خواطر في الإيمان والعقل

 (1)

الأسطورة المنطقية: نشأة المأساة

بقلم روبير شعيب

روما، الثلاثاء 10 مارس 2009 (Zenit.org).

نقرأ في قصيدة للمفكر والشاعر الأرجنتيني، خورخي لويس عما يمكننا تسميته "نشأة المأساة":

"يونانيان يتحاوران: ربما سقراط وبارمينيد.

من المستحسن الاّ نعرف اسميهما أبدًا؛

فهكذا ستكون القصة أكثر غموضًا وهمودًا.

موضوع الحوار مجرّد.

يتطرقان أحيانًا إلى أساطير لا يؤمن أيٌ منهما بها.

البراهين التي يعرضانها قد تزخر بالأخطاء، ولا تسعى إلى غاية.

لا يتجادلان.

ولا يريدان لا أن يَقْنَعا ولا أن يَقْتَنعا

لا يرغبان لا بالظفر ولا بالخسارة.

هما متفقان على أمر واحد:

يدركان أن النقاش هو السبيل غير المستحيل الذي يقود إلى الحقيقة.

معتقَين من الأسطورة ومن التشبيه، يفكران، أو بالحري يحاولان التفكير.

لن نعرف أبدًا اسميهما.

هذا الحوار بين مجهولين في مكان ما في اليونان

هو حدث التاريخ الأكبر.

لقد نسيا الصلاة والسحر" (خورخي لويس بورخس، المبدأ).

تعبر قصيدة بورخس هذه عن بزوغ فجر تاريخ الفكر الغربي، عن "مبدأه" كما يوحي عنوان القصيدة، ويربط هذا المبدأ بمأساة نسيان "الصلاة والسِحر". هذا "المبدأ" هو الحدث الأكبر الذي طبع ووسم مسيرة حياة الفكر من الفلاسفة الإغريق فصاعدًا.

وما كان للتاريخ اللاحق إلا أن وسع وعمق ما كان في المبدأ، وصولاً إلى نتائج العصر الحديث. فقد أزال العصر الحديث بشكل منتظم "الصلاة"، أي كل علاقة مع التسامي، لأنه لا يمكن حصره وإدراكه بواسطة الحس المنطقي البحت، والعقل المجرد وحده. وأزال "السِّحر"، أي كل ما يشكل إطار الواقع الذي يتخطى مقاييس العقل الحسابي والمنفعي.

السحر هو التشبيه (meta-fora)، الذي يحمل الفكر أبعد من حدود العقلية المنقطية الحسابية. السحر هو الشعر والبلاغة وكل ما هو ثمرة الخيال الخلاق. السحر يعني اللقاء بين حريتين تتواصلان، وتتقاربان، وربما تتحابان، دون أن تتبعا سبل منطقية محددة بشكل مسبق؛ السحر يشير إلى كثافة كل العناصر التي تتجاوز العقلية البشرية دون أن تكون لأجل ذلك غير واقعية. يعبر السحر عن تألق خاصية الكائن الثالثة، "الجمال" (pulchrum)، إشعاع بهاء الكائن الذي يجعل الحق (verum) مرغوبًا والخير (bonum) قابلاً للتطبيق. السحر يشكل "الجمال المتجرد الذي من دونه لم يكن بإمكان العالم القديم أن يفهم ذاته، والذي فر هاربًا على رؤوس أقدامه من العالم الحديث النفعي، لكي يخليه تحت رحمة شبقه وكآبته" (هانس أورس فون بالتازار، المجد، المجلد الأول، ظهور البنية).

إن الفضل الأكبر للفكر الغربي هو أنه اكتشف "اللوغوس" (logos) في خراب (caos) التاريخ والكون (cosmos)، ولكنه تعرض لأجل هذا الاكتشاف، في حقبات مختلفة، لتجربة أن يختزل اللوغوس جاعلاً منه فكرة مجردة سجينة المنطق، متغربة عن لوغوس الحياة والخبرة، عن اللوغوس الذي يتجاوز فكر الإنسان، ويساعد الإنسان على تجاوز محدوديته لكي يحقق دعوته السامية في الخروج من ذاته نحو الآخر. لقد خضع الغرب، في حقبات مختلفة لتجربة تحويل اللوغوس إلى أمر غير شخصي وبارد، وأن يجعل الفكر يتولد من النقاش.

ولربما الحقبة التي جسدت الوقوع في هذه التجربة هي العصر الحديث الذي أدخل فصلًا، لا بل طلاقًا في علم المعرفة (gnoseologia)، مغيرًا الوعي الذاتي للإنسان، ومؤثرًا بذلك باللاهوت، من خلال إخضاع الدين لأحكام العقل وحده. يستنكر بالتازار هذا الأمر لافتًا إلى أن "الجمال لم يعد محبوبًا ومحروسًا، ولا حتى في رحاب الدين" (المرجع نفسه). يمكننا أن نلاحظ هذا الأمر بسهولة في كثير من مؤلفات اللاهوت التي يطغى فيها إدعاء العلمية، لدرجة أنه بات مستحيلاً – وغير علمي – عيش اللاهوت كما كان يعيشه آباء الكنيسة. نلاحظ أصداء هذا الأمر في الليتورجية الغربية التي نفت الطابع الرمزي، بحيث باتت الحركات الجسدية محدودة جدًا، وتعاش الليتورجية على صعيد باطني وفكري محض، نافية البعد الميستاغوجي الجوهري في الليتورجية، بعد خبرة الله الذي أدى إلى ربط الفهم اللاهوتي (قانون الإيمان) بالصلاة الليتورجية (قانون الصلاة):Lex orandi statuit legem credendi). (راجع ر. تافت، ما وراء الشرق والغرب، في سبيل ليتورجية حية).

