الأسس القانونيّة-الكنسيّة، لدور البطريرك المارونيّ في الشّؤون السّياسيّة

بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي

* * *

كثر الكلام في الآونة الأخيرة على دور البطريرك المارونيّ، في الشّأن العامّ الوطنيّ والسّياسيّ في لبنان؛ حتّى غدا هذا الدّور عرضة لبعض التّحليلات والمناقشات النّقديّة التي ربّما انزلقت أحيانا إلى مستوى انتقادات عشوائيّة، تشكّك في حقّ البطريركيّة المارونيّة بالتزامها الشّأن العام وبأدائها الوطنيّ التّاريخيّ المعروف.

     وعليه، رأينا وجوب توضيح بعض الاستفهامات المطروحة في هذا الصّدد، من خلال العودة إلى بعض المصادر القانونيّة المارونيّة والشّرقيّة عموما، لتوضيح قانونيّة دور البطريرك في الشّؤون الزّمنيّة.

      تشتقّ عبارة "بطريرك" من الجذر اليونانيّ Patriarkis وهي مركّبة من Patria "عِرق" أو "بلد"، ومن Arkin أي "آمر". فيكون معنى كلمة بطريرك: "آمر البلد" (Cf. S. Sidarouss, Des Patriarcats: les patriarcats dans l’Empire Ottoman et spécialement en Egypte, A. Rousseau, Paris 1907. p. 2).

    ومن الثّابت تاريخيّا، أنّ قبل ظهور الإسلام، كان لكلّ ناحية من الشّرق المتوسطيّ، قوانينها المحلّيّة الخاصّة (Cf. O. Bucci, Le Province Orientali dell’Impero Romano: una introduzione storico-giuridica, Pontificia Universitas Lateranensis, Roma 1998, p. 242). ثمّ عند انتشار الدّين الإسلاميّ، كان بإمكان "أهل الذّمّة" المسيحيّين القاطنين الدّيار الإسلاميّة، أن يسيروا بموجب قوانينهم الخاصّة بهم (Ibid., p. 230) ؛ نذكر على سبيل المثال لا الحصر، القوانين الكنسيّة المعترف بها من الدّولة الأمويّة التي كانت تتناول وظيفة البطريرك، وسلطته الرّوحيّة والزّمنيّة على المسيحيّين.

    فالطّابع المدنيّ الذي اتّصفت به سلطة البطريرك قبل الإسلام وبعده، كان الدّافع الأساسيّ إلى خلق مجموعة قانونيّة خاصّة في الشّرق، تسمّى بالنُومو-قانون  “Nomocanon” نظير "كتاب الهدى"، ويقال في اللاّتينيّة Liber Dierctionis الذي يُرجّح أنّ الكنيسة المارونيّة قد اعتمدته كشرع خاصّ لها في مطلع القرون الوسطى (راجع، بطرس فهد، حول  كتاب الهدى وتاريخ الطّائفة المارونيّة، مطابع الكريم الحديثة، جونيه 1945، ص. 62؛ راجع أيضا، جرجس منش، الحقّ القانونيّ عند الموارنة، ]د.ن.[، حلب 1925،  ص5-7) ، وهو يحوي مجموعة مختلطة من الحقّ القانونيّ  (Kanones)  وبعض القوانين "المدنيّة"(Nomi)  التي حدّدت صلاحيّات رؤساء الدّين الأعلين، مانحة للبطاركة بعض الامتيازات (Cf. P. Dib, Histoire de l\’Eglise Maronite, Beyrouth, Editions La Sagesse, 1962 p. 66).

    يظهر جليّا في "كتاب الهدى" المذكور تبدّل مفهوم أولويّة السّلطة الكنسيّة عموما والبطريركيّة خصوصا، وتقدّمها على السّلطة الملكيّة أو الحاكم السّياسيّ في الشّرق المسيحيّ، منذ مطلع القرون الوسطى على الأقلّ (راجع، بطرس فهد، كتاب الهدى، وهو دستور الطّائفة المارونيّة في الأجيال الوسطى، حلب 1935،  ص. 224).

