رسالةالأنبا أنطونيوس نجيب، بطريرك الأقباط الكاثوليك، بمناسبة عيد القيامة 2009

 

 

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين .

 

من الأنبا أنطونيوس نجيب،

بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك،

إلى إخوتنا المطارنة، وأبنائنا القمامصة والقسوس،

والرهبان والراهبات والشمامسة،

وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية،

على أرض الوطن، وفى بلاد الانتشار .

\"\"

 

"الموت ابتلعه النصر ! فأين نصرك يا موت ؟ وأين يا موت شوكتك؟ ..

الحمد لله الذي منحنا النصر بربنا يسوع المسيح "

1 كورنثوس 15: 54-57

 

1- قيامة المسيح هي انتصار الحب:

 

يسوع المسيح هو كمال الحب الإلهي الرحيم وحقيقته. هو انتصار الحب على الشر والخطيئة، على الألم والموت. فبآلامه وموته على الصليب، أحبنا يسوع غاية الحب. انتصر الحب الإلهي الرحيم ومنحنا الخلاص والسلام. بلغ حب يسوع قمة الحب وهو فوق الصليب. إذ مات وهو يصلى، مات وهو يغفر. بذل ذاته من أجلنا، وبهذا غلب الموت والشر، وحوّل الألم والموت إلى حب. أثبت وأعلن أن الحب مغفرة وبذل الذات، وهو الطريق إلى حياة أقوى من الموت.

 

المسيح القائم من بين الأموات حي، يمنح الحياة، يُدخِلنا في سر حبّه الإلهي لينتصر فينا على الشر، ويمنحنا نصيبا في الحياة الأبدية. وكما أن الموت لم يمنع المسيح من أن يقوم من بين الأموات، هكذا لا شيء قد يحدث لنا في الحياة، يقدر أن يمنع يسوع من أن يعمل فينا بقوّة قيامته. وعندما نقدّم له جراحنا، من إخفاق وأمراض وأتعاب، وآلام ومضايقات وأحزان، فهو يضمها إلى آلامه ليشركنا في صليبه وفى قيامته، أي في نصرة حبّه الرحيم. فالصليب لا يختفي مع القيامة، وإنما يتحوّل إلى سلام وحب .

 

2- وقيامة المسيح هي انتصار الرحمة والسلام:

 

أرسل الآبُ المسيحَ، كلمته الأزلية الناطقة، ليمنح العالم الرحمة والسلام. والمسيح يرسلنا إلى العالم لنكمل هذالإلهي،ة نفسها: " كما أرسلني الآب أرسلكم أنا " ( يوحنا 20: 21 ) … فلنتقدّم إلى مسيح القيامة، ونفتح له كل مسيرة حياتنا، لنتركه يطهّرنا ويشفى أمراضنا الروحية ويقدّسنا. ولنبتهل إليه أن يجعل منا رسل حبّه الإلهي، الرحيم مع كل إخوتنا في العالم. فهكذا ينتصر السلام والرحمة والخير، في الأسرة وفى المجتمع وفى أماكن العبادة. وقد يعتقد البعض أنه من الأسهل تغيير العالم بالقوّة والعنف، بينما الحقيقة أن الحب والرحمة والمغفرة هي القوّة الروحية، القادرة على تغيير العالم إلى الأفضل والأكمل .

 

3- وقيامة المسيح هي انتصار النور والحياة:

 

إن المسيح لم يقبل الآلام والموت على الصليب ليكون ضحية منهزمة أمام الشر والكراهية والعنف، وإنما ليحرّر الإنسان من تسلط وسيادة الخطيئة والموت. اختار أن يموت بالجسد، ليجدّد بشريتنا ويجعلها تتفتح على ألوهيته. على الصليب فرّق المسيح بين الخطيئة والخاطئ، فسحق الخطيئة وخلـّص الخاطئ. مدّ المسيح يده لأبناء آدم جميعا، ليرفعهم إلى موكب الحياة الإلهية، حيث النور والحب والسلام والخير. قد لا نستطيع أن نزيل ما فينا من ظلال وظلام، ولكننا نقدر أن نتقدّم لنور المسيح لينقيها ويطهّرها .

 

المسيح هو " نور العالم " ( يوحنا 8: 12، 9: 5 ). فيه نجد المصدر الذي يجعل منا نحن أيضا نورا يضيء العالم: " أنتم نور العالم .. فليضيء نوركم قدّام الناس، ليشاهدوا أعمالكم الصالحة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات " (متى 5: 13 – 16 ) … قيامة المسيح هي القوّة الباعثة لهذا النور، بها انتصرت الحياة والأمل والخير. إنها تدعونا جميعا أن نسير في النور ونحو النور، أن نؤمن بالحياة، وأن نحترمها ونحميها وندافع عنها. إنها تمنحنا القوّة التي تغلب اليأس أمام الضيقات والصعوبات. إنها تعلن أن الكلمة الأخيرة لن تكون للموت بل للحياة، وأن الغلبة لن تكون للشر بل للخير، ولا للكراهية بل للحب.

