الانشقاق الكبير

إن الانشقاق الكبير ليس مجرّد حدث تاريخي مضى بل هو جرح لا يزال يدمي جسد الكنيسة.
في القرنين الخامس والسادس حدث انشقاق داخلي في الشرق بسبب الجدالات حول عقيدة سرّ التجسد، فاستقلّت الكنيسة الفارسيّة أو النسطوريّة ثم السريانيّة والقبطيّة والأرمنيّة.
وفي القرن السادس عشر حدث الانقسام الداخلي في الغرب بسبب ما يسمى بالإصلاح والجدالات حول طبيعة الكنيسة والأسرار والنعمة.
أمّا الانشقاق الذي نحن بصدده فقد أوقع القطيعة بين الكنيسة الغربية الرومانيّة والكنيسة الشرقيّة البيزنطيّة التي تقرّ بالمجامع السبعة لأسباب ثقافية وقوميّة وقانونيّة جعلت من الصعب متابعة تعايش الكتلتين المسيحيتين في وحدة الشركة الكنسيّة.
هذا الواقع الخطير نستطيع أن نتناوله من وجهة نظر المؤرّخ لنعرف أسبابه وملابساته ونستطيع أن نتناوله من الوجهة اللاهوتيّة فنتساءل عن نتيجة هذه القطيعة على واقع الكنيستين وعلى كنيسة المسيح الواحدة الجامعة. ونستطيع أن نتناوله من الوجهة الرعائية والمسكونيّة لنعرف ما يترتب الآن عمله لرأب الصدع، وما هي العلاقات التي يجب أن تسود بين الكنيستين بانتظار إعادة الوحدة الكاملة.
الوحدة ضمن التنوع
اصطلح على اعتبار عام 1054 تاريخ انفصال الكنيستين الشرقيّة والغربيّة عقب المشادة بين البطريرك القسطنطيني كارولاريوس والموفد البابوي الكاردينال اومبرتو.
بيد أن القطيعة بين الكنيستين ليست بنت ساعتها ولا صنيعة رجل واحد بل حصيلة تطور مستقل وتباعد بين العالمين الشرقي والغربي وهيّأت لها أزمات ومشادات متعدّدة ولم تأخذ منذ البدء العمق الذي وصلت إليه في ما بعد.
كانت الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى شبه رابطة أخوية بين مختلف كنائس محليّة تجمعها وحدة الإيمان والتقليد الرسولي. ولم تكن الطقوس والأنظمة قد تبلورت وكان التنوع عينه يسود في مختلف أقطار الشرق والغرب. وكان المسيحيّون ينتقلون من آسيا أو من الإسكندرية إلى روما بدون أن يشعروا أنهم انتقلوا إلى عالم آخر بسبب وحدة النظام السياسي والوحدة الثقافية. وكانت لغة الثقافة هي اليونانيّة حتى في الغرب لغاية أواسط القرن الثالث. وكان لكنيسة روما دور متميّز كمركز الشركة الكنسيّة ومعين التقاليد الرسوليّة كما كان في الشرق دور خاص لكرسيي أنطاكية والإسكندريّة الرسوليين (وقد أقرّ المجمع النيقاوي دور هذه الكراسي الثلاثة كتقليد قديم).
ومع القرن الرابع بدأ كلّ من الشرق والغرب يأخذ ملامحه الخاصة من الوجهتين السياسيّة والثقافيّة والتنظيميّة. وكان بينهما تكامل وتوازن ثم حصل تباين وتنافر ثم اصطدام وقطيعة.
من أهم العوامل السياسيّة التي أثّرت على تاريخ الحضارة المسيحيّة وعلى التطوّرات التالية في القرون الوسطى تنصّر قسطنطين الملك ونقل العاصمة إلى القسطنطينيّة وشطر الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى شطرين شرقي وغربي واجتياح الشعوب الجرمانيّة الوثنيّة للإمبراطوريّة الغربيّة والفتح العربي للقسم الجنوبي من الإمبراطوريّة البيزنطيّة ثم قيام إمبراطوريّة غربيّة جرمانيّة مع شارلمان مستقلّة عن الإمبراطوريّة الرومانيّة البيزنطيّة ومنافسة لها، ودخول البابويّة في فلكها، وارتباط روما سياسيّاً بالعالم الغربي وتزعمها له.
ومن أهم العوامل الثقافيّة التي أدّت إلى تباين العالمين الشرقي والغربي واضمحلال الوحدة التي كانت قائمة قديماً هو عنصر اللغة وانقطاع العالم الغربي عن الثقافة القديمة بعد الغزوات الجرمانيّة وانفتاحه على التجدّد بينما ظلّ الشرق يتابع حياته باستمراريّة لا يفصل القرون الوسطى شيء يذكر عن العصر القديم.
ففي الغرب أصبحت اللغة المتداولة في الأوساط الثقافيّة اللاتينيّة وأصبح الذين يفهمون اليونانيّة أفراداً قلائل. وفي الشرق بطل استعمال اللاتينيّة في الدوائر الرسميّة وفي التشريع منذ مطلع القرن السابع وأصبحت الإمبراطوريّة البيزنطيّة إمبراطوريّة يونانيّة محضة ولا سيّما بعد أن انسلخ عنها الأقطار السوريّة والمصريّة والأرمنيّة ثمّ خرجت إيطاليا برمّتها عن منطقة نفوذها، ولم تعد اللاتينيّة لغة مفهومة في الشرق. ونجم عن ذلك أنّ الغرب لم يعد يتغذّى بالآباء اليونان وتأثّر خاصة بلاهوت القديس اغسطينوس بينما الشرق لم يطلع على الآباء اللاتينيّين ولم يرافق التطوّر الداخلي للأوضاع الاجتماعيّة والثقافيّة في الغرب.
رغم هذا التباين ظلّت الشركة قائمة بين العالمين بفضل المجامع المسكونيّة التي كانت تعقد من حين إلى آخر وبفضل ارتباط البطاركة الشرقيّين مع صاحب الكرسي الروماني الأول في العالم المسيحي والرئيس الغير منازع في العالم الغربي. ولكن بذور الخلاف كانت قائمة بسبب اختلاف وجهة النظر في كلّ من الشرق والغرب في ما يخص سلطة أسقف روما والمرجع الأعلى للقرارات المسكونيّة والتشريع. ولمّا كانت إرادة الوحدة قائمة كانت تطغي على عوامل الخلاف هذه ولكن لمّا بردت المحبّة وساد النفور أصبح التباين المشروع في اللاهوت والأنظمة مدعاة للجدال والشقاق.