    كما يجلو بوضوح أكبر، حقّ البطريرك بالتّدخّل المباشر بسلطة الملك، في حال مخالفة هذا الأخير الشّريعة، حتّى درجة عزله (المصدر نفسه، ص. 224-225). إنّ هذه الامتيازات، في الواقع، كان يتمتّع بها بطريرك القسطنطينيّة (Cf. G. Pilati, Chiesa e Stato nei primi quindici secoli, Roma 1961, p. 106) الذي كان من واجبه السّهر على العدالة والإيمان والأخلاق داخل الإمبراطوريّة التّيوقراطيّة. 

    وبما أنّ الموارنة تبنّوا "كتاب الهدى" كما هو؛ وبما أنّه لم يكن لهم ملك يحكم أمّتهم، إذ لم يكونوا جزءا من الإمبراطوريّة البيزنطيّة، والإسلاميّة لاحقا، كان بطريركهم نفسه يرأس الأمّة المارونيّة بمعاونة الأساقفة والكهنة كنسيّا، وبمؤازرة الأمراء و"المُقَدَّمِين"، مدنيّا. أمّا العلاقة بينه وبين الأمراء والمقدّمين في المجتمع المارونيّ، فكانت لأشبه بعلاقة بطريرك القسطنطينيّة بالإمبراطور البيزنطيّ. 

    فالمقدّمون كانوا حكّام بعض المقاطعات المارونيّة، يعيّنهم البطريرك، ويمنحهم درجة الشّدياقيّة، وهذا شبيه قياسيّا بما كان يفعله بطريرك القسطنطينيّة عند تتويج الإمبراطور؛ وقد كان يحقّ للأمراء والمقدّمين الجلوس في الكنيسة بعد الكهنة، كما الإمبراطور عن يمين بطريرك القسطنطينيّة أمام المذبح. وللبطريرك المارونيّ أيضا، أن يعاقب "المقدّم" بالحرم الكنسيّ عندما يستدعي الأمر، كما كان لبطريرك القسطنطينيّة، حقّ توبيخ الملك إذا خالف الشّرائع، وخلعه من منصبه.

       انطلاقا من تسليمنا إذاُ، بأنّ "كتاب الهدى" هو مجموعة قوانين الكنيسة المارونيّة في القرون الوسطى، فمن الأرجح عندنا، أن يكون الموارنة قد ساروا وفقا لروحيّة تلك القوانين بالطّريقة التي أوردناها، وإلاّ تعسّر عليهم تطبيق قوانينهم كما يجب، وأصبحوا خارج القانون.

    1. عادة مارونيّة قديمة الأيّام

    ثمّة نظرة عامّة في الشّرق المسيحيّ منذ عصوره الأولى، تؤكّد أنّ البطاركة هم آباء ورؤساء لشعوبهم، ورمز وحدتهم العرقيّة والدّينيّة، ومرجعيّتهم الثّابتة؛ كما أنّ البعض منهم قد تميزّ بسلطان خاصّ يعود إلى اتفاقيّات جرت مع السّلطة المدنيّة (Cf. D. Salachas, Istituzioni di Diritto Canonico delle Chiese Cattoliche Orientali, EDB, Roma-Bologna 1993, p. 142). وعليه، إنّ تلك الاتّفاقيّات تصبح مع مرور الزّمن نوعا من التّسليم العفويّ بواقع الأمر، فتغدو عرفا وتقليدا، له قوّة القانون.

    أمّا البطريركيّة المارونيّة فقد تميّزت عبر تاريخها الكنسيّ الطّويل، بحالة فريدة من نوعها، من خلال دورها السّياسيّ المميّز بقيادة بطاركتها الذين ساهموا بقوّة في صنع الكيان الّلبنانيّ الحاليّ الذي اندمجت البطريركيّة فيه اندماجا وثيقا حتّى صرت تخال أن لا وجود للبنان بدون البطريركيّة المارونيّة، ولا وجود للبطريركيّة المارونيّة بدون لبنان.

