المقابلة مع المشاركين في الجمعية العامة للأكاديمية الحبرية للعلوم الاجتماعية

حاضرة الفاتيكان، الخميس 7 مايو 2009 (Zenit.org)

في الرابع من مايو الجاري، استقبل الأب الأقدس بندكتس السادس عشر في القصر الرسولي في الفاتيكان المشاركين في الجمعية العامة التي عقدتها الأكاديمية الحبرية للعلوم الاجتماعية في كازينا بيوس الرابع من الأول ولغاية الخامس من مايو الجاري حول موضوع: "العقيدة الاجتماعية الكاثوليكية وحقوق الإنسان".

ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البابا في هذه المناسبة:

***

إخوتي الأعزاء في الأسقفية والكهنوت،

سيداتي وسادتي الأجلاء،

فيما تجتمعون في الجلسة العامة الخامسة عشرة للأكاديمية الحبرية للعلوم الاجتماعية، يسعدني أن ألتقي بكم وأعبر لكم عن تشجيعي لرسالتكم الهادفة إلى نشر العقيدة الكنسية الاجتماعية في مجالات الحقوق والاقتصاد والسياسة وفي مختلف العلوم الاجتماعية الأخرى. وإني إذ أشكر الأستاذة ماري آن غلاندون على تحياتها القلبية، أؤكد لكم على صلواتي من أجل تستمر ثمار تشاوراتكم في الشهادة لانسجام التعليم الاجتماعي الكاثوليكي في عالم سريع التغيرات.

بعد دراسة العمل والديمقراطية والعولمة والتضامن والإعانة بالنسبة إلى تعليم الكنيسة الاجتماعي، اختارت أكاديميتكم العودة إلى مسألة كرامة وحقوق الإنسان، نقطة التلاقي بين عقيدة الكنيسة والمجتمع المعاصر.

لقد أوضحت الديانات والفلسفات الكبيرة في العالم بعض جوانب هذه الحقوق الإنسانية المعبر عنها باختصار في "القاعدة الذهبية" الواردة في الإنجيل: "وبمثل ما تريدون أن يعاملكم الناس عاملوهم أنتم أيضاً" (لو 6، 31؛ مت 7، 12). لطالما أكدت الكنيسة على أن الحقوق الأساسية، بغض النظر عن مختلف الطرق التي تصاغ بها ومختلف درجات الأهمية التي هي عليها في مختلف الأطر الثقافية، لا بد من أن تحظى بالتأييد وبالاعتراف العالمي لأنها متأصلة في طبيعة الإنسان الذي خلق على صورة الله ومثاله. وإن كان كل البشر قد خلقوا على صورة الله ومثاله، فإن طبيعتهم مشتركة تجعلهم متماسكين وتدعو إلى الاحترام الشامل. والكنيسة التي تفهم تعليم المسيح تعتبر أن الإنسان هو "الأسمى في طبيعته" (القديس توما الأكويني)، وقد علمت أن النظام الأخلاقي والسياسي الذي يحكم العلاقات بين الأشخاص يعود أصله إلى تركيبة جوهر الإنسان. إن اكتشاف أميركا والنقاش الأنثروبولوجي الناتج عنه في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا أديا إلى زيادة الوعي حول حقوق الإنسان وشموليتها. وساعد العصر الحديث على صياغة الفكرة بأن رسالة المسيح – لأنها تعلن أن الله يحب كل رجل وامرأة وأن كل إنسان مدعو إلى أن يحب الله بحرية – تظهر أن كل شخص يستحق الحرية بصرف النظر عن وضعه الثقافي والاجتماعي. في الوقت عينه، يجب أن نتذكر دوماً بأن "الحرية بذاتها بحاجة إلى الحرية. والمسيح هو الذي يحررها" (بهاء الحقيقة، 86).

في منتصف القرن الماضي، وبعد المعاناة الكبيرة التي سببتها الحربان العالميتان والجرائم الفظيعة التي ارتكبتها الإيديولوجيات الديكتاتورية، اكتسبت الأسرة الدولية نظاماً جديداً للقانون الدولي قائم على حقوق الإنسان. وهنا يظهر أنها عملت وفقاً للرسالة التي أعلنها سلفي بندكتس الخامس عشر عندما دعا المحاربين في الحرب العالمية الأولى إلى "تحويل قوة السلاح المادية إلى قوة القانون الأخلاقية" (دعوة إلى رؤساء الشعوب المحاربة، الأول من أغسطس 1917).