لمّا كان الأباطرة الرومان يضطهدون المسيحيّة في القرون الثلاثة الأولى لم يكونوا يتدخّلون في شؤونها الداخليّة وكانت السلطة محصورة في خلفاء الرسل وعلى رأسهم خليفة بطرس. ولمّا تنصّرت الإمبراطوريّة قام قسطنطين الملك وخلفاؤه في القسطنطينيّة بحماية الكنيسة وتنظيم شؤونها على مستوى الإمبراطوريّة وهم متأثرون بالعقليّة القديمة التي تربط الدين والدنيا فدعوا إلى المجامع المسكونيّة وسهروا على تنفيذ قراراتها بقوّة القانون وساعِد الدولة وتدخّلوا في التشريع وفي تعيين كبار المسؤولين في الكنيسة.
أما في الغرب فقد بقيت الكلمة العليا للسلطة الرسوليّة المستقرة في روما وإذ غادر الأباطرة روما تحرّر البابا من تدخّلهم المباشر وبقي السلطة العليا والمرجع الأخير. ولا يزال الباباوات حتى اليوم يعتبرون أنفسهم مركز الوحدة ومنطلق المبادرة في الكنيسة الجامعة. وكان لممثليهم في المجامع المسكونيّة حقّ الصدارة يقترحون من الحلول ما أقرّته روما على يدّ البابا وسينودسه. مصدر الشرع الأول في الشرق إنّما هو قوانين المجامع المسكونيّة وأوامر القياصرة أمّا في الغرب فهي قرارات الكرسي الروماني ورسائل الباباوات. هذه الاتجاهات المختلفة هي مصدر الاصطدامات العديدة التي قامت بين روما والقسطنطينيّة قبل الانقسام الكبير. فمن سنة 337 إلى سنة 842 كانت العلاقات بين العاصمتين متوتّرة أو مقطوعة على فترات متعدّدة مجموعها 217 سنة من جراء سياسة القياصرة الدينيّة المنحرفة ومدافعة الباباوات عن الإيمان الأرثوذكسي السليم.
لقد كان الشرق ولا شكّ يقرّ بأولويّة الكرسي الروماني إلاّ أنه لم يكن يفهم هذه الأولويّة كمّا فهمتها روما. كان الشرق يقرّ للبابا بحقّ التدخل في الشؤون العقائديّة حفاظاً على سلامة التعليم إلاّ أنه كان يأبى تدخلاته في شؤونه الداخليّة والقضايا التنظيميّة. وقد أوضح هذا الموقف المنسنيور باتيفول في كتابه "كرسي بطرس": أظن أنّ الشرق لم يستوضح معنى أولويّة روما أعني متابعة رئاسة بطرس. أسقف روما هو أكثر من خليفة بطرس على كرسيه، إنه ديمومة بطرس على رأس الكنيسة يتلبس مسؤوليته وسلطته. لم يفهم الشرق هذه الديمومة. فالقديس باسيليوس قد جهلها وكذلك القديس غريغوريوس النزيانزي وكذلك يوحنا الذهبي الفم. فسلطة أسقف روما هي سلطة من الدرجة الأولى إلاّ أننا لا نرى الشرق يعتبرها سلطة عليا بحقّ إلهي. ومن المؤسف أنه لم توضح هذه النقطة الهامة ضمن حوار حقيقي وبقرار مجمعي في القرون التي كانت فيها الوحدة قائمة".
بالرغم من هذا الاختلاف في وجهتي النظر كان قائماً بين الطرفين نوع من التعايش والتفاهم، فكان الشرق يقيم على شركته الكنسية مع روما ويرضى بوثائق توجيهيّة كانت روما تبيّن فيها وجهة نظرها وكانت روما راضية بألاّ تتدخّل في الشرق بمثل أسلوب تدخّلها في الغرب. فكان ثمة نوع من الازدواجيّة في ممارسة سلطة البابا. ففي الغرب كان تدخله مباشراً وفي توسّع مستمر، أمّا في الشرق فكان البابا شبه حكم ومرجع أعلى في الظروف الهامة.
إنّ المهمّة التي قام بها أسقف روما في الغرب اضطلع بها في الشرق البطاركة القيّمون على العاصمة وعلى المراكز الرسوليّة (الإسكندريّة وأنطاكية ثمّ أورشليم). وفي النظام الخماسي الذي أقرّه الإمبراطور يوستينيانوس في القرن السادس اعتبر البابا بطريرك الغرب وأول البطاركة يشاركه في ممارسة سلطته العليا زملاؤه في البطريكيّات الأربع. هذا النظام مع مراعاته لأوليّة روما في الكنيسة أقرّ مبدأ الاستقلال الداخلي في الشرق تجاه الغرب ومهّد لتكوين طقوس وثقافات شرقيّة متعدّدة في إطار البطريكيّات المختلفة.
التباعد بين العالمين
أمران هامان كان لهما أثر بليغ في القضاء على ما كان قائماً في النظام البطريركي الخماسي من وحدة وتوازن: ضعف البطريركيات المشرقيّة (الإسكندرية وأنطاكية وأورشليم) والقطيعة السياسيّة بين البابويّة والإمبراطوريّة البيزنطيّة.
في مطلع القرن السابع كانت البطريركيّات الخمس بما فيها روما (إذ استعادها يوستيتيانوس) في ظلّ الإمبراطوريّة البيزنطيّة، فما أشرف القرن الثامن على منتصفه حتى أمست الإمبراطوريّة محصورة في البطريركيّة القسطنطينيّة وفي العالم اليوناني. ففي القرن السابع استولى العرب على بلاد الشام ومصر حيث بطريركيّات أنطاكية وأورشليم والإسكندريّة التي كانت أضعفتها من قبل الانقسامات الداخليّة حول عقيدة التجسّد. وكان إقليم الاليريكون (البلقان الجنوبي والغربي) بلغته اليونانيّة وارتباطه كنسيّاً ببطريركيّة روما مثل جسر بين العالمين الشرقي والغربي فألحقه الإمبراطور لاون الثالث الايصوري بالقسطنطينيّة سنة 732 وكذلك فعل بصقلية وكالابريا وجنوب إيطاليا وكان فيها عناصر يونانيّة قوية. وفي أواسط القرن الثامن خرجت روما من حكم البيزنطيّين ولم يعد داخل حدود الإمبراطوريّة البيزنطيّة أيّ مقاطعة مرتبطة بالبطريركيّة الرومانيّة. فأصبحت البطريركيّة القسطنطينيّة بطريركيّة الإمبراطوريّة البيزنطيّة دون سواها فحاولت فرض شرائعها وتقاليدها على جميع مناطق نفوذها. وكانت في مجمع القبة الذي عقد في القسطنطينية عام 692 قد أقدمت على شجب عدة عوائد رومانيّة مخالفة للشرع البيزنطي.
