في سبيل عقلانية منفتحة

 (1)

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الاثنين 4 مايو 2009 (Zenit.org).

 "العقل لا ينحصر في الإطار الظواهري فقط، بل يستطيع أن يدرك الواقع الفكري بمعرفة أكيدة، حتى ولو أنه – بسبب الخطيئة – يجد نفسه محاطًا بالظلام ومثقلاً بالضعف" (الدستور المجمعي "فرح ورجاء"، 15).

لقد استعرضنا في مقالة سابقة ما يمكننا تسميته "المرحلة التفكيكية" للمذهب العقلي الحديث، ولكن الاستعراض السلبي لتطورات ونتائج المذهب العقلي لا يكفي، لأنه قد يوحي بأننا نرفض العقلانية في الإيمان، وهذا هو عكس ما نريد أن نبرهنه.

في هذه المقالة – التي سننشرها إن شاء الله في أعداد مختلفة – سنتطرق، مستندين إلى غنى التراث المسيحي، إلى المحاولات التي نجحت بحسب تقديرنا في إظهار أهمية العقل كعقل بشري له دوره الأساسي والهام في مسيرة معرفة الحق والوصول إلى الغبطة، وفي إعلان حقيقة الإيمان.

نعترف منذ مطلع مقالتنا بأن اكتشاف اللوغوس في الفلسفة الهيلينية هو إحدى أهم مآثر البشرية، وأن نبوغ المسيحية يكمن في الربط الوطيد بين اللوغوس (logos) والإيمان (fides).

لقد صرح البابا بندكتس السادس عشر في محاضرة ريغينسبورغ الشهيرة أن "عدم العمل بحسب اللوغوس هو أمر يعاكس طبيعة الله" لأن الله بالذات يتصرف " sun logo " (بحسب اللوغوس) حيث يعني اللوغوس في الوقت عينه "الفكر والكلمة – الفكر الخلاق والقادرة أن يتواصل كعقل" (بندكتس السادس عشر، محاضرة في جامعة ريغينسبورغ، 12 – 9 – 2006).

إن الكنيسة لطالما رأت بين الله وبيننا، بيه روحه الأزلي الخالق وبين عقلنا المخلوق "تشابه حقًا" (vera analogia). واللقاء بين رسالة الإنجيل والفكر اليوناني لم يكن صدفة، فقوة اللوغوس هي التي حمت إيمان الكنيسة من الانحطاط نحو مفهوم "إرادوي" لله (volontaristica). فالتشابه القائم مع اللوغوس يقول لنا أن الله لا يضحي أكثر ألوهة عندما نرميه بعيدًا عنا في إرادوية صافية وبعيدة، بل الإله الحق هو "الإله القريب" العمانوئيل، الإله الجدير بالثقة الذي ظهر كلوغوس، وكلوغوس عمل وتصرف نحونا بالحب.

المجمع الفاتيكاني الأول

يشدد المجمع الفاتيكاني الأول في دستور "ابن الله" (Dei Filius) على علاقة التعاون المتبادل القائمة بين الإيمان والعقل فيقول: "رغم أن الإيمان يتخطى العقل، إلا أنه من غير الممكن أن يكون هناك اختلاف حقيقي بين الإيمان والعقل، لأن الله بالذات الذي يكشف الأسرار ويشرك بالإيمان، هو بالذات وضع في الروح الإنسانية نور العقل، وهذا الإله الذي لا يستطيع أن ينكر نفسه، كما وأن الحق لا يستطيع أن يناقض الحق" (دينزينغر-هونرمان، 3018).

ويضيف الدستور المجمعي: "وإن كان من غير الممكن أن يكون هناك تناقض بين الإيمان والعقل، فهناك أيضًا إمكانية أن يقدما يد العون أحدهما للآخر؛ فالعقل القويم يبين أسس الإيمان، وإذ يستنير بضوء الإيمان يستطيع أن يتعمق في العلوم الإلهية؛ والإيمان، بدوره، يحرر العقل ويحميه من الخطأ ويغنيه بمعارف مختلفة" (دينزينغر-هونرمان، 3019).

الرسالة العامة "الإيمان والعقل"

وبدورها تشهد رسالة البابا يوحنا بولس الثاني العامة "الإيمان والعقل" (Fides et Ratio) للدائرة التفسيرية القائمة بين الإيمان والعقل، وإشارة أحدهما إلى الآخر بحيث أننا "نؤمن لنفهم (credo ut intelligam)، ونفهم لنؤمن" (intelligo ut credam). الإيمان بطبيعته يتطلب فهم أسرار الإيمان، ومن هنا يصف أنسلموس على خطى أغسطينوس الإيمان الناضج كإيمان "يطلب الفهم" (fides quaerens intellectum).

وتلفت رسالة "الإيمان والعقل" أننا "على ضلال إذا ما توهمنا أن الإيمان له وقع أكبر أمام عقل ضعيف؛ فعلى العكس، إن الإيمان يقع في خطر داهم في هذه الحالة هو خطر أن يضحي أسطوريًا أو خرافيًا"، ويشدد يوحنا بولس الثاني وجوب "مقابلة شجاعة الإيمان بشجاعة العقل" (الإيمان والعقل، 48).

العقل المنفتح

هذا ويحذر الفيلسوف الفرنسي الكبير بليز باسكال من نوعين من التطرف: "استثناء العقل، قبول العقل وحده"؛ "إذا ما أخضعنا كل شيء للعقل، لن يعود في إيماننا شيء مما يفوق الطبيعة. أما إذا ما رفضنا مبادئ العقل، سيضحي إيماننا أمرًا تافهًا".

وعليه، بينما نحرص على الحفاظ على اللوغوس السليم الذي لطالما دافع عنه التقليد الكنسي، نستنكر العقل "التهجمي، الفظ، والغادر" بحسب ما يسميه الكاردينال جون هنري نيومان، العقل الوسائلي الحسابي، عقل "المنطق الورقي" (paper logic). نرفض العقل الذي "يرفض مسألة الله، ويجعلها تبدو وكأنها أمر غير علمي أو سابق للعلمي" (بندكتس السادس عشر، المرجع نفسه).

إن رفض هذا النوع من العقل المحدود هو أمر واجب، ليس فقط من الناحية الإيمانية، بل أيضًا من وجهة النظر الأنتروبولوجية لأنه عقل يختزل الواقع البشري ويتجاهل الأسئلة الجوهرية مثل "من أنا؟ من أين أنا؟ إلى أين أذهب؟" العقل الذي يتغاضى عن الأسئلة التي وحده الجواب عليها يجعلنا بشرًا حقًا، تلك الأسئلة التي تطرحها البشرية في مختلف حقباتها وعلى لسان جميع أديانها (راجع "الإيمان والعقل"، 1).

إن العقل الذي يفتقر إلى البعد الحكمي يضحي عاملاً ينحصر إطار عمله في "الأبعاد الإنتاجية، دون أي توق إلى البحث عن الحقيقة" (راجع "الإيمان والعقل، 81)، ويتعرض لخطر أن يتجاهل ضرورة الانتقال من "الظاهرة إلى الأساس" (المرجع نفسه، 83)، وهو أمر ضروري جدًا للوصول إلى رؤية متكاملة للمعرفة التي تعطي أساسًا وطيدًا للعيش. أما العقل المنفتح فهو عقل يتحلى بشجاعة الانفتاح على سعته الذاتية فيتخطى محدوديته الخاصة، من خلال خروج ضروري نحو أرض ميعاد المعرفة التي تتخطى المنطق الضيق دون أن تضحي لهذا السبب معرفة خرافية، هذه المعرفة التي هي المعرفة الشخصانية الخاصة بالمعرفة الإيمانية.

 

 (2)

إن "الحقيقة" كلمة مستعملة في أطر مختلفة ومتنوعة، وقد سبق واستعرضنا في مقالة سابقة المفهوم المسيحي للحقيقة، ولكننا سنحاول اليوم، مستعينين بما سبق وعرضناه أن نوسع هذا المفهوم باعتباره أساسيًا لإدراك دور العقل في فعل الإيمان. فسؤال بيلاطس: "ما هو الحق؟"، إذا ما طرحه المرء بنية صادقة وصافية تريد أن تدرك مكنون الواقع، هو سؤال مشروع، لا بل ضروري ومطلوب. ولذا نتساءل نحن أيضًا: ما هي الحقيقة، ما هي حقيقة الإيمان؟ بمعنى آخر: ما هي الحقيقة التي يتوجب على المسيحي أن يؤمن بها وأن يقبلها ليكون مسيحيًا، ليدخل في المعرفة الخلاصية؟

يميز الفيلسوف اللبناني رينيه حبشي بين نوعين أساسيين من الحقيقة: "الحقيقة-الإسمنتية" و "الحقيقة-الدعوة".

"الحقيقة الإسمنتية" هي حقيقة الـ 2 + 2 = 4. إنها حقيقة تشبه النور الساطع الذي يبهر العيون بوضوحه فلا يستطيع المرء أن ينكرها. إنها حقيقة إسمنتية، "مصبوبة صبًا"، لا يمكنني أن أرفضها ولكن في الوقت عينه لا يمكنني أن أدخل في علاقة شخصية معها؛ إنها حقيقة لا يجتاحها الصدأ، هي كاملة وثابته، ولكنها مقفلة لا يمكن الدخول في علاقة وجدانية معها. ما من أحد يضحي بحياته لأجل حقيقة حسابية من هذا النوع.