 

4- وقيامة المسيح هي انتصار قوّة الروح:

 

أنشد بولس الرسول: "الموت ابتلعه النصر ! فأين نصرك يا موت ؟ وأين يا موت شوكتك ؟ .. الحمد لله الذي منحنا النصر بربنا يسوع المسيح " ( 1 كورنثوس 15: 54 – 57 ) … إنها الحقيقة الإيمانية التي نحتفل بها اليوم في عيد قيامة الرب يسوع. فهل حياتنا تؤمن بها وتشهد لها ؟ هل نعيش حقا كأبناء القيامة والنصرة على الشر والموت؟ … يواصل بولس الرسول نشيده: " فكونوا، يا إخوتي الأحباء، ثابتين راسخين، مجتهدين في عمل الرب كل حين، عالمين أن جهدكم في الرب لا يضيع " ( 15: 58 ) … إن العالم في حاجة إلى روح الانتصار، ليغلب روح التشاؤم واليأس والاستسلام، في الأسرة ومع الأصدقاء والزملاء، وفى العمل ومع الإخوة في الوطن. إن الجميع في حاجة إلى قوّة التفاؤل والانتصار، ليزداد السعي إلى الخير والعطاء،  والبناء والتضامن والمحبة. ومسيح القيامة حاضر معنا ليهب هذه القوّة، ولكل مَن يطلبها ويقبلها بإيمان وثقة وتواضع .

 

5- وقيامة المسيح هي انتصار الرجاء:

 

عيد القيامة يؤكد لنا أن الرجاء النابع من الإيمان، بعيد كل البعد عن المشاعر الساذجة والخيال الحالم. لأنه رجاء أساسه واقع القيامة، وانتصار المسيح على كل ما يضاد الحياة، ويطفئ النور ويخنق الخير … كثيرا ما ننظر بتشاؤم أو اكتئاب إلى عالمنا المعاصر، فنرى الناس من حولنا لا يتوهّجون بالفرح والسعادة، ولا يتطلعون إلى الحاضر والمستقبل في تفاؤل ورجاء. وكم من الشباب الذين لا يجدون في حياتهم دافعا إلى الإقدام والجهاد بثقة واطمئنان. وكم من الكبار الذين ينظرون إلى الوراء ويقولون: بعد كل هذا التعب والعناء ماذا سيبقى، إنني أقترب كل يوم أكثر إلى النهاية، وسأمضى مثلما مضى غيري.

 

أمام هذه الرؤية التي يحيط بها الظلام، يشرق فجر القيامة بنور الرجاء والثقة، مؤكدا أن الموت ليس هو الكلمة الأخيرة. لقد انتصر نور الحياة على ظلام الموت. لقد قام المسيح وفتح لنا الطريق إلى الحياة الحقيقية، الحياة الأبدية. وينشد بولس الرسول: " الحقيقة أن المسيح قام من بين الأموات، وهو بكر مَن قام من رقاد الموت .. وكما يموت جميع الناس في آدم، فكذلك هم في المسيح سيحيَوْن" (1 كورنثوس 15: 20و22 ). كما قال المسيح: " ما كان اللهُ إلهَ أموات بل إلهَ أحياء " ( لوقا 20: 38 ). المسيح وحده هو الذي أعطى الجواب الشافي على لغز الموت: لماذا الموت، وماذا بعد الموت ؟ قيامة يسوع تجيب: من أجل الحياة الأفضل والأكمل، من أجل الحياة الأبدية. فهو بحق قال: " أنا هو القيامة  والحياة. مَن آمن بي يحيا وإن مات " ( يوحنا 11: 25 ) .

 

هنا ينفتح باب الرجاء أمام كل الأنفاق المُظلمة والأحزان المؤلمة والآلام المضنية. لأن: "آلامنا في هذه الدنيا لا توازى المجد الذي سيظهر فينا " ( رومة 8: 8 ). و"الذي ما رأته عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر، أعدّه الله للذين يحبّونه " ( 1 كورنثوس 2: 9 ). نعم، " نحن وطننا في السماء، ومنها ننتظر بشوق مجيءَ مخلصِنا الربِ يسوعَ المسيح. فهو الذي يبدّل جسدنا الوضيع، فيجعله على صورة جسده المجيد، بما له من قـُدرة يُخضِع بها كل شيء" ( فيلبى 3: 20 – 21 ).

 

6- قيامة المسيح دعوة لنا أن نعيش لما هو سماوي:

 

" إن كنتم قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في السماء، حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بالأمور التي في السماء، لا بالأمور التي في الأرض " ( كولوسى 3: 1 – 2 ) … وهذا لا يعنى أن نهمل واجباتنا اليومية والعملية، وإنما أن نقدّم الأولوية دائما وفى كل شيء لما هو لله: الحق والعدل، الخير والسلام، احترام الحياة، الصدق والأمانة، الصفح والمغفرة، التضحية وبذل الذات. فهذا هذا طريق المسيح إلى نصرة القيامة. وهو طريقنا إلى الحياة في المسيح وإلى المجد الأبدي معه.

 

في هذا المساء المبارك، نرفع قلوبنا وصلواتنا إلى الله تعالى، ملتمسين منه أن يملأها بالحب، والرحمة والسلام، والنور والحياة، وقوّة الروح، والرجاء والثقة، ساعين إلى أن نعيش لما هو سماوي، لننعم بفرح القيامة … ونتضرع إلى أمنا العذراء مريم، التي رافقت يسوع في مسيرة حياته كلها، فشاركته أحزان الآلام، وعاشت أفراح القيامة، أن تمنحنا النعمة لنكون له أمناء بأن نحيا كأبناء القيامة .

 

ونبتهل إليه تعالى أن يبارك ويعضـّد خطوات رئيسنا المحبوب محمد حسنى مبارك، في سعيه الدائم إلى توفير كل ما فيه خير واستقرار الوطن، وتآلف وتضامن وسلام البلاد في منطقتنا العربية، محتملا أتعاب السفر والسهر، ومُعليا  كلمة الحقّ والعدل. ونصلى من أجل كل الذين يحملون أمانة المسئولية. سدّد الله خطاهم، وحفظ قواتنا المسلحة، وحفظ مصر سالمة آمنة ومباركة.

 

قام المسيح. حقا قام … وكل عام وأنتم بخير وفرح وسلام .

 

من الأنبا أنطونيوس نجيب،

 بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك،