تطور الفكر الكنسي في المجال الاجتماعي والاقتصادي

 

بقلم: جورج برنوطي

 

نظرة موجزة خلال أربع حقبات تاريخية مختلفة:

الرسل القديسين،

البابا لاون الثالث عشر،

البابا بولس السادس،

البابا يوحنا بولس الثاني

 

مقدمة:

إن الكنيسة تعمل في قلب هذا العالم لتغير واقعه وتحقق ملكوت الله على الأرض وتشهد ليسوع المسيح الفادي مؤسسها ومعلمها الذي قال :"جئت لكي يكون لهم حياة ولتكون أفضل"(يو10:10 ) (فهي الخميرة الصالحة التي تخمر تاريخ البشر. كما أن رسالتها تقتضي منها جهداً وبذلاً وتحقيق مشاريع ثقافية واجتماعية لخير البشر ومجد الله الأعظم.) ( 1 )

" لكن الكنيسة، التي أسست في مجمل ما حصل من تاريخ الله مع البشر حتى الآن ، لا تزال في مسيرةٍ إلى اكتمالها في نهاية الأزمنة فهي الكنسية الحاجّة، التي تحمل في أسرارها ومؤسساتها، التي لا تزال تنتمي إلى زمن هذا العالم ، صورة هذا العالم؛ وتعيش هي نفسها وسط الخلائق التي لا تزال تئن حتى الآن في أوجاع المخاض وتنتظر تجلي أبناء الله (رو8: 19-22)" (2)

 فالكنيسة إذ هي ابنة واقعها تتأثر وتؤثر فيه على امتداد تاريخ البشر منذ زمن الظهور الإلهي في يسوع المسيح حتى اليوم الذي يعود فيه يسوع المسيح ليعلن الدينونة العامة.

"إن نقطة الانطلاق والأساس لتحديد العلاقة بين الكنيسة وعالم اليوم تحديداً قويماً هي البشارة بملكوت الله الموكلة إلى الكنيسة. وهذا يعني إن هدف الكنيسة هو خلاص الأزمنة الأخيرة الذي لن يتم كاملاً إلا في العالم الآتي .لا جرم أن الكنيسة مكونة في هيكل عضوي منظور، ولكنها، في مهمتها وصلاحيتها تتميز عن الجماعة السياسية ، ولا ترتبط بأي نظام سياسي . وفيما تبين الكنيسة رسالتها الخاصة والمميزة، تقر في الوقت عينه بالاستقلال المشروع للشؤون الأرضية ولاسيما الدولة.وهي تدافع عن الحرية الدينية كتعبير عن كرامة الشخص الإنساني. هذا التميزفي الصلاحيات بين الكنيسة والعالم (المجتمع ،الثقافة ، السياسة، إلخ)، لا يعني أي انفصال. فيسوع المسيح هو مفتاح تاريخ البشر وقلبه ونهايته ؛ إنه النقطة التي تنصب فيها كل رغبات التاريخ والثقافة ، إنه محور الجنس البشري ، إنه الألف والياء. عن هذه البشارة تنجم مهمة ونور وقوة يمكن توظيفها في بناء المجتمع البشري.ومن ثم فالكنيسة تطالب بحقها في أن تصدر حكماً أدبياً حتى في الأمر التي تتعلق بالنظام السياسي ، عندما تقتضي ذلك حقوق الشخص البشري الأساسية أو خلاص النفوس." ( 3 )  

ومن أهم الوسائل التي كانت تنقل بها الكنيسة بشرى الخلاص هي الرسائل، فعلى مثال الرسل القديسين الذين كانوا يرسلون رسائل إلى مختلف الكنائس التي أسسوها بغية متابعة أحوالها ومعالجة مشاكلها وإعطاء تعاليم تتوافق مع الإيمان تنبع أهمية الوثائق الصادرة عن الكرسي الرسولي وخصوصاً الرسائل العامة، والتي تعتبر منهاج عمل للكنيسة الجامعة على امتداد أصقاع العالم كله. ففي هذه الرسائل تعليم الكنيسة الجامعة بخصوص كل الأمور المستجدة على الساحة العالمية والمؤثر على مجرى تاريخ البشرية والمتوافق مع الإيمان.

سنتطرق في الأسطر القليلة التالية كيف عالجت الكنيسة بعض المواضيع الاجتماعية والاقتصادية ابتداء برسائل الرسل القديسين مرورا برسالة البابا لاون الثالث عشر ( الشؤون الحديثة) نظرا لأهميتها القصوى في هذا المجال وصولاً إلى ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني مع أهم الرسائل الصادرة عن الكرسي الرسولي التي تعالج هذا الموضوع كرسالة (ترقي الشعوب) للبابا بولس السادس ورسالتي البابا يوحنا بولس الثاني (الاهتمام بالشأن الاجتماعي) و(السنة المئة.)

 

1- رسائل الرسل القديسين واهتمامهم بالشؤون الاقتصادية للمؤمنين:

لقد اهتمت الكنيسة الأولى منذ بدء نشأتها بالواقع الاجتماعي و الاقتصادي لأبنائها طبعاً إلى جانب رسالتها الأساسية في نقل البشرى وحفظ ذخيرة الإيمان. ففي عهد الرسل عالجت الكنيسة الأولى عدة ظواهر اجتماعية واقتصادية، على ما نجده مدونا بين دفتي الكتاب المقدس، العهد الجديد، فنجد في أكثر من مكان الاهتمام بالعدالة الاجتماعية و توزيع الثروات. حيث نقرأ ما ورد في كتاب أعمال الرسل: "وكان جماعة المؤمنين قلباً واحداً وروحاً واحدة، لا يدعي أحد منهم ملك ما يخصه، بل كانوا يتشاركون في كل شيء لهم … فما كان أحد منهم في حاجة، لأن الذين يملكون الحقول والبيوت كانوا يبيعونها ويجيئون بثمن المبيع، فيلقونه عند أقدام الرسل ليوزعوه على قدر احتياج كل واحد من الجماعة."(أع 4 : 32-35)

