كنيسة الارض المقدسة: لوحة فسيفسائية ألوانها متعددة

حراسة الأراضى المقدسة

"زيارة البابا هي للمسيحيين في المقام الأول"، هذا ما صرح به غبطة البطريرك فؤاد الطوال أمام "Terrasanta.net". بهذا، ستكون الزيارة الرسولية والراعوية التي يقوم بها قداسة البابا بندكتس السادس عشر للأردن واسرائيل وفلسطين، من الثامن وحتى الخامسة عشر من شهر أيار، المناسبة التي سيلتقي فيها الحجارة الحية في هذه الكنيسة. 

ولكن، من نقصد بقولنا: مسيحيي الأرض المقدسة؟

تشكل كنيسة الارض المقدسة لوحة فسيفسائية تعددت ألوانها. تعطي حجاج العالم كله أن يتأملوا جزءا من الجمال الذي تتحلا به الكنيسة الجامعة. فولادة الكثلكة هنا، جمعت أوجها متعددة لكنيسة الله الواحدة. 

سؤال لا يجب طرحه

في غالبيتهم، مسيحيو الأرض المقدسة هم من المسيحيين العرب. 

يخصص الكثير من الحجاج المسيحيين في برنامج زيارتهم للأماكن المقدسة، وقتا للقاء مع المسيحيين المحليين، فيسمعونهم يدعون الله في الصلاة باللغة العربية. والسؤال الذي لا يبرح شفاه هؤلاء الحجاج: "متى كان ارتدادكم عن الاسلام الى المسيحية؟" 

يبتسم محاورهم العربي ذوقا، ويخصهم بنظرة حزينة، لقد كان السؤال جارحا. فهو ليس مرتدا عن الاسلام! العرب المسيحيون هم مسيحيون مذ تأسست الكنيسة يوم العنصرة. 

في يوم العنصرة (أي بعد خمسين يوما من قيامة يسوع) أخذ التلاميذ يبشرون بالمسيح، وكان الحاضرون يسمعونهم يتكلمون بلغاتهم الأم. يروي سفر أعمال الرسل ذلك، على لسان أولائك الذي كانوا حاضرين في ذلك اليوم العظيم: "فدهشوا وتعجبوا وقالوا: أليس هؤلاء المتكلمون جليليين بأجمعهم؟ فكيف يسمعهم كل منا بلغة بلده بين فرثيين وميديين وعيلاميين وسكان الجزيرة بين النهرين واليهودية وقبدوقية وبنطس وآسية وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية المتاخمة لقيرين، ورومانيين نزلاء ههنا من يهود ودخلاء وكريتيين وعرب؟ فإننا نسمعهم يحدثون بعجائب الله بلغاتنا". (أعمال الرسل 2 : 7-11) 

يعود تاريخ العرب وتاريخ اللغة العربية الى ما قبل الاسلام بكثير، وهو الدين الذي نشره النبي محمد في الجزيرة العربية، وقد كان عُمر المسيحية آنذاك سبعة قرون. 

من المؤكد بأن نمو الاسلام وانتشاره في الشرق الأوسط [1]، كما والأهمية التي بنيت على اللغة العربية في هذا الدين، كتبت بين المسيحيين والمسلمين في الشرق الأوسط تاريخا امتد الى أربعة عشر قرنا من العيش المشترك والثقافة المشتركة. لم يكن هذا التعايش دائما تعايشا سلميا. وهذا لا يعني أن الأمور قد أصبحت أقل تعقيدا اليوم، حيث أن محاولة خلق التوازن في العلاقات هو أمر نسبي ليس بمأمن من التقلبات بحسب الأحوال والظروف والمؤثرات المتعددة والمتغيرة. 

يندرج تحت هذا المسمى عينه "أي المسيحيون المحليون" عدد من الكاثوليك يتراوح ما بين 200 الى 300 مؤمن ناطق باللغة العبرية "هم إما ينحدرون من أصول يهودية؛ أو من زيجات مختلطة؛ أو من الأجانب المقيمين والعاملين هنا، ويصلون بالغة العبرية"، ثقافتهم هي بلا شك ثقافة المجتمع الاسرائيلي. [2] 

وأخيرا، فإن هناك جزئا لا يتجزأ من كنيسة الأرض المقدسة، هم الرهبان والراهبات، وكذلك العلمانيين الأجانب الذين يأتون الى هذه الأرض، اما لفترة مؤقتة، أو من يأتون للعيش في هذه الأرض بشكل مستمر. 

