحدّث اليوم عن المسألة الحنّاوية أي المسألة التي تتحدّث عن القدّيس يوحنا، كاتب الأنجيل الرابع

توطئة: المسألة اليوحانية

لقد توقّفنا حتى الآن، في محاولتنا الاستماع الى يسوع، وتعلّم التعرّف اليه، أمام شهادة الأناجيل الازائية (أي متى، ومرقس، ولوقا)، فيما لم نلقٍ على يوحنا سوى نظرة عابرة. وقد حان الوقت لنوجّه انتباهنا الى صورة يسوع التي يعرضها الانجيل الرابع، وهي مختلفة من نواح عديدة.

لدى سماعنا يسوع الأناجيل الازائية، رأينا أن سرّ اتحاده بأبيه كان دائما حاضراً، وهو يحدّد المجموعة، في ما هو باق مخفيّا تحت ناسوته. ان أعداءه من جهة انتبهوا الى التأكّد من ذلك. ومن جهة أخرى، على الرغم من كلّ سؤ التفاهم، ان التلاميذ الذين استطاعوا أن يروا يسوع منقطعاً الى الصلاة، واستطاعوا الاقتراب منه من الداخل، ابتدأوا يميّزون تباعاً، وفي الأوقات الكبرى بطريقة مباشرة جدّا، شيئا لم يُسمع به من قبل. ان ألوهة يسوع، لدى يوحنا، تظهر في وضح النهار. والجدالات في مجملها، مع المراجع اليهوديّة الخاصة بالهيكل، تسبق تقريباً دعوى يسوع أمام المجمع، وهذا لم يذكره يوحنا بوضوح خلافا للأناجيبل الأزائية.

هذه الميزة الخاصة بأنجيل يوحنا، حيث لم نعد نجد أمثلة، بل خطباً كبيرة مصوّرة، وحيث انتقل عمل يسوع الأساسي من الجليل الى اورشليم، دفعت البحث النقدي الحديث الى انكار تاريخية هذا النصّ، باستثناء رواية الألم وبعض تفاصيل، واعتباره بالتالي كإعادة بناء لاهوتي لاحق. وهو ينقل الينا وضع عقيدة مسيحية موّسعة دون أن يكون باستطاعتها أن تكون ينبوع معرفة ليسوع التاريخي. وان تعيين التواريخ المتأخّرة الأساسية التي قاموا بها تثبيتا لهذا الافتراض وجب عليهم أن يتخلّوا عنها. لأن اوراقاً بردية وجدت في مصر ترجع الى بدء القرن الثاني، أتت بالحجة، وهي ان الأنجيل يجب أن يكون قد كُتب خلال القرن الأول، ولو كان في آخره. ورفض الأخذ بعين الاعتبار الطابع التاريخي لهذا الإنجيل لم تتخلخل من جرّاء ذلك.

وفيما يتعلّق بشرح انجيل القديس يوحنا، ان شرح رودولف بولتمان الذي ظهر، لأول مرة، سنة 1941، كان له تأثير كبير طوال النصف الثاني من القرن العشرين. بالنسبة اليه، انه واضح ان اتجاهات انجيل القديس يوحنا البارزة لا تأتي من العهد القديم، ولا من يهودية عصر يسوع، بل من فلسفة المجوس. وهو يعبّر عنها هكذا: "ومع ذلك، ان فكرة تجسد الفادي لم تذهب من المسيحية الى المجوسية، فهي من أصل مجوسي. وقد استعادتها المسيحية باكراً، وجعلتها خصبة بالنسبة الى العقيدة المسيحية" أو أيضا: "ان العقل المطلق لا يمكنه أن يأتي من المجوسية".

ويتساءل القارئ من أين يأتي بكل هذا. ان جواب بولتمان يدعو الى العجب: "ولو كان يجب بالنسبة الى ما هو جوهري اعادة تكوين كل هذه الفكرة انطلاقا من ينابيع جاءت بعد يوحنا، فمما لا يقبل الجدل انها ترقى الى عهد سابق. "وهنا يقع بولتمان في خطأ. ان مارتن هنغل، في محاضرة له ألقاها في توبنغن في بدء الدراسة عنوانها " ابن الله" ونُشرت وأُضيف اليها سنة 1975 وصف خرافة ارسال ابن الله المزعومة الى العالم" أنها خرافة علمية مزعومة تقول: "في الواقع، ان المراجع لا تقدّم أية حجّة على وجود اسطورة تتعلق بالفادي تسبق زمنيا وهي بالتالي قبل المسيحية". والفلسفة المجوسية، بوصفها حركة روحية، ظهرت في آخر القرن الأول بعد المسيح، وبطريقة متطوّرة فقط في القرن الثاني.

