ما كان له أن يرضي الجميع

 

باتر وردم

جريدة الدستور الأردنية

 

يعود البابا بندكتس السادس عشر إلى مقره في الفاتيكان بعد زيارة مرهقة وطويلة إلى "الأراضي المقدسة" كانت مشبعة بالعواطف والضغوط وإساءة التفسيرات وعدم التوفيق في بعض التصريحات، عكست وبشكل واضح مدى الغليان الديني والسياسي الذي تعيشه المنطقة نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

 

القول بأن زيارة البابا هي "دينية" أكثر منها سياسية يبدو في أفضل الحالات نكتة غير قابلة للاستيعاب، وغير مضحكة على كل حال. إذا كان البابا نفسه حاول الابتعاد عن التوظيف السياسي فإن كل الجهات تقريبا التي قابلها في المنطقة أرادت منه أن يكون ناطقا بلسانها وأن توظف زيارته في النواحي السياسية التي تريدها، وهذا بالطبع كان سيغضب الطرف المضيف في حال لم يحقق البابا ما أراده المضيف، أو الطرف المنافس إذا كان البابا متجاوبا مع حسن الضيافة.

 

في الأردن كان البابا متحررا تقريبا بشكل كلي من ثقل السياسة، وكانت زيارته دينية إلى أبعد الحدود فلم تكن هناك أجندة سياسية للأردن بقدر ما كانت الزيارة تهدف إلى إبراز الحالة الحضارية للتآخي الإسلامي المسيحي في هذا البلد. الاخوان المسلمون بالذات طلبوا من البابا اعتذارا بشأن جملة غير موفقة تجاه الإسلام في محاضرة له من العام 2005، ولكن البابا لم يعتذر في الأردن بل عبر عن احترامه للإسلام فيما بدا وكأنه إعادة صياغة لأسس العلاقة مع الإسلام. ولكن البابا أثار إنزعاجا عاما بسبب إسرافه في التركيز على الإرث اليهودي في جبل نيبو ودعوته إلى التفاهم مع اليهودية من الأراضي الأردنية وهو ما التقطته بدهاء بعض الوسائل الإعلامية المعادية للأردن وجعلته خبرا رئيسيا، كما أن قداسته كان يمكن أن يكون أكثر تفاعلا مع الدين الإسلامي في حال قام بدخول المسجد بدون حذاء، وهي بادرة بسيطة ولكنها ذات أثر عميق.

 

في إسرائيل بالذات تعرض البابا إلى ابتزاز سياسي واضح. قام بكافة الطقوس المطلوبة من قبل الدولة العبرية مثل زيارة حائط المبكى ومتحف المحرقة وانتقد معاداة السامية وتم إجباره على تنفيذ حدث سياسي بامتياز وهو الالتقاء مع أسرة الجندي الإسرائيلي المفقود في غزة. ولكن إسرائيل أرادت المزيد من البابا وخاصة تصريح سياسي ضد إيران، وكانت إجابة البابا عامة حول رفض الكراهية الدينية كما أنه أكد على ضرورة قيام الدولة الفلسطينية ضمن حل الدولتين.

 

في فلسطين قام البابا بزيارة هي الأولى من نوعها لقداسته إلى المسجد الأقصى ودعا في زيارته لفلسطين إلى إقامة دولة فلسطينية ودعا إلى إنهاء حصار غزة وقال أنه يصلي من أجل ذلك وأعلن عن رفضه للجدار العازل مما أغضب الإسرائيليين، ولكنه لم يجتمع مع ممثلين لحماس مما أغضب النصف الثاني من الشعب الفلسطيني ومؤسساته الحزبية والسياسية والدينية.

 

لم يكن البابا ليتمكن من إرضاء الجميع. في غياب أفق لحل سياسي عادل في المنطقة فإن التهاب المشاعر الدينية يجعل الجميع يطالبون بالحد الأقصى من الأفعال المستندة إلى أسس دينية. وبالنسبة إلى طرف ثالث مثل البابا فإن المهمة كانت صعبة جدا في إرضاء جميع الأطراف بل شبه مستحيلة، ففي هذه المنظومة السياسية والتاريخية والدينية فإن الإنصاف والعدالة من وجهة النظر العربية والمسلمة تختلف عن المرجعية الدينية لدى بابا الفاتيكان، ومن الصعب توقع أن يكون البابا ناطقا بلسان القضية العربية والفلسطينية ولكنه في نهاية الأمر لم يرضخ للإبتزاز السياسي الإسرائيلي وأن كان قد خطا خطوات واسعة في التقرب من الرموز الدينية اليهودية نتيجة إرث تاريخي لم يكن لا العرب ولا المسلمين طرفا فيه ولكنهم يدفعون ثمنه منذ أكثر من 60 سنة.