أما "الحقيقة الدعوة" فهي حقيقة شخصانية، إنها حقيقة تهبني الحياة، وتجعلني مستعدًا أن أهب حياتي بدوري. يمكننا أن نقدم مثالاً عن هذه الحقيقة أمرًا قد يجعلنا نظن أن المسيحيون لا يجيدون علم الحساب 1 + 1 + 1 = 1! أشير بتبسيط حسابي إلى ما يقوله المسيحيون في الثالوث الأقدس: ثلاثة أقانيم (آب وابن وروح قدس)، طبيعة إلهية واحدة. هذه الحقيقة لا تفرض نفسها بشكل حسابي حتمي وجبري، ومع ذلك، فإن هذه الحقيقة كانت وما تزال واقع حبٍ يفهمه مِن بَعيد من يفتح قلبه للحب الذي يوحد ويحفظ التمايز، وهذا الفهم يحمل البعض على الهيام حبًا وصولاً إلى قبول الاستشهاد لأجل الإيمان بإله الحب.

 

التمييز بين الحقيقة المسيحية والحقيقة الفلسفية

في العهد القديم ترتبط "الحقيقة" "إمت" بأصل "أمن" الذي يعني: "الثابت، الوطيد، الثبات…"؛ وعليه فإن "إمت" تعني الثبات الجوهري، أي ما يمنح الأمان ويستحق الثقة. بهذا المعنى يمكننا أن نقول أن الله "حق" بالتمام، أي أنه يستحق الثقة بالتمام، وأن وعوده صادقة. وبالتالي يتضمن المفهوم العبري للحقيقة بعدًا وعنصرًا أدبيًا. تشير الحقيقة في الأدب الرؤيوي إلى بساطة القلب وإلى استقامة العيش الخلقي، وتضحي إلى حد ما مرادفًا للحكمة (Cf. I. De La Potterie, “Vérité”, in X. Léon-Durour,  Vocabulaire de théologie biblique, Paris 1970, 1329 ; Cf. R.E. Brown, Giovanni.  Commento al vangelo spirituale, Assisi 19995, 1440).

ترتبط الحقيقة أيضًا بـ "السر"، أي بمشروع الله الخلاصي، بحيث تضحي معرفة الحقيقة معرفة لمشاريع الله (راجع حك 6، 22).

إن هذا المفهوم للحقيقة في العهد القديم، والذي يقترب من مفهوم العهد الجديد كما سنرى في مرحلة لاحقة، يختلف عن المفهوم اليوناني للحقيقة.

في اليونانية "أليثيا" (altetheia)  كلمة تعني بالأساس عدم التخفي، الكشف. وبالتالي إنطلاقًا من المفهوم الأثيمولوجي اليوناني، الحقيقة هي أمر يجب اكتشافه، أمر يجب أن يبحث المرء عنه وأن يقوم بالارتقاء نحوه. الحقيقة هي واقع وحالة يدركها المرء لدى معاينته لها؛ فاليوناني بعكس العبراني هو مشكك بطبيعته، ولم يكن ليقبل بما لا يرى، ومن هذا المنطلق "حقيقة" و "واقع" هما أمران مترابطان (Cf. T. Špidlík, L’idea russa.  Un’altra visione dell’uomo, Roma 1995, 73.).

وعليه فالمفهوم اليوناني، خلافًا للمفهوم العبري هو فكري لا أخلاقي. وقد سيطرت على الفكر اليوناني مسألة البحث على الحقيقة بدءًا بالفلاسفة الطبيعيين وصولاً إلى التصوف الهيليني. يجتاح الإنسان اليوناني توقف جامح إلى التوصل إلى الحقيقة. وانطلاقًا من الثنائية الأفلاطونية، تم اعتبار التوصل إلى الحقيقة أمرًا مستحيلاً ما لم ترتق النفس نحو عالم الأفكار، مرتع الحقيقة، لأن العالم العقلي وحده هو العالم الحقيقي (cf. Platone, Fedro, 248 b). في هذا المنظور تتبع مسيرة الحقيقة طريقًا تصاعديًا: هي ارتقاء الإنسان نحو عالم الآلهة؛ الحقيقة ليست موجودة في العالم، لأن العالم ليس إلا صورة وخيال (Repubblica, VII, 514 a – 518 b).

جوهر الحقيقة المسيحية: إخلاء الذات الكريستولوجي

 (3)

إذا ما اقتربنا من العهد الجديد، وبشكل خاص من الكتابات المنسوبة إلى القديس يوحنا، حيث نرى أن موضوع الحقيقة حاضر بقوة. يعتبر بعض المفسرين الكتابيين مثل بولتمان (Bultmann) ودود (Dodd) أن يوحنا تأثر أكثر بالمفهوم اليوناني للحقيقة منه بالمفهوم العبراني. إلا أن المفسر اليسوعي، إنياس دو لا بوتري (I. De La Potterie)، يسعى في دراسته الهامة "الحقيقة عند القديس يوحنا" إلى إظهار أن هذه الأطروحة ليست صحيحة، ويقدم الفوارق الهامة التي تميز بين الحقيقة في المفهوم الهيليني وعند القديس يوحنا.

في فكر يوحنا، وخلافًا لمفهوم الحقيقة في الفلسفة اليونانية، لا نجد أي أثر لمفهوم "البحث عن الحقيقة"، ولا حتى عن "ارتقاء" النفس نحو اكتشاف الحقيقة في الله. الأليثيا (الحقيقة) بالذات تنحدر وتأتي صوب الإنسان. هي "نعمة" و "هبة" (راجع يو 1، 17): إنها وحي يحمله يسوع المسيح إلى البشر. يتوجه الفكر باتجاه معاكس، ويتبع خطًا تنازليًا، خط إخلاء المسيح لذاته في التجسد: يسوع يكشف الحقيقة التي رآها في قلب الآب (راجع يو 8، 40)، ويبينها للعالم. إنها حقيقة تأتي من العلاء، من الله، وتتوجه إلينا في كلمة الكلمة المتجسد، الذي هو كلمة الآب (I. De La Potterie, La vérité dans saint Jean, I, op. cit., 26.).

هذا وتأخذ كلمة حقيقة عند يوحنا طابعًا "كريستولوجيًا" واضحًا؛ يقول دو لا بوتري: "الحقيقة ليست مجرد كشف عام عن الأسرار، وليست مجرد عقيدة؛ إنها الكشف عن شخص يسوع بالذات، المسيح، ابن الآب" (I. De La Potterie, La vérité dans saint Jean, II, Le croyant et la vérité, Rome 1977, 591.).

في يسوع نزلت "الشكينا"، مسكن الله وخيمة حضوره، بين البشر، خيمة حضور الله هي شخص يسوع الذي أخذ جسدًا، وجاء في وسطنا: "إنه اللوغوس الذي صار جسدًا وجعل خيمته في وسطنا" (يو 1، 14).

الحقيقة ليست واقعًا متساميًا ومجردًا نصل إليه من خلال انعزالنا عن العالم الأرضي، هي عكس ذلك بالتمام: الحقيقة المسيحية هي مبدأ فاعل، يهدف إلى تغيير حياة المسيحيين في العالم وإلى تقديسها. يأتي يسوع إلى إعلان الحقيقة التي "سمعها" من الآب (راجع يو 8، 40)، ويطلب إلى الآب أن يقدس خاصته "بالحق"، لأن "كلمة هي حق" (يو 17، 17).

إذا كانت الحقيقة في يوحنا تتركز في "شخص يسوع" – "أنا الطريق والحق والحياة"  (يو 14، 6) – من ناحية أخرى، تتماثل هذه الحقيقة مع "كلام" الله، الذي ينطق به يسوع، وتشكل هذه الكلمات الوحي اللفظي الذي يقدمه يسوع. وبالتالي، عندما يتحدث يوحنا عن الوحي، يقدم إزائية مع كلمتي "ريما" (rema) و "لوغوس" (logos)، ويستعمل تعبيرين تظهر فيهما كلمة الحقيقة كمفعول به مباشر لفعل "القول": " ten aletheian lalein " و " ten aletheian legein ".

نجد مفهوم الحقيقة المميز هذا عند القديس بولس أيضًا – إذا ما أردنا البقاء في إطار العهد الجديد – حيث يستعمل الرسول تعبير العهد القديم "كلمة الحق"  (logos aletheias) (2 كور 6، 7)، ويشرح التعبير موسعًا في نص آخر "إنجيل خلاصنا" (to euaggelion tes soterias umon) (أف 1، 13) وفي كول 1، 5 يضيف الكلمات التالية: "كلمة حق الإنجيل" (ho logos tes aletheias tou euaggelion). فمع القديس بولس ندخل في إطار الـ "ميستريون"، السر العظيم الذي لا يعبر عن لغز أو عن مفهوم معقد وخفي، بل عن مشروع خلاصي محفوظ في قلب الله منذ خلق العالم وقد ظهر في ملء الأزمنة في يسوع (Cf. P.T. O’Brien¸  “Mistero”, in G.F. Hawthorne – R.P. Martin – D.G. Reid (edd.), Dizionario di Paolo e delle sue lettere, Cinisello Balsamo 1999, 1032-5).

