كلمة البابا إلى مجلس أساقفة إيطاليا

روما، الجمعة 29 مايو 2009 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي الكلمة التي وجهها بندكتس السادس عشر إلى أعضاء مجلس أساقفة إيطاليا الذين استقبلهم البارحة صباحاً في الفاتيكان.

إخوتي الأساقفة الإيطاليين الأعزاء،

يسعدني أن ألتقي بكم مجدداً في هذا الموعد السنوي المعبر الذي يجمعكم في جمعية لمشاركة هموم وأفراح خدمتكم في أبرشيات الأمة الإيطالية الحبيبة. إن جمعيتكم تعكس وتعزز هذا الاتحاد الذي تعيشه الكنيسة والذي يتحقق أيضاً في إجماع المبادرات والعمل الرعوي. بحضوري، أؤكد على هذا الاتحاد الكنسي الذي رأيته ينمو ويتعزز بلا انقطاع. أشكر بخاصة الكاردينال الرئيس الذي أكد باسم الجميع الاتحاد الأخوي ووحدة القلوب مع سلطة خليفة بطرس وخدمته الرعوية، مجدداً التأكيد بذلك على الوحدة الفريدة التي تجمع بين الكنيسة في إيطاليا والكرسي الرسولي. لقد تلقيت خلال الأشهر الأخيرة شهادات عديدة ومؤثرة عن هذا الاتحاد، لذا أشكركم من كل قلبي. في هذه الأجواء من المشاركة، يمكن استخدام كلمة الله ونعمة الأسرار لتغذية الشعب المسيحي الذي يعيش تجربة ارتباط عميق بالأرض، وحس إيمان نابض، وانتماء صادق للجماعة الكنسية، وذلك بفضل إرشادكم الرعوي وخدمة العديد من الكهنة والشمامسة والرهبان والمؤمنين العلمانيين الذين يدعمون بتفانٍ متواصل النسيج الكنسي والحياة اليومية للعديد من الرعايا المنتشرة في كل أنحاء العالم. إننا لا نخفي المصاعب التي تواجهها الرعايا في إرشاد أعضائها إلى اتحاد كامل مع الإيمان المسيحي في عصرنا. وليس من قبيل المصادفة لو أملنا في تجديد في مختلف المناطق في ظل تعاون متزايد للعلمانيين ومسؤوليتهم التبشيرية.

لكل هذه الأسباب، أردتم في الوقت المناسب أن تعمقوا في العمل الرعوي الالتزام التبشيري الذي ميز درب الكنيسة في إيطاليا بعد المجمع، مركزين في جمعيتكم على مهمة التربية الأساسية. فالأمر يتعلق كما ذكرت مراراً وتكراراً بحاجة جوهرية ودائمة في حياة الكنيسة، تميل اليوم إلى أن تتخذ طابعاً ملحاً. لقد تمكنتم خلال هذه الأيام من الإصغاء والتفكير ومناقشة ضرورة المباشرة بمشروع تربوي ينشأ عن رؤية مترابطة وتامة للإنسان لا تنبثق إلا من صورتنا وتحقيقنا في يسوع المسيح. هو المعلم في المدرسة الذي يجب أن نعيد من خلاله اكتشاف مهمة التربية كدعوة سامية يدعى إليها كل مؤمن بطرق مختلفة. ففي عصر من الافتتان القوي بمفاهيم نسبوية وعدمية، عصر تطرح فيه شرعية التربية للمناقشة، لا بد من أن يكون إسهامنا الأول إظهار ثقتنا في الحياة وفي الإنسان، في إدراكه وقدرته على المحبة. وهذا ليس ثمرة تفاؤل ساذج وإنما ثمرة "الرجاء الحقيقي" (بالرجاء مخلصون، 1) الذي يعطينا إياه الإيمان في عملية الفداء التي قام بها يسوع المسيح. بالعودة إلى فعل المحبة الأساسي للبشر، ينشأ تحالف تربوي بين جميع المسؤولين في هذا المجال الحساس في الحياة الاجتماعية والكنسية.

إن اختتام السنوات الثلاث لأغورا الشبيبة الإيطالية يوم الأحد المقبل الذي شهد التزام مجلسكم الأسقفي في مسار إحياء العمل الرعوي للشبيبة، يشكل دعوة إلى مراجعة المسار التربوي الحالي، والمباشرة بمشاريع جديدة لفئة من الأجيال الجديدة واسعة ومهمة للمسؤوليات التربوية في جماعاتنا الكنسية والمجتمع بأسره. ويمتد عمل التنشئة إلى سن الرشد الذي ليس مستبعداً عن مسؤولية حقيقية من التربية الدائمة. لا أحد يستثنى من مهمة الاهتمام بنموه ونمو الآخرين إلى "مقدار قامة ملء المسيح" (أف 4، 13).

ترتبط صعوبة تنشئة مسيحيين حقيقيين بصعوبة تنمية رجال ونساء مسؤولين وناضجين تكون لديهم معرفة الحقيقة والخير والاتحاد الحر معهما في محور المشروع التربوي، بطريقة تحدد مسار تنمية شاملة معداً ومواكباً على نحو ملائم. لذلك، وإلى جانب مشروع مناسب يشير إلى التربية على ضوء النموذج الذي يحتذى به، تبرز الحاجة إلى مربين مؤهلين تستطيع الأجيال الجديدة النظر إليهم بثقة. في سنة القديس بولس التي عشناها متعمقين بكلام ومثال رسول الأمم العظيم، والتي احتفلتم بها بطرق مختلفة في أبرشياتكم، والبارحة تحديداً في بازيليك القديس بولس خارج الأسوار، تتردد دعوة بفعالية استثنائية "اقتدوا بي" (1 كور 11، 1). كلام جريء، والمربي الحقيقي يستخدم أولاً شخصه ويعرف كيفية التوفيق بين السلطة والمثالية في مهمة تربية الأشخاص الذين أوكلوا إليه. نحن ندرك هذا الأمر كوننا نحن الذين وضعنا مرشدين وسط شعب الله، والذين وجه إلينا الرسول بطرس الدعوة إلى رعاية قطيع الله معتبراً إيانا "قدوة للقطيع" (1 بط 5، 3). هذه هي كلمة أخرى يمكننا التأمل بها.

