تحقيق: نصارى العراق: الدور التاريخي

 

جريدة النهار

نصارى العراق في جميع مراحل التاريخ العربي والاسلامي، موضوع احترام وتبجيل نظرا للدور المشرف الذي أدوه في مجال العلم والثقافة والذي أثرى التاريخ العربي الاسلامي في كثير من مجالات العلم والابتكار لا سيما في عالم الطب والترجمة.

وقد جاء في كتاب الاموال لابي عبيد القاسم بن سلام عن سعد بن عمر بن سعيد بن العاص عن جده عن ابيه انه سمع الخليفة عمر بن الخطاب يقول: "لولا أنني سمعت رسول الله يقول: ان الله تبارك وتعالى سيمنع الدين بنصارى من ربيعة على شاطئ الفرات ما تركت عربيا الا قتلته او يسلم(1)".
هؤلاء النصارى الذين يشير اليهم الحديث الشريف يقتلون اليوم ويطردون من ديارهم على يد بعض من المتشددين الذين يعلنون باستمرار انهم "يعملون على اعلاء كلمة الحق ورفع راية الظلم عن المسلمين واقامة نظام سياسي جديد على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله".

ومن هذه المنطلقيات كلها يطرح السؤال حول مصير وفحوى الحديث الذي اعتبره الخليفة عمر بن الخطاب مانعا من اي اعتداء على نصارى العراق بل على النصارى العرب وحول الدور الثقافي الذي مارسه نصارى العراق عبر التاريخ.
وربما كان للحديث المشار اليه اعلاه اثره في الاجابة على بعض الاتهامات الموجهة من عدد من وسائل الاعلام الغربي وهي التي تحمّل الاسلام كدين المسؤولية عن اعمال بعض الفئات التي تفسر بعض الآيات الواردة  في القرآن الكريم بشكل مغاير لمضمونها ومتناقض مع ما تحمل من معان ومقدسات.
ويبقى ان نذكر ان الحديث المشار اليه يعطي لنصارى العراق نوعا من الحصانة وربما القدسية التي تتجاوز العصر الذي قيل فيه الى يومنا هذا، ولكنهم اليوم يتعرضون لخطر القتل والتشريد على يد من يزعمون انهم حماة النظام الاسلامي.
ويحدثنا المؤرخون عن الدور الثقافي الذي أدّاه نصارى العراق في مختلف المجالات، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر انه كان منهم أبرز اساتذة ومديري مدارس بغداد خلال العصر العباسي، وهو عصر الازدهار الثقافي الكبير لا سيما في عهد هارون الرشيد كما  كان منهم ابرز مترجمي الكتب التي تم الحصول عليها اثناء الفتوحات او خارج نطاقها، لا سيما ما نقل منها من مكتبات القسطنطينية. ان مدارس الطب في جنديسابور وغير جنديسابور تبقى كما يقول المؤرخون خير شاهد  على ذلك العطاء الثقافي الضخم الذي ساهم فيه نصارى العراق في عصر تميز بالازدهار الثقافي والعلمي في جميع المجالات لا سيما في مجالي الطب والترجمة.
لقد اصبحت مهنة الطب وقفا على النصارى في بعض مراحل العصر العباسي ويروي الشيخ محمد عبده المفكر الاسلامي الكبير في القرن التاسع عشر عن المؤرخ الاميركي درابر ان الخليفة العباسي هارون الرشيد وضع جميع المدارس في بغداد تحت مراقبة حنا مسنية ابن العالم الشهير يوحنا بن ماسويه. وجاء في رواية اخرى ان ادارة المدارس كانت مفوضة في بغداد خلال العصر العباسي للنصارى النسطوريين لان العباسيين "لم يأخذوا بعين الاعتبار في هذا الشأن سوى ثقافة العالم ومعلوماته" ويروي المؤرخون انه عندما حاول الجاحظ (ت869م) ان يشرح في احدى رسائله اسباب الاحترام الزائد الذي يتمتع به النصارى لدى الرأي العام كانت المهن التي يمارسونها في طليعة هذه الاسباب واهمها حيث قال: "ومما عظم النصارى في قلوب العوام ان منهم كتاب  السلاطين واطباء الاشراف والعطارين والصيارفة…"(3).
