التمييز محور الحياة الروحية

الأب بسّام آشجي

 

مقدّمة

 لقد خُلق الإنسان حراً. فلا تضاف حريته على كيانه، بل هي إنما من عمق جوهره. ويقول محقاً (بعض الشيء..) الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر: "إنني أكون حريتي" Je suis ma liberté. فالرؤية الصحيحة للإنسان تنفي مفاهيم: "القَدَريّة" والعبودية وصدف الوجود. فهو الذي يصنع تاريخه دون أن يلتزم بأية "قَـبْليـّة" محتومة. لذلك وبفضل حريته هو مدعو أن يختار، ولكي يختار لابد له أن يُميّز، وبشكل حر وموضوعي. والتمييز هنا لا يتناوله العقل أو العاطفة فقط، بل الإنسان بكامله بكل ما يحمل من ملكات وجوده. فيقول مثلاً هذه رؤيتي، وتلك رؤية المجتمع. هذا نظام الكون، وذلك منطق العلوم. يتساءل: ما هو الحقيقي؟ وما هو المزيف؟.. ما هو الواقع؟ وما هو الوهم؟ ولكي يختار يُميّز أيضاً: ما هو المناسب لي؟ لماذا هو مناسب؟ كيف يكون مناسباً؟ وعند المؤمن تتصدر لديه تساؤلات أخرى في حركة التميز: ما هي مشيئة الله؟ هل هناك ما يعاكسها؟ أهي مشيئة العالم أم ميل منحرف أم روح شرير؟ وما دوري في ذلك؟ فلا يكتفي المؤمن أن يسأل: كيف أميّز وأقيّم واختار والتزم؟ بل يتساءل أيضاً ودوماً: ما حضور الله في كل مكان من الأفعال السابقة؟

قد لا نحتاج اليوم، في عالمنا المعاصر، أن نرفع من شأن الإنسان لجهة فرادته وتميزه عن بقية الكائنات. فمهما يحمل من ضعف ومحدودية تشهد له إنجازاته على تفوقه وعظمته. ولكن لا نستطيع، رغم ذلك، أن نعفي أنفسنا من السؤال: من أنت أيها الإنسان؟ أنكتفي أن ندرك فيه حركة عقل وحضارة، وتشابك في العلاقات والعواطف، والمواقف، والآراء….؟

إن الرؤية المسيحية للإنسان تظهر لنا المعنى الحقيقي له، دون أن تزيل عنه علامات الاستفهام. فهو "صورة الله ومثاله"، سفيره على الخليقة يُميّز كائناتها ويتسلط عليها (تك1/15) والأكثر من ذلك: أن الله هو "أبّا "أبانا، كما رأينا في الحديث السابق. و"أبانا" هو نفسه الله الخالق "الذي لا يفي به وصف، ولا يحده عقل، ولا يرى ولا يدرك، الدائم الوجود، والكائن هو هو". هل الإنسان صورته، ابنه، هو أيضاً، رغم ضعفه وحدوده، موجودٌ على مثاله "كائنٌ هو هو": ليست الحقيقة فيه هي فقط ما يظهر ويدرك ويعقل؟

إن العلامة الأولى للتمييز الروحي هي أن نسأل عن الإنسان وعن دعوة كيانه للعبور من مستوى الخليقة العادية إلى مستوى البنوة الإلهية. وبمعنى آخر: هل نميز في حياتنا أننا أبناء الله؟ هل تظهر بنوتنا له في مواقفنا وأحداث حياتنا وآرائنا؟.. كيف نميز ذلك؟ وما أهمية ذلك؟..

مجموعة من التساؤلات تتصدر الحديث هذه الأمسية المباركة ليس لتتابع بتسلسل الإجابات عنها، بل لتفتح الآفاق أمام نداءات الروح القدس "الذي يهبُّ حيث يشاء" (يو3/8). فتدعو جميعنا إلى إصغاء مقدس، نتلمس مشيئة القدوس من خلاله، ونميّز إرادته المُحبّة. يقول أغسطينوس: "إن أردت أن ترى الحقيقة فأدخل إلى ذاتك.. ". فهلم ندخل غمار عليّة الروح.