صعوبة الوصول الى احصائيات دقيقة

لو اعتبرنا الأرض المقدسة بمفهومها الضيق (اسرائيل وفلسطين) فإن نسبة المسيحيين لا تتعدى 1.7% من عدد السكان. ونلاحظ أن هذه النسبة هي في هبوط مستمر لسببين، أولا: قلة الانجاب في الوسط المسيحي؛ وثانيا: الهجرة المستمرة والمتتابعة للمسيحيين. الى جانب مسيحيي الأرض المقدسة، يجب أن لا ننسى مسيحيي الأردن. حيث أن أبرشية الكنيسة الكاثوليكية في القدس "وكذلك الأمر بالنسبة للكنيسة الارثوذكسية" تشمل اسرائيل والمناطق الفلسطينية وكذلك الأردن [3]. يصل التعداد السكاني في هذه البلاد مجتمعة، الى أربعة عشرة مليون نسمة، منهم 400,000 مسيحي، أي ما يعادل 2.8% من نسبة عدد السكان.

إلا أن هذه النسب، ومع أنها في ظاهرها تبدو دقيقة، إلا أنه يجب الحذر في قبولها، حيث أننا نعلم بأن هذه الاحصائيات المتعلقة بعدد المسيحيين تفتقر الى بعض الدقة.

نشر الانتداب البريطاني في العام 1922 الإحصائيات التالية في فلسطين: 752,048 فلسطيني (بحسب المعنى الذي كانت تحمله كلمة "فلسطيني" في ذلك الوقت) منهم 589,177 مسلم، و83,790 يهودي، و71,464 مسيحي (أي ما يعادل 9.5%)، كما و7,617 شخصا من انتماءات أخرى.

وفي نهاية زمن الانتداب الانجليزي، في العام 1948، كان عدد المسيحيين في فلسطين قد وصل الى 149,000 مسيحي. وأخيرا، في عام 2006، وصل عددهم الى 180,000 مسيحي، في غالبيتهم العظمى من العرب؛ وهناك بعض المئات ممن أصولهم يهودية.

لا تميز السلطات الاسرائيلية في احصائياتها السنوية بين الكنائس المختلفة، وكذلك لم تفعل السلطات الفلسطينية في احصائياتها الأخيرة (1996).

من ناحية أخرى، نجد أن السلطات الاسرائيلية والفلسطينية قد قدمتا احصائيات بخصوص مسيحيي القدس. حيث يصل عددهم الى حوالي 10,000 مسيحي [4].

اذا، يصل عدد المسيحيين في الأرض المقدسة (اسرائيل وفلسطين) الى 180,000، موزعين على كنائس مختلفة:

كنيسة الروم الأرثوذكس: 80,000 مؤمن (؟)، والتي لم تنفصل عن كنيسة روما إلا منذ العام 1517، حين قام الاتراك بالاستيلاء على فلسطين، فأصبحت بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس منذ ذلك الحين يونانية. وعلى الرغم من أن المؤمنين وكهنة الرعايا هم في غالبيتهم العظمى من العرب؛ فإن غالبية من يتقلدون المراتب العليا هم من الاكليروس والرهبان اليونانيين (حوالي 250 شخصا).

كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك: 60,000 مؤمن (؟) ولدت هذه الكنيسة بين العامين 1682-1697 وأُنشأت رسميا في العام 1730، حين قام عدد من أبناء كنيسة الروم الأرثوذكس في لبنان والجليل الأعلى، بإعادة الوحدة مع كنيسة روما، ممثلة بالكرسي الرسولي لخليفة بطرس.

الكنيسة اللاتينية: 27,000 (؟) مؤمن، بالإضافة الى الآلاف من الكاثوليك اللاتين الآسيويين، والأفارقة وغيرهم من أمريكا اللاتينية الخ. سواء من يقيم منهم في البلاد اقامة قانونية أو مخالفة للقانون.

كنيسة الموارنة الكاثوليكية: 5,500 (؟)، وخاصة في الجليل.