    كما يجزم بعض الباحثين، في أنّ اللجوء إلى البطريرك المارونيّ في مختلف الأمور، كان بمثابة أمر طبيعيّ ومألوف، ثمّ أصبح فيما بعد جزءا لا يتجزّأ من التّقليد، كما يؤكّد المفكّر اللّبنانيّ كمال الحاج: "إنّ اللجوء إلى الصّرح البطريركيّ هو أمر عاديّ، طبيعيّ، تراثيّ، تقليديّ" (راجع، كمال الحاج، بكركي صخرة الخلاص، مطابع الكريم، جونيه 1973، ص. 21). يعود هذا الأمر إلى نشأة البطريركيّة المارونيّة، حيث وضع الشّعب المارونيّ ثقته الكبيرة في بطريركه، لأسباب دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة ووطنيّة (راجع، فيليب السّمراني، الذّخائر السّنيّة، ]د.ن.[ جونيه 1931، ص. 673) ، فالبطريرك هو خادم الموارنة وحاميهم ورأسهم الرّوحيّ والزّمنيّ وقاضيهم الأعلى (Cf. I. Aouad, Le droit privé des Maronites au temps des Émirs Chihab (1697-1841) d’après des documents inédits, essai historique et critique, P. Geuther, Paris 1933, p. 18).

هذا ما أكّده البطريرك أنطون عريضة نفسه، في رسالته إلى رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة، بشارة الخوري، في 15 تمّوز 1945، قائلا:

“Le Patriarcat Maronite, ayant depuis des siècles travaillé à l’intégrité et à l’indépendance du Liban, les Libanais ne connaissaient d’autre Chef et Défenseur que le Patriarche Maronite et continuent à conserver en lui une pleine confiance…” (Cf. B. Daou, Histoire Religieuse, Culturelle et Politique des Maronites, Beyrouth 1985, pp. 978-979).

       والتّاريخ يشهد على علاقة البطريركيّة المارونيّة مع "جماعة الحكم المدنيّ"، التي لم تخضع إلاّ آنيّا وفي مرحلة مـتأخّرة للإمبراطوريّات التي كانت تحكم المنطقة الموجودة فيها منذ عهد الأموييّن إلى العثمانيّين؛ كما أنّ علاقتها مع الحكم الذّاتي اللّبنانيّ العامّ في العهدين المعنيّ والشّهابيّ، كانت جيّدة بصورة عامّة، حيث كان لها دور زمنيّ وسياسيّ مباشر وغير مباشر. أمّا  مع الحكم الذّاتي داخل الأمّة المارونيّة، فالبطريرك نفسه كان لها المرجع الرّوحيّ والزّمنيّ الأعلى، في آن معا، حتّى مشارف تحقيق استقلال لبنان.

     وفي مختلف الأحوال، قد أثبت التّاريخ صحّة مقولة شارل مالك المفكّر اللبنانيّ الكبير، عن البطريركيّة المارونيّة بأنّها "مركز روحيّ فريد في الشّرق الأوسط. الكلّ يتطلّعون إلى قيادته وتوجيهه. باستطاعة هذا المركز الكبير جمع شمل الموارنة وأكثر من الموارنة" (راجع، شارل مالك، "الكثير المطلوب"، الفصول (مجلّة)، عد.  3 (1980) 26).

2. إجماع شعبيّ

 

    اعتُبر بطريرك الموارنة عبر التّاريخ، كما أسلفنا، رمز السّلطة الأدبيّة والزّمنيّة في أمّته، وقد ذهب الفرنسيّ موريس بارّيه  Maurice Barrèsإلى حدّ القول بأنّ البطريرك المارونيّ هو السّلطة الأدبيّة الكبرى في الشّرق الأدنى:

"Le Patriarche Maronite est la plus grande autorité morale dans le Proche-Orient" (Cf. P. Hobeika, Amitié Franco-Libanaise, Beyrouth 1936, p. 10.).