الحقيقة المسيحية: حوار يبدأه الله

(4)

 نقرأ في قصيدة شهيرة للمتصوف المسلم أبو المغيث الحسين بن منصور، المعروف باسم "الحلاج":

"لبيك لبيـك يـا سـري ونجوائـي

لبيك لبيـك يـا قصـدي ومعنائـي

أدعوك بل أنت تدعوني إليك فهـل

ناديـت إيـاك أم ناديـت إيـائـي"

تعبر هذه الكلمات بشكل واضح عن موقف المرء نحو الحقيقة في أديان الوحي الأبراهيمية: ليس الإنسان البادئ في الحوار مع الله، بل هو الله الذي ينادي ويجذب ويفتن.

هذا المفهوم للحقيقة التي تأتي صوب الإنسان يجد التعبير الأسمى في المسيحية حيث يأتي الله لا بكلمة لفظية أو فكرية وحسب، بل بكلمة "شخصانية" متجسدة، في يسوع المسيح الآخذ صورة الإنسان.

وهذا الإطار يختلف كليًا عن موقف التصوف الهيليني، ويختلف كليًا عن مفهوم الحقيقة الذي نراه في العصر الحديث.

الموقف المسيحي نحو حقيقة الله ليس في المقام الأول توقًا للوصول إلى الحق، بل هو موقف قبول لـ "معرفة الحق" (يو 8، 32؛ 2 يو 1) وللـ "إقامة" في الحق بالإيمان. الله هو القائم بالخطوة الأولى نحو الإنسان، هو "من أحبنا أولاً" (1 يو 4، 19). والمسيحي يتوق لكي "يكون في الحق" (يو 18، 37؛ 1 يو 3، 19) الحقيقة التي تأتي إلى الإنسان وتنصب خيمتها بين البشر (راجع يو 1، 14). ليست الحقيقة واقعًا بعيدًا يترتب على النفس أن تتوق إليها بجهد جهيد، وليست موضعًا ينبغي على الروح أن يتعمق بسبره عبر إعمال العقل؛ "الحقيقة هي جوهريًا كشف يجب على الإنسان أن يقبله بالإيمان؛ وبهذا الشكل تضحي هذه الحقيقة قاعدة حياة، قيمة أخلاقية، ينبغي عليها أن تنير وتحول كل وجوده" (I. De La Potterie, La vérité dans saint Jean, op. cit., 26).

فقط بعد قبول هذه الهبة الأولية والمجانية، يترتب على الإنسان أن "يعمل الحق" (يو 3، 21؛ 1 يو 1، 6)، وأن "يسير في الحق" (يو 4، 23 – 24)، وأن "يتكرس بالحق" (راجع يو 17، 17 . 19)، وأن "يحب بالحق" (2 يو 1؛ 3 يو 1) وأن يكون "شريكًا في عمل الحق" (3 يو 8).

إذا ما أردنا أن نستعمل تعابير العصر الوسيط، يمكننا أن نقول أن "التوق الطبيعي إلى رؤية الله" (desiderium naturale videndi Deum)، الذي يعتبر فلاسفة ولاهوتيو العصر الوسيط أنه التوق الأعمق والأثبت في الإنسان، يبقى بحد ذاته "توقًا عقيمًا" (desiderium inefficax)، و "نزعة عمياء في النفس" ما لم يكشف الله عن ذاته ويهب ذاته للإنسان في الإيمان؛ التوق بحد ذاته، قبل مبادرة الله ليس توقًا كاملاً أو نزعة كاملة (appetitus perfectus) بل مجرد "ميل سلبي أو انفعالي" (aptitudo passiva)، والتواصل الحق بين رغبات الإنسان وتحقيقها يتم فقط عندما يهب الله نعمة الإجابة على دعوة الله (cf. H. De Lubac, “Surnaturel. Études historiques”, “Le mystère du surnaturel”. Cf. H.U. Von Balthasar, Il padre Henri de Lubac.  La tradizione fonte di rinnovamento, Milano1978, 75-79).

إذا جاز التعبير، يمكننا أن نقول أن الموقف المسيحي تجاه الحقيقة يجب أن يكون موقفًا أنثويًا، بمعنى التخلي عن رغبة السيطرة المتمثل بتملك الحق، وتفضيل موقف الطواعية والقبول الذي يسمح للحق أن يزور الإنسان وأن ينفذ إلى باطنه وأن يعانقه، بحيث يضحي رحمًا يستطيع الحق أن ينصب خيمته فيه. يتحدث الأب تيار دو شاردن عن موقف "إنفعالية النمو" (passivité de croissance) (راجع: P.T. De Chardin, Le milieu divin. Essai de vie intérieure, Paris 1957, 61-91).

إن قبول الإيمان هو موقف بتولي ومريمي، يمكننا أن نطبق عليه كلمات القديس غريغوريوس النيصصي القائل: "ما تم في مريم بحسب الجسد، يجب أن يتم في كل مسيحي بشكل روحي (بحسب اللوغوس – kata logon)" (راجع: Gregorio di Nissa, De virginitate 2; PG 46, 324b).

يجب علينا أن نفهم الحقيقة-الدعوة المسيحية كـ "حدث"، كواقع تحتل فيه أهمية خاصة الـ "جشتالت" (البنية أو الصورة – Gestalt) (راجع: H.U. Von Balthasar, La Gloire et la croix. Les aspects esthétiques de la Révélation, I, Apparition, Alençon 1990). الحقيقة-الدعوة هي ركيزة الأمور الأخيرة، وهي تهب نفسها في جشتالت يسوع، في مجد الحب المصلوب، في جدلية الكشف والإخفاء المتضمن في الوحي – فالوحي (Revelatio)  هو في الوقت عينه كشف (revelatio) وإعادة ستر (re-velatio). وفي اعتلان بنية الحب المرئي يرى الإنسان الله اللامرئي. ولكن في هذه الحالة لا يكون الإنسان سيد الحقيقة بل متقبلاً متواضعًا لها، لا يشكل هو وجه الحقيقة، بل تعطيه الحقيقة شكله وبنيته وصورته الحقة، ويستطيع أن يقول: "أنا محبوب إذًا أنا موجود"، أو بشكل أبسط: "أنت موجود إذُا أنا موجود" (Tu ergo sum).

معرفة (connaissance) الحقيقة-الدعوة هي خبرة اعتراف (re-connaissance)، خبرة انخطاف، خبرة خروج من الذات (ex-tasis). أمام "حب الله المجنون" (eros manikon) الذي يتحدث عنه الآباء اليونان، الإنسان مدعو لكي يشهد لهبة الذات الدائمة التي يقوم بها الحق من خلال اعتراف وانخطاف وانجذاب في حضرة الحب الفائض المتجلي في هبة المسيح لذاته "ونحن بعد خطأة".

يقدم الفيلسوف الفينومينولوجي الفرنسي جان لوك ماريون إسهامًا هامًا في هذا الإطار عندما يبين أن خبرة الإنسان للواقع هي خبرة تتميز دومًا بالتواصل مع ما يتصف دومًا بطابع المجانية والهبة. ويعتبر ماريون أن وجود الشخص البشري غير ممكن دون هذه الهبة الأولية. ويعتبر ماريون أن هناك واقع جوهري في علاقة الإنسان بالحقيقة لا يستطيع أحد أن يتجاوزه: هناك شيء ما يُعطى لأحد ما. فالإنسان لا يظهر في المقام الأول كفاعل في فعل المعرفة، بل أكثر من ذلك بكثير، كغاية ومستقبل لهبة مجانية. ويبتكر ماريون تعريفًا جديدًا للإنسان "المعطى-إليه" (l’à-donné) (Cf. J.L. Marion, Dato che.  Saggio per una fenomenologia della donazione, Torino 2001).

أن يعي الإنسان ذاته يعني أن يعي أن هناك علاقة تكونه، وأن يعترف بهذه الهبة من خلال الاعتراف بذاته: أنا موجود بمقدار ما أنا معطى-إلى-ذاتي. إذا ما أعدنا النظر بالأنثروبولوجيا التي تقدمها لنا الفلسفة الحديثة نجدنا أمام أنثروبولوجيا مختلفة بالتمام: لسنا بصدد "أنا أفكر إذًا أن موجود" بل بصدد "هناك من يفكر بي، إذًا أنا موجود". ركيزة وجودي ليس وجودي أنا بل ذاك الذي يدعوني إلى الوجود، الله، ركيزة كل وجود الذي دعاني فكنت، ويدعوني فأكون.

الحقيقة المسيحية: دعوة إلى الإصغاء

(5)

يسوع هو الحق وفي الوقت عينه هو "حامل" حقيقة يعيشها في حميمية علاقته بالآب، حقيقة حب الله، وانفتاح الحب نحو المشاركة مع البشر. لا يجب "التفتيش" عن هذه الحقيقة بل يجب الإصغاء لها وقبولها والطاعة لها. "ما يريد الله قوله للإنسان من خلال المسيح لا يمكن وضعه في أطر محددة، لا في العالم بوجه عام، ولا في الإنسان بوجه خاص: فهو واقع لاهوتي، وتحديدًا هو لاهوتي-براغماتيكي" (H.U. Von Balthasar, Solo l’amore è credibile, Roma 2002, 7). إن الحقيقة التي هي شخص يسوع، والتي يفعلها يسوع والتي يحملها يسوع، تشكل انقطاعًا سرديًا في تاريخ الإنسان والكون، ولذا لا يستطيع الإنسان بأي شكل كان أن يستنتجها من الكون ولا أن يختزلها بجريان التاريخ. ما يجب عليه فعله هو أن يسمح لهذه الحقيقة أن تقوده إلى حدث "الله معنا" وإلى اللقاء مع هذه "الحقيقة-الحدث-الحب".