سنحاول في الأقسام المقبلة من هذه المقالة أن نسير في سبل نشأة ونمو العقلية الحديثة، فنقدم نظرة ظواهرتية تاريخية لهذه النشأة، ولتأثيرها في الوعي الإيماني، ومن ثم في الفلسفة. ندرك حق الإدراك أن الحداثة هي ظاهرة معقدة جدًا، ولذا سنتوقف على دراسة بعدين هامين ومترابطين. الأول هو العقلية (razionalismo)، بينما البعد الثاني، فهو الإلحاد باسم التطور الذي بشرت به العقلانية. قبل أن نباشر في التعمق في نقدنا للعقلية، نود أن نوضح أن الغاية من بحثنا ليس نقد العقل، بل إفساح المجال، عبر التبحر العلمي، والفلسفي والوجودي، واللاهوتي لعقلانية "موسعة" تدخل في إطار تكامل خبرة المعرفة البشرية، وتحترم طابع موضوع المعرفة الدينية الذي ليس موضوعًا بالمعنى الحصري بما أن موضوع إيماننا هو أقنومي وشخصاني.

(2)

الأسطورة المنطقية: الأب المسيحي للمذهب العقلي

 كما هو الحال في كل ظاهرة بشرية، ترتبط ولادة العقلية الحديثة بعناصر معقدة ومتداخلة، ولذا من البديهي أن اختزال هذه العناصر ببعض النقاط "الواضحة والمتمايزة" هو أمر ساذج. وعليه فإن العناصر التي سنعرضها هي هامة ولكنها ليست حصرية في نشأة العقلية الحديثة.

في صيغتها الحديثة، بدأت العقلية في مطلع القرن السابع عشر في القارة الأوروبية كردة فعل على موجة الشك التي كان روادها ميشال دو مونتِن (Michel de Montaigne) و بيار شارون (Pierre Charron). عبر عن انتصار العقل أول فلاسفة العصر الحديث، رُني ديكارت (René Descartes). إنطلاقًا من هذا الإطار، يتوجب علينا ألا نتهم ديكارت بالعقلية الساذجة، ففلسفته كانت "صراعًا يائسًا للخروج من شك مونتن" (راجع إيتيان جيلسون، وحدة الخبرة الفلسفية). ديكارت فيلسوف كبير تنصب فيه روافد متعددة ومتناقضة، منها عقلية رايموندوس دي سابوندي (Raymondus de Sabunde) وشك مونتن.

الإطار الاسمي (nominalist) ومسألة الله

إن مسيرة ديكارت الفلسفية تولد في إطار رد وردة فعل على إسمية باتت متطرفة ومنحطة. لوي دوبري (Louis Dupré) يربط بين نشأة  العصر الحديث والإسمية، ويلحظ أن الفصل الذي تقوم به هذه الفلسفة بين الكلمة والواقع يشكل بدء التشرذم اللاحق (راجع: M.P. Gallagher, Clashing symbols. An introduction to faith and culture

).

وقد أدت الإرادية (volontarismo) المتطرفة التي وضعتها الإسمية إلى التشكيك حتى بالحقائق الأكثر وضوحًا، ولم يعد ممكنًا كما في السابق الارتكاز على فكرة الله كمعيار للحقيقة.

في مؤلفه "تأملات في الفلسفة الأولى" (Meditationes de prima philosophia)، يعبر ديكارت عن صراعه المؤلم مع فكرة إله قد يكون إلهًا خادعًا (genium aliquem malignum) يود بشكل إرادي أن يخدع، ويتحدى ديكارت إلهًا من هذا النوع فيقول بنوع من الكبرياء: "فليخدع بقدر ما يستطيع!" (fallat quantum potest)، لأنه بقدر ما يريد أن يخدعني، لن يستطيع أن يقنعني بأني لا أفكر. وبما أنه أمر حقيقي أني مفكر، فلا بد أن أكون موجودًا، لا بل أنا موجود بالضرورة.

نرى أن الفصل بين الفكرة والواقع، يضطر الإنسان إلى إحقاق الذات، ويؤدي إلى استقلالية في ضمان الذات والوجود الشحصي، بمعزل عن الكيان أو اللاكيان، عن صلاح الخالق أو شره. فقط في مرحلة لاحقة يرى ديكارت أنه من الضروري إدخال فكرة الله، أي بعد أن يوضح أن الـ "أنا" لا يستطيع أن يكون أكيدًا من ذاته ومن العالم من دون فكرة الله، وذلك لأنه لا يمكن أن يتم التفكير بالله ما لم يكن موجودًا: " Verum tamen, ne passim quidem cogitare Deum nisi existentem ".