ما من أحد يستطيع إنكار إجماع اللّبنانيّين الذي يتخطّى الطّائفيّة والمذهبيّة على أنّ البطريركيّة المارونيّة مرجعيّة روحيّة ووطنيّة، لها دور مميّز ورياديّ في الشّؤون الكنسيّة والوطنيّة. وقد عبّر عن هذا الرّأي أيضا لبنانيّون غير موارنة، من انتماءات حزبيّة مختلفة. نكتفي باقتطاف شذرات ممّا ذكره بعض البحّاثة والمفكّرين اللّبنانيّين في هذا الصّدد. قال شارل مالك الآنف الذّكر، في إحدى محاضراته عن الموارنة إنّ كرسي بكركي البطريركيّ، بما يمثّله من زعامة روحيّة في لبنان وفي قدر العالم، هو طاقة من طاقات المارونيّة القياديّة: "أهمّيّة بكركي الهائلة أنّ لبنان القويّ لا يستطيع أن يخلّصها إذا كانت هي ضعيفة، أمّا بكركي القويّة، الرّاسخة، النّابضة، معنويّا واجتماعيّا، فتستطيع بمفردها أن تخلّص لبنان، مهما خار وضعف" (راجع، شارل مالك، "الطّاقات المارونيّة"، خطاب في ندوة "المارونيّة ولبنان"، معهد الرّسل، جونيه، 19 أيّار، 1974). 

وكتب الباحث والكاتب شوقي خير الله في مجّلة "الجمهور" عام 1973: "..إنّ بكركيّ هي ملك عام، حضاريّ وقوميّ، للبنان ولغير لبنان، وإنّها خميرة من خمائر المشرق والنّصرانيّة والعروبة. إنّها معقل حضاريّ عتيق، لا طائفيّ، ولا لطائفة، في مشعّ أنطاكية كلّه" (راجع، شوقي خيرالله، "بكركي.. وميليشيا الملكوت"، مجلّة الجمهور، السّنة 37، عدد 971، 25-31 كانون الثّاني 1973، ص. 7). 

كما أكّد الأب اغناطيوس طنّوس الخوري، أنّ البطريرك المارونيّ لم يكن رئيسا روحيّا للبنان فحسب، بل رئيسا مدنيّا أيضا يحتكم إليه مقدّمو لبنان وأمراؤه وإقطاعيّوه ومشايخه، ويرجع إليه الشّعب في تقرير كلّ مصير (أغناطيوس طنّوس الخوري، البطريركيّة المارونيّة هي المرجع الأوّل والأعلى لزعامة لبنان وإدارة مقدّراته من جميع الوجوه، ] د.ن. [ بيروت 1945،  ص. 3) .

    وفي الواقع، تُعتبر البطريركيّة المارونيّة حتّى يومنا هذا، "محجّا وطنيّا" لجميع اللّبنانيّين، يضعون فيه ثقتهم وآمالهم، مجمعين على أنّ البطريرك هو المدافع الصّادق عن الوطن، لا مصلحة شخصيّة له في ذلك، إلاّ المصلحة الكنسيّة والوطنيّة العامّة والخير العامّ.

    3. "مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة"

 

    منح قانون 271 من "الارادة الرّسوليّة"Cleri Sanctitati ، الحقّ للبطريرك بممارسة "الحكم المدنيّ" إن كان ثمّة عادة جارية تجيز ذلك، وهذا ينطبق نسبيّا على ما كان يحدث باستمرار في تاريخ "الأمّة" المارونيّة، ضمن حدود انتشارها في جبل لبنان.

    أمّا التّشريع الشّرقيّ الكاثوليكيّ الحاليّ فلم يتبنَّ صراحة هذا القانون، لكنّه لم يبطله، وفقا لقانون 5 (م.ق.ك.ش.) الذي ينصّ على ما حرفيّته:

"إنّ الحقوق المكتسبة وكذلك الامتيازات التي منحها الكرسيّ الرّسوليّ للأشخاص الطّبيعيّين أو الأشخاص المعنويّين والمعمول بها حتّى اليوم بدون أن تنقض، تبقى بأكملها ما لم تنقضها نصّا قوانين هذه المجموعة".