تظهر هنا جليًا أهمية المقاربة في فكر القديس يوحنا بين "الحقيقة" (aletheia) و "الإصغاء" (akouein). فيسوع يقول الحقيقة التي "سمعها" من الله: "إن الذي أرسلني هو حق، وما سمعته منه، أنا أقوله للعالم" (يو 8، 26؛ 15، 15)؛ "أنا أقول جميع ما علمني إياه الآب" (يو 8، 28)؛ ويقول يسوع الأمر نفسه بصدد روح الحق الذي "يتكلم من ذاته، بل يقول ما قد سمع" (يو 16، 13). والإنسان "الذي هو من الله، يسمع كلمات الله" (يو 8، 47).

لا يتحدث يوحنا البتة، بشكل ظاهر، عن وجوب إصغاء التلاميذ للحق، ولكن المقاربة بين مفهوم الحقيقة ومفهوم الكلمة يجعلنا ندرك أنه فقط من خلال الإصغاء النبيه لكلام المسيح يستطيع التلاميذ أن يؤمنوا: يجب عليهم أن يصغوا لكلمات يسوع (يو 5، 24؛ 8، 43)؛ وهذه الكلمات التي يصغون إليها، هي كلمات الآب الذي أرسل يسوع (يو 14، 24). من ناحية أخرى يقول يسوع: "من سمع لتعليم الآب وتعلم الحق، يأتي إليّ" (يو 6، 45).

وعليه فإن الوصول إلى الحق في فكر الإنجيلي يوحنا يتم بشكل خاص من خلال الإصغاء، وذلك بالرغم من الأهمية الخاصة التي يوليها الإنجيلي لفعل "النظر" وفعل "التطلع"، إلا أننا لا نجد أبدًا الربط بين الحق وهذه الأفعال: " blepein "، " theorein "، " theasthai "، " oran ". وهنا بالضبط نجد الفرق الشاسع بين الإيمان العبراني والمسيحي، وبين الفلسفة والتصوف الهيلينيين: فملء الخبرة الفلسفية اليونانية هو الثيوريا (theoria)، أي تأمل الحقائق الخفية؛ إلا أننا نجد أيضًا فرقًا شاسعًا بين الفكر الكتابي والفكر الحديث، فكر التمحص والتبحر المخبري، والفكر ما بعد الحديث، وبشكل خاص مفهوم الحقيقة بالنسبة لوسائل الإعلام المرئي والمسموع، حيث يتم التركيز بشكل خاص على النظر الظاهري، في إطار يمكننا تسميته "ديكتاتورية النسبوية التوافقية". بينما النظرة البيبلية، وملء الخبرة الدينية في هذه الحياة الأرضية هو الإصغاء (إصغاء الإيمان: auditus fidei) الذي يتحدث عنه بولس في روم 10، 17: الإيمان من السماع (he pistis ex akoes) من سماع التبشير بالمسيح.

وهذا الاستشهاد البولسي ليس الوحيد في هذا الإطار، فبولس يوضح أن رؤية الإيمان في هذه الحياة هي "كما في مرآة" (1 كور 13، 12)، فنحن "نسير بالإيمان، لا بالعيان" (2 كور 5، 7)، ومسيرتنا نحو رؤية أكمل، نحو معرفة أكمل نحو ما يعرف بـ "الرئية الطوباوية" في السماوات (visio beata). على المسيحيين، إذا ما أرادوا الولوج في حميمية الحقيقة الإلهية أن يصغوا "لكلام الحق، إنجيل خلاصهم" (أف 1، 13؛ راجع أيضًا كول 1، 5). ويستنكر الرسول موقف من "يرفض الإصغاء للحق ويميل سمعه للخرافات" (2 تيم 4، 4).

هذا وتتحدث رسالة بطرس الأولى عن "الطاعة للحق": "من خلال طاعتكم للحق (en te hupakoe tes aletheias) قدسوا نفوسكم" (1 بط 1، 22)، دون أن ننسى أن يسوع نفسه، في ظهوره لتوما يعلن: "طوبى للذين لم يروني وآمنوا" (راجع يو 20، 29).

نرى إذًا أن الحقيقة المسيحية تدعو الإنسان الحديث والمعاصر إلى إعادة النظر في شروط قبوله للإيمان. فإذا ما بقي متشبثًا بأطر الفحوصات المخبرية والبراهين المرئية والبحتة ضيع إمكانية إدراك حقيقة تتوجه لا إلى العقل المخبري وحده بل إلى كيان الإنسان بأسره، حقيقة لا عقلية بل أكثر من ذلك، حقيقة شخصية، شخصانية، وجودية وخلاصية.

 

الحقيقة المسيحية: دعوة إلى الحرية والعمل

(6)

 الحقيقة التي يقدمها لنا الوحي المسيحي هي "شخص" و "حدث"؛ حدث يدعو الإله المثلث الأقانيم البشريةَ للاشتراك فيه. وبالتالي فالإيمان المسيحي والحقيقة المسيحية لا يمكن اختزالها بسلسلة من العقائد والأفكار والتراكيب النظرية، بل هي فعل "آمين"، فعل قبول وثقة وتقبّل يقوم به الإنسان جوابًا على "آمين" و "نعم" الله في يسوع المسيح. الحقيقة المسيحية هي مشروع شخصاني لا يتوجه إلى عقلنا فقط، بل أيضًا إلى إرادتنا، إلى مخيلتنا، إلى عواطفنا. وللدخول في تواصل غير مجزوء مع هذه الحقيقة، لا بد من تخطي نظرة العقل المحدود في أطر المنطق الحسابي.

لقد لاحظ اللاهوتي السويسري الكبير هانس أورس فون بالتازار أن تعريف الحقيقة كـ "مطابقة العقل والواقع" (veritas est adaequatio intellectus ad rem) (راجع الخلاصة اللاهوتية، 1، المسألة 16) الذي تقدمه الفلسفة المدرسية متأثرة بفكر أرسطو هي صحيحة في الإطار المبدأي، ولكنها لا تعطي الحقيقة حقها إذ تحصر اعتبارها لـ "البعد النظري للحقيقة" وتتجاهل البعد الشخصاني واشتراك الحرية والإرادة. في هذا التعريف للحقيقة يتم تسليط الضوء على الرباط بين "الحق والخير، كصفات متسامية للكائن، ولكن فقط في وجهة نظر أنتروبولوجية تعتبر تواجد العقل والإرادة جنبًا إلى جنب، بدل أن تعتبرهما بتداخلهما الصميم الواحد في الأخرى، لا بل بتماثلهما الحقيقي" (H.U. von Balthasar, “Teologia e santità”, in Verbum Caro. Saggi teologici, I, Milano 2005, 193).

بكلمات أخرى، يعتبر التعريف المذكور أعلاه "الحقيقة" بمعزل عن الواقع المعاش وعن إرادة الشخص البشري اللذين يلعبان دورًا أساسيًا في فعل القبول العقلاني لواقع الإيمان-الدعوة. فليس هو الجهل وحده الذي يمنعنا عن عيش الحقيقة – كما كان يعتقد سقراط – بل أيضًا المناطق الداكنة في كياننا، وعدم جهوزيتنا، وخطيئتنا.

بكلمات مبسطة يمكننا أن نفهم من اعتبار بالتازار أن المطابقة " adaequatio" قبل أن تكون عقلية هي مطابقة وجودية، شخصانية وأخلاقية. مقاربة الحقيقة المسيحية هي أمر مستحيل بمعزل عن انفتاحي الوجودي على الحدث المسيحي.

تجد قراءة بالتازار هذه مصادقة بيبلية في إنجيل يوحنا من خلال الثنائي المترابط "الحق-الحرية": يقول يسوع: "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8، 32). كما ويحوز مفهوم الحقيقة توضيحًا جزيلاً عبر المقاربة الهامة بين "الحقيقة" و "العمل" حيث يتحدث يسوع عن "عمل الحق" (poiein ten aletheian) و "المجيء إلى الحق" ( راجع يو 3؛ 1 يو 1، 6). يشرح يوحنا "فعل الحق" كقبول للإيمان بيسوع. وبعد أن يصرح بأن "النعمة والحق أتيا مع يسوع المسيح" (يو 1، 17)، يوضح يسوع الموقف الذي يتوجب على المرء أن يعيشه في حضرة الحقيقة (راجع يو 3، 21).

فعل الحق هو الشرط الأساسي للأدبيات المسيحية بحسب القديس يوحنا الإنجيلي. ففعل الحق لا يؤدي فقط إلى إصلاح وجودي فردي بل إلى إصلاح العالم، وهذا هو البعد الثوري للإنجيل الذي هو خميرة تغير وجه العالم. ومن هنا ندرك أن "الحقيقة" مرتبطة بـ "العمل، و "الإيمان القويم" (orto-dossia) يرتبط بشكل وثيق بـ "العمل القويم" (orto-prassi)، لأن الحقيقة المسيحية هي حقيقة "تُطبَّق" ولا "تُعرَف" وحسب.

