حرية أم طيش

ابونا بنيامين صلاح
 

ciao292@yahoo.com
لماذا عاد ؟ لو15
سؤال في شكليه بسيط واضح، وهو سؤال عن شخصٍ ما (وربما يمثل شباب اليوم) كان موجود في مكانٍ ما، ثم تركهُ وذهب، ثم عاد لهُ مرةٌ ثانية. وخصوصاً أنه تركهُ بإرادته، هذا هو الابن الضال، ما نقول عليه أنه الابن الشاطر أو مثل الأب الرحيم (لو 15). لقد فُسر هذا المثل بطرق عديدة، وكُتب عنه الكثير جداً. ولكن لم أجد أبداً تفسيراً لماذا عاد هذا الابن؟ الذي نسميه نحن هنا الابن المراهق أو الولد الطائش!! أو مثل الجري وراء الخطيئة.
قصة قديمة، محفوظة عن ظهر قلب، ومن كثرة التكرار فقدت معناها، ونتخيل أنها لا تهمنا وبعيدة عن واقعنا، أو أنها مجرد قصة تعليمة لا أساس لها ولا تحدث في الحياة العادية.
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال لابد أنّ نُجيب أولاً عن سؤال آخر. لماذا ترك هذا الابن المنزل؟ فيوجد أكثر من سبب:.
1.        العلاقة الأسرية.
1/ 1  الحالة الاجتماعية
من الواضح أن هذا الابن في سن المراهقة. ومن صفات هذه المرحلة السعي الدائم إلي التخلص من الرقابة ورفض السلطة، وأسرته تتكون من ثلاث أشخاص هما (الأب والابنين الأكبر والأصغر) ولم يذكر أسم أحدهما. والأم لم يذكر عنها شيئاً هل هي حية أم ميتا؟ أو أنها مُطلقة حيث كانت الشريعة اليهودية تسمح بالطلاق؟ أو أنها موجودة في المنزل ولم يكن لها كلمة ولا دوري مثل كثيراً من نساء اليوم في العالم الثالث؟
  1/2 الحالة الاقتصادية
يوضح لنا النص أن هذه أسرة غنية الأرستقراطية حيث العجل المسمن والجدي والخدم والخاتم الذهب والحذاء، والحقل، والمنزل…..الخ وربما يكون هذا الغني هو سبب من أسباب تركهُ للمنزل حيث يتضح من كلام الأخ الأكبر لأبيه: "خدمتك كل هذه السنين وما عصيت لك أمراً…" لو15: 29 حيث يظهر هنا التركيز علي العمل والخدمة "وكان الابن الأكبر في الحقل"، وهذا أفه من آفات الحياة حيث التركيز علي العمل من أجل الماديات وننسي العلاقات الأسرية والإنسانيّة، كما نستشف أن العلاقات سطحية بين كل أفراد الأسرة لا يعرف أحدهم الأخر، فلم يظهر هذا الأخ ألاّ عندما عاد أخوه فخاف علي ميراثه، ولعله أراد أن يقول لأبيه أنه أخذ ما له وما باقي فهو ليّ. لا تقبله: "لما رجع أبنك هذا بعدما أكل مالك مع البغايا" الابن الأكبر يعترض علي رجوع أخوه الأصغر ولم يقوم بنفس الموقف عندما قرار ترك المنزل وربما كان سعيداً.
"لما رجع ابنك هذا" لم يذكر أسمهُ أي أنه نكره بنسبة له، ولم يقول أنه أخوه بل أبنك، وما أسوء العلاقات اليوم بين الأخوة وبذات فيما يخص الميراث أو الماديات، وكثيراً ما سمعنا وقرأنا وعشنا مواقف فيها الأخ ممكن أن يسجن أخوه أو يقتله من أجل الميراث أو الماديات. وننسى أن يسوع قال حيث يكون كنزك يكون قلبك…أحبوا أعدائكم … يحب بعضكم بعض فيعرفون أنكم تلاميذي…. ومن قال أنه يُحب الله ويكره أخاه فهو كاذب.