وحدث في الغرب تطوّر مماثل بسبب قدوم شعوب جديدة استوطنت الغرب وصاغته عالماً جديداً. فروما هي التي تولّت تنصير الجرمانيّين وأشرفت على تهذيب وتثقيف تلك الشعوب التي لم يكن لها أيّ علاقة تاريخيّة بالشرق المسيحي.
ولكن طالما كانت روما خاضعة للحكم البيزنطي كانت هي أداة الوصل بين العالمين وقد قام في تلك الحقبة عدة باباوات من أصل شرقي توفي آخرهم سنة 752. واحتلّ اللومبارديّون مقاطعة رافينا الإيطاليّة وكانت تحت الحكم البيزنطي وهدّدوا روما فاستجار البابا اسطفانس الثاني سنة 753 بملك الفرنجة بابين القصير وطرد الفرنجة اللومبارديّين ولكن بابين أبى أن يعيد المقاطعات المحرّرة إلى البيزنطيّين ووقع البابا في حماية الفرنجة. وتفاقم الأمر عندما أقدم البابا على تتويج شارلمان إمبراطوراً للرومان ليلة الميلاد عام 800 والإمبراطور في عقلية تلك العصور هو الملك الأعظم الذي يتولى شؤون العالم المتمدن بأسره. فكان تتويج شارلمان إمبراطوراً إيذاناً بخلع بيزنطية وإقراراً بانقسام النصرانية نهائيّاً إلى شطرين متنافسين راح يندفع كلّ منهما في مصيره بدون تلاق أو تماس. وكان المجمع النيقاوي الثاني عام 787 آخر مجمع مسكوني يجتمع فيه أساقفة الشرق والغرب.
وانتقل مركز الثقل في الغرب من مناطق البحر المتوسط التي كان لها تاريخ ديني وحضاري مشترك مع الشرق إلى المناطق الشماليّة حيث الجرمان الذين لا يتمتّعون بماضٍ حضاري ومسيحي. (أسبانيا وقعت تحت الحكم الإسلامي وإيطاليا أصبحت شبه مستعمرة جيرمانيّة والبحر المتوسط حيث يسيطر الأسطول العربي لم يعد وسيلة نقل واتصال آمنة بين العالمين).
وبارتباط البابا بالعالم الغربي انحصر اهتمام الكرسي الرسولي في الغرب وأمست تدخلاته في أمور الشرق نادرة جداً. وغير موفقة كثيراً. واعتاد الشرق أن يستغني عن الاتصال بالكرسي الروماني. هذا التباعد أدّت إليه عوامل كثيرة خارجة عن نطاق الإرادة إنما يؤخذ على الشرق أنه رفض تفهّم الأوضاع الجديدة التي قامت في الغرب وعلى البابويّة أنها لم تبقَ فوق النزاعات الإقليميّة وربطت مصيرها بالغرب ولم تسعَ إلى الجمع في نطاق وحدة جديدة بين العالم البيزنطي والعالم الغربي الجديد. ويؤخذ على كلا الطرفين انكماشهما وانقفالهما على ذاتهما. فنجم عن ذلك تجاهل متبادل وتعصب كلّ لتقاليده وثقافته الخاصة. هذا الموقف السلبي قضى على الوحدة القديمة القائمة على احترام التنوع فكان منطلقاً للخصومات ومبعثاً للقطيعة.
1- شارلمان واليونان
كان شارلمان في غمرة صراعه مع الإمبراطوريّة البيزنطيّة يعبئ اللاهوتيّين الفرنجة ويغيرهم على لاهوت الشرق التقليدي. وحدث الاصطدام الأول بمناسبة المجمع النيقاوي الثاني سنة 787 وكان شارلمان آنذاك في خصام مع البلاط البيزنطي بسبب انفساخ الخطوبة بين ابنته روترود وقسطنطين السادس ولي عهد الإمبراطور البيزنطي. وبلغت أعمال المجمع إلى شارلمان في ترجمة لاتينيّة سقيمة فأثارت انتقادات شديدة في الأوساط اللاهوتيّة في الغرب. فدعا شارلمان إلى عقد مجمع فالتأم في فرانكفورت تحت رعايته عام 794 وطلب من البابا ادريانوس أن لا يوافق على أعمال المجمع النيقاوي فطمأن البابا اللاهوتيّين الفرنجة إلى صحة إيمان هذا المجمع وهو آخر مجمع مسكوني عقد في الشرق وتقرّه الكنيستان الشرقيّة والغربيّة.
أما الحدث الثاني فكان منطلقه زيادة لفظة "والابن" في قضية انبثاق الروح القدس. إنّ أقدم النصوص لقانون الإيمان سواء باللغة اليونانيّة أم باللغة اللاتينيّة تثبت انبثاق الروح القدس "من الآب". وفي أواخر القرن السادس أخذت بعض الكنائس في الغرب تصرّح بانبثاق الروح القدس "من الآب والابن". ويبدو أن زيادة لفظة "والابن" بدأت في أسبانيا ثمّ تسرّبت إلى الإمبراطوريّة الفرنجيّة حيث شاع اعتبارها وحدها صيغة الإيمان الصحيح. وعندما عرضت أعمال المجمع النيقاوي الثاني على الغرب احتجّ اللاهوتيّون الفرنجة على الصيغة التقليديّة المتداولة عند الآباء الشرقيّين "المنبثق من الآب بالابن" فبيّن لهم البابا ادريانوس صحّتها.