كنيسة السريان الأرثوذكس: 2000 (؟)، وخاصة في بيت لحم 

كنيسة السريان الكاثوليك: 300 (؟) 

كنيسة الأرمن الأرثوذكس: 2000 (؟)، خاصة في القدس. 

كنيسة الأرمن الكاثوليك: 400 (؟) 

كنيسة الأقباط الأرثوذكس: 700 (؟) 

كنيسة الأقباط الكاثوليك : 100 (؟) 

كنيسة الأحباش الأرثوذكس : 100 (؟)، أو أكثر قليلا. 

الكنائس اللوثرية والأنجليكانية التي تضم قرابة 3,700 مؤمن. 

تدعى هذه الكنائس بالكنائس "الرسمية" في الأرض المقدسة. ولا تعتبر من الكنائس "الرسمية" تلك الفرق المنحدرة من عدة تيارات اصلاحية بروتستانتية. حيث بعضها، لا يضم أكثر من بضع عشرات من الأعضاء. 

"هل يفكر مسيحيو الغرب فينا حقا؟"

"تعالوا لرؤيتنا، تعالوا لزيارتنا، تعالوا وصلوا معنا ومن أجلنا. اجعلونا نعلم يقينا أننا لسنا وحدنا، وأننا لسنا متروكين، بل اجعلونا نشعر أننا نشكل معا عائلة مسيحية عالمية، وأننا نشكل معا الكنيسة الجامعة التي ولدت في الايمان، وبفضل شهادة الرسل وتعليمهم." هذا النداء، أطلقه غبطة البطريرك فؤاد الطوال خلال مؤتمر عقد في فرنسا خلال شهر آذار 2009. 

"هل يفكر مسيحو الغرب فينا حقا؟" سؤال طرحه شاب مسيحي عربي من اسرائيل، بنبرة تملكها القلق. 

تلقي الصحافة العالمية نظرها على اسرائيل وفلسطين، والشرق الأوسط بشكل أوسع، وهي نظرة تكاد أن تقتصر على البعد السياسي لهذه المنطقة. وانطلاقا من هذه الرؤية، يكون كل من الفكر والتعاون موجهين على أسس سياسية، بحيث يتولد الشعور لدى المسيحيين في الأرض المقدسة، الذين هم أقلية في واقع الحال، بأن الغرب المسيحي قد تناساهم، خاصة عندما يجتاحهم الشعور بأن العالم العربي الاسلامي يقوم بدعم المسلمين، وأن يهود العالم أجمع يدعمون يهود اسرائيل. أين هم مسيحيو العالم من تقديم الدعم لهم سواء بصلاتهم، أوبتفقدهم ومساعداتهم الانسانية لهذه الأقلية المنسية؟ 

يلتفتون الى الغرب، وتصل الى آذانهم تلك التساؤلات التي يطرحها، وخاصة ما يختص بكيفية التعايش مع الاسلام، وبحسب تقديرهم، هم قادرون على اعطاء رأي بنوه على خبرة طويلة من التعايش مع الاسلام في هذه البقعة من العالم، ولكن مَن يا ترى يولي أهمية لما يقولون؟ 

في اعتقاد صاحب الغبطة البطريرك فؤاد الطوال، فإنّ مسيحيي الأرض المقدسة يحملون رسالة روحية، هي دعوة، من نوع خاص، كما ولديهم دورا لا بد أن يلعبوه هنا حيث يعيشون:

أ) هم شهود أحياء على أحداث الخلاص. فحياتهم التي تتمركز حول الأماكن المقدسة، بكل معنى الكلمة، تعطي لهذه الأماكن النفس الحي، بصلاتهم التي يرفعونها ومحبتهم، كي لا تصير هذه الأماكن مجرد "مواقع أثرية" أو متاحف. عانوا وقدموا الكثير من أجل ذلك، وهم لايزالون بذلك يفخرون. رغم ما رماه التاريخ والبشر على كاهل هذه الأقلية من اهانات وشتائم، ورغم ما خلفته الحروب والنزاعات التي لا تنتهي، أظهروا صمودا امتاز بالبطولات، ولا يزالون على ذلك حتى اليوم. 