2.        التجربة
ربما ترك المنزل لأنه جرب الخطيئة، ربما كان يتردد هذا الصبي علي أماكن غير مرغوب فيها أو مشبوه، فحاصره الأب من كل جانب وكان دائم التوبيخ له. وما نطلق عليه السلطة الوالدية، أو المراقبة فلا يستطيع هذا المراهق أن يتحمل صراعه النفسي بين الحفاظ علي مكانة الأسرة التي وضع رأسها في الطين وبين رغباته وشهواته،وفي النهاية قرار أن يعيش هذا التجربة، ومن يقع في تجربة الخطيئة وخصوصاً من هذا النوع، يشبه الأرض الرملية كل ما نعطيها ماء تريد في اليوم التالي أكثر،  والأب أعطه ما يريد لكي يترك المكان بل البلاد كلها ويرحل لكي يتخلص من مشاكله أو ربما لأن سمعته أصبحت سيئة، ولا نستطيع أن ننكر أنه توجد لذا في الخطيئة؟؟.
لأنه ليس من المنطقي أن هذا الصبي كان نائم وأستيقظ  فطلب من أبوه ميراثه فأعطه له بكل سهولة، والعقل يقول أنه ليس من السهل أن يأخذ الابن الميراث وأبيه علي قيد الحياة، لأنه بهذه الطريقة يعتبر أن أبوه مات أيّ لا مراقب عليه، فذهب ليعيش حياته كما يريد…..؟!!
ربما لهذه التوقعات ترك هذا المراهق
3.        غريب في منزله
بعد كل هذا لابد أن يكون هذا المراهق سيطرة عليه الخطيئة وهيئة له الفرصة لكي يترك منزله الذي يشعر وأنه غريب لا أحد يشعر به ولا أحد يفهمه ولا أحد يساعده علي أن يعيش ما يريده حتى ولا كان خطأ لأنه يعتبر نفسه شاب متفتح وكل من حوله منغلقين (دقة قديمة)، كم من شباب في هذه الأيام يتذمر علي الأسرة وعلي نوعية التربية، ويريد أن يذهب بعيداً بحجة العمل أو أكل العيش ولكن الواقع أنه يريد أن يهرب من المراقبة ليعيش ما يريده كما فعل هذا الشاب ذهب إلي بلاد بعيدة وأرتم في أحضان الخطيئة وألهو والعبث بالاخلاق والمبادئ والشرف بل بالحياة نفسها، ولكن يحدث ما لا يتوقعه:المال بح، أصدقاء أندال تركه، والخطيئة لوحدها واقفت تضحك عليه وتعد له ما هو أعظم، العمل عند رجل يكسر الوصية وماذا يعمل؟؟ راعي خنازير وهي رمز إلي حياته التي عاشها في الخطيئة وهو يعتقد أنها الحرية الجنة الفردوس بل الخلود، فينطفئ كل شعاع أمل وينكسر القلب وتتمزق الملابس ويقطع الحذاء، وفي رأي هذا هو الميلاد الثاني له التجرد حتى لو كان إجباري، ولكنه أدى به إلي فحص الضمير ومراجعة الحياة حتى وصل إلي مرحلة الطفولة وتذكر أبوه وأسرته وحياته قبل الخطيئة، التي لها دور كبير في حياتنا الروحية والنفسية والجسدية، فتذكر أنه كان ابن بل سيد ولكنه الآن لا يستحق هذا اللقب، فيقول:\\"كم من أجير عندا أبي يفضل عنه الطعام، وأنا هنا أموت من الجوع …..\\" كان في منزل أشراف المدينة ثلاث فئات
1-        العبد: مُشترى بالمال ولو مات يخسر السيد بعض المال والخدمة.
2-        الخدم: وهم الذين يخدمون في المنزل وهم أقل من العبيد في    الأهمية.
 3- الإجراء: ناس تجلس في السوق يأتي العبد أو السيد ليستأجرهم للعمل، فهو لا يعرفهم ولا يهمه أن يعرف حتى أسمائهم، فهم يؤدون عملهم ويذهبون يأتون في اليوم التالي أو غيرهم فهم أجراء يعملون عند من يدفع لهم الأجر.
وهكذا كان تفكير هذا الابن المراهق يعمل كأجير لأنه لا يستحق أن يكون أبن ولا حتى عبداً، ولا خادماً لأن هؤلاء يعشون في نفس منزل السيد وكأنه يقول لا أستحق أن أسكن تحت سقف هذا المنزل الذي رفضته. (لست مستحق أن تدخل تحت سقف بيتي ولكن……).
وهكذا نستطيع القول:\\" الإنسان ليس بطبيعته خاطئاً ولا مجرماً ولكن الظروف الداخلية (الاستعداد لسير في الخطيئة – الأسرة) أو الظروف الخارجية( الأصدقاء- حب الظهور- إثبات الشخصية)كل هذا العوامل سواء مجتمعة أو متفرقة تؤدي بنا إلي الانحراف والسير في صحراء النفس والعطش ونحن في البحر والجري ونحن نيام حتى نقع فريسة سهلة. والشاطر الحقيقي هو الذي يقول بل يفعل بهذه الحكمة \\" لا تشمتي بيّ يا عدوتي لأني إذا سقطت سأقوم\\" وأرجع إلي أبي. وهذا هو طريق العودة…………………………… الذي نعرفه في العدد القادم
طريق العودة
1- مقدّمة
طريق العودة ليس سهل ومفروش بالورود بل صعب جداً ومحفوف بالمخاطر والمش علي الزجاج وهو أخطر من المشي علي الماء، وفيه نوع من الذل والإهانة والاعتراف بالخطئ والفشل وكسر الكبرياء، وتجريح من أهل قريته عندما يرونه بملابس رثى وبدون خاتم وحذاء شبه متشرد، أو أنهم لم يعرفونه (نكرة) بسبب التغيرات الجسدية والهيئة الخارجية (فالخطيئة تشوه النفس والجسد) ولكن كل هذا لم يكن شيئاً أمام شغفه بالبنوة وثقته في حب وحنان أبوه الذي أهانه ولطخ أسمه في الطين الذي أعتبره نكره ولا وجود له عندما طلب ميراثه وترك البيت، ولكن بعدما إجتنفته التوبة وذله الجوع تحول كل هذا إلي فعل رجاء وحب واثق وايمان لايخزى.
2- الأعتراف        
قال القديس بولس:\\" لا شيء يفصلني عن الله لا ضيق ولا شدة ولا حروب …\\" وفي مكان أخر قال: حسبت كل شيء خسارة لكي أربح المسيح\\" وقال القديس يوحنا للصليب بعد مشقة تسلق جبل الكرمل \\" لا شيء لاشيء لاشيء\\"
نكمل النص :\\"… وأنا هنا أموت من الجوع، سأقوم وأرجع إلي أبي وأقول له:\\"يا أبي أخطأت إلي السماء وإليك..\\"لو15: 17-18، كانت أمل أن يُكمل وإلي نفسي وأخي الأكبر. فما هو الدافع الحقيقي وراء عودة هذا المراهق.
في البداية رفض أن يعود إلي أبيه، وفي لحظة ضعف جديدة يُقرار أن يذهب إلي أبعد مما كان عليه، محاولة جديدة ليهرب من الاعتراف بالخطأ، فذهب ليعمل عند شخص يكسر الوصية ظاناً أن رحمت هذا الشخص ستكون أكبر من رحمت أبيه عليه.
 وفي عمله هذا شعر أنه وحيداً غريب وهو سبب من الاسباب التي هيئة له الطريق يترك المنزل، ورث الثياب لا يملك طعامه يأكل من أكل الخنازير الخرنوب، فقرار أن يغامر من جديد ولعله هذه المرة نحو الهدف الصحيح، كما كانت هناك أسباب لتركه المنزل توجد أيضاً أسباب لعودته منها:
1.        الجوع
عندما نرى شخصا جائعاً نشفق عليه ونحاول أن نساعده ونشبعه، نمد له يد المساعدة ولكن ولو كلنا جياع لابد من العمل عند شخصا ما لنسد عوزنا الجسدي وبنفس المعني علي الجانب النفسي والروحي.
