الفاتيكان، الثلاثاء 28 يوليو 2009 (Zenit.org).
ننشر النص الكامل لمقالة روبير شعيب "يسوع والصلاة".
* * *
"أنا راهب فقير يصلي": بهذه الكلمات كان الأب بيو، القديس الكبوشي الذي عاش في جنوب إيطاليا في القرن الماضي يصف نفسه لكل من كان يسأله عما يرى في ذاته. لم يكن يتوقف على ذكر موهبة معرفة القلوب التي كان قد خصه به الله فكان يقرأ في نفوس من كان يتقرب منه للاعتراف والإرشاد كما في كتاب مفتوح. ولم يكن يتحدث عن خبرة التواجد في مكانين في اللحظة عينها التي يشهد لها العديد من معاصريه. وحتى لم يكن يصف نفسه انطلاقًا من الفضائل، بما في ذلك فضيلة التواضع وفضيلة الطاعة، بعد أن أرادت السلطة الكنسية أن تمتحن طاعته واتضاعه فمنعته عن الاحتفال بالافخارستيا علنيًا لمدة عشر سنين.
"أنا راهب فقير يصلي"، أنا مسيحي يصلي، هذا هو الجوهر الأول للكيان المسيحي إذا ما أردنا أن نجرده من كل ما هو "ثاني" و تالي. بمعنى أن المسيحي يكون خلاقًا، أو طائعًا أو عجائبيًا إلخ.. فقط إذا ما كان متجذرًا في الرب، يستمد حياته وقوته الروحية من المصدر، من الله.
ولكن ما هي الصلاة؟ تتعدد تعاريف الصلاة بقدر ما تتعدد خبرات المصلين، لدرجة أننا نجد حتى خلال حياة القديس الفرد، أو المصلي الفرد تعاريف مختلفة، متنوعة، تعبر كل مرة عن قليل من كثير من جوهر هذه الخبرة الجوهرية، التي اعتبرها المسيح يسوع كعمل المسيح الجوهري. نود في هذه المقالة أن نستعرض بشكل مقتضب جدّا فكر يسوع بشأن الصلاة كما نجدها في الأناجيل (القسم الأول)، وعيشه لها (القسم الثاني).
1. يسوع معلم الصلاة
1.1. الصلاة وأبوة الله
إذا ما تصفحنا العهد الجديد لوجدنا في كل صفحة إشارة ودعوة ودرس في الصلاة. كل لقاء كان يسوع يقوم به كان يتمحور على العلاقة الحقة مع الآب، وعلى الوعي لحضوره والدخول في تيار هذا الحضور من خلال الوعي واليقظة والحوار الوجودي.
في كلامه عن الصلاة نرى أن يسوع يؤمن، ويدعو إلى إيمان وطيد بحضور الآب، باهتمامه ببنيه، ولذا ليس هناك ضرورة للإسهاب في الصلاة، أو للتكرار العصابي لتعابير الصلاة وكأننا نستدرج الله للشفقة علينا. يقول يسوع: "إذا صليتم، لا تكرروا الكلام عبثا مثل الوثنيين، فهم يظنون أنهم إذا أكثروا الكلام يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم، لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (متى 6، 7 – 8).
والدعوة إلى الاعتراف بأبوة الله يرتبط بشكل حميم بالدعوة إلى بنوة صادقة نحو الآب وإلى تجاوز المظاهر والعجب والرغبة بالظهور أمام الآخرين للدخول في حميمية صادقة، مجردة، صافية النية مع الآب: "إذا صليتم،فلا تكونوا كالمرائين،فإنهم يحبون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع، ليراهم الناس. الحق أقول لكم إنهم أخذوا أجرهم. أما أنت، فإذا صليت فادخل حجرتك وأغلق عليك بابها وصل إلى أبيك الذي في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك" (متى 6، 5 – 6).
من ناحية أخرى هذه البنوة تتطلب علاقة أخوة مع أبناء الله، فالابن الحق هو أخ حق، ولذا يدعو يسوع إلى الغفران قبل الصلاة: "وإذا قمتم للصلاة فاغفروا، إن كان لكم على أحد شيء، لكي يغفر لكم أيضًا، أبوكم الذي في السماوات، زلاتِكم" (مر 11، 25).
1. 2. الصلاة قوة تحوّل
إن يسوع الذي عاش حياتنا البشرية كان يدرك بالكامل ضعف طبعنا وحاجتنا إلى النعمة الإلهية ولذا دعا تلاميذه إلى الصلاة في كل حين وعدم القنوط (لو 18، 1)، ودعانا: "صلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (لو 22، 40). كان يسوع يعرف أن الإنسان وحده لا يستطيع أن يكون على مستوى دعوته البشرية والإلهية، ولذا حض الرسل على السهر والصلاة، ولكن إدراك هذا الواقع هو صعب على البشر، فالرسل ناموا بالرغم من تحريض يسوع لهم ثلاث مرات خلال صلاته في بستان الزيتون بعد العشاء السري.