هذا الأمر يجعلنا نفهم أن الله في تفكير ديكارت ليس مسألة إيمان بل مسألة فلسفية (بعكس ما سيقوله بليز باسكال في ما بعد). وفي إهدائه للكتاب إلى اللاهوتيين اليسوعيين يقول ديكارت: "لطالما كنت مقتنعًا بأن المسألتين المتعلقتين بوجود الله وبالنفس هما موضوعان فلسفيان لا لاهوتيان".

يعتقد ديكارت أنه يجد إثباتًا لأطروحته في كتاب الحكمة (الفصل 13) ورسالة بولس إلى أهل روما (الفصل 1)، ويرتكز أيضًا على ما يقوله اللاهوتيون، كل ما يمكن معرفته بشأن الله (ea omniaquae de Deo sciri possunt) يمكن التوصل إليه عبر العقل الطبيعي، ويمكن إيجاد الدلائل في العقل البشري.

نجد في ديكارت وجهة نظر معاكسة لتوما الأكويني. فإذا كان القديس توما ملتزمًا بالدفاع عن الاستقلالية مرتكزًا على وجهة نظر إلهية، يتحدث ديكارت عن وجهة نظرة لاهوتية تنطلق من استقلالية البشرية. ينطلق توما من الله ليصل إلى الإنسان فيعود به إلى الله، بينما ينطلق ديكارت من الإنسان ويعود إليه عبر وساطة الله. مع ديكارت، ليس الإنسان من يدور حول الله، بل العكس، الشمس الإلهية تدور حول آدم، "الأرضي". يضحي الإنسان نقطة إنطلاق ومرجعية الواقع، ويضحي الفاعل الذي تقف كل الأمور – بما في ذلك الله – كمجرد مواضيع. ليس الله هو الذي يختبر الإنسان (راجع مز 138) بل الإنسان هو الذي يمحص الله.

نجد النتائج المتطرفة لهذه النظرة في فكر لودفيك فويرباخ (L. Feuerbach)، حيث الإنسان هو الذي يخلق الله على صورته ومثاله، وليس العكس كما يقول سفر التكوين (راجع تك 1، 26 – 27).

هذه "الخطيئة الأصلية"، التي تحاول أن تجعل من الإنسان إله ذاته، تأتينا بشكل جديد في الكثير من الروحانيات الجديدة، حيث يظهر الإنسان كشخص متدين و "روحاني"، ويتحدث الكثير من علماء الاجتماع عن "رجوع الله"، ولكن إذا ما أمعنا النظر لرأينا أن الحقيقة مختلفة عن مظهر الأمور، الإنسان يعيش نوعًا من الإنطواء على نفسيته معتبرًا أن هذا الأمر هو روحانية، بينما الأمر لا يتخطى الحكمة النفسية والسيكولوجية التي لا تخرج الإنسان من ذاته بل تغلقه في أطر وجوده الضيق والمنغلق.

مشروع ديكارت

 

حاول ديكارت أن يحارب مذهب الشك ومذهب الإسمية، من خلال نظام فلسفي وأبيستيمولوجي محصن، لا يمكن دحضه لأنه يرتكز على مبادئ أكيدة ولا شك فيها. كخطوة أولى في عمل البناء هذا بدأ ديكارت في الشك مستعملاً وسيلة مذهب الشك عينه، إلا أن شكه لم يكن موقفًا بل منهجًا.

في جهده الفلسفي، رفض ديكارت استعمال السلطة معتبرًا أنها لا تستطيع أن تقدم أكثر من مجرد احتمالات. رغم أنه كان كاثوليكيًا مؤمنًا إلا أنه لم يدخل العقائد الدينية في برنامج شكه الشامل. فبحسب نظرته، من الممكن التوصل إلى معرفة حقة في العالم فقط عبر العقل دون الاعتماد على أيه سلطة خارجية (auctoritas)، لأن العقل هو بحد ذاته مرجعية وفاعل (auctor) حقيقته: "أنا أفكر إذًا أنا موجود" (cogito ergo sum).

بعد رفض السلطة والمعرفة الحسية بواسطة الشك المنهجي، يعرض ديكارت المعيار التالي لحقيقة معرفتنا: "كل الأمور التي نستطيع إدراكها بشكل واضح وجَلِيّ، هي حقيقية بالطريقة التي ندركها فيها". إنطلاقًا من هذا المبدأ حيث معيار الحقيقة هو المفهوم الذي يصل إليه فكرنا، يضيف ديكارت: "من ناحية أنا أملك بشكل واضح وجلي فكرة عن ذاتي كوني مجرد واقع مفكر لا متمدد، وبما أن لدي من ناحية أخرى فكرة عن الجسد كونه واقع متمدد وغير قابل للتفكير، فمن الواضح أنني – أي أن نفسي – التي بفضلها أكون أنا ذاتي، هي بكليتها وفعلاً منفصلة عن جسدي". ينشأ بهذا الشكل ما يعرف بالإزدواجية الديكارتية حيث التي تتحدث عن "الكيان المفكر" (res cogitans)، ومن ناحية أخرى هي مادة متمددة أو متجسدة (res extensa). هذا التمييز الازدواجي لا يأخذ بعين الاعتبار عنصر الحياة والعلاقة التي تشكل جزءًا هامًا من وجهة النظر الدينية بشأن الإنسان؛ يتم اختزال مكنون الروح البشري في الفكر.