    فالتّشريع الجديد إذاً، أمانة منه للتّقليد وأخذه بالاعتبار الحالة الخاصّة لبعض الكنائس الكاثوليّكيّة من النّاحيتين الكنسيّة والاجتماعيّة-السّياسيّة، ينظر إلى البطاركة الشّرقيّين الكاثوليك الذين يمثّلون كنائسهم البطريركيّة في جميع الشّؤون القانونيّة، وفقا للقانون 79، كمدافعين عن حقوق أبنائهم الكاثوليك أمام السّلطات المدنيّة.

    وقد أبرمت في بعض البلدان الشّرقيّة، اتّفاقيّات ومعاهدات بين البطريركيّات والسّلطات المدنيّة (Cf. Nuntia, 15 (1985) 5).

    كما أنّ هذا التّشريع الجديد، يختلف عمّا أوردته الإرادة الرّسوليّة المذكورة في قانون 281 الذي ربط صلاحيّة البطريرك، في إبرام المعاهدات مع السّلطة المدنيّة برضى أعضاء المجمع الدّائم أوّلا. أمّا مجموعة القوانين الجديدة، فتسلّط الضّوء على مجمع أساقفة الكنيسة البطريركيّة، كسلطة عليا.  لذا إنّ البطاركة الكاثوليك الشّرقيّين بعد موافقة مجمع أساقفة الكنيسة البطريركيّة والحبر الرّومانيّ، يحقّ لهم أنّ يعقدوا معاهدات مع السّلطة المدنيّة لا تتعارض مع توجّهات وقوانين الكرسيّ الرّسوليّ (Ibid., 2 (1976) 38-39) ، مع الحفاظ على المعاهدات المبرمة أو الموافق عليها من قبل الكرسيّ الرّسوليّ مع الدّول أو جمعيّات سياسيّة أخرى (راجع، مجموعة مؤلّفين، شروحات مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، (تنسيق الأب أنطوان راجح) جونيه 2005، ص. 138-139) ؛ هذا ما حدّده قانون 98 (م.ق.ك.ش.)، إذ لفت الانتباه أيضا، إلى عدم استطاعة البطريرك أن ينفّذ هذه المعاهدات ما لم يحصل على اعتماد الحبر الرّومانيّ لها. لأنّ ذلك أمرا ضروريّا لإطلاق المعاهدات وجعلها قابلة للتّنفيذ.

والقانون 100 يحدّد صلاحيّة البطريرك بأن ينقل إلى نفسه الشّؤون التي تتعلّق بأبرشيّات عدّة، وتمسّ السّلطة المدنيّة، والغاية من ذلك، توسيع إطار التّنسيق بين المحاولات من أجل نتيجة أفضل. لكن ليس بوسعه أن يقرّر فيها شيئا إلاّ بعد استشارة أساقفة الأبرشيّات الذين يعنيهم الأمر، وبرضى المجمع الدّائم؛ أمّا إذا لم يتمكّن من جمع أعضاء المجمع الدّائم، فينوب عنهم أساقفة النّطاق البطريركيّ إن وُجدوا، وإلاّ فالأسقفان الأبرشيّان الأقدمان في الرّسامة الأسقفيّة.

    إنّه لأمر مميّز جدّا في التّشريع الكنسيّ الشّرقيّ الكاثوليكيّ الحاليّ، أن يستطيع البطريرك عقد معاهدات مع السّلطة المدنيّة وفقا لما تقدّم. بل هو برهان جليّ على استقلاليّة المؤسّسات الكنسيّة في كلّ الأمور. 

    4. حقّ خاصّ وطبيعيّ للبطريرك المارونيّ

    إنّ الإكليريكيّ بادئ ذي بدء، هو مواطنّ كسائر المواطنين، له حقوق، وتترتّب عليه واجبات. يظهر ذلك بديهيّا، في حقّه بالانتخاب، والتّعبير عن رأيه تجاه وطنه وقضاياه.