وفي سنة 796 رفعت إلى شارلمان عريضة تطالبه بالتدخل لكي تزاد رسميّاً لفظة "والابن" في قانون الإيمان إلاّ أن شارلمان كان قد دخل في مفاوضات سلام مع القسطنطينيّة فلم يتعرّض لهذه القضية. بعد بضع سنوات احتدم الخصام ثانية في مدينة القدس بين رهبان دير مار سابا ورهبان جبل الزيتون الفرنجة وكان جماعة منهم قد اتصلوا ببلاط شارلمان فأخذوا من بعد عودتهم إلى الأراضي المقدّسة يتلون قانون الإيمان بزيادة "والابن" كما سمعوه في معبد البلاط فكتب بطريرك القدس توما إلى البابا لاون الثالث يحيطه بالأمر وتدخّل شارلمان وكانت الحرب قد تجدّدت بينه وبين الروم عام 806، فدعا إلى عقد مجمع في ايكس سنة 809 وتقرّر فيه إرسال وفد إلى البابا يحمله على فرض زيادة "والابن" على نصّ قانون الإيمان. فرفض البابا وأمر بوضع لوحتين من فضة على مدخل قبر مار بطرس نقش عليها نصّ قانون الإيمان باليونانيّة واللاتينيّة بلا زيادة "والابن" وكان ذلك عين الحكمة. وظلّ الناس في روما يتلون قانون الإيمان على عادة الشرق حتى عام 1014 إذ ذاك أمر البابا بناديكتوس الثامن إرضاء للإمبراطور الألماني هنري الثاني بإدخال زيادة "والابن" في نص الليتورجيّة الرومانيّة.
2- قضيّة فوتيوس
ظلّت البابوية حتى بعد القطيعة السياسيّة مع القسطنطينيّة تحظى بقدر كبير من التجليّة في الشرق حتى أواسط القرن التاسع. وقد وجد فيها الرهبان وأنصار الأيقونات عوناً كبيراً في وجه الاضطهاد الذي أثاره الأباطرة البيزنطيّون محاربو الأيقونات، ولكن مشكلة فوتيوس من جهة والانحطاط الذي اجتاح البابويّة في العصر الحديدي من جهة أخرى قد أوهن نفوذ الكرسي الروماني في الشرق.
كان فوتيوس يجسّم ما آلت إليه الحضارة البيزنطيّة من دقة ورهافة في القسم الثاني من القرن التاسع وقد جابهه في روما البابا نيقولاوس الأول أشد الباباوات حزماً وأعنفهم تمسّكاً بحقوق الكرسي الروماني وسيادته. كان فوتيوس علمانيّاً عندما استدعي سنة 858 برغبة من الإمبراطور ميخائيل الثالث ليخلف البطريرك أغناطيوس على الكرسي القسطنطيني وكان أغناطيوس محافظاً ومتزمتاً ونُحّي لجفاء قام بينه وبين الحكم القائم. وأبى أغناطيوس أن يستقيل من تلقاء نفسه فعقد مجمع في القسطنطينيّة حكم بخلعه عن البطريركيّة. وبعث البطريرك الجديد فوتيوس برسائل إلى بطاركة الشرق الملكيّين وإلى بابا روما يطلب فيها اعترافهم به وشركتهم على عادة كلّ بطريرك جديد. فأوفد البابا نيقولاوس مندوبين إلى القسطنطينيّة لتقصي الحقائق فاستمالهم فوتيوس إليه واشتركوا في الحكم على أغناطيوس في المجمع المنعقد في القسطنطينيّة عام 861. إلاّ أنّ البابا تنصّل من مبعوثيه ورفض الاعتراف بفوتيوس وكان أغناطيوس وأنصاره رفعوا شكواهم إلى روما. فانعقد سينودس روماني عام 863 جرّد فوتيوس من الكهنوت هو وجميع الذين رسمهم. وتسفر هذه القرارات عن جهل عميق للأوضاع السائدة في القسطنطينيّة وبقي فوتيوس في منصبه في العاصمة البيزنطيّة.
كانت هذه الأزمة على وشك التصفية عندما أثيرت قضية أخرى عملت على توتير العلاقات ثانية بين الكنيستين وهي القضية البلغاريّة. ففي تلك الحقبة كان البلغار ينتحلون النصرانيّة على يد المرسلين البيزنطيّين وتقبل الملك بوريس المعموديّة في القسطنطينيّة عام 864 وكان عرّابه الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث. وأرسل فوتيوس عدداً غفيراً من الكهنة إلى بلغاريا لينجزوا تثقيف الشعب في أمور الدين ولكنه لم يمنح بوريس الاستقلال الكنسي الذي طالب به. ولمّا خاب أمل ملك البلغار أرسل وفداً إلى روما مستحصلاً من البابا نبقولاوس الأول ما أمسكه عنه البطريرك فوتيوس. ففرح البابا بهذه السانحة التي تعيد له استعادة ولايته على منطقة كانت خاضعة تواً لروما (قبل عام 732) فأرسل إلى بلغاريا جماعة من المرسلين انطلقوا يحظرون العوائد والطقوس البيزنطيّة ويطردون المرسلين اليونانيّين ويعيدون تثبيت من تقبلوا المعموديّة من يد كاهن شرقي.
كان فوتيوس قد لازم الصمت بعد عام 863 ولكنه لم يطق احتمال الإهانة اللاحقة بكنيسته. فثار ثأره وأرسل عام 867 رسالة عنيفة إلى البطاركة الشرقيّين يدعوهم فيها إلى القسطنطينيّة للحكم على البابا نيقولاوس الأول ويشجب "البدعة الغربيّة" في انبثاق الروح القدس من الآب والابن. ووجّه أيضاً في الوقت نفسه إلى إمبراطور الغرب لويس الثاني رسالة يطلب إليه فيها أن يعزل نيقولاوس عن الكرسي البابوي. وعقد مجمعاً في القسطنطينيّة عام 867 فحرم البابا وأعلن عزله. وبعث وفداً إلى الإمبراطور الغربي وإلى البابا نيقولاوس يبلغهما الحكم. ولكن البابا توفي قبل وصول الوفد البيزنطي وفقد فوتيوس منصبه البطريركي في أثر الانقلاب الذي أطاح بمناصره الإمبراطور ميخائيل الثالث. وأمر الإمبراطور الجديد باسيليوس الأول بإعادة أغناطيوس إلى الكرسي البطريركي وسعى إلى إقامة الصلح مع روما. وعقد مجمع في القسطنطينيّة عام 869 حضره ممثلو البابا (وهو في نظر الغرب المجمع المسكوني الثامن) فحكم بخلع فوتيوس عن الكرسي البطريركي.