 فكانت الحياة المشتركة حتى في الأمور المادية صبغة تطبع أجدادنا في الكنيسة الأولى. وبعد أن انتشرت الكنيسة في مختلف أنحاء العالم أحس الرسل بوجود فوارق اقتصادية كبيرة بين كنائسهم فعملوا على جمع التبرعات من الكنائس الغنية وإرسالها إلى الكنائس الفقيرة وذلك ليس من مبدأ الصدقة وحسب بل من مبدأ العدالة والمساواة حيث نقرأ في رسالة القديس بولس الرسول الثانية إلى أهل قورنتس عندما كان يطالب كنيسة قورنتس بجمع التبرعات: "فليس المقصود أن يكون الآخرون في يسر وتكونوا أنتم في عسر، بل المراد هو المساواة."( 2قور 8 : 13)

إن الرسل كانوا على يقين من أن الأمور المادية هي أيضا مهمة وهي العلامة المحسوسة على الإيمان على حد قول القديس الرسول يعقوب في رسالته عندما تحدث عن الإيمان والأعمال أعطى المثال التالي: (يع 2 : 15-16):"فإن كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ينقصهما قوت يومهما، وقال لهما أحدكم : « اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا» ولم تعطوهما ما يحتاج إليه الجسد، فماذا ينفع قولكم؟"

وكذلك جابه القديس بولس ظاهرة البطالة التي انتشرت في تسالونيقي بلهجة شديدة وأعطى فيها تعليما أسماه وصية:" فلما كنا عندكم كنا نوصيكم هذه الوصية: إذا كان أحد لا يريد أن يعمل فلا يأكل."(2تس 3 : 10) لأن القديس بولس يعلم علم اليقين أن كرامة الإنسان لا تكتمل إلا إذا كان يعمل ويتعب فجعل من نفسه قدوة، وهو رسول الأمم، إذ كان لا يأكل إلا مما كان ينتجه على حد قوله: "فإنكم تعلمون كيف يجب أن تقتدوا بنا، فنحن لم نسر بينكم سيرة باطلة ولا أكلنا الخبز من أحد مجاناً ، بل عملنا ليل نهار بجد وكدٍّ لئلا نثقل على أحد منكم ، لا لأنه لم يكن لنا حق في ذلك ، بل لأننا أردنا أن نجعل من أنفسنا قدوة تقتدون بها."( 2تس 3 :7-9)

وهكذا وعبر تاريخها كانت الكنيسة دائما تواكب مشاكل أبنائها ليس فقط الروحية والدينية بل أيضا الدنيوية وتقدم لهم النصح ولإرشاد إن لم نقل المساعدات المادية الملموسة.

 وفي هذه الأسطر القليلة لا أريد أن أتناول كيف عالجت الكنيسة المواضيع الاقتصادية الاجتماعية في العصور الوسطى أو في بداية عصر النهضة بل أريد التركيز على فكر الكنيسة في هذا المجال في ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني مع عدم إهمال فكر البابا لاون الثالث عشر رغم أنه يسبق المجمع الفاتيكاني الثاني بعدة عقود والذي مهد برسالته العامة (الشؤون الجديدة) للفكر المسيحي المعاصر في المجال الاقتصادي والاجتماعي المجال ليكون فكرا عمليا يواكب التطور الاقتصادي الذي يشهده العالم. طبعا مرورا بفكر البابا يوحنا السادس وانتهاءً بفكر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني.

 

2- أهمية الرسالة في الشؤون الحديثة للبابا لاون الثالث التي كتبت عام (1891):

إن الذي يبحث في تطور فكر الكنيسة عبر تاريخها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية لا بد له من أن يقف موقف المعجب أمام الرسالة العامة (الشؤون الحديثة) التي كتبها البابا لاون الثالث عشر عام (1891) والتي وبسبب أهميتها القصوى مهدت لظهور عدة رسائل بعدها منها السنة الأربعون للباب بيوس الحادي عشر عام (1931) والسنة الثمانون للبابا بولس السادس عام ( 1971)ورسالتي العمل البشري (1981)والسنة المئة للبابا يوحنا بولس الثاني عام (1991). وهذه الرسائل تعتبر امتداداً للرسالة في الشؤون الحديثة وتكميلا لها وتطويرا عليها مواكبة لتطور العالم الاقتصادي والاجتماعي ودعما لرسالة الكنيسة في العالم (فالكنيسة إذ تعيش في صلب التاريخ كان عليها أن تتنبه لعلامات الأزمنة وتفسرها على ضوء الإنجيل) ( 4 )

 يقول البابا يوحنا بولس الثاني عن (الشؤون الجديدة) أن الله استعان بهذه الوثيقة (ليحقق خيراً عميماً وينشر نوراً كثيراً في الكنيسة وفي العالم.) ( 5 )

إن الرسالة في الشؤون الحديثة كتبت والعالم يعيش حالة صراع كبير بين النظم الاقتصادية القديمة والنظم الحديثة فإذا بنا أمام مجتمع تقليدي آخذ بالتقلص ويحل محله مجتمع آخر، يحدوه الأمل بحريات جديدة،من جهة ، ويحدق به، خطر التعرض لأشكال جديدة من الظلم والاستبداد من جهة أخرى. حيث تميزت البلدان الغربية بأنها بلدان صناعية تبحث عن مصادر المواد الأولية وتبحث عن سوق لتصريف منتجاتها فكان الفكر الاستعماري هو السائد فيها.

