جريدة الرأي الأردنية
يتساءل كثير من المسيحيين وغير المسيحيين عن السّر أو العوامل التي جعلت كنيسة روما أو كنيسة القديس بطرس فيها، تحتل المكانة الأولى على بقية الكنائس في العالم، قبل الانقسام المسيحي الأول إلى كنيسة غربية كاثوليكية، وشرقية أرثوذكسية، واستمرار تمتعها بهذه الأولية إلى اليوم على بقية الكنائس الكاثوليكية بعد الانقسام المسيحي الثاني الذي أدى الى نشوء الكنيسة البروتستنتية بأطيافها المتعددة. وعليه قمت? بمناسبة زيارة البابا الكريمة للأردن – بهذه الدراسة لاستجلاء هذه العوامل.
ولد المسيح -عليه السلام- في مدينة بيت لحم، وشب وترعرع في مدينة الناصرة، ودفن في مدينة القدس. ومن ثم يتوقع الناس أن تكون كنيسة او بطريركية إحدى هذه المدن هي الكنيسة البطريريكة الرائدة والقائدة، أو صاحبة الأولية على جميع الكنائس في العالم. كما نشأت بطريركيات في انطاكية، والاسكندرية، والقسطنطينية قبل نشوء كنيسة أو بطريركية روما في إيطاليا. ومع هذا لم تحتل اي منها المكانة او الأولية التي احتلتها كنيسة او بطريريكة روما ولا تزال. ما السر في ذلك؟ او ما العوامل التي أدت إليه؟ في تفسير ذلك يذهب المفسرون مذاهب شتى، وكل منهم يركز على عامل أو أكثر دون عامل او عوامل أخرى. وقد أجمل بعض الباحثين هذه العوامل فيما يلي. وها أنا ذا أعرضها بتصرف: 1- التفويض الالهي الذي منحه السيد المسيح -عليه السلام- لبطرس (بيتر او سمعان كما سماه المسيح عليه السلام) على الكنيسة الكلية: "فسألهم (المسيح عليه السلام) وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس قائلاً: "أنت هو المسيح ابن الله الحي!" فقال له يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يوناّ. فما أعلن لك هذا لحم ودم. بل إبي الذي في السماوات. وأنا أيضاً أقول لك: أنت صخر. وعلى هذه الصخرة إبني كنيستي وقوات الجحيم لن تقوى عليها! وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات: فكل ما تربطه على الأرض، يكون قد ربط في السماء، وما تحلّه على الأرض يكون قد حُلّ في السماء" (إنجيل متى: الاصحاح 16/19-19: الكتاب المقدس: كتاب الحياة: ترجمة تفسيرية 1989).
وحسب هذا التفويض تعتبر الكنيسة الكاثوليكية بطرس هو البابا الأول.
ويتابع الطبيب لوقا ما دونه في الإنجيل الذي يحمل اسمه، ما يمكن اعتباره سجلاً تاريخياً لنشأة الكنيسة وامتدادها نتيجة لتنفيذ الحواريين او الرسل وصية المسيح -عليه السلام- بنشر بشارة الانجيل gospel في الانجليزية وهي مشتقة من لغة الانجلو ساكسون god spell وتعني الأنباء الحسنة او البشارة) في "أورشليم" ويهوذا والسامرة وأقاصي العالم.
وذكر الكنيسة لم يظهر الا في انجيل متى، ثم في أعمال الرسل 11/5. أما كلمة الكنيسة في الانجليزية (Church) فهي مشتقة من كلمة كورياكوس اليونانية (Kuriakus) وتعني ما هو لله، او ما يخص الله. ولكنها صارت تعني أيضاً الاجتماع (Assembly) المستمدة من الكلمة اليونانية الاخرى (Ekklesia) ومن ثم(ecclesiastical) وتعني الكنسي او الإكليركي.
وقد استخدم مصطلح الكنيسة فيما بعد ليعني كل المؤمنين بالمسيح -عليه السلام- وصار للكنيسة دلالتان: محلية تعبر عن الاجتماع في الكنيسة، وعالمية تعبر عن المجتمع العالمي وكما عبر عنه بولوس الرسول في رسائله المختلفة الى المسيحيين الأوائل. وحسب هذا المعنى صار للكنيسة بنية بشرية مثل بقية البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأساس روحي لها: أنها أساساً كنيسة المسيح (كنيستي: متى 16/18). إنها بناية المسيح وهو حجرها الأساس فهو راس الكنيسة والكنيسة هي الجسد، والمسيح هو العريس والكنيسة هي العروس، والمسيح هو الحاكم والكنيسة هي المدينة، والمسيح هو المالك والكنيسة هي الناس، والمسيح هو الراعي والكنيسة هي الرعية، والمسيح هو المولود الأول والكنيسة هي العائلة، والمسيح هو الخالق والكنيسة هي المخلوق، والمسيح هو المؤسس والكنيسة هي الشعب المختار… وذلك حسب الدلالات أو الرمزيات الواردة في الأناجيل وأعمال الرسل والرسائل. إنها مسكن الرب من خلال الروح. وهي ليست مكاناً لخلاص الانسان فقط، بل لتمجيد المسيح أيضاً والثناء عليه والتسبيح له.