الإنسان الذي يلتقي بحقيقة الله يتلقى الدعوة لعمل الحق (يو 3، 21) أي أن يلتزم بحريته وأن يسير بتدرج نحو الإيمان. وحده من يعمل الحق يتوصل إلى "معرفة الحق" (2 يو 1): هذه المعرفة هي نعمة تأتي من الله الآب ومن يسوع المسيح ابن الآب (2 يو 3). ومن ثم هذه المعرفة تجعل التلميذ "خاصة الحق"، فيعيش نوعًا من تواجد طبيعي مع الحقيقة التي تقيم فيه: هذه الحقيقة تجعله يصغي بطواعية لصوت يسوع (يو 18، 37) ويعيش المحبة نحو الإخوة (1 يو 3، 18 – 19) لأن الإقامة في الحق يجب أن يُترجم عمليًا في أعمال الحق (1 يو 3، 18).

خلاصة القول: يمكننا أن نقول أنه في العمل، في الاختبار الملموس، في عيش الحياة الداخلية بشكل متكامل، يدخل الله في حياة الإنسان ويعرف الإنسان حقيقة الله: لأن "العمل" هو "الوعاء الوحيد الذي يستطيع أن يستوعب هبة حقيقة الوحي الفائقة الطبيعة، التي تتوق إليها الإرادة، والتي يهبها الله للإنسان. وفقط عندما نعمل بهذه الحقيقة نكتشفها (راجع: R. Aubert, Le problème de l’acte de foi. Données traditionnelles et résultats des controverses récentes, Louvain 1950, 281).

يحتل في هذا الإطار أهمية كبرى تفكير وعمل الفيلسوف الفرنسي المسيحي موريس بلوندل (Blondel) الذي يصرح بأن الإيمان الحق هو أكثر من العيش بحسب معرفة زائدة لا يملكها من لا يؤمن. ليس الارتداد بحسب نظرة بلوندل نوعًا من "الاقتناع العقلي بامتياز العقيدة" بل هو "السماح للحياة الجديدة أن تجري في عروقنا، هذه الحياة التي هي أسمى من حياتنا؛ ومن خلال موقف تواضعنا هذا أن نجذب الله إلى داخلنا" (Ibid., 287).

بعد أن استعرضنا بشكل مقتضب مختلف أوجه الحقيقة المسيحية، سنتوقف في الأقسام التالية من دراستنا على "الحواس" البشرية التي تمكننا أن نتقرب بشكل أفضل من الحقيقة بحسب المفهوم الذي عرضناه.

المعرفة ما بعد المنطقية. بليز باسكال: الشعور وبراهين القلب

 (7)

 "هذا هو سري. إنه بسيط جدًا: وحده القلب يجيد النظر. فالأمور الجوهرية تخفى على العيون" (أنطوان دو سانت أكزوربري، الأمير الصغير).

بعد أن اعتبرنا أبعاد الحقيقة في المفهوم المسيحي لا يصعب علينا أن ندرك أن العقل الحسابي وحده لا يكفي. يكفي أن نفكر بواقع الحب البشري لندرك أن عقلنا وحده ليس كافيًا لكي ندرك هذا الواقع الملموس الذي نعيشه: واقع الحب؛ بين الأم وابنها، بين الرجل والمرأة، بين الأصدقاء، نحو الطبيعة، نحو الفن…

والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يستطيع الإنسان أن يتوصل إلى معرفة كافية للوقائع التي تتجاوز طبيعيًا قدرات العقل وحده؟ كيف يمكننا أن نتخطى العقلية لندرك العقلانية دون أن نضحي لا عقلانيين؟

الجواب يأتينا من مفكرين هامين حاولا على مدى حياتهما أن يجدا جوابًا على هذا السؤال: الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (Blaise Pascal)، وجون هنري نيومان (John Henry Newman)، الإنكليزي المرتد عن الطائفة الأنغليكانية إلى الكاثوليكية.

باسكال: الشعور (sentiment) وبراهين القلب (raisons du cœur)

 

لقد كان الرياضي والمفكر بليز باسكال نبويًا في اكتشافه أن الطريقة الرياضية التي أضحت مشهورة بفضل ديكارت لا يتنطبق على أطر الخبرة الشخصية، على الماورائيات وعلى الإيمان، لأن هذه الوقائع تعنى بأمور تتجاوز إدراك العقل. واكتشف باسكال أن هناك "حواس" أخرى للوصول إلى معرفة وافية في هذه الحقول.

حقيقة الإيمان يدركها الإنسان عبر القلب، لأنها حقائق يدرك منطق وبرهان القلب، وللقلب براهين لا يدركها العقل، وهو أمر نخبره في آلاف الأشياء (Pensées, 477). بالنسبة لباسكال: "القلب هو الذي يشعر بالله لا العقل. وهذا هو الإيمان: الله حساس أكثر نحو القلب، لا نحو العقل" (Pensées, 481).

ولكي يوضح بشكل أفضل "براهين القلب"، يتساءل باسكال بنوع من سخرية: "ألعلك تبدأ بمحبة ذاتك انطلاقًا من عقلك؟" (المرجع نفسه، 447).

 من خلال هذا التمييز بين قدرات العقل وقدرات القلب، يحاول باسكال أن يتخطى سبلاً مقطوعة أدخل فيها ديكارت الفلسفة والفكر: مذهب العقلية، مذهب النفعية، والفلسفة المنفصلة. ويحاول في الوقت عينه أن يقدم هيكلية أنتروبولوجيا متكاملة (راجع M. Leclerc, La destinée humaine. Pour un discernement philosophique, Namur 1993).

بحسب باسكال لا يمكن فصل التفكير عن الخبرة الحياتية، فالمعرفة العقلية الحقة هي ربط وثيق بين العيش والتفكير، بين العقل والقلب، بين شعور القلب وإدراك العقل؛ وفي هذا الإطار، يقدم باسكال تمييزًا هامًا آخر: بين "روح الإبداع" (esprit de finesse) و "روح الرياضيات" (esprit de géométrie). فروح الإبداع هو روح جمالي حساس لا يستعرض الوقائع انطلاقًا من نفعيتها، بل يقف أمامها بموقف مجانية يسمح لها بأن تكون وبأن تزهر. نجد في هذا الإطار خبرة الحب، خبرة الإيمان، خبرة الصداقة، خبرة الذوق الجمالي والفني. إنها خبرة الإيمان الذي يصفه اللاهوتي الكندي برنارد لونرغان بـ "المعرفة التي تولد من الحب الديني". فبراهين القلب هي "تجاوب قصدي مع القيم"، وهي مرحلة من مراحل الاعتراف بالقيم التي تذهب أبعد من العقل النفعي والمخبري. العقل يستطيع فقط أن يتعرف على القيم، وحده القلب يتوصل إلى الاعتراف بها، بما في ذلك "قيمة" الآخر المتسامي، والدخول في إطار العشق الإلهي الذي هو إطار معرفة يتوصل إليه المرء من خلال تمييز القيم في الحب.

هذا ويدرك باسكال أيضًا أن معرفة الله، إضافة إلى كونها خبرة حب هي أيضًا هبة مجانية من الله. وحده الله يسمح للإنسان أن يتعرف عليه. ولذا يعتبر باسكال أن الإنسان يبدأ بالتفتيش عن الله فقد عندما يكون الله قد وجده (إذا جاز التعبير!). يقول باسكال على لسان المسيح: "ما كنتَ لتبحث عني لو لم أكن قد وجدتُك". وفي مكان آخر: "الإيمان هو هبة من الله. لا تظنوا أننا نقول بأن الإيمان هو هبة التفكير!" (480 Pensées, ).

 

الشعور

هذا ويتحدث باسكال أيضًا عن "الشعور"، ويصرح بأن "كل تفكيرنا يصل إلى غايته عندما نفسح المجال للشعور" (Pensées, 474). من الأهمية بمكان هنا أن نفهم ما يعنيه باسكال بكلمة شعور، مخافة أن نسيء فهم فلسفته وفكره إذا ما خلطنا بين "الشعور" والأحاسيس العابرة والمتقلبة.

الشعور بالنسبة له هو واقع حدسي، مباشر، وليس واقعًا إنعكاسيًا. الشعور ليس الحس، بل هو نقطة انطلاق لما يمكننا أن نسميه أيضًا أسس العلوم الحسابية. فالإنسان يدرك من خلال شعوره مباشرة ودون تفكير تحليلي أو انعكاسي مبادئ الرياضيات، ولا يحتاج لبراهين أخرى إضافية. مبادئ الرياضيات تحمل براهينها بحد ذاتها ولا يمكن إدراكها بطريقة تحليلية ثانوية. لا يمكننا أن نحلل 1 + 1 = 2. بل متى ما أدرك العقل هذا الأمر، لا يستطيع إلا أن يقر به. والأمر كذلك بالنسبة لمجموع زوايا المثلث المساوي 180 درجة. متى ما أدرك العقل ذلك، لا يستطيع أن يتوصل إلى براهين أخرى…

ويتابع باسكال التفكير: "للقلب أحكامه، تمامًا كما أن للعقل أحكامه؛ وهذا الأخير يعمل انطلاقًا من مبادئ وبراهين" (Pensées, 72). أما الشعور فهو يدرك الكلية، الغشطالط الذي تحدثنا عنه في مقالة سابقة. العقل لا يستطيع أن يستوعب في مفهوم واحد مكنونات وإدراكات الشعور، أما هذا الأخير فهو يستطيع أن يدرك الوقائع بنظرة شاملة (voir d’une vue) (راجع: Pensées, 23).