نقرأ في مقدمة الرسالة ما يلي: " في الزمن الذي أخذت تتنامى فيه الرغبة العارمة عند الشعوب، منذ زمن بعيد، في الشؤون الحديثة، كان لا بد لهذه الرغبة في التغيير من أن تنتقل من حيز السياسة إلى جوار دائرة الاقتصاد. ولا غرو، فالصناعة تطورت وأساليبها تجددت كلياً. والعلاقات بين أرباب العمل والعمال تبدلت، والثروات تراكمت عند قلة من الناس بينما الجمهور في عوز. وتنامت ثقة العمال بأنفسهم وأقاموا بينهم حلفاً أوثق. هذا كله ، بالإضافة إلى انحلال الأخلاق، أدى إلى تفجير الصراع.) ( 6 )

 وأضحت القضية العمالية أي الصراع بين رأس المال والعمل في هذه البلدان بما تحتويه من حقوق العمال وأجورهم وأيام الإجازات والاهتمام بشؤون صحتهم وأسرهم وحرية ممارستهم الدينية، القضية الأولى التي دافعت عنها هذه الرسالة، لأن البابا لاون الثالث عشر كان على يقين، أن السلام يبنى على أساس العدالة فطالب الدول بأخذ دورها في هذا المجال بعد أن أمسى العمل سلعة عرضةً للشراء والبيع في السوق الحرة لا يحكمه سوى قانون العرض والطلب ولم يكن العامل يضمن بيع سلعته بل كان دوما مهدداً بخطر البطالة والهلاك جوعاً في غياب كل حصانة اجتماعية أو قانونية.مثلاً يقول البابا في مجال حياة العامل الروحية: "فالمسيحية تقتضي بأن تؤخذ مصالح العامل الروحية وخير نفسه بعين الاعتبار. وعلى أرباب العمل أن يؤمنوا للعامل الوقت الكافي لممارسة إيمانه، فلا يتعرض للتضليل والإغراءات المفسدة" ( 7 )

وكانت نتيجة هذا التحول انشطار المجتمع إلى طبقتين بينهما هوة عميقة، بهذا الصدد يكتب البابا لاون الثالث عشر: "ولكن على الدولة، في حماية الحقوق الفردية، أن تخص الصغار والضعفاء باهتمامها. فالفئة الثرية المقتدرة بأموالها أقل حاجة إلى رعاية الدولة، بينما الطبقة الفقيرة لا تملك ثروة تضمن لها الحماية، فتضع في عصمة الدولة جل اتكالها. ومن ثم، فعلى الدولة أن تحوط العمال الكادحين بمخصوص عنايتها وحدبها"( 8 ) فلقد تكلم البابا لاون الثالث عشر عن قضية العمال وحقوقهم في الوقت الذي كان الحديث حول هذا الموضوع يعتبر ممنوعاً. ولقد أكد البابا عندما تحدث عن الصراع بين رأس المال والعمل ما يعود للعمال من حقوق أساسية فكرامة العامل هي فوق كل اعتبار. أما "ما هو عار فهو أن يستعمل الإنسان كأداة حقيرة للكسب وأن لا يقيم إلا قياساً إلى قوة ساعده" ( 9 ).

كذلك دافع البابا لاون عن حق إنشاء جمعيات ونقابات وأعتبرها " الحق الطبيعي لدى الإنسان" وأكد أن " الدولة وجدت لتحمي الحق الطبيعي لا لتهدمه. فإذا منعت الدولة مثل هذه التجمعات، فهي تتعدى على ذاتها." (10)

من هنا تنبع أهمية الرسالة الشؤون الحديثة فهي تطرقت إلى أهم الجوانب الاقتصادية التي طبعت وميزت أواخر القرن التاسع عشر وخصوصا المسألة العمالية وعلاقة المواطن مع الدولة وحق التملك وواجبات الدولة تجاه المواطنين وخصوصا الفئات الفقيرة التي تمثل الأغلبية الكبرى في الجسم المجتمعي ومبدأ التضامن الذي دل عليه البابا لاون الثالث عشر مستعملاً لفظة الصداقة.

من يدرس هذه الرسالة بالعين الفاحصة يجد أن البابا "اتخذ من (الاشتراكية) منطلقاً لنقد الحلول المقترحة(للقضية العمالية)، يوم لم تكن الاشتراكية قد اتخذت بعد شكل دولة قوية وقادرة بيدها الطاقات كلها ، كما تم لها ذلك لاحقاً ولكنه أصاب في تقدير الخطر المتربص بالجماهير من جرى اعتماد صورة مغرية لحل مشكلة العمال آن ذاك ، بطريقة ساذجة وجذرية معاً . ويظهر ذلك بطريقة أوضح في ضوء الظلم المريع الذي آلت إليه الجماهير الكادحة في الدول الحديثة التصنيع." ( 11 )

فأهمية الرسالة أخيراً: نبعت من النتائج التي تولدت عنها، على الصعيدين الداخلي والخارجي.

– فداخلياً، انطلقت في الكنيسة مسيرة ديناميكية ازدهرت فيه المؤسسات والحركات الاجتماعية المسيحية، فأدت إلى نشوء "العمل الكاثوليكي" ووضعت الكنيسة في مسار جديد، تلتزم فيه بكل القضايا الإنسانية، وترسم لها سياسة جديدة في المجال الاجتماعي عامة والعمالي خاصة.

– أما خارجياً، فقد كان للمواضيع التي تطرقت إليها الرسالة، والمبادئ التي أعلنتها القضية العمالية، تأثير تخطى نطاق الكنيسة والمسيحيين، فأصبحت تلك المبادئ خيارات أساسية أعتمدها، في تحديد السياسات الاجتماعية، عدد كبير من المتعاطين في الشأن الاجتماعي والعمالي، من مسؤولي دول وحكومات ومؤسسات وطنية وعالمي، ونقابات وجمعيات.

 

3- الحياة الاقتصادية والاجتماعية كما عالجتها بعض رسائل الباباوات بعد المجمع الفاتيكاني الثاني:

مع المجمع الفاتيكاني الثاني نكتشف وعي الكنيسة لرسالتها الاجتماعية. فالكنيسة واعية لرسالتها، وترى تطبيق كلمة الله على الواقع الاجتماعي أكثر من أن تكون نظام عقائدي. ولا تضع أمامنا مبادئ لتكوين مجتمع مثالي نظري. فالرسالة المسيحية هي رسالة تنطبق على المجتمع الحالي الذي نعيش فيه وبالتالي هي التقاء الرسالة الإنجيلية ومتطلباتها الأخلاقية مع المشاكل الحياتية الاجتماعية.