ان البحث المتعلق بالقديس يوحنا الانجيلي، أخذ، في الجيل الذي أتى بعد بولتمان، اتجاها جديدا أساسيا كانت نتائجه موضع جدل وصار تقديمها في كتاب مارتن هنغل (القضية الخاصة بيوحنا). وابتداء من وضع البحث الحالي، اذا ألقينا نظرة الى الوراء، على شرح يوحنا كما أعطاه بولتمان، نكتشف مرة جديدة الى أي حدّ العلم العالي يشكّل حصنا واهيا ضد اضاليل عميقة. ولكن ما يقول لنا البحث الحالي؟

انه قد ثبّت نهائيا وتوسّع في ما كان بولتمان يعرفه سابقاً. ان الانجيل الرابع يقوم على معارف خارقة في دقتها عن الأمكنة والعصر. والإنجيل الرابع لا يمكنه أن يأتي الا من رجل يعرف فلسطين حق المعرفة في زمن يسوع. وبعدُ فقد توضّح ان الانجيل يفكّر ويجادل انطلاقا من العهد القديم، ابتدا من التوراة (رودولف باش) وانه بطريقة جدله، متجّذر في اليهودية في عصر يسوع. ان لغة الانجيل التي كان يعتبرها بولتمان "معرفة حسّية" تُظهر بوضوح تأصّل الكتاب بعمق. "ان هذا المؤلّف هو مكتوب في يونانية بسيطة، غير أدبية، هي لغة محكيّة مشبعة من لغة التقوى اليهودية، كتلك التي كانت محكية في الطبقات الوسطى والعليا، مثلا في أورشليم … ولكن حيث كانوا في الوقت عينه يصلّون ويقرأون الكتاب في "اللغة المقدسة".

ويشير هنغل أيضا الى أنه قد "تكوّنت في القدس، في عهد هيرودس، طبقة يهودية عليا أصبحت نوعا ما يونانية ولها ثقافة خاصة". وهي تضع أصل الانجيل في طبقة الكهنوت العليا في القدس. وبامكاننا أن نجد تأكيد ذلك في ملاحظة صغيرة نجدها لدى يوحنا. وهي تخبر كيف أن يسوع، بعد القاء القبض عليه، اقتيد الى الى أمام الكاهن الأكبر، وكيف ان سمعان بطرس، في أثناء ذلك، "وتلميذ آخر"، تبعا يسوع ليعرفا ما كان سيحدث، و قد قيل عن "التلميذ الآخر" : "وبما أن ذلك التلميذ كان معروفاً لدى كبير الكهنة، دخل مع يسوع الى باحة بيت كبير الكهنة". ولما كانت علاقاته في بيت كبير الكهنة تسمح له بأن يُدخل معه بطرس، فأوجد هكذا، وهذا أمر أكيد، الوضع الذي قاد هذا الأخير الى النكران. ان حلقة الرسل ذهبت الى حد ادخال أعضاء من الاريستقراطية الكهنوتية الذين كانت لغتهم، الى حدّ بعيد، لغة الانجيل.

وهذا يقودنا الى مسألتين أساسيتين اللتين تشكّلان في آخر المطاف كل رهان المسألة" اليوحنية". من هو مؤلّف هذا الانجيل؟ ما القول عن مصداقيته التاريخية؟ لنحاول الاقتراب من السؤال الأول. في رواية الآلام، ان الانجيل عينه يأخذ موقفاً صريحاً من هذه المسألة. وقيل ان أحد الجنود طعن يسوع في خاصرته بحربته، و"خرج منها، على التوّ، دم وماء". والكلمات التابعة لها وزن خاص: "من رأى شهد، لتؤمنوا أنتم أيضاً. وشهادته حق والرب يعرف أنه يقول الحق". والانجيل يؤكّد أنه يستند الى شاهد عيان، وواضح ان هذا الشاهد هو التلميذ الذي قيل عنه من قبلُ انه كان واقفا الى جانب الصليب، وانه كان التلميذ الذي كان يسوع يحبه.  ويؤكّد الانجيل انه يستند الى شاهد عيان، وواضح ان هذا الشاهد هو التلميذ الذي قيل عنه سابقا انه كان واقفا ازاء الصليب، وانه كان التلميد الذي كان يسوع يحبّه.  وفي الفصل 21 الفقرة 24 من يوحنا، ان هذا التلميذ يُدعى أيضا كمؤلّف الانجيل. وعلاوة على ذلك، سنلتقيه في يوحنا في الفصل 13: 23؛0 2:2-10؛ 21: 7 ودونما شك في يوحنا 1: 35-40  و18 :15- 16.