وحدثت في الجلسة العاشرة مفاجأة إذ حضر أمام المجمع وفد بلغاري يعرض إلحاق الكنيسة البلغاريّة ثانية بالكرسي القسطنطيني. وعارض ذلك موفدو البابا. فلجأ أغناطيوس إلى تحكيم البطاركة الملكيّين فأقرّوا حقوق القسطنطينيّة على البلغار. ورسم أغناطيوس تواً رئيس أساقفة البلغار وبعد فترة عشرة أساقفة آخرين وطرد المرسلين اللاتين من بلغاريا وظلّ أغناطيوس على موقفه بالرغم من تهديدات روما بالحرم. وأوشكت العلاقات أن تنقطع ثانية بين الكرسيّين القسطنطيني والروماني فحال دون ذلك وفاة أغناطيوس عام 877.
انتدب فوتيوس ثانية ليخلفه. وعقد مجمع آخر في القسطنطينيّة (879-880) حضره موفدو البابا يوحنا الثامن وأعلن فوتيوس الشركة الكنسيّة مع الكرسي الروماني. وكان قد أعترف به بطريركاً على القسطنطينيّة. ومات فوتيوس متّحداً بروما. هذه التدابير السليمة قام بها البابا يوحنا الثامن وكان بحاجة إلى مساعدة الإمبراطور باسيليوس وحمايته لصدّ هجمات العرب على السواحل الإيطاليّة (وكانت الإمبراطوريّة الكارولانجيّة إذ ذاك في حالة            ضعف وتفكّك).
هذه القضية أضعفت هيبة الكرسي الروماني في الشرق. واجتازت البابويّة في القرن العاشر أسوأ عهودها بينما بلغت بيزنطية أوج عزّها واعتلى الكرسي القسطنطيني بطاركة عظام. وقامت في تلك الفترة بين الكرسيّين خصومات كانت القسطنطينيّة تحجم أثنائها عن ذكر البابا في ذبيحة القدّاس من غير أن تأبه كثيراً لذلك. إحدى تلك الخصومات حدثت عام 1054 وظلّ أثرها ناشباً حتى اليوم.
3- قطيعة عام 1054 مع كارولاريوس
عندما اعتلى ميخائيل كارولاريوس الكرسي القسطنطيني عام 1043 كانت العلاقات الكنسيّة مقطوعة بين كرسيّي روما والقسطنطينيّة منذ قرابة عشرين عاماً ولذا لم يبعث برسالته السينودسيّة إلى البابا كما كانت عادة البطاركة عند استلام مسؤوليتهم. إلاّ أنّ حلفاً كان آخذاً في التبلور بين بيزنطية والبابا والإمبراطور الجرماني لحماية إيطاليا من غزو النورمانديّين (وكان البيزنطيّون قد استقرّوا في جنوب إيطاليا منذ عهد باسيليوس الأول في أواخر القرن التاسع). فهذا التقارب السياسي كان لا بدّ أن يرافقه تقارب ديني. ولم يرق الأمر في عيني البطريرك كارولاريوس فاندفع يعرقل تلك المساعي وأمر بإغلاق الكنائس اللاتينيّة في القسطنطينيّة. وأوعز إلى لاون رئيس أساقفة اوكريدا (بلغاريا) أن يوجّه رسالة إلى يوحنا أسقف تراني في جنوب إيطاليا يهاجم فيها العوائد والطقوس اللاتينيّة على أنها غير شرعيّة ومنافية للتقليد الرسولي ويطالب فيها الكنيسة اللاتينيّة بالتخلّي عن هذه العوائد والطقوس.
وبلغ البابا لاون التاسع أمر هذه الرسالة فأوعز إلى الكاردينال هومبرت أن يجيب عليها. فأعدّ الكاردينال ردّاً عنيفاً متضمّناً المآخذ الكثيرة على كنيسة القسطنطينيّة ومشحوناً بالتهديدات والشتائم. وهزمت الجيوش البابويّة والجيوش الييزنطيّة منفردة أمام النورمانديّين فكان لا بدّ من توطيد التحالف العسكري. فأرسل الحاكم البيزنطي ارجيروس يوحنا أسقف تراني إلى القسطنطينيّة ليضع حدّاً للمهاترات العقيمة ويعيد الوحدة الدينيّة والسياسيّة. فكتب الإمبراطور والبطريرك رسائل سلاميّة إلى البابا. فأرسل هذا وفداً برئاسة الكاردينال هومبرت مع رسائل جديدة يوجّه فيها اللوم إلى البطريرك القسطنطيني ويطالبه بالتراجع علناً عن موقفه وجاء فيها أن كلّ كنيسة تبتعد عن معتقد روما لا تعود تستحق لقب كنيسة. واقتنع كارولاريوس أن الرسالة ليست من البابا بل من خصمه ارجيروس. وإذ نحى إليه في تلك الأثناء نبأ وفاة البابا لاون التاسع اعتبر أن المبعوثين فقدوا صلاحيتهم – على افتراض أنهم مزودون بصلاحيات – وعزم على تجاهلهم. فشغل الكاردينال وقته في جدالات عقيمة مع رهبان العاصمة. وإذ تبين له أنّ البطريرك لم يزل مصرّاً على عدم استقباله أصدر في حقّه وثيقة حرم وألقاها على مذبح كنيسة آجيا صوفيا يوم السبت 16 تموز 1054 قبيل الذبيحة بمرأى من الأكليروس والشعب. ثم غادر وصحبه العاصمة البيزنطيّة. وبعد ثمانية أيام أي يوم الأحد 24 تموز اجتمع السينودس الدائم القسطنطيني ورشق بالحرم "وثيقة الكفر التي حاول بها رجال جاءوا من الغرب إلى المدينة التي الله حافظها، أن يبلبلوا الأرثوذكسيّة".
لم تتميز قطيعة عام 1054 منذ البدء بما اكتسبته في لاحق الأيام من ظاهرات العنف والتصلب. فالحياة استمرت في بيزنطية كما كانت في الأمس والمؤرّخون المعاصرون لم يهتموا للحادث اهتماماً جلا. وأما ما أظهره كارولاريوس من تحامل مفرط على الطقس اللاتيني فلم يشاركه فيه سائر الأساقفة الشرقيّين. وإنّ بطرس الثالث بطريرك أنطاكية الملكي لام كارولاريوس على عنفه وحاول تهدئته. ولبثت البطريركيّات الملكيّة والكنائس السلافية فترة طويلة متّحدة بروما من غير أن تقطع روابطها بالقسطنطينيّة. ولما دخل الصليبيّون أنطاكية عام 1098 اعتبر بطريركها الملكي يوحنا بطريركاً على جميع المسيحّيين الوطنيّين واللاتين، ثمّ اضطر بعد سنتين لمغادرة أنطاكية لأسباب قوميّة وسياسيّة. وظلت علاقات روما مع أديرة جبل سيناء وجزيرة باتموس متواصلة طيلة قرون وكذلك حافظت الأديرة اللاتينيّة القائمة في القسطنطينيّة أو في جبل آثوس على علاقاتها بالسلطات الكنسية الشرقيّة.
وكان بوسع قطيعة عام 1054 أن تبقى خصومة عابرة كسابقاتها لو لم يطرأ إذ ذاك تغييرات هامة في الغرب زادت من تباعده عن الشرق، أهمها إصلاح البابا غريغوريوس السابع الذي مكّن سيطرته المركزيّة الدينيّة والسياسيّة على الغرب وتشريع غراسيان وازدهار اللاهوت المدرسي والسكولاستيكي المعتمد على الجدل الفلسفي. وجاءت الحملة الصليبيّة الرابعة التي غزت القسطنطينيّة وسيطرت سياسيّاً على الشرق وعاملت البيزنطيّين معاملة الكفّار فزاد النفور بين العالمين. وضعف صوت المنادين بالوحدة والمحاولين ربط الجسور بين شقي العالم المسيحي. ولكن طالما كان الملوك المسيحيّون قائمين في القسطنطينيّة فقد بذلوا محاولات كثيرة لإعادة الوحدة الدينيّة مع الغرب وكانت شرطاً لازماً للتحالف السياسي. وتمّ اتفاقان موقتان في مجمع ليون الثاني عام 1274 وفي مجمع فلورنسا عام 1439 إلاّ أنّ الشعب لم يكن راضياً بشروط الوحدة ومتهيئاً لقبولها فأحبطت. ولمّا استولى العثمانيّون على القسطنطينيّة لم يعد بالإمكان قيام مبادرة وحدويّة من الشرق تجاه الغرب. وزاد تطوّر الغرب المنفرد في العصر الحديث من تباعد العالمين فكان المجمع التريدنتيني ثم المجمع الفاتيكاني الأول، كما قام تصلب في اللاهوت الأرثوذكسي المعاصر. وانشطرت البطريركيّة الأنطاكيّة الملكيّة بين مؤيّد لروما أو القسطنطينيّة في هذا النزاع وذلك في القرن الثامن عشر. وتبيّن للملأ أن العالمين الشرقي والغربي ذهبا كلاهما كلٌّ في طريقه بدون رجعة. وراحت روما تحظر على الكاثوليك الاشتراك في القدسيات مع الأرثوذكس كما أصدر البطريرك القسطنطيني كيرلس الخامس عام 1755 قراراً يرفض صحة معموديّة الكاثوليك ويأمر بإعادة معموديّة من ينتمون منهم إلى الأرثوذكسيّة. بيد أنّ الروح لم يزل يعمل في الكنيسة وأدّت الجهود الوحدويّة والمسكونيّة إلى رفع الحرم المتبادل بين الكنيستين عام 1965 ثم إلى بدء الحوار اللاهوتي المباشر بينهما.
 
إلغاء حرومات عام 1054
عشية ارفضاض المجمع الفاتيكاني الثاني (7 ك1 1965) تمّ في آن واحد من قبل روما ومن قبل القسطنطينيّة إلغاء الحرومات المتبادلة التي تمّت عام 1054. ننشر في ما يلي الوثائق الرسميّة التي صدرت عن الكنيستين وذلك نقلاً عن "سفر المحبّة" الذي ترجمه إلى العربيّة الأب جورج خوام البولسي (1988) (ص 129-135)
1
التصريح المشترك للبابا بولس السادس والبطريرك أثيناغوراس، معبّرين عن قرارهما برفع أحكام حرم عام 1054. من ذاكرة الكنيسة ووسطها. وقد تلا المطران يوحنّا ويلبراندس هذا التصريح المشترك، في الجلسة الرسميّة للمجمع الفاتيكاني الثاني. وفي الوقت عينه، تلاه أمين سرّ السينودس المقدّس في كاتدرائيّة الفنار.
1- إن البابا بولس السادس والبطريرك أثيناغوراس الأول، فيما هما ممتلئان عرفاناً بالجميل تجاه الله، للحظوة التي جاد بها عليهما في رحمته بأن يلتقيا لقاءً أخويّاً في الأماكن المقدّسة، حيث بلغ سرّ خلاصنا كماله بموت وقيامة الربّ يسوع، وحيث أُعطيت الكنيسة ولادتها بحلول الروح القدس، لم يَغِبْ عن ناظريهما القصد الذي صوّراه وقتئذٍ كلّ من جهته، على ألاّ يُقصيا شيئاً من الآن فصاعداً من البادرات التي توحي بها المحبّة، والتي يمكنها أن تيسّر نمو العلاقات الأخويّة المباشَر بها على هذا النحو، بين الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة وكنيسة القسطنطينيّة الأرثوذكسيّة. وهما مقتنعان من تلبية نداء نعمته الإلهيّة التي تحفز اليوم الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة، وكذلك كلّ المسيحيّين، على تجاوز خلافاتهم لكي يكونوا مجدّداً "واحداً"، كما طلب الرب يسوع ذلك من أبيه لأجلهم.
2- وبين هذه العقبات التي تعترض سبيل نموّ علاقات الثقة والاحترام الأخويّة هذه يمثل ذكر القرارات. إنّها أفعال وأحداث شاقّة أفضت عام 1054 إلى إصدار حكم بالحرمان، به رشق ممثّلو الكرسي الروماني يقودهم الكاردينال هومبرت البطريرك ميخائيل كيرولاريوس وشخصيتين أُخريين، أولئك الذين أمسَوا هم أنفسهم، بعد ذلك، موضوع حكمٍ مماثل من قِبَل البطريرك والسينودس القسطنطيني.