الشعور هو الحدس الكلي، هو ما يسميه لونرغان (insight)، الذي يسمح للمرء أن يصل إلى الوقائع بشكل فوري، بديهي، علمًا بأن كلية الوقائع هي دائمًا أكثر من مجموع الوقائع المفردة!

هذا ويجب أن نقرّ بأن الإدراك الشعوري، وأن براهين القلب تتأثر بالواقع الثقافي والحضاري الذي يعيش فيه الإنسان، الأمر الذي يضطرنا إلى الحديث عن "المخيلة الشخصية" (المختلفة عن الخيال)، وعن الاستعدادات السابقة، عن الفسحات الداكنة في القلب البشري حيث تتم الخيارات، وحيث يكون الإنسان إما منفتحًا وإما منغلقًا. وفي هذا المجال، يشكل فكر جون هنري نيومان دليلًا أكيدًا.

 

المعرفة ما بعد المنطقية. جون هنري نيومان: الإيمان والاستعداد المسبق

 (8)

 بعد أن تطرقنا بشكل مقتضب إلى وجهة نظر باسكال حول موضوع علاقة العقل بالإيمان، وحول ضرورة انفتاح العقل على أبعاد أخرى في الكائن البشري، ننتقل الآن إلى استعراض الإسهام المبدع الذي يقدمه جون هنري نيومان، المفكر والفيلسوف والمؤمن الإنكليزي الذي ارتد من الأنغليكانية إلى الكاثوليكية، والذي كان من أبرز المناهضين لما عرف بدائرة أكاديمي أكسفورد في القرن التاسع عشر، وهي دائرة اشتهرت بفلسفتها البرغماتية ومذهبها العقلي المتطرف.

 نيومان: الإستعداد المسبق، البراهين الباطنة والمخيلة

أولاً: الإيمان والاستعداد المسبق

 في قصيدة تحمل عنوان "الدهر الآتي" (The age to come)، كتبها في 9 يونيو 1833 في بالرمو في جزيرة صقلية، يتحدث نيومان عن الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان بالنسبة للحقيقة:

 عندما أبحث عن الحقائق التي تتقد في باطني

وأسعى إلى صياغتها مبادئ وبراهين،

يصرخ آلاف المفكرين، – "أنى لك أن تتعلم

أن هذه الأحلام قد تبددت الآن، وأن تلك النيران قد

خمدت؟"

 هذه السطور الأولى من القصيدة تعبر عن الحرب الداخلية التي يعيشها الإنسان، عن حقيقة تتقد في قلب الإنسان، ولكن هذا القلب، في الوقت عينه، يتضمن أصوات التشتت التي تزعم بكبرياء: "هذه النيران قد خمدت". ويضيف نيومان بخيبة في ما بعد في القصيدة: "إنها القصة القديمة – الحقيقة مشردة لا منزل لها" (\’Tis the old history—Truth without a home)، ولكن في ما بعد يصرح برجاء بأن هذه الحقيقة ستنهض من القبر وأنها ستنال بيتًا: "تُحتقر  وتذبح، ثم تنهض من القبر" (Despised and slain, then rising from the tomb).

للشخص البشري استعدادات تستطيع إما أن تعرقل أو أن تفتح استعداداته الإيمانية. ليست البراهين الظاهرة هي التي تسمح للإنسان أن يؤمن أو ألا يؤمن. "العقل، في موضوع الإيمان، ليس خصبًا ما لم يتم توجيهه جيدًا، وهذا الأمر يتطلب من الأشخاص أن يصغوا لضميرهم وأن يتمتعوا بحس السر والرهبة" (M.P. Gallagher, “Newman: Sulla disposizione per la fede”, in La Civiltà Cattolica 1 (2001), 453). كبرياء العقل يعتم عيون القلب ويعرقل الاستعداد المسبق لقبول الإنجيل.

يربط نيومان حقيقة الإيمان الموضوعية بالحس وبالمعطيات الشخصانية والذاتية التي تجعل الإيمان ممكنًا أو غير ممكن في حياة كل شخص. ويشدد أنه علينا أن نعطي حق الانتباه للديناميات الحيوية في العقل والقلب في سعيهما إلى عبور عتبة الإيمان. فإذا ما سيطر العقل على الحقيقة، تعرضت الوقائع التي تتخطى المنطق في وجودنا البشري إلى خطر النسيان والكبت. "لا يتم الوصول إلى القلب من خلال العقل بل من خلال المخيلة. نحن نخضع لتأثير الأشخاص، الأصوات، الملامح، البراهين البشرية. فالإنسان ليس حيوانًا محللاً؛ بل حيوانًا يرى، ويشعر، ويتأمل ويفعل".

إن تعريف بويتسيوس للشخص: "الشخص هو جوهر فردي طبيعي وعقلي" (Boezio, De duabus naturis et una persona Christi, c. 3 ; PL 64, 1345) ليس كافيًا، فنحن لسنا طبيعة عاقلة وحسب، بل طبيعة شاعرة، ومتخيلة واجتماعية… ويجب أن نعتبر مجمل هذه الأمور عندما نسعى لفهم استعداد الإنسان المسبق للإيمان. وغالب الأحيان، إذا ما أردنا أن ندرك البعد "الشخصاني" للأمور، يتوجب علينا أن نقوم بما يسميه الفيلسوف الدانمركي سورين كيركيغارد "أضحية العقل"، لأنه إذا ما تحجرنا في العقل وحده، لا نعمل أو نختبر شيئًا، وإذا لم نعمل ونختبر لا نستطيع أن نفهم ما لا يُفهم إلا في الحياة والعمل!

يستعيد نيومان الرباط العظيم بين العقل والحس الخلقي (moral feeling) الذي تناساه وأهمله التيار العقلي. من المرجح أن تكون قد أثرت في نيومان خبرة الجدل مع أخيه الأصغر الذي كان قد أعلن إلحاده، وأراد جون هنري أن يرده إلى الإيمان، وبعد جدال حاد وطويل وعقيم كتب نيومان إلى أخيه: "لست في حالة عقلية تؤهلك أن تصغي إلى أي برهان كان […] فالبرهان الداخلي يعتمد بشكل كبير على الحس الخلقي. ورفض الإيمان يأتي من مشكلة في القلب لا في العقل".

هناك عادات سابقة (previous habits) تؤثر في نظرتنا إلى الحقائق الدينية والأخلاقية. يتأثر الإيمان بالمفاهيم المسبقة، وبالاستعدادات المسبقة وبالأحكام المسبقة، ولهذا فالعلامات الخارجية تضحي أقل أهمية من براهين وعلامات القلب. مع الاستعدادات المناسبة يضحي الإيمان أسهل، بمعزل عن هذه الاستعدادات يضحي صعبًا وشبه مستحيل. فالبراهين الفضلى تكمن في داخلنا، والسبل الخمس التومائية العقلية لإدراك وجود الله تقنعنا بقدر ما نكون مقتنعين بشكل مسبق من خلال مفاهيمنا وأحكامنا السابقة. وكل ذلك لأن نوعية الإصغاء هي ذات أهمية قصوى، فمن كانت عنده أحكام مسبقة ينظر دون أن يرى، ويسمع دون أن يدرك.

يسعى نيومان بالتالي إلى إقامة عقلانية مغايرة. عقلانية مختلفة تتضمن الشخص البشري بكليته. بحثًا عن براهين الإيمان تتضمن التاريخ الشخصي لأن هذا الأخير هو من ضمن العوامل التي تؤهل الإنسان للإيمان أو إلى عدم الإيمان.

"البراهين الحقة" (real reasons) بحسب نيومان هي الشخص بكليته، بنوعية عيشه، بأفعاله. وركيزة الإيمان تكمن في نوعية حضورنا مع ذواتنا ومع الآخرين. فعندما يكون القلب حيًا عندها يستطيع أن ينفتح على الإيمان.

بالحديث عن "الاستعدادات السابقة"، يسلط نيومان الضوء على أهمية "مستوى البحث" والنقطة التي يختارها المرء لينظر إلى لوحة حياته ووجوده. فإذا لم أنظر إلى حياتي ووجودي من الزاوية المناسبة، عبثًا أحاول التوصل إلى رؤية إيمانية واضحة. فمشاكل الإيمان هي في أغلب الأحيان إنغلاق قلبي لا عقلي، وبالتالي هناك حاجة إلى استعدادات وأحكام صائبة، لأن "الجهوزية هي كل شيء" ((“the readiness is all” Cf. Shakespeare, Hamlet, act 5, scene 2).

من الأهمية بمكان أن نلحظ أن مسألة الاستعداد السابق ليست جديدة عند نيومان، وليست من ابتكاره، بل من المرجح أن يكون قد استوحاها وثبتها انطلاقًا من آباء الكنيسة الشرقيين الذين كانوا يولون أهمية خاصة لـ "حالة" القلب ولانتباهه المستمر لما يعرف بـ " katastasis " (T. Špidlík, La spiritualità dell’Oriente cristiano. Manuale sistematico, Cinisello Balsamo 1995, 320)

 

 

المعرفة ما بعد المنطقية. جون هنري نيومان: الإيمان والبراهين الباطنة

(9)

ثانيًا: الإيمان والبراهين الباطنة

 

نجدنا الآن عند منعطف طرق آخر في فكر نيومان، حيث يعرض التوتر القطبي بين البراهين الباطنة والبراهين الظاهرة. ويبين لنا أن الإنسان يدرك باطنيًا أكثر بكثير من قدرته على التعبير الكلامي.