ولا بد من الاشارة هنا الى ان الطبيب النصراني كان في بعض العصور يؤلف حاجة تفرض على الخليفة، ونذكر على سبيل المثال ان بختيشوع طبيب هارون الرشيد كان يتقاضى راتبا شهريا قدره اثنا عشر الف درهم عدا العطاءات التي كان يحصل عليها وعائدات الضياع التي كان يملكها. لقد كان لنجاح هؤلاء الاطباء ولطاقاتهم العلمية اثر كبير في حركة النهضة العلمية التي خطط لها الخلفاء العباسيون. ويحدثنا المؤرخون ان النصراني عيسى بن جزلة درس الطب على علماء نصارى الكرخ بينما تلقى علم المنطق عند شيخ المعتزلة المسلمين(4).
هذه الوقائع التاريخية اللافتة والمعبرة عن الدور الكبير او العطاء الثقافي الذي قدمه نصارى العراق، والتي اختيرت على سبيل المثال لا الحصر تشير الى ان ما يجري من تهجير وعنف ضد نصارى العراق يؤلف اعتداء على تاريخ العراق القديم والحديث وعلى النهج الذي رسمه المسلمون لعلاقاتهم مع نصارى العراق والذي انتج او حدد دورهم كجزء مهم من تاريخ هذا البلد ومستقبله وربما من التاريخ العربي كله.
ومن هذه المنطلقات كلها نرى ان ما جاء في البيان الصادر عن مجلس كنائس الشرق الاوسط حول احداث الموصل الاخيرة يعبر عن حقيقة تاريخية  حين يؤكد ان "مسيحيي العراق هم مكون اساسي من مكونات النسيج الوطني العراقي وقد ساهموا في بناء حضارته العريقة وهم يساهمون الآن ايضا في بناء بلدهم بكل اخلاص وتفان وان على الكنيسة التأكيد على مبدأ المواطنة وعلى ان العلاقة مع الاخوة المسلمين علاقة تاريخية وقومية".
ان معطيات التاريخ العربي والاسلامي تتناقض كليا مع ما يجري اليوم في العراق وان احداث تشرين الثاني 2008 المؤلمة وما رافقها من اعمال  عنف وتهجير قسري تعرض له بعض مسيحيي الشعب العراقي تعبر عن موجة عابرة لن تلبث  ان تزول.
ومن خلال هذه المعطيات يطرح السؤال حول انه اذا كان الارهاب محرما  حتى ضد الكفار فهل يمكن ان يكون جائزا ضد اهل الكتاب او ضد نصارى العراق بشكل خاص؟
لقد جاء في القرآن الكريم ما يلي: "وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه" (التوبة 6). ويقول رجب البنا  عن هذه الآية "انها تؤكد على مسؤولية المسلم عن توفير الامن للكافر وحمايته الى ان يصل الى مكان يتوفر له فيه الامن" ويضيف قائلا: وفي العراق يندس الارهاب في عباءة المقاومة فيؤدي ذلك الى الالتباس بين المقاومة الموجهة لقوات الاحتلال والارهاب الموجه الى العراقيين أنفسهم"(5).

1- كتاب الاموال لابي عبيد القاسم بن سلام. طبعة مؤسسة ناصر للثقافة 1987م. ص-217.
2- الاسلام والنصرانية للامام محمد عبده– ص-15 – ط. ثانية.
3- اسلام العصر الوسيط لغوستاف غرينبوم – الترجمة الفرنسية – صفحة 210 ط. باريس 1932م.
4- تاريخ الحكماء للقفطي ص-365-366 طبعة ليبسك.
5- جريدة "الاهرام" عدد 1 آذار 2009
مقال لرجب البنا بعنوان: ماذا يحقق الارهاب؟

حسن الزين
0مؤلف كتاب: "اليهود والنصارى في الديار الاسلامية حتى مطلع العهد العثماني"