في بداية الخليقة خطأ الإنسان فكان العقاب هو العمل ليسد جوعه. فالجوع سبب من أسباب الخطيئة – نلاجظ أني أقول الجوع ولم أقول العمل- ويذكر لنا النص صراحة أنه شعر بالجوع، فيأكل مما تأكله الخنازير فهي تأكل الفضلات من كل شيء أي ما يفيض من الإنسان (الزبالة)، وهذا لم يتعود أن يأكله من قبل، ويقول لنا الحكيم سليمان عن خبرة قوية إن (النفس الشبعانة تدوس العسل والنفس الجائعة كل مر حلو) والجوع سبب من أسباب التمر والعصيان والطيش والظلم والهروب والإرهاب والقتل والحروب والدمار والخوف والكسل وكل ما هو سلبي.
ولكن في ظل كل هذا يسوع يوصينا أن نساعد بعضنا بعض وهذا حبا في شخصية حينما قال:لأني جُعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومرضاً فزرتموني، وسجيناً فجئتم إليَّ […] كل مرة عملتم هذا لواحد من أخواتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه" (مت25/ 35: 40).

2- الأفلاس و الهبوط
لا يستطيع أحد أن ينكر أهمية الماديات والفلوس في المعاملة، وفي غابر الزمان كان يؤمن الأنسان أن الغني والماديات نعمة إلهية تعطي لمن يستحقها علامة علي رضي الله علي عبده
 وخصوصا علمنا اليوم يعطيها ما يفوق قيمتها بكثير، عالمنا اليوم عالم الاقتصاد والعولمة والمكسب مباح بكل الطرق والغاية يبرهها المكسب بقدر ما يملك بقدر ما تكون ولا أحد يجرى أن يسألك من أين لك هذا؟ بل الجميع يلتفون حولك ويباركوك، وعندما تفلس لا وجود لك في حياتهم لا كرامة لك في مجتمعهم بل يرغبون في رجمك مثل المرأة الزانية لا تمسك، فأول من يرجمها واحد مما عشروها خوفا من أن يفتضح أمره.
الاهتمام بالمظهر والشكل الخارجي أصبح له وجود كبير عن الاهتمام بالمبادئ والحرية والخير والعدل والمساواة والاخلاق والشرف التي يعتبرها البعض شعارة لا وجود لها في الواقع بل الماديات تبيح كل شيء بمالك تشتري كل ما تريد مثل الشرف والاخلاق وتحقق العدل الذي يخدم مصلحتك وتتدخل في التشريع بأختار بمالك تحصن حياتك ومشريعك وتكون أنت وبس. ومع الأسف لو حدث ما لايخطر علي بالك مثلما حدث مع مرهقا هذا لا تجد غير الهبوط إلي مستوى الخنزير، الذي يترمغ في الطين والوحل الذي تصنعه بيدك
كل يوم نسمع عن شركات تغلاق ابوابها وكم ومن المحلات أصبحت زكرى ولا حتي زكرى بل كانت والان لم تكن.
3- الشوق إلي البنوة
الشوق إلي البنوى يفوق الغرائز ويعلوا فوق المشاعر ويحطم كل القيود ويكسر كل العدات والتقاليد ويساعد علي أكتشاف الكرامة الإنسانيّة والتمايز الذي يفقده منْ يسير في الخطيئة وطريق العالم يعني فقدان هذا الشرف العظيم الذي دعانا له السيد المسيح وأن نقول علمنا:\\"ابانا الذي في السماوات…\\" ولهذا اشتاق قرار هذا المراهق أن يعود إلي أبيه حتى ولو أجير وطلبه هذا لأن يكفيه أن يرى أبيه ويكون بجوار ليشعر الأمان والحب والحنان…فالبعض أطلق أسم الاب الرحيم علي هذا المثل فكيف هذا الاب يسمح لنفسه أو بالمعني الشعبي (يهون عليه) أن يرى أبنه يعمل كأجير. ويسوع قال:\\" من اليوم لم أدعوكم عبيداً بل أبناء …\\"
 
وكل عام وانتم بخير
ابونا بنميامين صلاح