وتشترك الكنيسة مع الكنيس (Synagogue) في اليهودية، والجامع في الاسلام في معنى واحد وهو مكان الاجتماع لجماعة معينة لتأدية غرض ديني.
لقد استخدم أساقفة روما الكبار او الباباوات التفويض الذي منحه المسيح -عليه السلام- لبطرس على الكنيسة الكلية لإضفاء الأولية على هذه الكنيسة دون سائر الكنائس. وكان البابا ليو الأول (أو القديس ليو العظيم 400-461م) أول من قال بذلك وأسسه ورسخه عبر مد سلطته على جميع الأساقفة في العالم. وإلى هذا البابا يرجع الفضل بإقناع أيتلاّ (قائد الهون) بعدم مهاجمة روما (452م) وتدميرها.
2- الاضطهاد الديني كما تجلى في استشهاد القديس بطرس الذي صلب بالمقلوب، وبول أو بولوس (شاول اليهودي الذي كان أحد أكبر مضطهدي المسيحيين الأوائل ثم ارتد عن اليهودية ليدخل في المسيحية ويصبح واحداً من أصدق رسلها وقديسيها، وقد استشهد في روما في عهد الامبراطور نيرون 64-68م) وتبجيل استشهادهما. وقد كسبت روما -نتيجة لذلك- الهيبة والاعتبار والاحترام كموقع لموت اثنين من الرسل الرئيسيين على أرضها.
لقد جُعل المسيحيون الأوائل في روما أكباش فداء للحريق الذي حلّ في روما، ومبرراً لاضطهادهم. ولقد تم حرق الكثيرين منهم أحياء لاضاءة حدائق نيرون ليلاً.
لقد أدى الاضطهاد الذي حل بالمسيحيين هناك على يد الإمبراطور نيرون والأباطرة التسعة الذين خلفوه الى بروز كنيسة روما وتمتعها بشهرة خاصة بسبب ما تحملته من معاناة. لقد بقي المسيحيون يُحرقون ويُعدمون ويُصلبون وتُنسب اليهم الكوارث، وتصادر أملاكهم ويحرمون من حقوقهم المدنية وتدمر كنائسهم وتحرق كتبهم، لأكثر من ثلاثة قرون. ولم تتوقف معاناتهم إلا بعد تبني الامبراطور قسطنطين وامه هيلانة التي اكتشفت صليب المسيح، ديناً للامبراطورية في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي. وقد بنى فوق الموقع الذي دفن فيه القديس بطرس أول كنيسة عام 324م.
3- انتقال السلطة من الحواريين او الرسل إلى التابعين وتابعي التابيعن إلى يوم الدين. وحسب هذا المبدأ فقد انتقلت سلطة بطرس العليا الذي منحه إياها المسيح -عليه السلام- منه الى أساقفة روما وتأبدت فيهم.
4- حجم السكان وحجم الكنيسة: أسهم حجم السكان الكبير وحجم الكنيسة الضخم في روما في حينه في تعزيز سلطة أساقفة روما على غيرهم من الكنائس، أو البطريريكيات الأربع الكبرى في القدس، وأنطاكيا، والاسكندرية، والقسطنطينية.
لقد احتاجت كاتدرائية القديس بطرس في روما إلى أكثر من مئة سنة لانجازها. وكانت ولا تزال أضخم كتدرائية في العالم. وهي حقاً معمار مهيب مليء بالكنوز المعمارية والفنية التي تخلب الألباب.
5- وجودها في قلب عاصمة الامبراطورية الرومانية المقدسة بعد اعترافها بالمسيحية وتبنيها لها ديناً رسمياً، ولجوء الأباطرة الى طلب النصح في الشؤون الدينية من أساقفتها.
6- اللغة اللاتينية: كانت اللغة اللاتينية هي اللغة السائدة في غرب أوروبا، وكان أساقفة روما يتقنونها وبها يقودون الناس ويتجاوزون الصعوبات اللاهوتية الماثلة في لغة الشرق الاغريقية المعقدة التي كانت تستخدمها بطريركية القسطنطينية.
7- الموقع: فمن بين مدن البطريريكات الخمس كانت مدينة روما المدينة الوحيدة الموجودة في الغرب ومن ثم تمتع أسقف روما بنفوذ منفرد في منطقة شاسعة جداً لم ينافسه بها أحد أو يتمتع بمثلها أي بطريركية أخرى.
