لا شيء مجاني

(ما في شي ببلاش)

 

تنبع قيمة الأمثال الشعبية أنها أحدى الطرق التي تعبر بها المجتمعات الإنسانية عن مكنوناتها الثقافية وعن قيمها وأفكارها والتي تورثها لأبنائها، الذين يتباهون عادةً بهذه المكنونات ويتبنون القيم والأفكار دونما الكثير من التفكير.

 "فالولد سر أبيه".. "ومن شابه أباه فما ظلم" .. "وطب الجرة على تمها بتطلع البنت لأمّها" وغيرها من الأمثال التي تؤكد تبني الجيل الجديد لأفكار وقيم الأجيال التي سبقته وهذا أمر طبيعي وبديهي، ولكن، ألا تحتمل هذه الأفكار الموروثة إعادة تفكير… أوليس عمل المفكرين والأدباء والفلاسفة والأنبياء ورجال الدين والمربين…..إلخ هو طرح التساؤلات حول كل البديهيات وإعادة النظر حول القيم والأفكار الموروثة وطرح قيم جديدة أو إحياء قيم كانت موجودة واندثرت.

ما أود الإشارة له في هذه الأسطر هو "قيمة" أراها شيئا فشيئا تخبو وتنطفئ من مجتمعنا ألا وهي قيمة "المجانية" أي "البلاشية" العمل دون مقابل ودون انتظار أو توقع رد الفعل، ما يطلق عليه العامة "لوجه الله"…"لا جزاءاً ولا شكوراً".

نحن نتعلم أن لكل فعلٍ رد فعلٍ، وأن نعامل الناس بالمِثلِ، فنجد المَثلَ الشعبيّ الحلبيّ يقول: "ما في شي ببلاش"  "والدنيا ديَنٌ ووفاء" …….  "وكل شي وفاء ودين حتى دمعة العين"… "ويلي بشوفني بعين بشوفو بعينتين". (بشوف كلمة عامية بمعنى أرى)

وهذه الأفكار لا تبقى أفكاراً مجردة بل تدخل في حياتنا وفي علاقاتنا حتى مع أقرب المقربين لنا فتتسم كل أعمالنا بالنفعية وننتظر مقابل كل فعلٍ نقوم به باتجاه الآخر رد فعلٍ إن لم يكن أفضل منه فأقل الإيمان ما يوازيه.

أتسأل هنا أين المجانية في حياتنا؟ فمنذ أن كنا أطفالاً ونحن نتعلم أن نقوم بما هو نافع: "كل لتكبر"، "ادرس لتنجح" أما إذا لعبت أو رسمت أو عزفت الموسيقا أو نحت أو رقصت أو ذهبت للنادي الرياضي أو للأخوية أو خرجت مع الأصدقاء أو الحبيب فأنت تضيع الوقت سدى وهباءً ولن ينفعك هذا شيئاً، وكأني أستشف أن من وراء كل ذلك مقياسٌ نفعيٌ خفيٌ أغلب الظن أنه مادي أي: "المال".

وعندما نرى المجتمع يقبل وجود بعض الأعمال أو الحركات والتي تتبنى المجانية فذلك لأنه يبررها بالنفعية "فليذهب للأخوية ستتهذب أخلاقه". وبالتالي سيغدو أفضل وهذا ما سينعكس عليه نفعاً في المستقبل.

المشكلة هي عندما يقاس كل شيء بما هو نافع، والنافع هنا هو كم الثمن كم سيجني من الربح. هذه النظرة التجارية التي انطبعت فينا واستقيناها من المجتمع مباشرةً، دون أن ندرك أبعادها وخطورتها. خصوصاً تأثيراتها على علاقاتنا الإنسانية والتي لا تنجح أبداً إن لم تتسم بالمجانية. وكيف تتسم بالمجانية وحتى المجانية في نظرنا لابد أن تكون نفعية ومقياسها الخفي هو مادي.

ذات يوم وقف المعلم وصرخ عالياً "إما الله أو المال". ولم يكن هنالك أي أذنٍ للسمع لتسمع…

نحن بطبيعتنا ميالون لعبادة المال، لما هو مادي ومحسوس لما له نفع ونرى أن أي عمل تنتفي النفعية منه هو عمل خالٍ من المعنى. وحتى إن تبرعنا بمالنا فإنما لتكتب أسماؤنا في سفر الحياة الأبدية أو أقله في نشرات اللجان الخيرية.

