عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 26/04/09

"الحق الحق أقول لك، لا أحد يقدر أن يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء والروح"

بكركي،  الأحد 26 أبريل (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي بعنوان: "الحق الحق أقول لك، لا أحد يقدر أن يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء والروح".

* * *

ولكن في اي مكان يتحد ّث الكتاب المقدّس عن هذا الينبوع الحيّ ؟ ان يوحنا لا يفكّر ظاهرا في مقطع محدّد، بل بالأحرى " في الكتاب" ، في الرؤيا التي تجتاز كل النصوص. لقد وضعنا، سابقا، في دائرة الضؤ منظرا مركزيا: قصة الصخرة الموزّعة للحياة ، التي أصبحت في اسرائيل صورة الرجاء. المشهد الثاني الكبير يعرضه علينا حزقيال مع رؤية الهيكل الجديد: "اذا بمياه تخرج من تحت عتبة البيت نحو الشرق" . وبعد ذلك بنحو خمسين سنة ، استعاد زكريا هذه الصورة: في ذلك اليوم، يكون ينبوع مفتوح لبيت داود ولسكّان أورشليم للخطيئة وللطمث" . ." ويكون في ذلك اليوم، أن مياها حيّة تخرج من أورشليم " . وآخر فصل من الكتاب المقدّس يعود الى تفسير هذه الصور، وهو يعطيها ما لها من عظمة: "وأراني الملاك نهر ماء صافيا كالبلّور، خارجا من عرش الله والحمل" .

ونظرة عجلى الى مشهد تطهير الهيكل، أظهرت لنا أن يوحنا يعتبر أن جسد الرب القائم من الموت كالهيكل الجديد ، كان ينتظره ليس فقط العهد القديم ، بل كل الأمم . وهكذا يمكننا أن نستمع، في ما قيل عن أنهر الماء الحيّ، الى اعلان عن الهيكل الجديد : أجل هذا الهيكل هو موجود: الموعود به. وموجود، نهر الحياة هذا الموعود به الذي ينقّي الأرض المالحة لينضج الحياة ويخرج الثمار بغزارة. وهو الذي ذهب في محبته الى النهاية، الذي مرّ بالصليب ليحيا الآن حياة لا يمكن أي موت أن يتهدّدها. إنه هو المسيح الحيّ. وهكذا ان الجملة التي قيلت يوم عيد الخيام تمثّل مسبقا ليس فقط أورشليم الجديدة التي يقيم الله عينه فيها، وهو فيها ماء الحياة ، لكنه يشير مسبقا مباشرة الى جسد المصلوب الذي يخرج منه دم وماء. وهي تظهره كالهيكل الجديد الغير المصنوع من حجارة ولا بأيدي بشر. لهذا السبب ، لأنه المسكن الحيّ لله في العالم ، سيبقى ينبوع حياة أيضا لسائر الأزمنة.

ومن رأى التاريخ بعين يقظة، بامكانه أن يرى هذا النهر الذي، عبر الزمن، يجري من الجلجلة، من يسوع المصلوب والقائم من الموت. وحيثما يصل هذا النهر، بامكانه أن يرى كيف أن الأرض تطهّرت، وكيف تنبت الأشجار المثمرة، وكيف تجري الحياة، الحياة الحق، من ينبوع المحبة الذي أعطى ، ويعطي ذاته.

هذا التفسير المركزي الذي يعود الى المسيح لا يمكنه أن ينفي ، على ما أشرنا اليه سابقا، أن هذه العبارة تصحّ أيضا، بطريقة متفرّعة، على المؤمنين. وتشير عبارة من انجيل متى المنحول (10: 6) الى اتجاه موافق لاتجاه انجيل يوحنا: " من يشرب من فمي يصبح مثلي". ان المؤمن يتحّد بالمسيح ، ويشاطره خصوبته. ان الرجل الذي يؤمن ويحبّ مع المسيح يصبح بئرا يوزّع الحياة. وهذا ما يمكن أيضا أن نراه في التاريخ. ويمكننا أن نتحقق من هذا في التاريخ بطريقة مدهشة: أي كيف أن القديسين هم واحات تتفتّح حولها الحياة وحيث يعود بعض شيء من الفردوس الضائع. والينبوع الذي يعطي ذاته بغزارة يبقى، في نهاية المطاف، المسيح عينه.