8- نجاحها في التبشير: نجح أساقفة روما في التبشير بالدين المسيحي بين قبائل البرابرة: القوط والبكت، والفرنك (الفرنسيين فيما بعد) والاسكتلنديين والإيرلنديين والأنجلو ساكسون… الذين صاورا ينظرون الى روما باحترام كبير فيما بعد، بينما فشلت بطريريكيات الشرق الأربع في نشر الدين المسيحي في بلاد فارس، وفي الصمود أمام انتشار الإسلام.
9- غزوات البرابرة: أدى انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية نتيجة غزوات البرابرة المستمرة لها إلى جعل كنيسة روما القوة الرئيسة الموحدة للناس هناك ثم للبرابرة الذين اعتنقوا المسيحية على يديها، فيما بعد.
10- الفتح الإسلامي الذي أتى على جميع المناطق التابعة للبطريريكيات الأربع في الشرق، والضغط المستمر على القسطنطينية فيما بعد الذي انتهى بضمها الى بلاد المسلمين سنة 1453م. وقد أدى ذلك الى توسيع سلطة كنيسة روما وتعزيزها.
ما من أحد التحق بالمدرسة إلا وتعلم عن سيطرة البابابوات على أوروبا في العصور الوسطى بل وجمعهم بين السلطة الزمنية والدينية على أساس ان المسيحية دين ودولة. وقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى في عهد البابا أنسنت الثالث الذي ادعى أنه يملك السلطتين معاً (وعلى طريقة الخليفة أبو جعفر المنصور الذي قال بعد مبايعته بالخلافة: إنما أنا سلطان الله في أرضه وأسوسكم بتوفيقه). وقد انتهى الصراع الطويل بين البابوية والأباطرة والملوك الى نشوء العَلْمانية والفصل بين السلطتين الزمنية والدينية.
"وفي سنة 1929 أنشئت دولة الفاتيكان -وهي أصغر دولة في العالم- لوضع حد للصراع بين البابوية والمملكة الايطالية الجديدة وبهدف محدد ووحيد هو ضمان استقلال البابا والسماح للحبر الأعظم بأن يمارس بحرية مهامة في إدارة شؤون الكنيسة العالمية" (الأب رفعت بدر: ضيافة وانفتاح 2009 ص 26-27) . ومع أنها أصغر دولة في العالم الا أن لها علاقات مع أكثر من ماية وسبعين دولة عبر سفرائها الملقب -الواحد منهم- بالقاصد الرسولي.
يتمتع البابا بقوة أدبية أو معنوية هائلة (Soft Power) في زوايا الأرض الأربعة، وتلتقي الكنيسة الكاثوليكية مع المسلمين في عدد من القضايا مثل رفض الاجهاض والمثلية الجنسية… وتشارك بقوة في حوار الأديان الذي أرى أن من الأفضل وصفه بتعارف الأديان لأن أصحاب الأديان لا يعرفون الكثير عن أديان بعضهم البعض، والحوار بين أهلها لا يؤدي الى الالتقاء أو التوصل الى نتيجة او صيغة دينية مشتركة فهو غير ممكن في الأديان وبخاصة في العقائد والعبادات وحتى في كثير من المعاملات، ولا يهدفون إليه. وأفضل كذلك استخدام تفاعل الحضارات بدلاً من صراع الحضارات او تحالف الحضارات، سلبياً في حالة الحروب والصراع، وإيجابياً في حالة السلام.
إن لزيارة قداسة البابا أو الحبر الأعظم او الأب الأقدس للأردن معنى وقيمة وأهمية كبيرة للأردن الذي يرحب بالزيارة ملكاً وحكومة وشعباً، لأن العلاقات الأردنية مع الكنيسة الكاثوليكية وغيرها جيدة والعربي بما في ذلك الاردني له دينان: المسيحية بطوائفها المختلفة، أو الاسلام بطوائفه المختلفة. ويجب أن يعرف الغرب ذلك وأن لا يساوي بين العرب والمسلمين وكأنهما شيء واحد ويحمّل العرب المسؤولية الكاملة عما يصدر من سلبيات عن كل أو أي مسلم في العالم.
بمناسبة هذه الزيارة البابوية التاريخية للديار المقدسة نذكر قداسة البابا باستراتيجية اسرائيل التي تقوم على تفريغ فلسطين، وبخاصة مدن القدس وبيت لحم والناصرة… من الوجود الفلسطيني المسيحي التاريخي فيها، التي لا تقل إصراراً وتعسفاً عن استراتيجيتها لتفريغها من الوجود الفلسطيني المسلم، وأنه إذا لم تقاوم هذه الاستراتيجية الغاشمة وتوقف فسيأتي –سريعاً- اليوم الذي لا تجد فيه الكنائس هناك من يديرها ويصلي فيها. لقد كانت نسبة الفلسطينيين المسيحيين في فلسطين حتى سنة 1948 نحو عشرين في المئة من السكان، ولكنها الآن تقل عن ثلاث في المئة.