نصح الرب بالصلاة كحصن وسلاح لمواجهة معارك الحياة. كان يعرف أن هناك مشاكل تستعصي على الإنسان، وأن الله وحده يستطيع أن يحمله إلى الظفر. ولضعفنا نصحنا بالصلاة، مقدمًا صورة الكرمة والأغصان، وموضحًا أنه من خلال ثباتنا فيه يمكننا أن نأتي بثمر، ومن دونه لا نستطيع شيئًا (راجع يو 15). ويشدد يسوع في مطلع تعليمه بما يعرف بعظة الجبل على ضرورة صلاة الطلب فيقول:
"اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم. من منكم إذا سأله ابنه رغيفًا أعطاه حجرًا؟ أو سأله سمكة أعطاه حية؟ فإذا كنتم أنتم الأشرار تحسون العطاء لأبنائكم، فكم بالأحرى أباكم الذي في السماوات يمنح الصالحات للذين يسألونه؟!" (مت 7، 7 – 11).
في تعليمه الصلاة، لم يقدمها يسوع كوسيلة للهرب من مسؤوليات الحياة. فتعليمه بشأن الصلاة لا يجب أن يعتبر بشكل منفصل عن تعليمه الكامل. خلاص المسيح هو خلاص في العالم، لا من العالم!
ويفهمنا مثل الوزنات بوضوح أن على الإنسان أن يستثمر كل طاقاته، وإذا دفن أو خبأ واحدة منها فهو مسؤول عن ذلك أمام الله.
ويتحدث يسوع بوضوح عن الصلاة المقبولة لدى الله كصلاة يكون فيها تناغم بين الطلبة والعيش: "ليس كل من يقول لي ‘يا رب، يا رب‘ يدخل ملكوت السماوات؛ بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات" (مت 7، 21).
يمكننا أن نستعمل صيغة تنسب للقديس اغناطيوس دي لويولا مؤسس الرهبنة اليسوعية، تلخص موقف الإنسان الحياتي: "تصرف كما لو أن كل شيء يعتمد عليه، آمن كما لو أن كل شيء يعتمد على الله". إنه مبدأ "العمل المشترك" (syn-ergia) بين الله والإنسان، حيث لا يخفي الواحد عمل الآخر بل ينقحه ويدعمه.
1. 3. عصارة تعليم يسوع في الصلاة
هذا ويقدم لنا يسوع في صلاة الأبانا خلاصة تعليمه بشأن الصلاة. لن نتوقف في هذا المقام للتعليق بشكل دقيق على هذه الصلاة التي وصفها بحق العديد من اللاهوتيين والكتاب الروحيين بأنها "خلاصة الإنجيل"، ولكن يجدر بنا أن نشير إلى الكلمة التي تفتتح هذه الصلاة "أبانا"، الموقف الأول الذي يميز صلاة تلاميذ يسوع هو الثقة بأبوة الله، والابن يثق بأبوة أبيه، حتى عندما لا يكون على مستوى البنوة!
وبعد أن تقوم الطلبات الثلاثة الأولى بطلب تقديس اسم الله، مجيء ملكوته وتحقيق إرادته، تدور الطلبات الباقية حول العلاقة مع الإخوة التي هي إحقاق للبنوة "اغفر لنا كما نحن نغفر"، والصلاة للنجاة من الشرير الذي يدور – بحسب الصورة التي يقدمها كاتب رسالة بطرس الأولى – كأسد زائر يفتش على من يلتهمه.
وكل هذه الطلبات تتمحور حول طلبة هي في الوقت عينه ثقة بسيطة في عناية الآب السماوية الذي يعطينا الخبز اليومي، وطلب للخبز الجوهري، كما يترجم البعض، أي للخبز الافخارستي، ليسوع قوت نفوسنا وسندها. الطلبة المحورية في صلاة الأبانا، لا تطلب إلى الله فقط، بل تطلب الله، تطلب الخبز الافخارستي الذي يوحد ناسوت الإنسان بلاهوت الله، ولاهوت الله بناسوت الإنسان.
يسوع المصلي
يقال في القديس فرنسيس الأسيزي أنه في نهاية حياته "لم يعد يصلي، بل أضحى صلاة!". إن ما ينطبق على بعض المتصوفين والقديسين بشكل تقريبي، ينطبق بشكل كامل على يسوع، المصلي الحق. فيسوع، لم يوص فقط بالصلاة، بل أعطى مثالاً حيًا، دائمًا وثابتًا للصلاة.
لقد كانت حياة يسوع متشربة بالصلاة وبالعيش في حضرة الآب لدرجة أن تلاميذه طلبوا إليه يومًا، بعد أن رأوا كيف كان يصلي، أن يعلمهم الصلاة: "يا رب، علمنا أن نصلي". ماذا يقصد التلاميذ بهذا؟ أن نزعم بأننا نريد أن نعلم يهوديًا تقيًا الصلاة، هو كأن نزعم بأن نريد أن نعلم سمكة كيف تسبح، أو كائنًا حيًا كيف يتنفس. فاليهود الأتقياء، كما يشهد الكتاب المقدس والتقليد اليهودي يصلون سبع مرات في اليوم، وقبل وبعد كل عمل ولو قليل الأهمية. لدى نهوضهم من النوم، وعند ارتدائهم لثيابهم، ولدى تناولهم الطعام، وعند بدء العمل.