في رواية غسل الأرجل، هذه المرويات المتعلقة بأصل الأنجيل الخارجي تتعمّق لتعطي علامة عن ينبوعه الداخلي. ويقال هناك عن هذا التلميذ انه في العشاء السرّي كان مقعده الى جانب يسوع، وانه لدى السؤال عن هوية من سيخونه، "انحنى على صدر يسوع" (13: 25) هذه العبارة مصاغة كموازية اريدت مع نهاية مقدمّة انجيل يوحنا حيث قيل بشأن يسوع: "ان الله لم يره أحد، ان الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب، هو من قاد الى معرفته". ان الأبن، كيسوع يعرف سرّ الآب لأنه هو في حضنه، والانجيلي، بما أنه انحنى على صدره، استطاع أن يأخذ معرفته نوعا ما من قلب يسوع.

ولكن من هو هذا التلميذ؟ ان الانجيل لا يميّزه مباشرة باسمه. ان النص، بالاتصال مع بطرس ومع دعوات أخرى من التلاميذ، يوجّهنا لى شخص يوحنا، بن زبدى، دون أن يوضح هذه المماثلة. وظاهرا، فهو يترك نوعا من السرّ ينشر ظلاله. ان سفر الرؤيا، صحيح انه يرشد صراحة الى أن يوحنا هو المؤلّف، لكنه ليس من الأكيد ان مؤلّف الانجيل، والرسائل، وسفر الرؤيا، هو واحد على الرغم من من الرباط الوثيق القائم بينها.

ان أحد شرّاح العهد الجديد اولريخ ويلكنس، في لاهوته الوسيع، دافع حديثا عن الأطروحة القائلة بأنه يجب الآ نعتبر أن "التلميذ المحبوب" كصورة تاريخية، بل كممثل أساسي لبنية ايمان: الكتاب المقدّس وحده لا وجود له دون: "صوت الأنجيل الحيّ، وهذا لا وجود له دون شهادة مسيحي فردي مزوّدٍ وظيفة "التلميذ المحبوب" وسلطته، والذي تتعاطف فيه الخدمة والروح ويترابطان بالتبادل. وهذا التأكيد الذي يتناول البنية، وان كان صادقاً، فهو غير كافٍ. اذا كان التلميذ المحبوب، في الانجيل، يأخذ بصراحة وظيفة شاهد للحقيقة – وهذا ما حصل – فهو يقدّم ذاته كشخص حيّ. وبوصفه شاهداً، فهو يريد أن يقدّم نفسه كفيلَ أحداث تاريخية، لأنه، خلافاً لذلك، تكون هذه الجمل التي تحدّد موضوع الانجيل وصفته بكامله، فارغة من كل ما لها من معنى.

أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،

ان انجيل القدّيس يوحنا يحتل منزلة فريدة بين الأناجيل، فهو نسج وحده، اذا جاز التعبير. لذلك فهو فيه من اللاهوت أكثر من الأناجيل الثلاثة الأخرى: متى ومرقس ولوقا. ولذلك تجب قرأته على مهل وبامعان.

وان ما نراه في هذا الأيام على المسرح الداخلي لا ينذر بخير. فهناك أقاويل تتناول هذا أو ذاك من رجال السياسة، وتترك في النفوس أثراً بغيضاً. وقديما قيل: ان الحرب أولها كلام. وكأننا لم نكتفِ بما حدث عندنا من حروب ومجاذر ومناوشات نعتقد أنه آن الأوان لتركها جانباً للانصراف الى بناء بلدنا على قواعد ثابتة من الاحترام المتبادل، والتطلّع الى الأمام بأمل، ليبقى لبنان، كما أراده الذين سبقونا على أرضه، وطن الحرية والازدهار والسلام.