حين تتكلم الكنيسة

 

 

 

 

د. جلال فاخوري

جريدة الرأي الأردنية

 

من فوائد المنهج التاريخي أنه يمكّن الباحث من متابعة التطورات تاريخياً مما يساعد بدوره على تقديم عرض منسّق ومنتظم يتيح للقرّاء الإمساك بخطوط المواضيع المطروحة دون أن يفقد الإتصال بالأحداث والمفاهيم. فالسرد التاريخي لا يعني وقوف الباحث دون تحليل ونقد للأحداث. فالوظيفة الهامة للباحث هي تسليط الأضواء على الظواهر ومحاولة رؤية الأشياء وراء الأشياء. ومن بعض هذه الرؤية ما يتعلّق بالكنيسة ودورها وتاريخها وأهمية الإعتناء الكنسي بالحياة. ومن المؤلم أن بعض ما هو متعارف عليه عند الناس وما يرددونه من أخطاء شائعة هو التسمية بحد ذاتها. فقد اصطلح الناس على تسمية رأس الكنيسة المسيحية ببابا الفاتيكان مما يبعث على الإهتمام بضرورة إصلاح ما هو شائع.

 

فالكنيسة نشأت بتفويض من السيد المسيح بأن أطلق على خليفته إسم "الراعي" أي راع الكنيسة حين قال لبطرس "إرعَ خرافي" ولا نريد هنا إعطاء التفسير العميق لمسألة خليفة المسيح ولكن وحسب النظام البطريركي الذي يعتبر الأب هو رأس الأسرة كما هو المسيح رأس الكنيسة فذلك يعني أن البابا هو الوحيد في العالم المسيحي الكنسي الذي يحمل ملكية وشرعية كلمة بابا لأنها لا تعود لتسمية بشرية بل إلهية. ولمّا كان الفاتيكان هو الخليفة الشرعي للولاية الإلهية على الأرض فليس من حق الآخرين إستخدام كلمة بابا باستثناء البابا وتعني تلقائياً رئيس الكنيسة الكاثوليكية وإن استخدام اصطلاح بابا الفاتيكان هو خطأ لا يجب الإستمرار باستخدامه. فحين نقول البابا نعني تلقائياً سيد الفاتيكان لذلك يجب التوقف عن استخدام اصطلاح بابا الفاتيكان ولا يوجد بابا غيره.

 

إن مهمة الكنيسة عموماً والكاثوليكية تحديداً هي الإنتصار لحياة الشعوب ومحاولة منع كل ما يمكن أن يدمّر الحياة ولذلك حين تنتصر الكنيسة الكاثوليكية للشعب الفلسطيني فذلك أمر منطقي في ضوء مهمتها. وعليه فإن انتصار البابا بندكت للقضية الفلسطينية هو انتصار للعدل والحق.

 

ولمّا كان الإنسان أياً كان دينه أو لونه أو عرقه هو محور الحياة فإنه من الطبيعي أن تنتصر الكنيسة للإنسان ليكون حرّاً في كل شيء دون قهر أو حرمان. وانتصار البابا بندكت للشعب الفلسطيني فذلك ينطلق من أن جميع البشر هم أبناء الله وأن الشعب الفلسطيني هو شعب مقهور وبائس حسب المفهوم الكنسي. وحين يتحدث سيد الكنيسة عن الجدار الفاصل بأنه ظلم فذلك يتصل بإيمان الكنيسة بعدالة المطالب الفلسطينية وحين يطالب برفع الحصار عن غزة فذلك ينطلق من إيمان الكنيسة أنه لا يجوز تحت أي عنوان قتل أهالي غزة جوعاً وإرهاباً. وحين يطالب بدولتين فذلك من منطلق حق الشعب الفلسطيني بدولة تتواكب مع حدود وطن الأجداد حسب التعبير البابوي أما مطالبته المسيحيين أن لا ينظروا للهجرة كحل ابتعاداً عن الضغوط الإسرائيلية فذلك يشير بوضوح إلى أن لا تكون الأرض مفرغة من سكانها فتكون نهباً لليهود. والحقيقة أن قداسة البابا بحكم كونه يمثل الكنيسة المسيحية في العالم فإنه غير مطالب سياسياً بالحديث في السياسة لكن الكنيسة ولكونها مندمجة بعمق في حياة الشعوب وأكبر مدافع عن الحرية والعدالة والمساواة ومعاداة الفقر والظلم الإجتماعي ونصر كبير للمقهورين والمشردين لهذا كله فإنها وبلسان خليفة المسيح وزعيم المسيحية اندمجت بالسياسة وهذا  يعني أن البابا بتصريحاته البالغة الأهمية قد أعطى القضية الفلسطينية دفعاً عالمياً وانتصر للإسلام في دفاعه عنه ضد صفة الإرهاب وأنقذ البشرية من نظرة سلبية إسمها المسيحية والإسلام واليهودية بل أكثر من ذلك فقد احاط العالم بشعور عميق من أن مأساة الفلسطينيين يجب أن تلقى حلاً عادلاً. لقد انخرط البابا بندكت في الأرض المحتلة وإسرائيل يعمّق السياسة بحكم الواجب الملقى على الكنيسة فالإنسان في النظر المسيحي هو الإنسان بصرف النظر عن ماهيته ولهذه الأخلاق البابوية المتعالية يحترم الجميع البابا. ولم تكن الكنيسة التي يمثلها الفاتيكان يوماً محايدة في الحياة أياً كان شكلها وأهلها ولم تكن يوماً سلبية تجاه البشرية. ونحن هنا في الأردن قدرت قيادتنا الحكيمة هذه النظرة الكنيسية المتعالية إنسانياً؟