خلاصة القول، فلسفة ديكارت، بالرغم من عظمتها، ومسيرتها التواقة، إلا أنها تعاني من تناقضين: "الأحادية العقلية" (monismo razionalistico)، والإزدواجية الوجودية (dualismo esistenziale). بكلمات أخرى، بينما يحصر ديكارت قدرات المعرفة البشرية بالفكر المنفصل وحده (sola ratio separata) متجاهلاً الإيروس والأغابي وشركة الأشخاص (communio personarum)، ويجعل الإرادة نوعًا من أحكام العقل (راجع فلاديمير سولوفيوف، المعرفة المتكاملة). من ناحية أخرى، يقيم ديكارت نوعًا من الازدواجية المتطرفة فيقسمه إلى مادة مفكرة ومادة متمددة (res cogitans e res extensa).

من الأهمية بمكان أن نتنبه لهذه الازدواجية لأنها لها تأثيرها اللاحق على الفصل بين الإيمان والعقل، بين الفكر والحياة، بين العالم المثالي والعالم الحقيقي. كل هذه الطلاقات تتأثر إلى حد ما بالفصل الذي ثبته ديكارت في الفلسفة (مع العلم أنه ليس أول من تحدث عن هذه الإزدواجية، فهي تعود إلى أفلاطون).

(3)

الطلاق بين اعتراف الإيمان (confessio fidei) وفكر الإيمان (intellectus fidei)

النتيجة اللاهوتية الأولى للعقلية الديكارتية هي محاولة اعتبار الإيمان على ضوء لوغوس (فكر) محدود، ومنفصل عن الحياة. وهكذا دخلت العقلية كعنصر مؤسس للفكر اللاهوتي، ويؤدي إلى تجميد الدورة الحيوية القائمة بين حياة الإيمان وفهم الإيمان، بين عيش الإيمان ومحتواه. بعد أن سادت هذه الوحدة في الفكر المسيحي وصولاً إلى القرن الثالث عشر، تضحي المعرفة اللاهوتية حكرًا على الفلسفة.

بعد عملية "التحويل الجوهري" (transustanziazione) من الفلسفة إلى اللاهوت، التي قام بها الآباء وكبار مطلع الألفية الثانية، حيث تم تحويل ماء أثينا إلى خمر أروشليم، (بحسب قول توما الأكويني)، ظهر جيل يميل إلى فصل الفلسفة بشكل كبير في إطار وحدة اللاهوت ويبدأ تحجير الخبرة الإيمانية في مفاهيم ضيقة. يبدأ ما يصفه فون بالتازار بعيش "لاهوت الطاولة" بدل "لاهوت الركوع" (H.U. von Balthasar, “Teologia e santità”, in Verbum Caro. Saggi teologici).

إنطلاقًا من هذه العلاقة الجديدة بين الفلسفة واللاهوت، نشأت علاقة جديدة بين اللاهوت والحياة الروحية، بين الفكر اللاهوتي (mens theologica) والوجود اللاهوتي (existentia theologica). وهذا الطلاق أثر بشكل سلبي على الواقعين: فالحياة الروحية التي كانت إلى فترة متقدمة من تاريخ المسيحية محرك اللاهوت والشهادة الكنسية، بدأت تتحرر من التفكير العقائدي وتميل إلى إقامة فرح دراسي خاص بها "التقشف والصوفية"، التي ستعرف في ما بعد بـ "الروحانية" (spiritualità). تولد ردة الفعل هذه من فكر لاهوتي يحدده الفهم المسبق الفلسفي، بحيث تستلم الحياة الروحية للحميمية وعدم الموضوعية الفردانية، ونقص في الحس الكنسي الجماعي والليتورجي.

الاختزال الديني الناشئ عن النزعة العقلية

بعد الفصل بين اعتراف الإيمان وفهم الإيمان، أضحى موضوع الإيمان خاصة العقل المنفصل. إنطلاقًا من قناعة ديكارت بأن مسألة الله هي مسألة تتعلق بالفلسفة، كما سبق ورأينا. باعتبارهم الله والنفس مسائل فلسفية، توصل اللاهوتيون المتأثرون بديكارت إلى تطبيق الشك المنهجي على المعتقدات الدينية بالذات، رغبة منهم في تدعيمها إنطلاقًا من مبادئ واضحة.

بهذا الشكل تبدأ المحاولات اللاهوتية التي يقدمها ميغيل دي أليزالدي اليسوعي (1616 – 1698) وتلميذه ثيسوس غونزالز دي سانتالاّ (1624 – 1705) اللذان صرحا بأن "واقع الوحي وحقيقة الإيمان المسيحي هي أمور يستطيع أن يقدم العقل المجرد برهانًا عنها" (راجع أ. دالس، ركيزة الأمور المرجوة، بريشا 1997، 88). لا بد أن نوضح أن هذا البرهان، بالنسبة لهما، لا يشكل بعد ركيزة الإيمان بل تمهيدًا (preambolo) ومُسَلَّمة (presupposto) للإيمان. سيتوصل بعض اللاهوتيين في ما بعد إلى موقف متطرف بشأن دور العقل في اللاهوت عبر قيامهم بنوع من عزل (epochê) للعنصر الديني الموحى وصولاً إلى إخضاع اللاهوت بالكامل إلى معايير العقل، حيث تضحي ركيزة الإيمان، لا الوحي، بل العقل البشري.