فالحالة الإكليريكيّة لا تنزع عن المرء صفة الانتماء الوطنيّ؛ بل إنّ القانون الكنسيّ (قانون 384 بند 1، م.ق.ك.ش.) يوجب عليه بصفته خادم مصالحة الجميع في محبّة المسيح، أن يسعى إلى تعزيز السّلام والوحدة والوفاق القائم على العدالة بين النّاس، من دون أن يقوم بنشاطات حزبيّة أو نقابيّة، وإن لزم الأمر، بإذن الرّؤساء.

    وعليه، فالبطريرك المارونيّ هو مواطن لبنانيّ قبل أن يكون كاهنا وأسقفا وبطريركا، له ملء الحقّ كمواطن أولاّ بإبداء رأيه في المسائل السّياسيّة والاجتماعيّة والوطنيّة (راجع، كمال الحاج، بكركي…، ص. 27).

غير أنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، لأنّ البطريرك ليس مواطنا عاديّا وحسب، لا نقصد بذلك التّمييز ما بين المواطنين، إنّما نريد أن نسلّط الضّوء على حقيقة أمر واقع قد يزيد عمره عن ألف وأربعمائة سنة، وهو أنّه لا يصحّ أن نجعل رأي البطريرك في المرتبة عينها لرأي أي مواطن عاديّ، لأنّ لوجهة نظر البطريرك في الشّأن العام، قيمة وأهميّة ووزن وتأثير على جميع المستويات، محلّيّا وأحيانا كثيرة، إقليميّا وعالميّا. وعليه، فالبطريرك هو أكثر من مواطن! إنّه مرجعيّة وطنيّة لجميع المواطنين. لذا أصبح دوره في الشّأن العام، حقّا خاصّا وعامّا وطبيعيّا، ما من أحد يستطيع أن ينكره عليه.

     وبما أنّه هو الذي يمنح الإكليريكيّين الإذن بممارسة نشاط سياسيّ أو نقابيّ إن استوجبت ذلك حماية حقوق الكنيسة، والدّفاع عن الخير العام (راجع، ق. 384 بند 2 من (م.ق.ك.ش.)) ، فمن البديهيّ أن يكون، هو نفسه مرجعيّة روحيّة ووطنيّة، يدافع عن حقوق الكنيسة والوطن والمصلحة العامّة.

    5. عُرف موغل في القدم

 

    العُرْف لغةً، هو ما تَعارف علَيه النّاس وما اسْتَقَرّ في الوسط الاجْتماعيّ وأَصبح عادة جارية بين مجموعة من الأشخاص في معاملاتهم.

أمّا العُرف في اللغة القانونيّة الكنسيّة فهو مرادف للعادة Consuetudine أي تصرّف ثابت موحّد تقرّه مجموعة أفراد وتحفظه فيمكنه بذلك أن يحصل على قوّة القانون.

يوضح هذا الأمر قانون 1507 (م.ق.ك.ش.):

1.بند :1

"لا يمكن أن تحرز قوّة القانون إلاّ عادة معقولة، تبنّتها بممارسة متّصلة وبلا منازع جماعة قادرة على الأقلّ على تسلّم شريعة، كما وحازت على التّقادم بمرور الزّمن (التّقادم في اللّغة القانونيّة هو مرور الزّمن على أمر ما كوسيلة لاكتساب حقّ شخصيّ أو فقدانه) المحدّد في الشّرع".

2.بند 2:

"العادة التي يرذلها الشّرع صراحة، غير معقولة".

3.بند 3:

"العادة المضادّة للقانون الكنسيّ السّاري، أو الغريبة عن التّشريع الكنسيّ، لا تحرز قوّة القانون ما لم يعمل بها على وجه شرعيّ لمدّة ثلاثين سنة متّصلة وكاملة؛ أمّا ضدّ قانون كنسيّ يتضمّن بندا يحرّم العادات المستقبليّة، فلا يمكن أن ترجح إلاّ العادة العائدة إلى مئة سنة أو العريقة في القدم".