الكرمة والخمرة

اذا كان الماء هو العنصر الأساسي للحياة، بالنسبة الى جميع المخلوقات على الأرض، فان خبز القمح، والخمر، وزيت الزيتون هي هدايا حضارة البحر المتوسط النموذجية. ان المزمور104

( 103) يسمّي أولا، لدى استذكاره الخليقة، العشب الذي أعدّه الله للماشية، ليتحدّث لاحقا عمّا أعطى الله الانسان، عبر الأرض: الخبز الذي يستخرجه من الأرض، الخمر الذي يفرّح قلبه ،أخيرأ الزيت الذي يسند قواه . أكبر هدايا الأرض الثلاث صارت معا، الى جانب الماء، عناصر أسرار الكنيسة، الأساسية التي تصبح معها ثمار الخليقة ناقلة لتدخّل الله في التاريخ ، و" علامات" يمنحنا بواسطتها هدية قربه منا الخاص.

هذه الهدايا الثلاث تتميّز بحسب ما لها من خصائص. وهي كل منها بالتالي وسائل رمزية خاصة. فالخبز المعدّ في شكله البسيط مع الماء، والقمح المطحون، والماء، والنار، وعمل الا نسان، هو الغذاء الأساسي الخاص بالفقراء والأغنياء، وخاصة الفقراء. وهو يعبّر عن جودة الخلق والخالق، ويرمز الى تواضع الحياة اليومية البسيطة. وعلى العكس من ذلك، ان الخمر يمثّل العيد. وهو يُشعر الناس بجودة الخلق. ولهذا فهو جزء من طقوس السبت، والفصح، والأعراس. وهو يُشعرنا بشيء من عيد الله الأخير مع البشرية التي هي موضوع انتظار الله. " ذلك اليوم، سيصنع رب الجنود لكل الشعوب مأدبة مسمّنات، مأدبة صرف مسمّنات ممخّة، وصرف مروّق" . وفي النهاية، ان الزيت يولي الأنسان قوّة وجمالا، وله فوائد مغذّية وعلاجية. ولدى مسح الأنبياء والملوك والكهنة، فهو رمز عناية كبرى.

وعلى ما يمكننا أن نرى، ان زيت الزيتون لا يظهر في انجيل يوحنا. و"عطرالناردين" الغالي الثمن الذي مسحت مريم به الرب في بيت عنيا ، قبل آلامه ببضعة أيام، يقال انه شرقي المنشأ. وفي هذا المشهد، يظهر من جهة كرمز غزارة المحبة المقدسة، ومن جهة ثانية كأنه يحيل الى الموت والقيامة. ونلقى أيضا الخبز في مشهد تكثير الخبز الذي نجد شهادة عليه في الأناجيل الأزائية، وأخيرا في الخطاب الكبير المفصّل عن الأفخارستيا من أنجيل يوحنا. ان عطية الخمر الجديدة هي في صميم عرس قانا الجليل ، فيما في خطاب الوداع، يقدّم يسوع نفسه على أنه الكرمة الحق.

لنكبّ على هذين النصّين.اولا ان أعجوبة قانا تبدو ، لأول وهلة، كأنها تخرج بعض الشيء من اطار العجائب الأخرى التي أجترحها يسوع. وما يمكن أن يكون معنى هذه الأعجوبة التي أوجد فيها يسوع فيضا من خمر، نحو 520 ليترا في مناسبة عيد خاص؟ علينا أن ننظر عن كثب لنكتشف أن ليس في الأمر بذخ خاص، بل هناك شيء أكبر من ذلك. أولا ان التأريخ مهمّ. "بعد ثلاثة أيام كان عرس في قانا الجليل" .لا نرى بوضوح بأي تاريخ سابق يرتبط ذكر اليوم الثالث ؟ وكان واضحا أن الأنجيلي يعلّق أهمية على هذه الأشارة التاريخية الرمزية التي يعطينا بواسطتها مفتاحا يسمح لنا بأن نفهم الحدث.