3- لا يمكن جعل هذه الأحداث كما لو أنها لم تكن ما كانت عليه، في تلك الفترة المضطربة من التاريخ بنوع خاصّ. أمّا اليوم وقد أُلقيَ عليها حكم أوضح وأعدل فيجدر الاعتراف بالشطط الذي اصطبغت به، فقادها تباعاً إلى عواقب تتخطّى – بقدر ما يمكننا أن نقضي فيها – نوايا فاعليها وتوقّعاتهم، هم الذين كانت ملوماتهم تتوجّه إلى الأشخاص المهدوفين لا إلى الكنائس، كما أنهم لم يتوخّوا قطع الشركة الكنسيّة بين كرسيّي روما والقسطنطينية.
4- لهذا فإنّ البابا بولس السادس والبطريرك أثيناغوراس الأول مع سينودسه، إذ هما يعبّران عن رغبة مؤمنيهما المشتركة في الحق، وشعورهما التامّ بالمحبّة، متذكّرين وصية الرب: "إذا تذكّرت وأنت تقرّب قربانك على المذبح، أنّ لأخيك عليك مظلمة، دع ثمَّة قربانك أمام المذبح، واذهب فصالح أخاك" (متّى 5:23-24)، يصرّحان باتّفاق مشترك: 
أ- أنّهما يأسفان للألفاظ المسيئة والمذمّات الخالية من كلّ أساس والبادرات المخطئة التي وسمت من جهة ومن أخرى، أو رافقت، الأحداث التعيسة لهذه الحقبة.
ب- ويأسفان أيضاً لأحكام الحرم التي أعقبتها، ولا يزال ذكرها حتى يومنا هذا يفعل فعله كعائق أمام التقارب في المحبّة، كما أنّهما يزيلانها من حافظة الكنيسة ووسطها، ويودعانها النسيان.
ج- ويرثيان أخيراً للسابقات المكدّرة والأحداث اللاحقة التي قادت في نهاية المطاف إلى قطع الشركة الكنسيّة الفعلي، بتأثير عوامل عدّة منها عدم التفاهم والحذر المتبادلان.
5- يعي بولس السادس والبطريرك أثيناغوراس الأوّل مع سينودسه، أنّ بادرة الحقّ والغفران المتبادل هذه لا يسعها أن تكفي لوضع حدّ للخلافات القديمة، أو الأحداث الموجودة بين الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة، والتي سوف تُجاوز بعمل الروح القدس وبفضل تنقية القلوب والندم على الأخطاء التاريخيّة، وإرادةٍ فعّالة أيضاً في البلوغ إلى فهم وتعبير مشترك للإيمان الرسولي ومتطلّباته.
غير أنّهما يأملان وهما يُتمّان هذه البادرة أن تُقبل من الله، الذي يخفُّ إلى مسامحتنا عندما يسامح بعضنا بعضاً، وأن يستحسنها العالم المسيحي بأسره، ولا سيّما الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة، كتعبير عن إرادة صريحة ومتبادلة في المصالحة، وكدعوة إلى استئناف الحوار الذي سيقودهما بعون الله، وفي روح ثقة واحترام ومحبّة متبادلة، إلى العيش ثانية في شركة الإيمان الكاملة، والاتفاق الأخويّ، والحياة السريّة التي وُجدت بينهما خلال الألف الأول من حياة الكنيسة، لخير النفوس الأكبر وحلول ملكوت الله.
2
الرسالة البابويّة "اسلكوا في المحبّة" Ambulate in dilectioneللبابا بولس السادس، ماحياً من تذكار الكنيسة حكم الحرم عام 1054. قرأ هذه الرسالة في جلسة المجمع الفاتيكاني الثاني الرسميّة الكاردينال أغسطينوس بيا، رئيس أمانة السرّ لأجل وحدة المسيحيّين.
 
 
لتخليد ذكرى هذا الحدث
"اسلكوا في المحبّة على مثال المسيح" (أف 5:2)، إنّ كلمات التحريض هذه لرسول الأمم تخصّنا نحن المدعوين مسيحيّين باسم مخلّصنا، وتستحثّنا خصوصاً في هذا العصر الذي يُلزمنا إلزاماً قويّاً بتوسيع مضمار المحبّة. نعم، إنّ أنفسنا – بنعمة الله – تضطرم رغبة في القيام بأيّ جهد يعيد بناء الوحدة، بين جميع الذين دُعوا إلى أن يحافظوا عليها إذ هم متأصّلون في جسم المسيح. ونحن أيضاً الذين نشغل بتدبير العناية الإلهيّة كرسيّ القدّيس بطرس، قد عبّرنا سابقاً مراراً كثيرة مدركين توصية الربّ هذه، عن نيّتنا الثابتة في اغتنام كلّ الفُرص التي يسعها أن تخدم إنجاز إرادة المخلّص هذه وتتناسب معها. إنّنا نستعيد في روحنا الأحداث المشؤومة التي أفضت عام 1054، إثر انشقاقات جادّة، إلى سوء فهم خطير بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينيّة. ولم يكن لغواً ما كتبه سلفنا البابا القدّيس غريغوريوس السابع بعد الحادثة: "بمقدار ما كان الاتفاق قديماً حسناً، بهذا المقدار أصبح فتور المحبّة بين الطرفين مضرّاً بعد ذلك". وأكثر من ذلك أنّ الأمر قد آل أيضاً إلى إصدار مبعوثي البابا حكماً بالحرم ضدّ ميخائيل كيرولاريوس، بطريرك القسطنطينيّة، واثنين من رجال الكنيسة، وإلى سعي البطريرك وسينودسه المسعى ذاته. ولكن اليوم إذ تبدّلت الأزمنة والعقول، فإنّه يملأ قلبنا سروراً أن يكون أخونا الموقّر أثيناغوراس الأوّل، بطريرك القسطنطينيّة، وسينودسه في الاستعداد عينه الذي لدينا، أي أنّهم يتمنّون الاتحاد بالمحبّة، "رباط العقول الحَسَن الشكل والسليم". وهكذا، رغبةً منّا في التقدّم على طريق المحبّة الأخويّة التي يسعها أن توصلنا إلى الوحدة الكاملة، وفي إزالة الحواجز والعراقيل، نصرّح بحضور الأساقفة المجتمعين في المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني بأسفنا للكلمات التي نُطِق بها، وللأعمال التي أُتيَ بها في ذلك الحين، ولا يمكن الرضى عنها. علاوة على ذلك، نريد أن يُمحى من ذاكرة الكنيسة ويُنتَزَع من صميمها الحكم بالحرم الذي صدر آنذاك، كما نريد أن يغشاه النسيان ويدفنه. كذلك، يسعدنا أن يُتاح لنا إتمام عمل المحبّة الأخويّة هذا، هنا في روما على كثب من ضريح بطرس الرسول، وفي اليوم نفسه الذي تعيّد فيه الكنيسة الغربيّة والكنيسة الشرقيّة، في احتفال تذكاري، للقديس أمبرسيوس أسقف كلِّ منهما ومعلّمهما. ليجعل الله الكليّ الحنان وصانع السلام هذه الإرادة الحسنة المتبادَلة فعّالة، وليسمح بأن تعود شهادة المحبّة الأخويّة المعلنة هذه لمجده. وخير النفوس.