يقوم اللاهوتي المعاصر مايكل باكلي (M.J. Buckley) بدراسة هذا "العزل" الفلسفي الذي قام بها اللاهوتيون خلال العصر الحديث، ويقدم مثال اللاهوتي البلجيكي ليسيوس (Lessius) الذي يكتب " De providentia numinis et animi immortalitate" في عام 1631. لقد أدخل ليسيوس في جامعة لوفيين التعليق على الخلاصة اللاهوتية للقديس توما، بدل التعليق على أطروحات بطرس لومباردوس. وبدل اعتبار مسألة وجود الله التي تفتح الخلاصة اللاهوتية انطلاقًا من البعد الديني، كان ليسيوس يستعرض المسألة من منحى فلسفي بحت، إن من الناحية المنهجية وإن من ناحية المضمون (راجع م.ج. باكلي، "الإلحاد"، في ر. لاتوريل – ر. فيزيكيلاّ، قاموس اللاهوت الأساسي، أسيزي 1990، 86). إضافة إلى ذلك، قام ليسيوس بإزلة كل المسألة التي تتعلق بالإطار اللاهوتي، مقدمًا سلسلة من الجدليات الفلسفية وحاذفًا كل ما يمت إلى العلاقة الدينية والشخصية بين الله والإنسان باعتباره غير مناسب.

إن "السبل الخمس" التي تقدم السبيل العقلي إلى إدراك وجود الله، والتي يقدمها القديس توما في الخلاصة اللاهوتية ترتبط بكامل إطار الخلاصة التي هي مؤلف لاهوتي كما يشير العنوان. ولذا فإن اعتبارها بمعزل عن هذا الإطار اللاهوتي هو خطأ تفسيري. لذا يعبر باكلي عن حيرته أمام قول توما في القسم الثالث من الخلاصة بأن هناك أمام البشر سبيل واحد إلى الحقيقة ، وأن هذا السبيل هو شخص وواقع يسوع (راجع المقدمة إلى القسم الثالث من الخلاصة اللاهوتية)، بينما لا يأتي البتة على ذكر يسوع بين السبل الخمس للوصول إلى الله في القسم الأول من الخلاصة عينها. ويعتبر أن لهذا الأمر دلالة رمزية تشير إلى الفصل الذي سيضحي طلاقًا في العصور اللاحقة. من الممكن تبرير موقف توما في الخلاصة باعتبار هذا المؤلف ككل كمسيرة واحدة تبحث فيها النفس عن الله، وبالتالي يمكن فهم كيف أن العناصر فيها تفسر بعضها. ولكن ليسيوس وسواه لم يقوموا بهذه القراءة المتكاملة للخلاصة اللاهوتية، بل تم اعتبار الأقسام بشكل منفصل ومستقل.

إن العزل للعنصر الديني الذي قام به ليسيوس كان يعني فصل كل الظواهر والمعلومات الدينية باعتبارها خالية من قدرة الإقناع المنطقي. يقول باكلي في هذا الصدد: "لم يكن للخبرات وللتقاليد الدينية أي أهمية في ما يتعلق بالتصريحات الجوهرية" بل "إن كل ما كان دينيًا بالمعنى الحصري، إن من ناحية الخبرة الدينية، أو من ناحية التقليد أو الشهادة الدينية، كان يوضع جانبًا بانتظار أن يتم تدعيمه بركيزة منطقية" (راجع م.ج. باكلي، "الإلحاد"، في ر. لاتوريل – ر. فيزيكيلاّ، قاموس اللاهوت الأساسي، أسيزي 1990، 87).

لقد احتلت هذه الطريقة في العزل الديني قسمًا كبيرًا في استراتيجيات العديد من تيارات لاهوت الدفاع عن المسيحية (apologetica) بين المجمع التريدنتيني والمجمع الفاتيكاني الثاني بوجه الإجمال. إنطلاقًا من هذه المنهجية انتقلت مسألة الله من حضن اللاهوت إلى حضن الفلسفة، وما كان من كبار الفلاسفة والميتافيزيقيين في ذلك الزمان إلا أن قبلوا هذه المقاربة التي اعتنقها اللاهوتيون في المقام الأول.

ولكن ما الغاية من هذا التقصي التاريخي؟

إن هذه النظرة التاريخية تساعدنا بشكل لا عشوائي وعاطفي، بل علمي ومدقق إلى فهم الفقر الروحي الذي وقعت فيه بعض تيارات اللاهوت عندما لم يعد الله يعتبر كالإله الحي، بل كمسألة فلسفية وفكرية بحت. يفيدنا هذا البحث في إدراك كنه جاذبية الإله المسيحي. فما يميز إلهنا ليس وجوده (esistenza) بل غيريته ووجوده لأجل الآخر (pro-esistenza)، هو الكائن في ذاته، والذي في فعل حب أزلي يخلي ذاته ليجعلنا شركاء في الطبيعة الإلهية. لقد شاء الله أن يكون وجوده وجودًا حميميًا، وجود قرب وألفة، وجود عمانوئيل، الله معنا. وإذا ما عزلنا عنصر الجاذبية هذا، فلا بد أن يفقد الناس الاهتمام واللهف نحو إله بارد وبعيد، بعيد عنا وبعيد عن المفهوم الكتابي والمسيحي الحق لله، الذي – بحسب المجمع الفاتيكاني الثاني – عبر تجسد الكلمة اتحد بشكل ما بكل إنسان (راجع الدستور المجمعي، فرح ورجاء، 22). ولذا لا يخطئ باكلي في تشخصيه عندما يربط بين العرض العقلاني البحت للمسحية وبين نشأة الإلحاد المعاصر.