    بناءً على ما تقدّم، يمكننا التّأكيد قانونيّا، أنّ دور البطريرك المارونيّ الزّمنيّ في الشّؤون الوطنيّة والسّياسيّة، من أجل الخير العام، والدّفاع عن حقوق الكنيسة والوطن، يتلاءم مع ما تحدّده القوانين الكنسيّة الشّرقيّة.

    فبحسب القانون 1507 المدرج أعلاه، إنّ تعاطي البطريرك الشّأن العام، هو عادة معقولة، أقرّتها بممارسة متّصلة وبلا منازع "الأمّة" المارونيّة، والحكومات المختلفة التي توالت على حكم منطقة الشّرق الأدنى عبر التّاريخ، والإمارات الدّاخليّة في لبنان، فحازت هذه العادة على ما يسمّى قانونيّا "التّقادم بمرور الزّمن" المحدّد في الشّرع.

    فهي إذاً، "عادة" معقولة لا تخالف القانون الكنسيّ السّاري Praeter ius، وقد عُمل بها ليس مئة سنة فحسب بل ستّة عشر قرنا، فهي عريقة في القدم، ولذلك إنّها تحرز قوّة القانون.

    خاتمة

    ليس من المبالغة بشيء، أن يتعاطى البطريرك المارونيّ الشّأن العام المدنيّ والوطنيّ، لأنّ القوانين الكنسيّة عينها توليه أيضا هذا السّلطان، بحكم العرف والعادة وإبرام المعاهدات، كما أثبتنا.

    والبطريركيّة المارونيّة هي كيان كنسيّ قائم في ذاته، تربطه بالدّولة اللّبنانيّة علاقات سياسيّة وطنيّة بحكم التّاريخ وواقع تركيبة النّظام وشكل الدّولة. وثمّة خصوصيّة معيّنة لهذه البطريركيّة، تستحقّ البحث والتّنقيب؛ فدورها الزّمنيّ -شاء البعض أم أبى- لا يمّحى من ذاكرة التّاريخ المارونيّ واللّبنانيّ، وسلطتها –قَبِل البعض أم رفض- تشمل الشّأن العام الوطنيّ والاجتماعيّ الذي لا ينفصل عن الشّريعة الأدبيّة، كونها صوت الحقّ الصّارخ في براري السّياسة والمصالح الضّيقة إذ لا مصلحة لها سوى خلاص النّفوس والخير العامّ، وهي تستطيع في ظلّ النّظام الحاليّ القائم، أن "تتدخّل" في الشّؤون الوطنيّة والسّياسيّة لو شاءت.

بَيْد أنّ هذه البطريركيّة، بُعَيد استقلال لبنان، انطلاقا من توجّهات الكرسيّ الرّسوليّ العامّة من ناحية، واحتراما لدولة القانون العصريّة التي تحلم بتحقيقها من ناحية أخرى، تنازلت عن دورها المباشر في السّياسة، وباشرت بأداء دور غير مباشر في الشّؤون السّياسيّة والوطنيّة، بعدما أعادت الكنيسة الكاثوليّكيّة عموماً النّظر فيما يتعلّق بدورها في عالم اليوم، وراح فكرها الجديد يحملها إلى حصر عملها في الأمور الكنسيّة والرّوحيّة والشّأن العام الوطنيّ والاجتماعيّ، بعيدا عن دياميس السّياسة. ثمّ ذهبت الكنيسة المارونيّة في الآونة الأخيرة إلى حدّ التّمييز الصّريح، حتّى حدود الفصل، بين الدّين والدّولة، بدلا من اختزال الدّين في السّياسة، أو تأسيس السّياسة على منطلقات دينيّة لها صفة المطلق. فلا يجب على الكنيسة بعد اليوم القيام بمعركة سياسيّة كي تشيد مجتمعا أفضل عدالة، ولا ينبغي لها أن تقوم مقام الدّولة، لأنّها ليست دولة ضمن دولة، بل ترفض هذه البدعة، كما لا يجدر بها أن تكون وصيّة أو وكيلة ساهرة على دولة قاصرة. كما أنّها لا يمكنها ولا يجب عليها أن تبقى على حدة في معركة إحلال العدالة، على ما يؤكّد البابا بندكتوس السّادس عشر في رسالته "الله محبّة"؛ لأنّ فصل الدّين عن الدّولة لا يعني فصل السّياسة عن الأخلاق.