ب) تتضامن الكنائس المختلفة في الارض المقدسة بشكل قوي، محاولة تخطي حواجز الطقوس، من أجل ايجاد حل مسيحي، للمشاكل التي تطوقها من مختلف الجهات. فعندما تمس الاسئلة المطروحة حقوق وكرامة الشخص البشري، ومنها موضوع العدل والسلام، فلا يمكن أن يكون هناك جواب كاثوليكي أو أرثوذكسي أو بروتيسطانطي : بل جواب واحد، هو مسيحي. 

ج) يعيش مسيحيو الارض المقدسة بين المسلمين منذ قرون، وقد ربطهم تاريخ واحد، ولغة وثقافة مشتركة. لذلك نقول أن العلاقات التي ربطت بين هاتين الجماعتين كانت تعد جيدة، تقليديا، وهي كذلك حتى الآن، على الرغم من ظهور بعض التيارات الأصولية. يشكل هذا التعايش هما دائما لدى رؤساء الكنائس، وليس فقط هؤلاء، بل ولدى المسؤولين السياسيين في فلسطين والاردن. من ناحية أخرى، فمن المتعارف عليه بشكل عام، أن للحضور المسيحي في قلب المجتمع العربي دورا ايجابيا يلعبه، فهذا الحضور هو عامل "مُسهِّل" لنشوء العلاقات بين مختلف مكونات هذا المجتمع، وهو أيضا عامل مُحفز للعيش المشترك. 

د) يلعب مسيحيو الارض المقدسة أيضا دور "الجسر" الذي يصل ما بين الشرق والغرب. وكي يقوموا بهذا الدور على أحسن وجه، لا بد من أن يكونوا راسخين بشكل قوي في طرفيه. فهم في الواقع، راسخين في الشرق، الذي يشكل بالنسبة لهم بيئتهم التاريخية، واللغوية، والثقافية، والنفسية والسياسية، الطبيعية. وهم أيضا راسخون في الغرب، والفضل في ذلك يعود الى ايمانهم، وتراثهم الروحي وانفتاحهم الفكري. 

إن مسيحيي الأرض المقدسة، والى جانبهم حميع العرب المسيحيين، هم وحدهم القادرين على اتمام هذا الدور، لذلك فإن مساعدتهم على القيام بذلك هو أمر لا بد منه." (محاضرة أُلقيت في باريس، يوم 7 آذار 2009). 

مخاوف ذات طبيعة سياسية تدور حول زيارة قداسة البابا، لكن، على الرغم من ذلك، فإن ما يظهره مسيحيو هذه البلاد، هو الأمل بأن تكون زيارة قداسة البابا بندكتس السادس عشر، زيارة تثبيت وتشجيع لهم ولدور كنيستهم ودعوتها على الرغم من أنها مجرد أقلية صغيرة. هذه الكنيسة، هي واحدة في التنوع، واظهار القيمة الكبيرة التي تحملها رسالة هذه الكنيسة، هو جزء من تطلعات مسيحيي الأرض المقدسة لزيارة قداسة الحبر الأعظم المقبلة.

 


[1] يمثل مسلمو الشرق الاوسط 25% من مسلمي العالم.

[2] لم نأتي هنا على ذكر الروسيين الذين هاجروا الى اسرائيل خلال التسعينيات من القرن الماضي، مدعين أن لهم جذورا يهودية. من هؤلاء الروسيين المهاجرين، هناك ربع مليون "ليسو يهودا"، ومن بينهم أيضا من هم مسيحيون أرثوذكسيون. بالرغم من بعض المحاولات الفردية، فإن الكنيسة الارثوذكسية في الارض المقدسة لم تنجح في تعدادهم ضمن رعاياها، ولا حتى أن تأمن لهم الخدمة والمرافقة الروحية بشكل حقيقي. قرر بعض هؤلاء الروسيين، بقناعة منهم، أو من أجل حياة أكثر سهولة، العودة الى يهودية أجدادهم، ومنهم من قرر المساهمة في تضخم عدد الملحدين في اسرائيل. واختار جزء آخر منهم الحفاظ على ايمانه المسيحي (أو المسلم).

[3] تضم أبرشية القدس الكاثوليكية (أي البطريركية اللاتينية الأورشليمية) أيضا جزيرة قبرص.

[4] وصل عدد مسيحيي القدس في عام 1948 الى 29,500 مسيحي.

عن موفع ابونا