إن غاية الرسالة ليست تصدير الثقافة الغربية ولا امتداد الكنيسة كما هي قائمة عندنا بل هي التبشير بالإنجيل وغرس الكنيسة في ما بين الشعوب والجماعات البشرية التي لم تغرس فيها بعد. وغرس الكنيسة يعني أن تكون متأصلة تأصلاً عميقاً في ثقافة الشعوب وعاداتهم الحياتية. فبقدر ما تنتقل ثروة يسوع المسيح إلى جميع الشعوب من جهة ، وبقدر ما تلج ثروات الشعوب وثقافاتها في صميم الكنيسة من جهة أخرى يسعى العالم والكنيسة كلاهما إلى بلوغ كمالهما النهائي الأخير. في هذا المعنى يعلم المجمع الفاتيكاني الثاني قائلاً : النشاط الإرسالي ليس أكثر ولا أقل من كونه إعلاناً لقصد الله ، أي ظهوراً وتحقيقاً له في العالم وفي تاريخ العالم الذي يتم فيه الله ، بالرسالة ، تاريخ الخلاص على وجهٍ منظورٍ. ( 12 )

إن الكنيسة لم تقدم نظاما عقائديا اجتماعيا يبقى نظريا ويصعب تطبيقه على حالات عديدة، لأنه قد تواجهنا مشاكل عديدة تظهر بسبب التطور التاريخي في المجتمع الإنساني والتي بحاجة إلى حلول واقعية انطلاقا من الإنجيل. فالرسالة المسيحية ليست رسالة اجتماعية: بمعنى أن الرسالة المسيحية يجب ألا تزاحم نظريات اجتماعية أخرى متحررة كانت أم متشددة. أي التعليم الكنسي الاجتماعي ليس خط ثالث بين الرأسمالية وبين الشيوعية. فهو ليس ايدولوجية ولكن يتكون من مميزات خاصة به. هو التقاء الرسالة الإنجيلية ومتطلباتها الأخلاقية مع المشاكل التي تنبعث من الحياة الاجتماعية. فالكنيسة تعطي حكما أخلاقيا في المواد الاقتصادية والاجتماعية خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان الأساسية وخلاص النفوس.

يرتكز التعليم الكنسي الاجتماعي على الوحي الإلهي بشكل أساسي، كما ويرتكز أيضاً على مبادئ أخلاقية أساسية ذات طابع عقلاني تظهر من خلالها التوافق بين الدين والعقل السليم تساهم في تنظيم الأعمال الإنسانية في مجال الحياة الاجتماعية والسياسية. بالتأكيد يجب الرجوع إلى المفاهيم الفلسفية لتعميق المفاهيم التالية موضوعية الحقيقة وواقع قيم الشخص البشري. جميع رسائل الباباوات تحث على البحث عن الفكر السليم لتنظيم الحياة الاجتماعية.

هذه العلوم الوضعية وخاصة الاجتماعية منها تمثل أداة مهمة في معرفة الواقع. فاللجوء إلى هذه العلوم يتطلب تمييز ووعي لكي لا يقع الإنسان في مطبات تخالف الإيمان المسيحي. اللقاء المثمر بين الأخلاقية الاجتماعية المسيحية وبين العلوم الإنسانية الوضعية أمر ممكن وهام لفهم الواقع الاجتماعي. فالكنيسة تحاول دوما أن توافق بين هذه العلوم وبين اللاهوت الأدبي.(13)

 

3- 1- رسالة ترقي الشعوب لبابا بولس السادس (1967):

نحن نعلم أن عالمنا المعاصر قد مر بتغيرات اجتماعية واقتصادية كبيرة وفي بعض الأماكن جذرية فانتقل عالمنا من النظام الإقطاعي القديم الذي كان سائدا في القرون الوسطى والذي كان يعتمد على الإنتاج الزراعي إلى الأنظمة التي استجدت إثر الثورة الصناعية ، كالنظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي و الشيوعي والديمقراطي ، مرورا باقتصاد السوق الاجتماعي. مما نجم عنه حالة اضطراب بل صراع بين الأمم وخصوصاً بين الأمم الغنية التي تزداد غناً والأمم الفقيرة أو النامية التي تزداد فقراً . هذه الحالة من عدم التوازن بين الأمم أدت لظهور تيارات فكرية اقتصادية وقد تأثرت الكنيسة الجامعة بظهور هذه التيارات الفكرية الأيديولوجية و الاقتصادية تأثراً واضحاً وملموساً وأرادت التأثير هي الأخرى في مجرى التاريخ وذلك استكمالا لدورها في تحقيق ملكوت الله على الأرض. هذا هو الإطار الاجتماعي والثقافي الذي كتب البابا بولس السادس رسالته "ترقي الشعوب" والتي تُعتبر استمراراً وتطويراً للفصل الخاص بالجانب الاجتماعي والاقتصادي في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني. و التي تهدف إلى تقدم مشاكل الإنسان وإلى تضامن تام بين الأسرة البشرية. إنَّ البابا يُنادي بالانتقال من ظروف غير إنسانية إلى شروط أكثر إنسانية. والظروف غير الإنسانية تقوم في نقص الموارد المادية وغياب الوازع الخلقي، وفي قيام نُظم ظالمة. أما الظروف "الأكثر إنسانية" التي يُنادي بها البابا فهي الحصول على ما هو ضروري من المعارف والثقافة واحترام الكرامة والاعتراف بالقيم الإلهية العُليا، والحياة القائمة على الإيمان والرجاء والمحبّة.