في العهد القديم، اليوم الثالث هو يوم التجلّي، كما مثلا في الرواية المركزية التي تتحدّث عن ملاقاة الله واسرائيل على جبل سيناء: " وحدث في اليوم الثالث، عند الصباح، أنها كانت أصوات بروق وغمام…وهبط الرب عليه بالنار" . وفي الوقت عينه، كان في ذلك استباق نهائي لتجلّي التاريخ النهائي الحاسم: قيامة المسيح في اليوم الثالث ، التي تحوّلت معها لقاءات الانسان الأولى مع الله بروزا نهائيا لله على الأرض. والأرض تمزّقت نهائيا وغلّفتها حياة الله الخاصة. ويُشارالينا هنا اذن أن الأمر يتعلّق بأول ظهور لله في استمرارية العهد القديم التي تخفي جميعها ميزة وعد، وهي تذهب، منذ الآن، الى كمالها. وقام الشرّاح بحساب الأيام التي سبقت أيام تعيين الرسل في أنجيل يوحنا. فحصل ان" هذا اليوم الثالث" يكون في الوقت عينه اليوم السادس أو السابع منذ بدء التعيين. وبما أنه اليوم السابع، فيكون نوعا ما يوم عيد الله بالنسبة الى البشرية، واستباقا للسبت الأخير الذي ورد ذكره في نبؤة آشعيا التي ذكرناها سابقا.

وهناك عنصر آخر أساسي من عناصر الرواية مرتبط بهذا التاريخ. قال يسوع لمريم ان ساعته لم" تأت" بعد . وهذا يعني في وقت أول أنه لا يعمل ولا يقرّر بحسب ارادته بل دائما بالانسجام مع ارادة الآب، ودائما انطلاقا من مخطّط الله. " الساعة" تشير من وجه الدقة الى " تمجيده" الذي يجمع في أمر واحد الصليب والقيامة، وحضوره الكوني بالكلمة والسرّ. ساعة يسوع، ساعة " مجده" تبدأ في وقت الصليب، وهذا هو مكانه التاريخي. وعندما تبدأ التضحية بحملان الفصح، يسكب المسيح دمه بوصفه حملا حقا. ان ساعته تأتي من الله، ولكنها منغرسة في اطار التاريخ، ومرتبطة بزمن طقسي، وهي هكذا بدء الطقس الجديد: بالروح والحق". واذا كان يسوع يشير في ذلك الوقت الى ساعته أمام مريم، فهو يربط الوقت الحاضر بسرّ الصليب بوصفه وقت تمجيده. هذه الساعة لم تأت بعد، وكان يجب أن تتحدّد أولا. ومع ذلك، ان ليسوع قدرة على تقديم تلك "الساعة" باشارة عجيبة. وتتصف أعجوبة قانا هكذا بانها استباق للساعة؛ وهي مرتبطة باطنيا بهذا.

كيف يمكننا أن ننسى أن هذا السرّ المؤثّر، سرّ الساعة المسبقة هو موجود دائما وأبدا؟ ان يسوع، بناء على طلب أمّه، قدّم رمزيا ساعته بارساله اليها. ويجري الشيء عينه دائما مجدّدا في الأفخارستيا. ان الرب، بعد أن استجاب صلاة الكنيسة، يقدّم عوده فيها، ويأتي الآن ويعيّد عرسه معنا باخراجنا نوعا ما من زمننا، الى الأمام نحو "هذه الساعة"

وهكذا نبدأ أن نتفهّم أعجوبة قانا. علامة الله هي الغزارة. ونرى ذلك لدى تكثير الخبز، ولا نفتأ نرى ذلك خاصة في وسط التاريخ الخلاص. ونرى ذلك في أنه يبذل ذاته في سبيل الخليقة التاعسة التي هي الانسان. وهذه الغزارة هي "مجده". ان غزارة قانا هي بالتالي علامة تشير الى أن عيد الله مع البشرية، وهبة نفسه للناس، قد بدأا. ان اطار الحدث، العرس، يصبح هكذا صورة تشير الى ما بعدها، الى الساعة المسيحانية . ان ساعة عرس الله مع شعبه قد بدأت في مجئ يسوع. والوعد الأخروي يدخل في الوقت الحاضر.

أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،

ان حديث يسوع المسيح عن الكرمة والخمرة هو حديث يصعب اكتناهه للوهلة الأولى. فهو الكرمة وهو الخمرة. وقد عُصر على الصليب ليعطينا دمه فداء عن خطايانا. ومأساة الصليب تتكرّر كل يوم على وجه الكرة الأرضية في جميع بقاع الأرض ، فيجب أن نعرف كيف نستفيد منها. ونستفيد أذا كنا نعامل بعضنا بعضا بالحسنى والمحبة، ونساعد بعضنا بعضا على التغلّب على مصاعب الحياة، وهي كثيرة في أيامنا، ولعلّنا نحن السبب فيها.