فما معنى قول التلاميذ: يا رب، علمنا أن نصلي؟
بكل تأكيد، لاحظ التلاميذ أن صلاة يسوع تختلف عن صلاتهم. وأن علاقته بالآب تختلف عن علاقتهم. من الواضح أنهم شعروا أن هناك نوع من الدالة والثقة البنوية (parresia) التي لم تكن موجودة في طريقة صلاتهم.
علمنا أن نصلي يعني: علمنا أن نصلي كما تصلي أنت!
كرس يسوع، خلال وجوده القصير نسبيًا على الأرض وقتًا كبيرًا من حياته للصلاة. يكفي أن نفكر بالسنوات الخفية التي يعطيها القديس لوقا وسمة تبين نوعًا ما المحور الذي دارت حوله سنوات حياة يسوع الخفية: "يجب أن أكون في ما هو لأبي" (راجع لو 2).
وفي دنح يسوع، واعتلانه للخليقة عند نهر الأردن، عندما ذهب للاعتماد على يد يوحنا نقرأ: "وبينما كان يصلي…".
وكذلك بعد العماد، قضى 40 يومًا في الصوم والصلاة قبل بدء رسالته التبشرية. ومن ثمّ قبيل اختيار التلاميذ، يقول لنا الإنجيل أنه قضى الليل كله في الصلاة.
نعرف أن يسوع كان يستيقظ باكرًا جدًا وكان يذهب إلى مكان قفر ليصلي. وأنه كان يقضي ليالٍ كاملة في الصلاة: "خرج يسوع إلى الجبل ليصلي: وأمضى الليل في الصلاة إلى الله" (لو 6، 12).
وكانت الصلاة ذات أهمية خاصة بالنسبة له، لذا كان يختار بإمعان وانتباه المكان المناسب لها، والوقت المناسب متحررًا من الانشغالات: "صعد إلى الجبل ليصلي" (مر 6، 46).
"أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد إلى الجبل ليصلي" (لو 9، 28).
"في الغداة قبل الصبح، قام يسوع وخرج إلى مكان قفر وكان هناك يصلي" (مر 1، 35).
2. 1. الأمانة المرة
وقد يظن البعض: إن صلاة يسوع كانت سهلة، ولذا كان يلذ له أن يقضي الوقت في الصلاة. ولكن هذا الاعتراض، سرعان ما يضمحل إذا ما تأملنا بحدث صلاة يسوع في بستان الزيتون – التي ليست خبرة الصلاة الصعبة الوحيدة التي يعيشها يسوع!
يعترف يسوع لتلاميذه: "نفسي حزينة حتى الموت"، يشعر يسوع بكآبة كبيرة، ولكن علاقته بالآب تتخطى وتتجاوز جفاف المشاعر، فنراه "يتقدم قليلاً ويسقط على وجهه ويصلي".
ويعود إلى التلاميذ فيجدهم نيامًا، "فيعود أيضًا ويصلي… ويصلي ثالثة" (مت 26، 42 – 44).
صلاة الجتسمانية كانت صلاة جهاد وثبات في وجه ريح الجفاف والتجربة والكآبة، لدرجة أن يسوع يعرق – لا عرقًا باردًا – بل دمًا!
في عمق هذا الجفاف والشعور بغياب الله وبالضياع، يصلي يسوع: "يا أبتاه، إن شئت أبعد عني هذه الكأس"، ثم يضيف: "ولكن لا إرادتي بل إرادتك".
وعليه فإن صلاة يسوع هي تعبير عن اتحاده بالآب، عن أمانته له، في الخبرات الجميلة (راجع تهلل يسوع في مت 11؛ وشكر يسوع للآب لدى إقامته لالعازر) وفي الخبرات الحزينة، التي على رأسها خبرة الموت: فيسوع يصلي وهو معلق على الصليب. يصلي لأجل الآخرين، وهو في أسى وألم ووحشة: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون" (لو 23، 34)
ولدى شعوره بأن الآب تخلى عنه (إلهي، إلهي، لم تركتني) يستسلم في يدي الآب: يا أبتاه في يديك أستودع روحي، معبرًا عن إيمانًا وثقة يتجاوزان كل الشكوك، وهذه الصلاة، ما هي إلا تكلملة المزمور 22 الذي يتلوه الإسرائيلي المتدين في الأوقات العسيرة.
إن عيش يسوع للصلاة هو شاهد على أهميتها وضرورتها، وحافز إلى عيشها.
فلنسمع لنداء الرب: "من دوني لا تستطيعون شيئًا" لذا "صلوا ولا تملوا!"
* * *
– روبير شعيب يعلم "الكريستولوجيا" و "مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي" في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع "معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان"، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.