من يؤمن يملك براهينه الكافية للإيمان، ولكن هذه البراهين لا يمكن التعبير عنها دومًا: "الإيمان لا يستطيع أن يقوم دون براهين أو دون موضوع؛ ولكن هذا لا يعني أن جميع الذين يؤمنون يجب عليهم أن يتعرفوا وأن يكونوا قادرين على عرض ما يؤمنوا به ودوافع هذا الإيمان". فدوافع الإيمان الحقة لا يمكن الكلام عنها وإيضاحها بسهولة. واللاهوت مدعو هنا إلى التواضع لأنه بصدد موجة لا يمكننا أن نلتقط ذبذباتها بسهولة وأن نتحدث عنها ببلاغة لا تخلو من الكبرياء. البراهين ليست فقط ظاهرة ونظرية، بل أيضًا باطنة، وتتعلق أكثر بـ "من أنا" (الكيان) منه بـ "ما أفكر" (الفكر). يتحدث نيومان عن "احتماليات سابقة" (antecedent probabilities)، وهي عبارة عن حالات نفسية ومواقف وجودية تؤثر على نوعية إيماني. يدور في باطن الشخص نوع من "تفكير ضمني" (tacit reasoning) يسبق التفكير التحليلي.

يصف نيومان تصرف العقل الغرائزي في التفكير مقدمًا مثل متسلق الجبال بأسلوب فينومينولوجي (ظواهري) بديع:

"يتنقل من مَيل إلى آخر، يتمدد ويتقدم بسرعة يُضرب بها المثل، ببراعة وخفة لا يستطيع تقصيها أي بحث. ينتقل من نقطة إلى أخرى، ويجد إشارة هنا؛ ويتقدم هناك مرتكزًا على احتمال؛ ومن ثم يعتمد على تخاطر ما؛ ثم يرتكز على قانون متعارف عليه؛ ليعود فيرتكز على شهادة ما؛ ويثق بحدس شعبي، بغريزة داخلية، أو بذكرى بعيدة؛ وبهذا الشكل يتقدم بشكل لا يختلف عن متسلق يرتقي قمة شاهقة ووعرة، بعين نبيهة، ويد مستعدة وقدم ثابتة، يتسلق بطريقة يجهلها هو بالذات، معتمدًا على معارف شخصية وعلى خبرة ماضية، أكثر من اعتماده على قواعد، ودون أن يترك وراءه أثرًا، ودون أن يستطيع أن يعلم الآخرين. لا نبالغ إذا قلنا أن الخطوات التي يرتقي من خلالها العباقرة العظام إلى قمم الحقيقة، هي بالنسبة للناس عامة خطوات غير أكيدة ومتقلقلة، تمامًا مثل تسلق خبير لصخرة وعرة…"

من خلال هذه العبارة الأخيرة، يبين لنا نيومان أن الإيمان هو فعل شجاعة، تمامًا مثل الرجاء الذي هو بنهاية المطاف ثقة بمنطق أرفع وأدقّ من المنطق العادي، بمنطق يتخطى المنطق، ثقة بذلك الحب الذي يستبق الحدس والحس، ويوجهه ويتخطاه.

حياة الإيمان هي فنّ، ونيومان يسعى إلى تأسيس فينومينولوجية حدسية منفتحة لكي يضع أسس إيمان عقلاني (reasonable) يتجاوز العقلية (rationalism).

العقل الباطن هو عمليًا نوع من الغريزة التي تسمح للإنسان أن يتقدم في سبل الفهم المسبق والافتراض المسبق. وهذا النوع من العقلانية ليس أمرًا فريدًا يختلف عن سائر البراهين غير-المنطقية وغير-التجريبية. فمعتقداتنا اليومية العادية، مثل "غدًا ستشرق الشمس" أو "الصيف حار" أو "امرأتي تحبني"، لا تعتمد على "برهان" يستخلص أو يستنتج، ومع ذلك، لا نعتبر هذه الخلاصات لاعقلانية وخالية من المعنى، بالرغم من أن فلسفة عصر التنوير تعتبر كل هذه الاعتبارات لاعقلانية" (I. Ker, The achievement of John Henry Newman, Notre Dame 1990, 46-47).

يريد نيومان أن يبين أن هناك عدة أشكال من التحليل والبرهان، وما يظهر أحيانًا كـ "لا-عقلي" ليس بالضرورة "لا-عقلاني"، لأن "العقلاني" يتجاوز بكثير ما توحي به كلمة "عقل".

يقول نيومان: "يبدو الإيمان وكأنه نقيض العقل، ولكنه ليس كذلك؛ هو فقط مستقل ومتمايز عما يمكننا تسميته التقصي الفلسفي، والأنظمة النظرية، وتسلسل البراهين، وما شابه ذلك". ويستخلص القول: "إن انتصارات العبقرية الكبرى والجديرة بالذكر […] تمت من خلال استعمال أسلحة خفية، أي من خلال فكر غامض ومعقد اضطرت العامة أن تقبله على ثقة، إلى أن برهنت الأحداث والوقائع عنه".

هذا ويقدم نيومان تشبيهًا آخر ليوضح فكرته، فيلفت الفكر إلى القائد العسكري الميداني الذي بواسطة "حنكة فائقة الطبيعة" يفطن مؤهلات حلفائه وأعدائه، وتحركاتهم، ومخططاتهم ويعرف كيف يجب أن يتصرف؛ ولكن إذا ما طُلب إليه أن يكتب بشكل واضح ومنقح الخلاصات التي يتوصل إليها لعجز عن ذلك، ولتمّ اعتبار حنكته كمرادف للاعقلية واللامنطقية. ويستخلص نيومان: "بشكل مماثل، الإيمان هو عمل عقلي يمكننا أن نرى فيه الكثير من ظواهر الاستدلال والاستنتاج التي لا يمكن البرهان عنها، وهي موجودة في طبع العقل بالذات، في نظرته العامة إلى الأمور، في ترجيحه للإمكانيات وللمستحيلات، في انطباعاته حول إرادة الله وفي استباقاته النابعة من الرغبات الباطنة، التي يمكن أن تبدو للعالم وكأنها لاعقلانية ودنيئة".

كجواب على سؤال المذهب العقلي الحديث: "إذا ما خرجنا من العقلية، ألا نضحي غير قادرين على التواصل؟" يبدو وكأن نيومان يجيب بواقعية شخصانية: إذا لم نخرج من العقلية المحدودة لن نتمكن من الانفتاح على ألوان العقلانية العديدة، ولن ندرك غنى الحواس البشرية، ونقع بالتالي في فخ ألا نتحدث عن الإنسان، بل عن عقلية مجردة لا تمت إلى الإنسان بصلة. ليس المنطقية هي من تستحق الإيمان بل مسيرة الإنسان.

يعلمنا نيومان أنه من المستحيل أن نبرهن بطريقة حسابية عن وجود وحضور البعد الفائق الطبيعة لأن الإيمان هو هبة مجانية، وما من برهان يستطيع أن يستخلصه بالكلية. فلو كان الإيمان نتيجة جدل نظري، لبات ثمرة طبيعية لجهد بشري ولم يعد هبة مجانية من الله. هناك حاسة في الإنسان هي حساسة على الإيمان أكثر من العقل، وهي المخيلة، وفي المقالة التالية سنستعرض ماهيتها في فكر نيومان.

 

المعرفة ما بعد المنطقية. جون هنري نيومان: الإيمان والمخيلة

(10)

ثالثًا: الإيمان والمخيلة (المُصَوِّرَة)

كل إنسان يملك في داخله نوعًا من "قصيدة خفية"، منطقة خيال لا يعرفها أحد، ولا حتى الإنسان بالذات. المخيلة هي منطقة يتلاقى فيها الإيمان الديني (pistis) والفنية الخلاقة (poesis)، والنطاق الذي يحركه البعد الخلاق في الإنسان هو نطاق حساس جدًا يحتاجه الدين ولكن غالبًا ما لا يستطيع التوصل إليه. يقول الأب اليسوعي مايكل بول غالاغر في هذا الصدد: "الإيمان بالذات هو أسلوب يمنحه الله للإنسان لكي يتصور وجوده – ليس حقيقة باردة، لا يسهل إدراكها أو وضعها في مفاهيم عقلية" (Gallagher, M.P., Dive deeper.  The human poetry of faith, London 2001, 6).

بعد مرحلة أولى من التحفظ نحو المخيلة – تحفظ ورثه عن آباء الكنيسة الذين كانوا يعتبرون المخيلة كحاسة الوهم التي تتربص بالفكر وعلى المدى البعد تتغلب عليه (Gallagher, M.P., “Fede e immaginazione nel pensiero di J. H. Newman”, Rassenga di Teologia, 42 (2001),653) – توصل إلى أن يرى في المخيلة (أو المصورة)، مع قوتها المُفَعّلة والخلاقة، حليفًا افتراضيًا هامًا للإيمان. بامكان المخيلة أن تكون مفتاح الدخول إلى الإيمان لأنها تستطيع أن تلعب دورًا كبيرًا في معرفتية (أبيستيمولوجيا) اليقين الفاعلي (Certitude).