أعطيت في روما بالقرب من كاتدرائيّة القديس بطرس، تحت خاتم الصياد،   في عيد القدّيس أمبروسيوس أسقف الكنيسة والمعترف والمعلّم،                    
في 7 كانون الأول من العام 1965، الثالث لحبريتنا
                                             بولس السادس
 
3
المنشور البطريركي الذي أزال به البطريرك أثيناغوراس وسينودسه من ذاكرة الكنيسة ووسطها حرم عام 1054. تلا هذا المنشور في كاتدرائية الفنار البطريرك المسكوني أثيناغوراس.
أثينا غوراس
رئيس أساقفة القسطنطينيّة، روما الجديدة،
والبطريرك المسكوني، برحمة الله
 
باسم الثالوث الواحد في الجوهر، المحيي غير المنقسم.
"إنّ الله محبّة" (1 يو 9:4)؛ فالمحبّة هي علامة تلاميذ المسيح التي أعطاها الله، والقوّة التي تجمع كنيسته في الوحدة، وفيها مبدأ السلام والاتفاق والنظام، كتجلٍّ سرمدي وساطع للروح القدس فيها.
فيجب إذن على من أودع الله تدبير كنائسه أن يرعوا "رباط الكمال" هذا (كول 14:3)، ويفيدوا منه بكلّ انتباه وعناية وحرص.
وإذا ما حصل أن فترت المحبّة وانفسخت الوحدة في الربّ، فإنّه يجب تدارك الشرّ ومداواته على جُناح السرعة.
والحال أنه باغت الكنيسة عذاب أليم بتدبير سرّي من الله، فقد امتُحنت العلاقات بين كنيستي روما والقسطنطينيّة، وجُرحت المحبّة التي كانت تضمّهما بعضاً إلى بعض، إلى حدّ أنه ظهر الحرم في حضن كنيسة الله: فحرم مبعوثو روما، الكاردينال هومبرت ومن كان معه، البطريرك ميخائيل كيرولاريوس ورفيقيه الاثنين، بينما كان البطريرك ميخائيل كيرولاريوس ومعه سينودسه يحرمون كتاب الذين جاءوا من روما، والذين تدبّروا صوغه، ومعاونيهم أيضاً. فكان ينبغي إذن أن تتدارك كنيستا روما والقسطنطينيّة هذه القضيّة، وتعيدا السلام متمثّلين بصلاح الله وحبّه للبشر.
ولكن، عندما تجلّى في أيّامنا لطف الله نحونا مبيّناً طريق المصالحة والسلام بأشكال شتّى، ومنها وسائل رتّبها الله في صالح الاهتمام المتبادل، المبارك والمثمر، لروما القديمة أو الجديدة على حدّ سواء، بنموّ علاقاتهما الأخويّة، حَسُنَ أن يُباشَر بتصحيح الأحداث الماضية، وأن تُرفَع، في حدّ إمكانيّة كلِّ منهما، العقبات المتراكمة التي يمكنها أن تُزال، وذلك لتقدّم المحبّة ونموّها وبنائها واكتمالها.
وهكذا، فإنّ حقارتنا وفي معيّتها رؤساء الأساقفة إخوتنا الموقّرون والكلّيو الاحترام، المحتفلون معنا والمحبوبون في المسيح، إذ ارتأينا ونحن ملتئمون في سينودس أنّ الوقت قد حان في الربّ، وإذ تداولنا في الموضوع ووقفنا أيضاً على استعدادات روما القديمة المشابهة، قرّرنا أن نرفع من ذاكرة الكنيسة ووسطها الحرم المذكور الذي وجّهه بطريرك القسطنطينيّة ميخائيل كيرولاريوس في سينودسه.
وها نحن إذن نعلن كتابةً أن الحرم الذي أُلقي في القاعة الرئاسيّة العظمى، في شهر تموز من سنة الخلاص 1054، وفي الدورة السابعة لانعقاد المجلس، مرفوع من ذاكرة الكنيسة ووسطها برحمة الله، بدءاً من هذه اللحظة وعلى علم لدى الجميع، لعلّه تعالى يمنح الكنيسة السلام حافظاً إياها إلى جيل فجيل، بشفاعة سيّدتنا والدة الإله الدائمة البتوليّة والكلّية الغبطة مريم، والرسولين القدّيسين المجيدين بطرس، الهامة الأولى، وأندراوس المدعوّ أولاً، وجميع القدّيسين.
وإثباتاً لذلك، فإنّ الصك البطريركي الحاضر قد دوِّن ووُقِّع عليه في سجلّ كنيستنا المقدّسة المهيب، وأُرسل كإشارة خالدة وشهادة ثابتة في نسخة مطابقة للأصل ومماثلة، إلى كنيسة روما القديمة والمقدّسة، لتطّلع عليه وتودعه في دار محفوظاتها.
في سنة الخلاص 1965، في اليوم السابع من شهر كانون الأول لدورة المجلس الرابعة.
                      بطريرك القسطنطينيّة أثيناغوراس يعلن موقفه
 

 توما أسقف خلقيدونيا، خريزوستوم أسقف قيصرية الجديدة، إيرونيموس أسقف رودوبوليس، سمعان أسقف إيرينوبوليس، ذوروثاوس أسقف جزر الأمراء، مكسيموس أسقف اللاذقية، خريزوستوم أسقف ميرا، كيرلّس أسقف خالذيّا، ميليتون أسقف هيليوبوليس وتيرا، إيميليانوس أسقف ميليتس.

عن موقع القديسة تريزا