(4)

الدين في حدود العقل وحده

إن ما يشكل نقطة الالتقاء بين معظم الفلاسفة العقليين في العصر الحديث هو صراع العقل المستقل والمنفصل، وحرب الأنا المفكر ضد المبادئ الخارجة عنه. وقد كان لهذا الصراع آثاره السلبية على العلاقة بين العقل والإيمان.

باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza)

يمكننا أن نلحظ التأثير السلبي الذي مارسه المذهب العقلي على الإيمان في فلسفة باروخ سبينوزا الذي اعتبر الإيمان كمقاربة شعبية للمعرفة الحقة، وهذه المقاربة توافق أناسًا غير مثقفين وغير قادرين على الارتقاء إلى مستوى الأفكار الواضحة والمتمايزة.

والقيمة الوحيدة للإيمان – بنظر سبينوزا – هي ذات طابع أخلاقي، بحيث يدفع الإيمان البشر إلى عيش فاضل، ويحثهم على معاملة الآخرين بلطف ومحبة. هذا ووصف الإيمان بأنه "امتلاك معارف بشأن الله خاصيتها أنها تزول بزوال الطاعة نحو الله، وتقوم إذا ما تواجدت تلك الطاعة" (باروخ سبينوزا، البحث اللاهوتي-السياسي، تورينو 1972، 346). ويضيف أيضًا: "لا يتطلب الإيمان عقائد الحق بقدر ما يتطلب عقائد التقوى، أي تلك العقائد التي تحرك النفس إلى الطاعة" (المرجع نفسه، 348).

وبالتالي، بالنسبة لسبينوزا، الدين ليس إلا غطاءً شعبيًا للأخلاقيات، وغايته ليست المشاهدة الطوباوية بل التعايش السلمي. الدين بالنسبة له هو ما قاله نيتشه بإيجاز: "المسيحية هي أفلاطونية للشعب".

نلاحظ أن قراءة سبينوزا هذه للدين كوسيلة أخلاقة في المجتمع، هي واقع ممدوح كثيرًا في مجتمعنا المعاصر، بحيث نرى أن الكثير من السياسيين، حتى الملحدين منهم، يمدحون دور الدين ودور رجال الدين كـ "رجال شرطة متشحين بالأبيض"، ولكنهم يرفضون أي بعد يتجاوز العقل في واقع الإيمان.

إيمانويل كانط (Immanuel Kant)

 

انطلاقًا من عصر التنوير (illuminismo)، الذي يشكل عصر التحرر من قيود السلطات الفاعلة، والتاريخية والفائقة الطبيعة، شكل العقل البشري المقياس الأوحد والأسمى للحقيقة وللتصرف البشري. لقد خرج العقل من حالة القصور التي كان عائشًا فيها. إنطلاقًا من هذا التحرر تم تحجيم الدين لكي يدخل في نطاق التحليل العقلي. ويشكل عنوان كتاب إيمانويل كانط، "الدين في حدود العقل وحده"، والذي صدر في عام 1793، مثالاً بليغًا للنزعة السائدة في ذلك الزمان. لم يعد يتم البحث عن ركيزة للوجود والأخلاق خارج العقل البشرية بل داخله. لقد التهم العقل كل شيء آخر، بما في ذلك الله، وبقي المسؤول الأوحد عن المستقبل البشري، مبينًا بذلك تعصبًا كبيرًا نحو أي حد ممكن. لقد تحرر الإنسان من كل رهن فائق الطبعة وأعلن نفسه سيدًا لوجوده ولتاريخه.

بالنسبة لكانط، "التنوير هو خروج الإنسان من القصور الذي فرضه على نفسه. القصور هو عدم قدرة المرء على استعمال عقله دون هداية الآخرين. هذا القصور ليس نتيجة نقص في العقل، بل نتيجة نقص في القدرة على الخيارة ونقص في الشجاعة لاستخدام العقل دون هداية آخر" (إيمانويل كانط، "جواب على السؤال: ما هو التنوير؟" في كتابات في السياسة وفي فسلفة التاريخ والحقوق، تورينو 1965، 145). هذا ويميز كانط بين "الإيمان الكنسي التشريعي" المرتكز على شرائع استخلصها فكر شخص آخر، والإيمان بالوحي العقلاني أو "الإيمان الديني العقلي"، والمرتكز على قوانين داخلية في الإنسان.

يدعو كانط الإنسان إلى أن يتجرأ ليعرف "sapere aude"، لأن توكيل أخر بالعمل الفكري الذي يجب على المرء نفسه أن يقوم به هو دليل عن عدم النضج. تحت تأثير "سؤال ليسينغ" – "كيف يمكن لوقائع جانبية أن تضحي ركيزة لوقائع عقلية ضرورية؟" – يعتبر كانط أن الوحي يتمتع فقط بصحة محدودة. وحده الإيمان الديني الصافي المرتكز على العقل وحده يمكن اعتباره ضروريًا، ووحده يجب أن يميز الكنيسة الحقة.

كما ويعتبر كانط أن هذا النوع من الإيمان يستطيع أن يكون مرفقًا بإيمان تاريخي، ولكن دور هذا الأخير هو فقط أن يكون "وسيلة تداولية" لـ "حقيقة متسامية". فحقيقة الإيمان المسيحي، بالنسبة لكانط، تستطيع أن تحافظ على سلطتها، فقط إذا ما تمت ترجمتها إلى تعابير عقل عملي أخلاقي. من هذا المنطلق يعتبر كانط أن سر الثالوث هو أمر غير مهم، لأنه لا يمكن ترجمته في القيم الأخلاقية التي تجعل الإنسان أهلاً لكرامة عيشه.

إن نظرة كانط هذه، بكل ما تحمله من عقلانية وأخلاقيات حديثة، تغفل عن وقائع هامة مثل الحب، وهبة الذات، والعلاقة والشركة، وجميعها أمور كامنة في المفهوم المسيحي لسر الثالوث الأقدس.

هذه النظرة السريعة تكشف لنا كيف أن بعض الفلاسفة الحديثين ظنوا بأنهم "يطهرون" الدين من جميع ا

لعناصر التي ليست تحت سيطرة العقل، والتي لا تتجاوب مع معيار المنفعة. من خلال هذه العملية تعرض افتقر الدين بشكل كبير، لأن "الدين العقلي" استثنى أبعادًا هامة من الخبرة الدينية مثل الارتداد، الخبرة الصوفية، دعوة الحب المجاني والجواب على هذا الحب، الحياة الأسرارية والرمزية. هذا الافتقار استمر وكانت له عواقبه الوخيمة، بحيث تم تجاوز تحديد الإيمان في أطر العقل إلى انتقاد الإيمان ونفيه كما سنرى في المقالة المقبلة.

 

 (5)

من تحديد الدين إلى نقده: أخطاء مذهب العقلية على الصعيد الديني

في إطار الثقة المطلقة بالعقل ونشوة وهم كلية قدرة الإنسان، تولدت انطلاقًا من القرن السادس عشر والسابع عشر نقمة على الإيمان المسيحي، وعلى مفهوم الوحي التاريخي في المسيح. وسعى العديد إلى إبطال إمكانية الوحي الإيجابي والتاريخي ومصداقيته من خلال نفي إمكانية تدخل الله في التاريخ. قام ما يعرف بـ  "الربوبية" (deismo) [أي الإيمان بإله ولكن بمعزل عن أي دين أو وحي] بالدفاع عن الدين الحق الأوحد الذي يستحق أو يوجد في المدينة البشرية، أي "دين العقل"، أو ما يعرف أيضًا بـ "الدين الطبيعي". وكان مقصد الربوبية اعتبار الدين المسيحي من وجهة نظر عقلية بحت بشكل يجرده من كل ما يعتبره هذا المذهب الفلسفي تلويثًا واستغلالاً لسلطة الله من خلال زعم الوحي التاريخي.

الغريب في الأمر أن بعض هذه الانتقادات، أقله في الأوقات الأولى، كانت تدعي أنها تقوم بهذا النقد كعمل "دفاعي" عن المسيحية، معتبرة أنها إذا ما حررت المسيحية من مفهوم الوحي، تكون قد أعادتها إلى صورتها الأصيلة والأصلية. وبهذا الشكل سعى البعض إلى جعل العقل مبدأ المعرفة الأوحد، الذي ينفي أو يثبت انطلاقًا من محوريته كل ما يتجاوب أو لا يتجاوب مع مبادئه. نشأ بهذا الشكل "دين طبيعي" (أو دين عقلي) يناهض الدين الإيجابي أي الدين الذي ينشأ كجواب على وحي أولي من الله، باعتبار أن هذا العنصر الأخير هو أمر إضافي وزائد لا يرتبط بجوهر الدين الحق (راجع ب. مارتينلي، الشهادة. حقيقة الله وحرية الإنسان، ميلانو 2002، 29).

يمكننا أن نقول أنه مع نشر كتاب "في الحقيقة" لهربت من شيربوري (Herbert di Cherbury) في عام 1624، وحتى عام 1792، حيث نشر يوهان غوتليب فيختي (Johann Gottlieb Fichte) بنشر "مقالة في نقد كل وحي"، نشهد محاولة تصاعدية للحط من الدين المسيحي في أصوله.

يسعى شيربوري في كتابه إلى معالجة موضوع الدين الميتافيزيقي، ويدعو إلى سيطرة عقلية على الخبرة الدينية. لا يأخذ موقفًا معاديًا من الدين الموحى ولكنه يعبر عن رغبته بإرجاع الدين إلى سلطة العقل باعتبار أن دين الوحي "يحمل طابع فساد". الأديان الحقة بنظره هي تلك التي تسهم بالوصول إلى حالة الطوباوية، وهي مبنية على "عبادة عقلية". كما ولا ينفي أن هذا البعد الأخير يتجاوز العقل ولكنه يصر أن على العقل أن يسيطر على هذا التجاوز. وبالحديث عن البعد الإيجابي للدين يعتبر شيربوري أن الدور الأساسي هو تربوي، ولكن هذا البعد لا يصل إلى إدراك أية حقيقة خاصة.

