المصيبتان في الدين والسياسة

محمد السماك

جريدة النهار اللبنانية

 

يقلقني تورط رجال الدين بالسياسة أو توريطهم.

 

الظاهرة ليست جديدة، ولكنها تستفحل يوماً بعد يوم في لبنان وفي المنطقة وفي العالم. انها تؤدي الى تقليص، وحتى الى إلغاء المسافة بين ما هو ديني وما هو سياسي.

 

اذا كان من تعريف للسياسة في هذا المجال، فهو انها فن التعامل بنسبية مع الاحداث. الامر الذي يعني ان كل المواقف من كل القضايا يجب أن تكون مفتوحة دائماً على الخطأ والصواب. وبالتالي على ضرورات وعلى حتميات اعادة النظر والمساءلة والمحاسبة، وبالتالي على ممارسة النقد الذاتي تقويماً وتصحيحاً. في السياسة لا توجد مسلّمات دائمة. كل شيء نسبي ومتغير. وكل شيء متحرك ومتبدّل. وذلك على عكس ما هو ديني. هنا كل شيء مطلق ومقدس وثابت وغير قابل للجدل والنقاش.

 

في السياسة يتحمل الانسان تبعات خطأ اجتهاده، ويدفع ثمن سوء قراراته، سواء لجهة ابداء الرأي من قضية ما، او الالتزام بموقف ما، او القيام بعمل ما. ولكن عندما يتعلق الامر بالشأن الديني فإن الخطأ هنا ليس مسموحاً به من حيث المبدأ. لأن الدين وحي إلهي، وما هو إلهي هو فوق الخطأ. الانسان يخطئ ولذلك يعاد النظر دائماً في القوانين وحتى في الدساتير. ولأن الانسان يدرك انه يخطئ، فقد وضع آلية لعملية اعادة النظر هذه. أما الإله فإنه فوق الخطأ. ولذلك فإن ما يصدر عنه وما يوحي به من الشرائع الدينية فهو ثابت ودائم. ولا توجد آلية لتغييره، ولكن توجد آلية لإعادة فهمه في ضوء المستجدات من الامور. وبالتالي فإن من يتحدث أو يتصرف باسم الإله يتمتع بحصانة -او هكذا يفترض- تحميه من التعرّض لأي تجريح او نقد او مساءلة. وأي تجاوز لهذه الحصانة يفهم أو يفسَّر على انه انتهاك لحرمة الدين ولقدسيته؛ ويجري التعامل معه على هذا الاساس.

 

من هنا فإنه عندما يختلط الامر بين ما هو سياسي وما هو ديني، وبين من هو السياسي ومن هو الديني، يتداخل النسبي مع المطلق، والمتغير مع الثابت، والانساني مع المقدس.

 

سيئ أن يكون على طرفي الصراع السياسي رجل دين ورجل سياسة. هنا يتداخل بشكل مباشر ومقيت الديني بالسياسي، وهنا يختلط مفهوم الاجتهاد الانساني بمبدأ الحقيقة المطلقة. ولكن الأسوأ من ذلك هو أن يكون على طرفي الصراع رجلا دين يمثلان دينين (أو مذهبين) مختلفين. هنا يختلط الديني بالديني ويتصارع المطلق مع المطلق. وما هو إلهي مع ما هو إلهي. ينطلق خطر هذا التداخل من الاعتقاد بأن كلاً من رَجلي الدين يقف على قاعدة مقدسة ويمسك بناصية الحق. هنا تنتفي المساحة التوفيقية التي تسمح لأهل كل من الديانتين بالتحرك فيها تدويراً للزوايا الحادة أو ترويجاً للمشتركات الجامعة او تقليلاً من أهمية التباينات في وجهات النظر. ومن شأن ذلك إسقاط المنطق التوفيقي بالضربة القاضية. ليحلّ محله منطق التبعية المطلقة، وليسود الولاء المطلق على أساس انه ولاء للمقدس، ممثلاً برجل هذا الدين (او المذهب) او ذاك.

 

إن إلغاء المسافة بين الديني والسياسي يهبط بالمقدسات الدينية من سموّها الروحي الى وحول التداول الجدلي. ويعرّض مراجعها ورموزها الى ما يطبع حياة محترفي السياسة اليومية من تبادل الاتهام والاتهام المعاكس. أما محصلة ذلك، فهي انه بدلاً من دعم الموقف السياسي بالدين، يُستضعف الدين بالموقف السياسي. وتبعاً لذلك، فإن الحوار او النقاش هنا حول القضايا الوطنية العامة، وحتى حول المصالح المشتركة، يتوقف عن الاعتماد على قوة المنطق او على الحجة والبرهان، وبدلاً من ذلك يؤسَّس على القوة المعنوية للثوب الديني ولرمزيته. فحتى تكون مطمئناً انك على حق، يجب أن تكون موالياً لصاحب الزيّ الديني لأنه به، وليس بالضرورة بالمنطق، يعبّر عن الارادة الإلهية ويمثلها.