لقد أصبحت حقوق الإنسان النقطة المرجعية ذات الروح العالمية المشتركة – على الأقل على مستوى التطلعات – لمعظم البشر. وأقرتها معظم الدول في العالم. واعتبر المجمع الفاتيكاني الثاني في إعلان كرامة الإنسان، إلى جانب سلفي بولس السادس ويوحنا بولس الثاني، بأن حق الحياة وحق حرية المعتقد والدين من أهم هذه الحقوق التي تنبثق عن الطبيعة البشرية نفسها.

وتحديداً فإن هذه الحقوق ليست حقائق إيمان على الرغم من أنها تتجلى – وتظهر جيداً – في رسالة المسيح الذي "يظهر الإنسان لنفسه الإنسان" (فرح ورجاء، 22). وهي تحظى بتأكيد أكبر من الإيمان. ومن الحكمة أن الرجال والنساء يتحققون من خلال عيشهم وعملهم في العالم المادي ككائنات روحية من حضور اللوغوس السائد الذي يجعلهم قادرين ليس فقط على تمييز الحق من الباطل بل أيضاً الخير من الشر، والأفضل من الأسوأ، والعدالة من الظلم. هذه القدرة على التمييز – هذه القوة الجذرية – تجعل كل شخص قادراً على إدراك "القانون الطبيعي" الذي ليس إلا مشاركة في القانون الأبدي. إن القانون الطبيعي هو دليل شامل يعرفه الجميع ويستطيع الجميع من خلاله فهم الآخرين ومحبتهم. لذلك تتأصل حقوق الإنسان في مشاركة الله الذي خلق كل إنسان بذكاء وحرية. وإن تم إنكار هذا الأساس الأخلاقي والسياسي المتين، تبقى حقوق الإنسان هشة بسبب حرمانها من أساسها السليم.

لذلك يلقى عمل الكنيسة على تعزيز حقوق الإنسان الدعم من تفكير عقلاني بطريقة تقدم فيها هذه الحقوق إلى جميع أصحاب النوايا الحسنة بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية. مع ذلك، وكما أشرت في رسائلي العامة، لا بد من أن يخضع العقل البشري من جهة للتطهير الدائم بالإيمان لأنه معرض دوماً لخطر الجهل الاخلاقي الذي تسببه الأهواء المضطربة والخطيئة؛ أما من جهة أخرى وبما أن حقوق الإنسان يجب أن تناسب كل جيل وكل شخص، وبما أن الحرية الإنسانية – التي تتقدم بتعاقب الخيارات الحرة – هي دوماً هشة، يحتاج الإنسان إلى الرجاء والمحبة المطلقين اللذين نجدهما فقط في الله واللذين يؤديان إلى المشاركة في عدالة الله وسخائه تجاه الآخرين (الله محبة، 18؛ بالرجاء مخلصون، 24).

هذا ما يلفت الانتباه إلى بعض المسائل الاجتماعية الخطيرة في العقود الأخيرة، مثل الوعي المتزايد – الذي نشأ جزئياً مع العولمة والأزمة الاقتصادية الحالية – حول الاختلاف الصارخ بين منح الحقوق بشكل متساو وعدم المساواة في فرص الحصول على هذه الحقوق. وفي حين أن المسيحيين يسألون الله بانتظام أن يعطيهم "خبزهم كفاف يومهم"، تكمن المأساة المخزية في أن خمس البشرية ما يزال جائعاً. أما تأمين الإمدادات الغذائية المناسبة كحماية الموارد الأساسية كالماء والطاقة فإنه يتطلب تعاون جميع القادة الدوليين في إظهار استعداد للعمل بحسن نية، ومراعاة القانون الطبيعي وتعزيز التضامن والتعاون مع المناطق والشعوب الأكثر فقراً في المسكونة، كالاستراتيجية الأكثر فعالية لاستئصال التفاوت الاجتماعي بين البلدان والمجتمعات ولزيادة الأمن العالمي.

أصدقائي الأعزاء، أيها الأكاديميون الأعزاء، إني إذ أحثكم في بحثكم وتشاوراتكم على أن تكونوا شهوداً مستقيمين لتعزيز هذه الحقوق غير القابلة للتفاوض القائمة أساساً في القانون الإلهي والدفاع عنها، أمنحكم بركتي الرسولية.