في الإطار عينه نجد تفكير جون تولاند (John Toland) الذي يدعو إلى السيطرة على أي دين من خلال "المبادئ العقلية الفطرية". في كتابه "المسيحية دون أسرار" الذي صدر في عام 1696، يحارب تولاند مفهوم ما لا يمكن إدراكه بواسطة العقل، أي السر. ويعتبر أن الدين يتمتع بسلطته فقط إذا ما أقنع العقل، وكل ما تفعله الأديان ما عدا ذلك إنما هو فساد وحروب. ولذا يتوجب أن تخضع الخبرة الدينية للعقل بالتمام (راجع م. زكلر – م. كيسلر، "نقد الوحي"، في و. كرن – ه. ج. بوتمايير – م. زكلر، علم الأصول اللاهوتية. دراسة في الوحي، المجلد الثاني، بريشا 1990، 40 – 41). يعتبر تولاند أن كلمة "سر" هي فارغة فكريًا، وهي مجرد وسيلة للثرثرة وعدم قول شيء آخر. ما هو "سري" هو غير حقيقي. وبهذا الشكل يزعم تولاند أن ينزع عن الدين كل طابع فائق الطبيعة وكل طابع يتجاوز العقل.

 

خلاصة

 

لقد استعرضنا في هذه "الخواطر في الإيمان والعقل" ولادة مذهب العقلية الحديثة مع ديكارت، واستعرضنا الإرث الذي خلفه ديكارت في اللاهوتيين الذين اعتنقوا نظرته وصولاً إلى الفصل بين فكر الإيمان وعيش الإيمان. ومن ثم نظرنا إلى بعض ورثة ديكارت في العقلية، كانط وسبينوزا، على الصعيد الفلسفي، وشيربوري وتولاند، على الصعيد اللاهوتي.

إن نظرة شاملة خاطفة إلى فلسفة العصر الحديث تبين لنا أن إرث هذه الحقبة هو غني، متنوع ومتشابك. فمن ناحية هناك إرث عظيم لا يمكننا أن نتغاضى عنه. فديكارت كان من كبار علماء الرياضيات، وجميعنا يعرف العلاقة الوثيقة بين الرياضيات والفيزياء، والتكنولوجيا في ما بعد. لقد أسهم العصر الحديث أيضًا في وضع أسس تقييم الفرد الذي أدى إلى شرعة حقوق الإنسان في ما بعد.

ولكن في الوقت عينه يحمل العصر الحديث في طياته بعض الغموض وبعض المخاطر على الصعيد الإيماني. ولهذا يضطرنا إلى القيام بتمييز دقيق لإدراك منافعه ومخاطره، وتعزيز الأولى وتجنب الأخيرة. يتحدث بندكتس السادس عشر في هذا الصدد عن "التزام ثقافي هام" يتمثل بـ "الحوار مع الثقافة الحديثة، التي تفخر من ناحية بتقدم كبير على الصعيد العلمي، ولكنها تبقى في الوقت عينه موسومة بقوة بعلمية وضعية ومادية متطرفة" (بندكتس السادس عشر، خطاب إلى اليسوعيين في بازيليك القيس بطرس، 22 أبريل 2006).

هناك مبدأ واضح في منهجية العصر الحديث يشكل خطأ منهجي في مقاربة الإيمان هذا المبدأ هو اعتبار الوقائع "كما لو أن الله غير موجود" (etsi Deus non daretur). هذا ما قامت به الفلسفة، وللأسف، كما رأينا بإيجاز، هذا ما قام به بعض اللاهوتيين. وقد أدرك بشكل جيد البابا بندكتس هذا الأمر ودعا الفلسفة واللاهوت والمفكرين إلى تحدٍ كبير وهو التفكير واعتبار الأمور انطلاقًا من الاعتبار بأن الله موجود (etsi Deus daretur)، بطريقة يكون فيها اللاهوت لاهوتيًا حقًا، لا "ما-قبل-اللاهوتي".

خطر اللاهوت "الما قبل اللاهوتي" هو أنه ينطلق من إله عقلي، ويصل إلى إله الربوبية، إلى إله الفلاسفة، لا إلى إله يسوع المسيح. الإنطلاق من لاهوت عقلي محض يغلق نوافذ الفكر على  أبعاد حياتية هامة جدًا، هي بُعد السيرة اللاهوتية، بُعد العاطفة، بعد علم النفس، بعد الحياة الكنسية كحياة جماعية، بعد الشهادة، وما إلى ذلك من أبعاد كثير تتجاوز العقل، وأهمها بعد المحبة المجانية التي تتجاوز العقل، والتي تشكل كنه الدين المسيحي. من هذا المنطلق الدين العقلي الذي أراد أن يوطد ركائزه المفكرون الذين أردنا استعراضهم لا يطابق البتة طبيعة الفكر البشري الذي يقوم فقط بالتعاون مع سائر الوقائع البشرية. خوفًا من ألا يعطوا العقل حقه، أراد المفكرون الذين استعراضناهم أن يمنحوا العقل حقوق جميع العناصر الأخرى التي تشكل الواقع البشري، ولهذا فإن محاولتهم هي فاشلة وغير مناسبة للواقع البشري.