إن الظروف التي نستعد فيها للاحتفال بعد السنة المكرسة لرسول الأمم بالسنة الكهنوتية هي سارة جداً. إننا مدعوون وكهنتنا إلى إعادة اكتشاف نعمة ومهمة الخدمة الرعوية. هذه الخدمة التي تقدم للكنيسة والشعب المسيحي تتطلب روحانية عميقة. واستجابة للدعوة الإلهية، لا بد من أن تتغذى روحانية مماثلة من الصلاة ومن وحدة شخصية مع الرب لخدمته من خلال إخوتنا في التبشير والأسرار وحياة الجماعة المكرسة ومساعدة الفقراء. على هذا النحو، تبرز أهمية الالتزام التربوي في الخدمة الكهنوتية، لكيما ينمو أشخاص أحرار أي مسؤولون، مسيحيون ناضجون وواعون.

من الروح المسيحية، يستمد حس التضامن المتجذر في قلوب الإيطاليين حيوية متجددة منتهزاً الفرص للتعبير عن نفسه بقوة في بعض الظروف المأساوية التي تعيشها البلاد ومنها مؤخراً الزلزال المدمر الذي ضرب بعض المناطق في أبروزي. وخلال زيارتي إلى هذه الأرض الجريحة، تمكنت كما ذكر رئيسكم من لمس الأحزان والآلام والكوارث التي سببها الزلزال. ولكنني تأثرت فعلاً بقوة الروح التي يتمتع بها هؤلاء السكان وبحركة التضامن التي نشطت فوراً في كل أنحاء إيطاليا. فقد استجابت جماعاتنا بسخاء كبير لدعوة المساعدة بدعم المبادرات التي نظمها مجلس الأساقفة من خلال كاريتاس. وهنا، أجدد التأكيد لأساقفة أبروزي ومن خلالهم للجماعات المحلية على صلواتي الدائمة ومقربتي الروحية.

إننا نشهد منذ أشهر تبعات أزمة مالية واقتصادية ضربت العالم بشدة ووصلت إلى جميع البلدان بطرق مختلفة. وعلى الرغم من التدابير التي اتخذت على مختلف المستويات، إلا أن التبعات الاجتماعية ما تزال قائمة بخاصة بين الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع وبين العائلات. لذلك أرغب في التعبير عن تقديري وتشجيعي لمبادرة صندوق التضامن المسمى بـ "قرض الرجاء" الذي سيحظى يوم الأحد المقبل بوقت مشاركة إجماعية خلال حملة جمع التبرعات الوطنية التي تشكل أساس هذا الصندوق. وهذه الدعوة الجديدة إلى السخاء التي تضاف إلى العديد من المبادرات الأخرى التي قامت بها مختلف الأبرشيات، تذكر ببادرة جمع التبرعات التي نظمها الرسول بولس من أجل كنيسة أورشليم وتعبر ببلاغة عن المشاركة المتبادلة للأعباء. في هذه الأوقات العصيبة التي يعيشها بخاصة الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم، تصبح الدعوة فعل عبادة حقيقي يولد من المحبة التي يضعها روح القائم من بين الأموات في قلوب المؤمنين. إنه إعلان بليغ عن الاهتداء الروحي الذي يحدثه الإنجيل، وتعبير مؤثر عن المشاركة الكنسية.

كذلك فإن إحدى أشكال المحبة الأساسية التي تلتزم بها كنائس إيطاليا هي المحبة الفكرية. هذا ما يظهره مثال تعزيز نشر ذهنية لصالح الحياة في كل جوانبها وأوقاتها، بخاصة لصالح الحياة الهشة وغير المستقرة. والدليل على هذا الالتزام هو البيان: "حرية العيش. المحبة القصوى للحياة"، الذي يتوجه للعلمانية الإيطالية الإجماعية للعمل من أجل ألا يغيب عن البلاد إدراك الحقيقة الكاملة عن الإنسان وتعزيز خير الأفراد والمجتمع. والأفكار الواردة فيه تحدد نطاق عمل تربوي حقيقي وتعبر عن محبة قوية وفعلية لكل فرد. وبناءً عليه، أعود للموضوع الأساسي لجمعيتكم – مهمة التربية الملحة – الذي يتطلب تجذراً في كلمة الله، وتمييزاً روحياً، وقدرة على القيام بمشاريع ثقافية واجتماعية، وإظهار الوحدة والمجانية.

إخوتي الأعزاء، أيام قليلة تفصلنا عن عيد العنصرة الذي نحتفل خلاله بهبة الروح الذي يهدم الحواجز ويسمح بفهم الحقيقة الكاملة. فلنبتهل إلى المعزي الذي لا يتخلى عن الملتجئين إليه موكلين إليه مسار الكنيسة في إيطاليا وكل شخص يعيش في هذه البلاد الحبيبة. فليحل علينا جميعاً روح الحياة وليلهب قلوبنا بشعلة محبته اللامتناهية.

من كل قلبي، أبارككم أنتم وجماعاتكم.

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009