يعتبر نيومان المخيلة بطريقة موسعة وبشكل إيجابي في مؤلفه الشهير "Essay on aid of a Grammar of Assent" (مقالة في قواعد القبول [بحقائق الإيمان]) حيث يستعمل كمرادفات كلمات القبول الواقعي (real assent) والقبول الصوري (imaginative assent). ويبين نيومان الرباط القائم بين الخبرة والصور؛ فكلاهما يفتحان الباب – بطريقة تستحيل على التجريد – لأبعاد ملموسة، "شخصانية" و "واقعية". فبالنسبة للقبول الحقيقي (لا النظري فقط)، من الضروري أن تميز المصوّرة الحقيقة، وأن ترتكز عليها وأن تعتنقها.

المخيلة الدينية هي حاسة "الممكن" القادرة على إدراك "الحقيقة بشكل حياتي" لأن حقائق الله "تعيش في المصوّرة". المصوّرة هي حاسة أساسية للوصول إلى القلب ولتحريك خياراته، وهي أخيرًا نبع الالتزام والعمل. المصورة هي في الآن نفسه حاسة "تخليقية وخلاقة، بمعنى أنها قادرة أن تفسر معطيات الخبرة الشخصية وأن تولد الخيارات".

إن تغيرات حالات قلبنا الروحي تتولد انطلاقًا من المصوّرة لا العقل، وبالتالي، بمعزل عن ارتداد المصورة لا يستطيع الشخص التوصل إلى توبة تصرفاتية وأخلاقية حقة. المخيلة هي الجزء الحدسي في كياننا حيث نتوصل إلى إدراك الوقائع بواسطة الحدس (insight).

في المصورة نعيش واقعًا إدراكيًا مغايرًا وبديلاً. ونيومان، الذي يميز بين القبول النظري والقبول الواقعي، يربط هذا الأخير بالمصورة التي ليست حاسة اللاعقلاني أو الوهمي، ولكنها أيضًا "حاسة مكثِّفة وموحدة تجعلنا قادرين أن نقوم بقبول قلبي، و ‘مُحِدّ‘، و ‘واقعي‘ – ‘كما لو كنا نعاين معاينة‘. بكلمات أخرى نضحي مقتنعين" (J. Coulson, Religion and Imagination. “In aid of a grammar of assent”, Oxford 1981, 53).

"في دراما الحياة المظلم نصل إلى حقيقة الإيمان بعون الصور والمصوّرة الضروري" (M.P. Gallagher, “Fede e immaginazione nel pensiero di J. H. Newman”, art. cit., 658)، لأنه دون المخيلة يبقى الروح البشري أعمى في حضور حقيقة الأمور، ولأن الإنسان كائن روائي، وهي الصور ما يغير حياة البشر لا الأفكار.

هناك معرفة روحية تمر عبر الحواس وتجعلنا نتواصل  من جديد مع عواطفنا، والمصورة هي الحاسة التي تعمل من خلالها الحواس الروحية التي يتحدث عنها آباء الكنيسة والمتصوفون.

المصورة أكثر انفتاحًا من العقل الأدائي والانتاجي عندما يتعلق الأمر بالمعرفة الحقة التي ليست أبدًا معرفة نظرية أو مجردة، بل وجودية ودراماتيكية. إنها حركة تستحثنا وتدخلنا في إطارها.

المصورة لها دور "عملي" لأنها تحرك الاستعدادات الداخلية، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نقول بأن يسوع إنما جاء إلى الأرض لكي يشفي مصورتنا، لكي ينقي ويصحح صورتنا عن الله. من خلال شفائه لمخيلتنا (مصورتنا)، يكشف لنا يسوع واقع وجودنا الباطن ويقودنا إلى عمقنا الحق (depth). ذلك العمق الذي يسميه تاوليروس، تلميذ المتصوف الريناني مايستر إيكارت – "عمق النفس" وهو ما يؤهلنا للانفتاح لقبول الإيمان؛ وبهذا المعنى تحدثنا أعلاه عن الترادف بين القبول الواقعي والقبول الصوري، لأنه "عندما نعاني من سوء تغذية في صورتنا عن ذاتنا، نضحي غير قادرين على تصور الله" (M.P. Gallagher, Dive deeper.  The human poetry of faith, London 2001, 1) ونجد بالتالي أمرًا صعبًا لا بل مستحيلاً أن نثق به ونتوكل عليه وأن نؤمن به.

ندرك من كل هذا أن عدائية المذهب العقلي نحو الإيمان ليست واقعًا مرتكزًا على ذاته بل هو جرح في المصورة والثقة.

 

تجذر، تجرد، تجلي: دينامية الحياة المسيحية

(11)

– لقد تطرقنا في أقسام هذه المقالة العشرة إلى بعض أبعاد النظرة المسيحية إلى الحقيقة وعرضنا بعض فسحات هذا الأفق الواسع الذي يلف الإنسان ويجذبه، ويدعوه إلى القبول، والإصغاء، والحرية والعمل. سعينا في هذه النظرة المقتضبة إلى أن نبرهن أن العقل البشري هو عقل أوسع من المنطق الحسابي، منطق الورق والوثائق، وألقينا نظرة إلى أبعاد الواقع التي تتجاوز مقدرات العقل وحده.

نذكر في هذا الإطار أن البابا بندكتس السادس عشر نفسه تحدث في خطبة ريغينسبورغ عن "شجاعة الانفتاح على رحاب العقل"، جاعلاً من هذا الانفتاح المقدام "برنامج لاهوت ملتزم بالتفكير بالإيمان الكتابي، يستطيع أن يدخل في جدل وحوار مع زمننا المعاصر".

إن هذه المقالة هي جواب إيجابي على التحليل السلبي الذي قدمناه في مقالة سابقة " الأسطورة المنطقية.  دراسة تاريخية في نشأة الإنفصال بين الإيمان والعقل في العصر الحديث". وما أردناه من هاتين المقالتين، ليس إلا الرغبة في أن يقارب الإنسان الإيمان بكامل إنسانيته، دون نفي أي بعد من أبعاد وجوده. وذلك لإيماننا بأن الإيمان لا يؤله إلا ما قد أنسنه الإنسان، وبأن الإيمان القويم هو في العقل القويم والمتكامل. فقد صدق بليز باسكال عندما قال ما معناه: مع قليل من المعرفة فقدت الإيمان، ولما تعمقت بالمعرفة عدت واكتشفت الإيمان.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًا في ختام هذه المقالة. هل يكفي حقًا أن ننفتح على أبعاد العقل التي تتجاوز العقل نفسه لنصرح بأننا مؤمنين؟ هل الإيمان هو مسألة معرفة، بحسب المفهوم الذي عرضناه، أي معرفة عقل منفتح، معرفة عقل منفتح على الشعور، والمصورة…؟ أم أن هناك أكثر من ذلك؟

نعم هناك أكثر من ذلك. وقد أشار إليه القديس بولس في الفصلين الثاني عشر والثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. هناك ما يسميه رسول الأمم "السبيل الأفضل". ولكن كان من الضروري أن نمهد السبيل لهذا السبيل الأفضل؛ ألا نبدأ بالإلهيات، والفضائل الإلهية، متناسين الركائز البشرية. كان ضروريًا أن نبدأ بالطبيعة المنفتحة، قبل أن نتحدث عن النعمة التي تكللها. فمنطق التجسد يفرض علينا ألا نحلق في آفاق اللاهوت قبل أن نمشي في معارج بشريتنا لأنه، بحسب ما لاحظ بحق القديس توما الأكويني: (Gratia supponit naturam et perficit eam) "النعمة تفترض الطبيعة وتكملها" (Scriptum super Sententiis, lib. 4, d. 2, q. 1, a. 4).

لا يمكننا أن نضع خمر معرفة الله الجديد في آنية العقل المنغلق والضيق العتيقة. ولا يمكننا أن نبني ملكوت الله على أسس بشرية ممزقة ومتشرذمة. ولكن إذا كان صحيحًا من ناحية أنه يجب أن ‘نهيئ طريق الرب‘ كالمعمدان، من ناحية أخرى، لا بد أن تهدف حركة الحياة المسيحية إلى ما هو أسمى، ما يسميه القديس اغناطيوس دي لويولا " magis" [فالذي يأتي بعدي هو أعظم مني] (راجع مت 3، 3 . 11).

يجب، بكلمات أخرى أن نتبع حركة وجود المسيح لأن "سر المسيح هو سرنا. وما يتم في الرأس يجب أن يتحقق في الأعضاء. تجسد وموت وقيامة: تجذر ، تجرد، تجلي. ما من روحانية مسيحية حقة إلا وتتضمن هذا الإيقاع الثلاثي" (H. De Lubac, Paradoxes, Paris 1999, 43-44).

من هذا المنطلق، تنفتح مقالتنا طبيعيًا إلى معالجة موضوع التقدم، الذي سنعالجه، بمعونة الرب، في مقالتين لاحقتين. الأولى ستتطرق إلى موضوع "أسطورة التقدم"، حيث نعالج توق العصر الحديث إلى تجسيد التطور والآخرية (altruism) بمعزل عن الله، ومقالة لاحقة تعالج مفهوم التقدم بحسب الفكر المسيحي والتصوف المسيحي.

 

* * *

– روبير شعيب يعلم "الكريستولوجيا" و "مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي" في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما، ويواظب في إيطاليا ولبنان على إلقاء محاضرات ذات طابع بيبلي، روحي ثقافي ولاهوتي.