وأن أيَّ عملٍ لا يكون مقبولاً إلا إن بحثنا عما فيه من النفعية فإن قرر أحد أبنائنا الترهب… أو التطوع لأي عملٍ مجاني ولو لمدة من الزمن فيا للمصيبة التي ألمت بنا ونقول :"لقد جُنَّ الولد"… ثم إن قبلنا مرغمين بهذا العمل فنحاول صبغه بالنفعية:" سيكون مصدر فخر للعائلة… سيتكلم المجتمع عنه وعنا بشكل جيد".

 كيف سيكون الإنسان إنساناً إن لم يترك مجالاً لـلمجانية واللا نفعية في حياته أن تظهر وتعبر عن نفسها.

ذات يوم أراقت تلك الزانية عطر الناردين الغالي الثمن على قدمي المعلم، فاعترض الحضور كلهم على ما فعلته، أولاً لأنها زانية، وثانياً لأن عملها لا نفع منه، رغم أن العطر فاح وتمتعت به نفوسهم جميعاً، وعبر -ممثل الشر- يهوذا عن اعتراضاتهم بقوله: "الأفضل لو بيع هذا العطر بكذا… وأعطي المال للفقراء". وهكذا سيتسم عمل تلك الفاجرة بالنفعية وسيكون له معنى. وحده المعلم فهم، وحده المعلم عرف جوهرية ما فعلت ومن أين نبع ذلك الفعل وعما يعبر، وماذا يرتجي.

كتب الأب شارل دليه اليسوعي في كتاب "إلهي لا نفع له… في مديح المجانية" الأسطر التالية:

"همُّ البقرة التي ترعى في الحقل أن تجد العشب الأخضر ولا همَّ لها سوى أن تأكل لتعيش …وحده الإنسان من يعطي المعنى فهو العين المتطلعة للطبيعة. بمعزلٍ عنه قد لا يعرف أحدٌ جمال زهرةٍ، وبمعزل عنه لا توحد الأزهار جمالها في إناء، وبمعزل عنه لا ينتشي أحد بجمال الطبيعة الفيّاض.

يوجه الإنسان جزاً فقط من وقته نحو مشاكل البقاء ويتضاءل هذا الجزء تدريجياً. إنه يعمل الضروريّ حفاظاً على الحياة. أما الباقي من نشاطه فلا ينفع شيئاٍ وهو أشبه بالهدر…وكلما كان لنشاط معين ناحيةٌ لا نفع لها، كان حقاً نشاطاً بشرياً، وكلما اتّخذ له محلاً في سجل المجان، لامس الجوهريّ أكثر فأكثر، ولربما يقول الأمير الصغير: " الجوهري غير نافع".

ماذا تنفع المحبّة والصداقة؟ لا شيء. الحب هو أن يضيع الإنسان وقته مع صديقه وفي سبيله. لا يسأم إنسانان يتحابان بالصمت جنباً إلى جنب. الحب هو القدرة على أن تصمت مع آخر. مهما كان الإنسان مشغولاً ومنهمكاً بأعماله ومفكرته ملأى. غير أنه يوم وقع في الحب، وجد الوقت…. وقتاً يضيعه ويقتسمه مع الحبيب بشكلٍ مجانيّ. وجد الوقت لكي يحترق كالبخور. إنه يُغْني وينعش كالجدول الذي يعدو في قلب الصيف، كالماء ينسلُّ بين أصابعنا، وكل من أراد أن يقبض عليه يحصد الفشل والوحشة. "

ما أريده هنا أن نفكر ولو لحظات قليلة كم في حياتنا من أفعالٍ وأعمالٍ تتسم حقيقةًً بالمجانية، تهدر في سبيل الآخر دونما حساب ودونما انتظار وحتى لكلمة شكر. كم نقدم من الوقت والجهد لقاء لاشيء وكما نقولها بالعاميّة: "بدون تحميل منيّة" وكم نسمح للآخرين أن يعيشوا المجانية دون أن نكون لهم حجر عثرة ونجبرهم أن تكون أعمالهم فقط متسمة بالنفعية.

وأن نفكر ما أصعب أن تكون صلاتنا فعلاً مجانياً خالياً من النفعية. وأن نسمع المعلم يقول:" أطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها، أي الماديات، تزاد لكم" .أي أسعوا لتحقيق إنسانيتكم اسعوا للمجانية أما المادية فستزاد لكم.

 

جورج برنوطي