إن الكنيسة كانت واضحة منذ بداية النهضة الاقتصادية يقول البابا بولس السادس: (لا ينحصر الترقي في مجرد النمو الاقتصادي، فلكي يكون صحيحا يجب أن يكون كاملاً، أي أن يشمل كل الإنسان، و الإنسانية كلها.) ( 14 )

 أرادت الكنيسة دائما الاهتمام بالإنسان وبرقي الإنسان في مسيرة نمو ترتقي به إلى ملئ الإنسان لملئ قامة المسيح على حد تعير القديس بولس الرسول(أف 4 : 13). لقد تنبه البابا بولس السادس إلى معضلة تمنع نمو الإنسانية وترقيها ألا وهي الصراع بين الحضارات فيقول:" لمسنا بأيدينا المصاعب الشديدة الخطورة جداً التي تجتاح شعوباً ذات حضارات عريقة، يحتدم الصراع بينها وبين معضلة النماء." ( 15 )

 ولهذا شكل البابا أمانة رسولية خاصة تهتم بقضية الشعوب النامية وتنشر لواء العدالة الاجتماعية بين الأمم أسماها "العدالة والسلام" تضم الكاثوليك والمسيحيين وجميع الناس ذوي النية الحسنة. ( 16)

 آخذاً بعين الاعتبار الهدف الأسمى وهو المسير نحو أنسنة كاملة نقرأ ما ورد في رسالته:" فإن ما يجب السعي إليه هو الأنسنة الكاملة وهل يعني هذا إلا التنمية الكاملة للإنسان كله والناس كلهم أجمعين. إن أنسنةً مغلقة، مقفلة من دون قيد الروح ومن دون الله الذي هو مصدرها ، قد يكتب لها النصر ظاهراً: فالإنسان ، ولا شك ، يستطيع تنظيم الأرض من دون الله ولكنه، بدون الله لا يستطيع تنظيمها ، في النهاية، إلا ضد الإنسان بالذات: فالأنسنة المحض أنسنة غير إنسانية. من أجل ذلك لن تكون أنسنة حقيقية إلا المنفتحة على المطلق، مع الاعتراف بدعوة تعطي الفكرة الحقة عن الحياة الإنسانية. ذلك بأن الإنسان ليس هو القاعدة الأخيرة للقيم . إنه لا يحقق نفسه إلا بتجاوز نفسه ، على حد قول باسكال : الإنسان يتجاوز الإنسان بلا حد." ( 17 )

 ووضع البابا في سبيل تحقيق هذا الهدف خطوة أولى وهي اللقاء والحوار :"على الإنسان أن يلتقي بالإنسان، وعلى الأمم أن تتلاقى كالأخوة والأخوات، وكأبناء لله. ففي هذا التفاهم والولاء المتبادلين، وفي هذه الشركة المقدسة، يجب إذاً أن نبدأ العمل معاً لكي نبني مستقبل البشرية المشترك." ( 18 )

وحدد ثلاث حقوق لابد من تحقيقها للوصول لنمو شامل للإنسانية وهي: " حق التماسك، أي على الأمم الغنية مد يد العون للبلدان النامية؛ وحق العدالة الاجتماعية، أي تقويم العلاقات التجارية بين الشعوب القوية والشعوب الضعيفة؛ وحق المحبة الشاملة، أي بنيان عالم أكثر إنسانية للناس جميعاً، فيه يعطي الجميع ويأخذون، ولا يكون تقدم البعض عقبة دون ترقي الآخرين." ( 19 )

 إن البابا بولس السادس يصل في نهاية رسالته إلى استنتاج هام وهو أن: "الترقي هو الاسم الجديد للسلام"( 20 ) "فالسلام لا يقوم على غياب الحرب فإنه لا يكون إذ ذاك إلا ثمرة التوازن بين القوى ، وهو على الدوام قيد الزوال. ولكنه يبنى يوماً بعد يوم بنشدان النظام الذي أراده الله ومن مقوماته عدالة بين الناس أكمل"( 21 )

من يدرس هذه الرسالة بالعين الفاحصة يجد روح المدرسة الوجودية التي سادة في أيام البابا حاضرة في هذه الرسالة بقوة طبعاً بعد تعميد أفكارها وخلع الروح الإلحادية منها وإلباسها ثوب المسيحية فلا اعتماد على الإنسان بحد ذاته مع أنه غاية الحياة بمنأى عن الله.  

"لا بد من الإقرار بأن وثيقة بولس السادس،بالتواصل مع رسالة لاون الثالث عشر، تتميز بأنها أبرزت الطابع الخلقي والحضاري في القضايا المتصلة بالنمو، كما أنها أبرزت شرعية تدخل الكنيسة في هذا المجال وضرورته. بهذا اتضح مرة أخرى أن التعليم الاجتماعي المسيحي يتميز بسعيه إلى تطبيق كلمة الله على حياة الناس والمجتمع، وعلى ما يرتبط بهما من شؤون الدنيا، وذلك بما تعمد إليه من "أسس التفكير" و "ضوابط الأحكام" و"التوجيهات العملية؛ والواقع إننا نجد في وثيقة بولس السادس هذه العناصر الثلاثة في توجهٍ، معظمه عملي ، أي مرتبط بالمسلك الخلقي. وينجم عن هذا أن الكنيسة عندما تعنى "بنمو الشعوب"، لا يمكن أن نتهمها بأنها تتخطى نطاق صلاحياتها ، وبأولى حجة الوكالة التي ائتمنها عليها الرب." ( 22 )

 

3- 2- رسالة الاهتمام بالشأن الاجتماعي رسالة جامعة للبابا يوحنا بولس الثاني (1987): في الذكرى العشرين للرسالة العامة "ترقي الشعوب"        

لقد أصدر البابا يوحنا بولس الثاني في 3 كانون الأول سنة 1987 رسالة" الاهتمام بالشأن الاجتماعي"، في مناسبة الذكرى العشرين لصدور رسالة "ترقي الشعوب"، وكان محور هذه الرسالة "مفهوم التنمية" كما ورد في رسالة البابا بولس السادس السابق ذكرها. ويفحص البابا يوحنا بولس الثاني حالة العالم على ضوء تعاليم رسالة البابا بولس السادس والتي لم يتجاوزها الزمن حتى مع تقدم الإنسانية عقدين من الزمن، يجد البابا يوحنا بولس الثاني نفسه أمام تحديات أكبر وهو في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي فيكتب في رسالته:" أنا متيقن من أن تعاليم الرسالة العامة "ترقي الشعوب" الموجهة إلى الناس وإلى المجتمع في الستينات تحتفظ بكل قدراتها على إيقاظ الضمير المعاصر ونحن عند نهاية الثمانينيات .. وفيما أحاول رسم الخطوط الكبرى للعالم الراهن ، ودائماً في ضوء الهدف الذي أوحى هذه الوثيقة ، أي "ترقي الشعوب"- وهو موضوع لا يزال بعيداً عن أن يكون قد انتهت معالجته – أعتزم التوسع في مضمونها ، وربطها بتطبيقات الممكنة ، في هذه الحقبة من تاريخنا وهي لا تقل مأساة عما كنا عليه قبل عشرين سنة. نعلم أن الزمان يجري دائما على وتيرة واحدة. بيد أننا نشعر اليوم أن الزمان يخضع لحركة تسارع متواصل ، وذلك خصوصاً بسبب ما يميز البيئة التي نعيش فيها من ظاهرات متفاقمة ومتعقدة." ( 23 )

يرى البابا يوحنا بولس أن التعليم الاجتماعي الجديد الذي إضافته رسالة ترقي الشعوب (والتي يمكن اعتباره خلاصتها، علاوة على أنه تضفي عليها طابعها التاريخي: "الترقي هو الاسم الآخر للسلام". والواقع فإن المسألة الاجتماعية إذا كانت قد اكتسبت حجمها العالمي فذلك لأن مقتضى العدالة لا يمكن أن يتحقق إلا على هذا الصعيد.) ( 24 )

وكان هدف البابا يوحنا بولس الثاني هو تطبيق وتعميق مفاهيم التطوّر ولكي تتناسب مع الاحتياجات الملحّة للحظة التاريخية الراهنة ولكي تتناسب مع ظروف الناس.

هناك موضوعان أساسيان في رسالة الاهتمام بالشأن الاجتماعي هما:

أولاً: الحالة المتردية للعالم المعاصر المتمثلة في التخلف السائد في العالم الثالث.

ثانياً: معنى ومتطلّبات تطوّر يليق بالإنسان.

وهذه بعض أسباب تخلُّف دول العالم الثالث كما وردت في رسالة قداسة البابا: الفرق الشاسع بين بلاد الشمال والجنوب، التنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي وما يترتّب على ذلك من سباق التسلّح ورواج تجارة الأسلحة وتداخل الأسباب السياسية وتأثيرها على قرارات الهيئات، والتضامن بين الشعوب. كما ترد من حين لآخر إشارات وتلميحات إلى مشاكل الانفجار السكاني. هذا لا يمنع القول بأنه في مجال التنمية قد تمّ إحراز تقدم ولو أنه تقدُّم محدود بالقياس إلى الاحتياجات الواقعية الفعلية.

أما بالنسبة لطبيعة التقدُّم الحقيقي، وهو الموضوع الثاني للرسالة، فإنَّ قداسة البابا يُعطي توضيحات للتمييز بين "التقدُّم اللامحدود" وبين النمو. ويركز على أنّ النموّ لا يعني مجرّد مضاعفة الخيرات العامة والخدمات – أي الممتلكات – ولكن عليه أن يشجِّع ويؤدّي إلى تحقيق الإنسان لذاته. ويحدد بذلك الطبيعة الأدبية للنمو الحقيقي. ويُعمِّق قداسة البابا هذا المفهوم وبأدلّة من الكتاب المقدّس وتقليد الكنيسة. ومن أدلّة البُعد الأدبي للنمو تأكيد الرسالة على العلاقة بين الاحترام التام لجميع حقوق الإنسان (بما في ذلك الحرية الدينية) وبين النمو الحقيقي للإنسان والشعوب.

وتتناول الرسالة بالبحث مختلف العوائق ذات الطابع الأدبي التي تحول دون النمو (الخطيئة، البحث عن المصلحة الشخصية، التمسُّك بالسلطة) وطُرق التغلّب على هذه العوائق. وتوصي الرسالة بهذا الصدد بالاعتراف المتبادل واستقلال الشعوب وما ينتج عن ذلك من تضامُن ومن واجبات المحبّة المسيحية. ويتطلّب هذا تغييراً جذرياً في المفاهيم.

وتُعرض في نهاية الرسالة طُرق أخرى محدّدة لمواجهة الظروف الراهنة. كما يؤكد قداسة البابا على أهمية التعليم الاجتماعي للكنيسة، وأهميّة نشر هذا التعليم.

تساعد هذه النظرة الإجمالية لتعليم الكنيسة على فهم غِناه وتداخله وحيويّته وحدوده وتعتبر كل وثيقة خطوة إلى الأمام تحققها محاولات الكنيسة للردّ على مشاكل المجتمع في الأزمنة المختلفة، ويجب البحث في كل وثيقة عن الاهتمام الرعوي لعرض المبادئ الأساسية على المسيحيين وعلى كل ذوي الإرادة الحسنة. وكذلك لعرض المقاييس العالمية والتوجيهات الملائمة التي تساعد على اكتشاف الخيارات والموقف الملائم لكل مناسبة واقعية. ولذلك فإنّ هذا التعليم ليس طريقاً أو نظاماً ثالثاً يقوم بين الرأسمالية الحرّة والشمولية الشيوعية. وليس إمكانية من إمكانيات الحلول والأقل تطرُّفاً وجذرية، إنما هو خِدمة، مجرّدة من البحث عن المصالح، تقدِّمها الكنيسة حسب احتياجات الزمان والمكان. إنَّ توضيح هذا البُعد التاريخي يُظهر أنَّ التعليم الاجتماعي للكنيسة، الذي عبّرت عنه بوضوح وأمانة في المبادئ التي طرحتها. ليس نظاماً نظرياً تمّ وضعه وتحديده مرّة واحدة، إنما هو نظام واقعي وحيوي ومُنفتح. فبالفعل انطلاقا من الوحي الإلهي ومن الإنجيل المقدس يمكن للكنيسة أن تُعطي رداً على التساؤلات التي تنتج عن المتغيّرات المستمرّة في النُظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتقنية والثقافية. إنه عملٌ بنّاء مستمر منفتح على كل متطلّبات الحقائق والمشاكل الجديدة التي تظهر في هذا المجال.( 25)

نقرأ في رسالة قداسة البابا:" النمو الاقتصادي الصرف لا يفلح في تحرير الإنسان، بل بالعكس يفضي به إلى مزيد من العبودية . وكل نمو لا يشمل الأبعاد الثقافية والعلوية والدينية للإنسان وللمجتمع تكون مساهمته في التحرر الصحيح زهيدة بمقدار تنكره لهذه القيم وامتناعه عن أن يوجه إليها أهدافه الخاصة . فالكائن البشري لا يبلغ تمام حريته إلا إذا حقق ذاته في كمال حقوقه وواجباته. ويصح هذا الكلام أيضاً في المجتمع كله. العائق الأول الذي يجب تخطيه من أجل تحرر حقيقي هو الخطيئة والبنيات التي تنجم عنها بمقدار ما تتفاقم وتنتشر." ( 26 )

 

3- 3- رسالة السنة المئة رسالة جامعة للبابا يوحنا بولس الثاني (1991): في الذكرى المئوية للرسالة العامة "الشؤون الحديثة"        

إن الفترة التي ظهرت بها الرسالة العامة السنة المئة كانت فترة عصيبة جداً تجتاح العالم وخصوصاً المعسكر الشرقي فقد شهدت هذه الفترة انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط النظام الشيوعي وتحول معظم دول أوربا الشرقية من النظام الاشتراكي إلا النظام الديمقراطي.

يفتتح البابا يوحنا بولس الثاني رسالته بإبداء الإعجاب بالرسالة في "الشؤون الحديثة" حيث أثبتت بعد قرن من الزمن صحتها :" يوبيل (الشؤون الحديثة ) لا يصح الاحتفال به، ما لم ننظر أيضاً في الأوضاع الراهنة. وعلى كلٍ، فمضمون الرسالة ، يمهد لمثل هذا التفكير: فالإطار التاريخي والتوقعات المرسومة فيه ظهرت صحتها بطريقة مذهلة، في ضوء الأحداث اللاحقة. فالأحداث التي جرت في الأشهر الأخير من سنة 1989ومطلع 1990 أثبتت توقعات الرسالة بطريقة فريدة فهذه الأحداث وما جرته من تحولات جذرية لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء الأحوال السابقة التي كانت قد بلورت وجسدت ، إلى حد ما ، توقعات لاون الثالث عشر ، والإنذارات المتفاقمة التي أوجسها خلفاؤه. والواقع أن لاون الثالث عشر كان قد توقع النتائج السلبية –من كل وجوهها السياسية والاجتماعية والاقتصادية – الناجمة عن نتظيم المجتمع على الطريقة (الاشتراكية) ، وكانت آن ذاك في طور فلسفة اجتماعية وحركة على كثير أو قليل من التنظيم . ) ( 27 )

"ففي بعض البلدان ، ومن بعض النواحي نشهد سعياً حميداً، بعد أنقاض الحرب ، لترميم مجتمع ديمقراطي مبني على العدالة الاجتماعية ، يجرد الشيوعية من الطاقة الثورية المخزونة في الجماهير الشعبية لما تعانيه من استغلال وقهر. هذه المحاولات تسعى إجمالاً إلى الاحتفاظ بآلية السوق الحرة، بتثبيت النقد وضمان العلاقات الاجتماعية ، تحقيقاً لشروط نمو اقتصادي ثابت وسليم، يمكن الناس من أن يبنوا بكدهم لذواتهم ولأبنائهم مستقبل أفضل. ( 28 )

إن الجديد الذي أتت به رسالة البابا يوحنا بولس الثاني بالاضافة للتحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للواقع و بفطنة ملحوظة هو التنبيه من نظم جديدة خطيرة يقول البابا:"هناك ، من جهة ثانية ، قوىً اجتماعية أخرى ، ومدارس فكرٍ أخرى تتصدى للماركسية بإقامة أنظمة (أمن قومي) ، تتوخى الإشراف على المجتمع كله لمراقبته بطريقة دقيقة ووقايته من كل تسرب ماركسي . هذه الأنظمة تعلي شأن الدولة وتوسع نطاق سلطتها ، اتقاءً للخطر الشيوعي على شعوبها، ولكنها تتعرض بذلك لخطر شديد ، خطر تقويض الحرية والقيم الإنسانية التي باسمها تحارب الشيوعية.) ( 29 )

وكذلك نبه البابا إلى خطر "مجتمع الرخاء أو الاستهلاك، الذي يود أن يبرهن أن نظام السوق الحر قادر على أن يفوق الشيوعية في تلبية حاجات الإنسان المادية، مع استبعاده مثلها، للقيم الروحية. فهو يجرد الأخلاق والحق والثقافة والدين من لبها وقيمتها، فينضم بذلك إلى الماركسية في إعادة الإنسان كلياً إلى الحيز الاقتصادي وحصر اهتماماته في تلبية الحاجات المادية." ( 30 )   وهنا نرى قداسة البابا يتمنى أن يتعلم الناس من العقود المنصرمة مضار الصراع طبقياً كان أم دولياً:" وعسى الناس يتعلمون كيف يكافحون بلا عنفٍ، لإقامة العدالة، مقلعين عن الصراع الطبقي في النزاعات الداخلية، وعن الحرب في النزاعات الدولية." ( 31 ) ويعود البابا ويؤكد دور الإنسان ويقول: " فلئن كان العنصر الإنتاجي الحاسم فيما مضى هو الأرض وفيما بعد الرأسمال ، أي مجموع الآلات ووسائل الإنتاج ، فالعنصر الحاسم اليوم ، وكل يوم أكثر، هو الإنسان نفسه ، أي ما لديه من أهبة للمعرفة تظهر في الاطلاع العلمي والقدرة على التنظيم في إطار التضامن والوقوف على حاجات الآخرين وتلبيتها." ( 32 )