فما يعني البطريركيّة المارونيّة اليوم هو دورها الخُلُقيّ في الشّأن الوطنيّ العامّ، وممارسة سلطتها التّعليميّة Potestas magisterii بجرأة ووضوح، لأنّ تعاليمها وتوجيهاتها تلزم بدون شكّ، ضمائر من يتعاطى الشّأن العام الاجتماعيّ والسّياسيّ من أبنائها الموارنة. فيبقى دورها الوطنيّ بالرّغم من ذلك واجبا ورائدا وفعّالا، تعبّر عنه بصورة خاصّة، عبر تعزيز القيم الأدبيّة، ومساندة النّظام الدّيموقراطيّ، والذّود عن حياض الوطن اللبنانيّ. 

    المصادر  والمراجع: 

 

– الحاج كمال، بكركي صخرة الخلاص، مطابع الكريم، جونيه 1973؛

– السّمراني فيليب، الذّخائر السّنيّة، ]د.ن.[ جونيه 1931؛

– خيرالله شوقي، "بكركي.. وميليشيا الملكوت"، مجلّة الجمهور، السّنة 37، عدد 971، 25-31 كانون الثّاني 1973، ص. 7.

– طنّوس الخوري غناطيوس، البطريركيّة المارونيّة هي المرجع الأوّل والأعلى لزعامة لبنان وإدارة مقدّراته من جميع الوجوه، ] د.ن. [ بيروت 1945؛

– فهد بطرس، حول  كتاب الهدى وتاريخ الطّائفة المارونيّة، مطابع الكريم الحديثة، جونيه 1945؛

– فهد  بطرس، كتاب الهدى، وهو دستور الطّائفة المارونيّة في الأجيال الوسطى، ]د.ن.[،  حلب 1935؛

 – مالك  شارل، "الطّاقات المارونيّة"، خطاب في ندوة "المارونيّة ولبنان"، معهد الرّسل، جونيه 1974 .

– مالك شارل، "الكثير المطلوب"، الفصول (مجلّة)، عد.  3 (1980) 26.

– مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، منشورات المركز الفرنسيسكانيّ للدّراسات الشّرقيّة المسيحيّة، القاهرة 1995.

– مجموعة مؤلّفين، شروحات مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، (تنسيق الأب أنطوان راجح)، ]د.ن.[، جونيه 2005؛

– منش جرجس، الحقّ القانونيّ عند الموارنة، ]د.ن.[ حلب 1925.

–         Aouad I., Le droit privé des Maronites au temps des Émirs Chihab (1697-1841) d’après des documents inédits, essai historique et critique, P. Geuther, Paris 1933.

–         Bucci O., Le Province Orientali dell’Impero Romano: una introduzione storico-giuridica, Pontificia Universitas Lateranensis, Roma 1998.

–         Daou B., Histoire Religieuse, Culturelle et Politique des Maronites, Beyrouth 1985.

–         Dib P., Histoire de l\’Eglise Maronite, Editions La Sagesse, Beyrouth 1962.

–         Hobeika P., Amitié Franco-Libanaise, Beyrouth 1936.

–         Nuntia, 15 (1985) 5; 2 (1976) 38-39.

–         Pilati G., Chiesa e Stato nei primi quindici secoli, Roma 1961.

–         Salachas D., Istituzioni di Diritto Canonico delle Chiese Cattoliche Orientali, EDB, Roma-Bologna 1993.

–         Sidarouss S., Des Patriarcats: les patriarcats dans l’Empire Ottoman et spécialement en Egypte, A. Rousseau, Paris 1907.

* * *

الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على  دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: "شِعْر وْصَلا"، صدر عام 2001، و"أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة"،  صدر عام 2007.