 

لا تتوقف هذه الاشكالية المعقدة عند هذا الحد. انها تتجاوزه الى ما هو ابعد واشد تعقيداً. ذلك ان رجلي الدين يصبحان اسيرين لموقفيهما حتى ليبدو وكأن اي نقد او تجريح لموقف اي منهما هو نقد او تجريح او مس بالمعتقد الديني الذي يمثله. ومن ثم فانهما عملياً يأسران نفسيهما، كما يأسران مجتمعيهما داخل حدود موقفيهما. وتصبح مجرد مناقشة اي من الموقفين كأنها مناقشة للعقيدة او مراجعة للمقدس منها. وبموجب عمليتي الأسر هاتين للذات وللجماعة تتعذر مراجعة الذات، فضلاً عن تعذر نقدها، وتتعثر محاولات التجسير بين الجماعات، فضلاً عن اعادة بنائها.

 

من حيث المبدأ، لا يجوز منع رجل الدين -لأنه رجل دين- من ان يقول رأيه في القضايا السياسية العامة. فهو مواطن كغيره من المواطنين، له حقوق وعليه واجبات. ثم انه راع ومسؤول عن رعيته. ولكن المجتمعات التي تسود فيها ثقافة اضفاء المقدس على الانساني، تعطي حقوق المواطنة التي يتمتع بها رجل الدين وتعطي دوره كراع، مفاهيم والتزامات تتجاوز الحدود التي ترسمها وتحددها القوانين الوضعية.

 

وعندما يكون المجتمع متعدد الدين والمذهب كالمجتمع اللبناني، اي عندما يكون متعدد المرجع الديني،

وعندما تكون هذه المراجع تتمتع بمواقع روحية تسمو على القوانين، لانها تمثل ما هو اسمى من القوانين، اي الشرائع السماوية، وعندما يكون الولاء الروحي العميق للطائفة ولرموزها الدينية اقوى من الولاء السياسي للوطن ولقوانينه، عند ذلك تتعزز المخاوف من خطر تحول الاختلاف في وجهات النظر العلنية بين اي رجلي دين الى خلاف بين طائفتيهما.. وبالتالي الى خلاف وطني.

 

تقوم العلاقات بين الناس عامة، وبين ابناء الوطن الواحد خصوصاً، على قاعدتين من الاحترام: القاعدة الأولى هي احترام الرأي المختلف من حيث انه تعبير عن قيم وآراء ومفاهيم ورؤى تشكل مكونات اساس من مكونات الشخصية. وكلما اتسعت "الأنا" للآخر، تتسع معها آفاق التفاهم المشترك والاحترام المتبادل. فالآخر المختلف هو الضوء الساطع لمعرفة الذات ولمعرفة الآخر معاً. ومن دون هذه المعرفة ببعديها تضيق الأنا بذاتها وبالآخر، وتتقلص آفاق التعارف حتى الاختناق.. وهي حالات غير نادرة تصل بأصحابها الى حد محاولة الغاء الآخر فكراً او حتى جسداً.

 

اما القاعدة الثانية فهي احترام عقيدة الآخر الدينية، من حيث انها تعبير عن ايمان موحى به من السماء. واذا كان احترام الرأي الانساني ضرورياً لقيام علاقات سليمة، فان احترام العقيدة الدينية (السماوية) ضروري أكثر للمحافظة على هذه العلاقات السليمة سواء بين الافراد او بين الجماعات. فهنا يتكامل الانساني بالمقدس، وهو التكامل الذي يسمو بالمجتمعات الى مستوى الكمال الذي تنشده دائماً.

 

غير ان الاختلاف السياسي بين رجال الدين يوجه ضربات مدمرة الى القاعدتين اللتين يقوم عليهما هذا النوع من العلاقات، اي قاعدة احترام الرأي المختلف، وقاعدة احترام العقيدة المختلفة. فالاختلاف هنا يعطّل القدرة على التمييز بين ما هو سياسي وما هو ديني. وهو تعطيل لا يخدم مصلحة احدهما على حساب الآخر، ولكنه يسيء اليهما معاً، ويؤسس فوق ذلك لمشاعر العداء والكراهية.

 

من اجل ذلك، يحتاج المجتمع المتعدد الى ثقافة بناء الجسور اعتماداً على قيم المحبة والاحترام. فالمحبة من دون احترام قد تتحول الى شفقة. والشفقة تتعامل مع الحق كمنّة. وهذا نوع من "الذمية" التي لم تعد صالحة لوحدة المجتمع او لوحدة الدولة والوطن. والاحترام من دون محبة لا يبني ثقة ولا يؤسس أخوّة حقيقية.

 

ان الوحدة الوطنية بين المختلفين دينياً او عنصرياً او ثقافياً تقوم على احترام المختلف معه، وحتى على احترام خياراته النرجسية. وبموجب ذلك يفترض برجال الدين ان يكونوا المؤمنين والمؤتمنين على ثقافة بناء الجسور بين ابناء وبين جماعات الوطن الواحد. ولكن عندما يستدرجون -من حيث يريدون او لا يريدون- الى حلبات الصراع السياسي؛ وعندما تتمحور اختلافاتهم ومساجلاتهم حول قضايا زمنية -لا روحية- متحركة ومتغيرة باستمرار، فانه يخشى ان يفسد ملح طعامهم الروحي "واذا فسد الملح فبماذا يملح"؟.

 

صحيح ان تسييس الدين مصيبة. ولكن تديين السياسة مصيبة أكبر. ربنا نجّنا من المصيبتين.