ومن الأمور الجديدة التي يعالجها قداسته مشكلة البيئة:"إلى جانب مشكلة الاستهلاك، تبرز مشكلة البيئة المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً ، باعثةً ذات القلق في النفس. فالإنسان الذي تسيطر عليه رغبة التملك والتمتع وتطغى عليه رغبة التكون والتطور ، يستهلك ، بطرقة متطرفة وفوضوية ، ثروات الأرض ، بل حياته ذاتها . فالإتلاف الغبي للبيئة الطبيعية هو نتيجة خطأ انتروبولوجي منتشر في عصرنا ، ويا للأسف ! وذلك بأن الإنسان، عندما يكتشف ما لديه من قدرة على تحويل العالم ،بل على خلقه نوعاً ما ، بعمله ، يغرب عن باله إن ذلك لا يتحقق إلا انطلاقاً من الهبة الأولى والأصلية التي جاد بها الله علينا . يخيل إليه إنه يستطيع أن يتصرف بالأرض على هواه، فيسخرها لإرادته بلا حساب، وكأن الله لم يحدد له صورة وهدفاً سابقين يستطيع الإنسان أن يطورهما لا أن يتنكر لهما . وعوضاً أن يضطلع الإنسان بدوره معاوناً الله في عمل الخلق ، نراه يغتصب محله تعالى . فيفضي بذلك إلى تفجير الثورة الطبيعية، وقد أمست خاضعة لتحكمه لا لحكمه." ( 33 )

 

الخاتمة

مما سبق بحثه نلاحظ حرص الكنيسة الدائم على كرامة الإنسان وسعيها لنمو الإنسان نمواً صاعداً تماشيا مع تعليم المعلم ربنا يسوع المسيح حين قال:"كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كاملٌ" (متى 5 : 48) . وتعليمها الدائم بوجوب احترام الآخر واحترام وجوده وحريته.

 ومساهمة الإنسان الفطنة في بناء العالم المادي أي مساهمة الإنسان –بمحدوديته- مع الله في إتمام الخلق. محترماً كل الموجودات ومتعايشاً معها بعلاقة تناغمية وليس بعلاقة استغلالية استهلاكية تخرب ولا تبني. ووقف كل إشكال الصراع العنيف بين البشر من صراع طبقي إلى الحروب واستبدالها بتعاون حثيث لكل البشرية من أجل بناء عالمٍ أفضل ومستقبل مشرق، مبني على العدالة والمساواة وتحقيق صورة الإنسان التي وضعها الله فيه أي صورته هو نفسه جل جلاله.

وتأثر الفكر الكنسي بالتيارات الأيديولوجية كتأثر البابا لاون الثالث عشر بالفكر الاشتراكي وتأثر البابا بولس السادس بالفكر الوجودي وكذلك تأثيرهم عليه وإضفاء روح الله على الأفكار السياسية والاقتصادية أي تعميدها لتصبح مسيحية فتخلع هذه الأفكار البشرية ثوبها الإلحادي القديم وتلبس روح الله. وتساهم في تقدم الإنسانية ونموها وارتقائها.

 

عن موقع كنيسة القديسة تريزا بحلب

 

المراجع:

(1) (الوثائق المجمعية للمجمع الفاتيكاني الثاني الطبعة الثانية المنقحة باللغة العربية دستور عقائدي في الكنيسة ص29)

(2) (المسيحية في عقائدها ، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم18ترجمة المطران كريلوس سليم بسترس منشورات المكتبة البولسية 1998 ص293)

(3) (المسيحية في عقائدها ، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم18ترجمة المطران كريلوس سليم بسترس منشورات المكتبة البولسية 1998 ص296)

(4) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 13)

(5) (السنة المئة رسالة جامعة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص 7)

(6) (الشؤون الحديثة رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر عدد1)

(7) (الشؤون الحديثة رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر عدد16\\4)

(8) (الشؤون الحديثة رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر عدد29 ص 125)

(9) (الشؤون الحديثة رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر عدد 16\\3.)

(10) ( الشؤون الحديثة رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر عدد38)

(11) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص28.)

(12) (المسيحية في عقائدها ، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم18ترجمة المطران كريلوس سليم بسترس منشورات المكتبة البولسية 1998 ص303)

(13) (الأب فيصل حجازين جامعة بيت لحم،قسم الدراسات اللاهوتية، التعليم الكنسي الاجتماعي،"الأخلاق الإجتماعية"، 2001)

(14) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 14)

(15) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 4)

(16) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 5)

(17) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 28)

(18) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 31)

(19) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 31)

(20) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 47)

(21) (ترقي الشعوب رسالة جامعة للبابا بولس السادس النسخة العربية ص 48)

(22) (الاهتمام بالشأن الاجتماعي رسالة جامعة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص 12)  

(23) (الاهتمام بالشأن الاجتماعي رسالة جامعة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص 6)  

(24) (الاهتمام بالشأن الاجتماعي رسالة جامعة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص 16)  

(25) (الأب فيصل حجازين جامعة بيت لحم،قسم الدراسات اللاهوتية، التعليم الكنسي الاجتماعي،"الأخلاق الإجتماعية"، 2001)

(26) (الاهتمام بالشأن الاجتماعي رسالة جامعة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص 86)

(27) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص27.)

(28) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص39.)

(29) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص40.)

(30) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص40.)

(31) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص46.)

(32) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص62.)

(33) ( السنة المئة رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني النسخة العربية ص71.)