 

التمييز الروحي في الكتاب المقدس

العهد القديم

منذ الصفحات الأولى للكتاب المقدس، تُطرح الإشكالية في حركة التمييز الروحي عند الإنسان. ففي قصة "امتحان الحرية" (تك3) تظهر أن المشكلة الكبرى للإنسان تكمن في اختياراته الخاطئة، التي وجدت إنما بتمييز ضيف، بفعل تدخل غريب (الحية – إبليس). فالله يعلن بوضوح عن أن “معرفة الخير والشر” لا يمكن أن تتم بشكلٍ ناضج إلا بمرافقته. فيمكن للإنسان أن يستقلّ عن خالقه، إن شاء، في كل الأمور، ولكن، لا يستطيع ذلك في "معرفة الخير والشر". لأنه، لو فعل ذلك، فسيبقى أبداً معرضاً لهشاشة الخطيئة. هذا ما يحصل حقاً، إذ يلبس الشر ثوب الخير، ثوب ملاك النور (تك3/5-6، أنظر أيضاً: 2كور14/11). ويأكل الإنسان الخديعة، فتتعطل لديه حركة التمييز الروحي، فيتكاثر شره (تك6/5). ويختلط الشر بالخير (اش5/20، رو1/21- 25). وهكذا يهيم الإنسان في صحراء الحياة يبحث عن "مشيئة الله" لتكون له مقياساً لتمييزه. والله بدوره لا يبخل عليه بإعلانها بشتى الطرق والعلامات. فيظهر الرفيق الأمين لدربه، والحكمة المقدسة لاختياراته. فتتسطر على صفحات الكتاب المقدس مظاهر التمييز الروحي بحثاً عن مشيئة الله والعمل بموجبها (مز143/10). ويسخى الله بأن يعطي الإنسان قلباً جديداً، ليعرّفه على مشيئته، وروحاً جديداً، ليعمل ويعيش بموجبها (حز36/26-27). وتتصدر "الشريعة" بياناً واضحاً لتمييز مشيئة الله لتكون قريبة من الإنسان نوراً يضيء له (تث30/15، أش55/7). وتتسخر الطبيعة أيضاً لتعلن مصداقية مشيئة الله(تك9/12-17، خر14/21، مز135/6، أيو37/12،سير43/13- 17). فيكون الإنسان تارة مميزاً لها وعاملاً بموجبها، وطوراً متغافلاً عنها خائناً في تحقيقها (خر32…). وتظهر له أحياناً صعبة التحقيق، لا بل تعسفية (حز18/25). فيذكّره الله بمحدوديته كمخلوق (أر18/1-6)، ليؤكد أن اتّباع مشيئته هو خير له كإنسان، فهي الحقيقة الثابتة إلى الأبد (مز33/11)، والله هو الذي يسهر على نجاحها (مز40/8-9، أش53/1، 67/4، نشيد2/7، 3/5 ،8/5….). ونلاحظ أيضاً في العهد القديم: كيف تتولى شخصياته حركة التمييز الروحي لمشيئة الله لهم وللآخرين. فيختار الله نوحاً، ليعلن عن عزمه بتجديد الخليقة. ويُميّز موسى لشعبه "شريعة الله". ويدّون مَنْ يدّون تاريخ رفقته وخلاصه للإنسان. ولا يبخل على أرميا وأشعيا وحزقيال وكل الأنبياء بأن يصرخوا: "يقول الرب السيد…"، ويسمح للشعراء والمتصوفين أن ينشدوا وصاياه وتدابيره.

 

العهد الجديد

إن الإنجيل ببشاراته الأربع، كذلك العهد الجديد بجملته، يُعمّق أهمية التمييز الروحي، ليبلغ به نموذجاً مقدساً في شخص يسوع المسيح القائم من بين الأموات. وعلى غرار العهد القديم، تطرح اشكاليته على الإنسان وصعوبته منذ الصفحات الأولى، لتصل به إلى انتصار الحق، حيث الروح القدس ينجز في الإنسان ومعه مشيئة الله:

1- بشارة الملاك لمريم بالمولود القدوس (لو1/26- 38): إن مريم، وهي حواء الجديدة، تضطرب من سلام الملاك، فتقول: "ما عسى أن يكون؟." تسأل لتميّز: هل هذا صوت الله؟ أم تدخل غريب مخادع، يظهر بثياب الخير النور؟ لعلها كانت تتأمل قصة الإنسان القديم. وبعد بشارة الملاك لها بأنها "ستحمل وتلد ابن العلي، المخلص… الذي لا يكون لملكه انقضاء"، تسأل مجدداً: "كيف يكون هذا…؟" وقبل أن تركع مستسلمة لمشيئة الرب، وقد حرّك الروح القدس أحشاءها بابن الله، تميّز أن "ما من أمر يعجز الله". وبذلك تستحق أن تطوّبها الأجيال، لأنها نموذجٌ للإنسان المميّز لمشيئة الله.

2- تجارب يسوع في البرية: (لو4/1- 12): يظهر يسوع وكأنه "آدما جديداً" في وسط برية الحياة، وقد اقتاده الروح القدس لينتصر على إبليس الخداع. فكعادته، يلبس الشر ثوب الخير في كلٍ من التجارب الثلاث. ويبلغ به التحدي أن يستعمل كلام الكتاب المقدس ليوقع يسوع: "إنه مكتوب: يوصي ملائكته…" ولكنه لن يستطيع أن ينتصر على من يكون طعامه "العمل بمشيئة الله، ذاك الذي يعرف أن يُميّز الأرواح" (1يو4/1- 6). فيستسلم للروح القدس الذي يقتاده ليهزم "أبا الكذب" (يو8/44) الذي لا يُطرد إلا "بالصوم والصلاة". (متى17/21).

3- التمييز في حياة يسوع ككل: يؤكد بعض مفسري الكتاب المقدس، حين يشرحون نص تجربة البرية السابق، أن يسوع اختبر هذه التجارب طيلة حياته على الأرض. فإن صح ذلك، نستطيع أن نستنتج أنه عاش في حالة مستمرة من "التمييز الروحي". كأن حياته كلها تسير تحقيقاً لصلاته: "أبانا.. لتكن مشيئتك". حتى حين "يحين الوقت"، ساعة نزاعه في بستان الزيتون، حيث "أخذ يعرق دماً"، لا يبرح إلا مميزاً مشيئة الآب، التي تتعالى على مشيئة الإنسان: "يا أبتِ، إن شئتَ فاصرف عني هذه الكأس، ولكن مشيئتك لا مشيئتي" (لو22/42). وكذلك كان يسوع يقوم بحملة واسعة لطرد الأرواح الشريرة من الإنسان بعد أن يقوم بتمييزها (لو8/26…،9/37…). وبالروح القدس عينه كان يدعو أتباعه إلى حركة التمييز الروحي (لو12/56، مت6/12)، وإلى إقران التمييز بالعمل (يو7/17)، فما الفائدة من تمييز مشيئة الله إن لم تُتبع ببرنامج حياة؟ (لو12/47،مت7/71…). إن يسوع يثني على كل من ميّز واختار "النصيب الصالح الذي لا ينتزعه منه" (لو10/42) ويَعد الذين ميّزوا مشيئة الله، وعملوا بها، بالملكوت المعدّ لهم منذ إنشاء العالم حيث يُميّز ابنُ الإنسانِ البشرَ، كالراعي الذي يفصل النعاج عن الكباش (مت25/31…) ليختار الأبرار منهم للحياة الأبدية.

4- التمييز عند القديس بولس الرسول: يكتشف القديس بولس الحياة بالمسيح إنما هي حركة عبور مستمرة من عبوديات الإنسان المتنوعة إلى حرية أبناء الله (رو8/21). وتفترض حركة التحرر هذه "موهبة" التمييز الروحي التي هي من عطايا الروح القدس (1كو12/10). فعلى الإنسان أن يُميّز كل شيء حتى يختار المناسب (1تسا5/21)، ويسعى جاهداً ليكتشف ما هي مشيئة الله (رو12/2، أف5/10)، ويُقيّم نفسه كما ينبغي، وكما يليق بسخاء الله (1كور11/28، 2كور3/5)، ويتخذ فكر المسيح منطلقاً لحياته (1كو1/10). وتبرز عند بولس الرسول عدة عوائق تحاول أن تشلّ الإنسان عن تمييز مشيئة الله، أو العمل بموجبها، فتعيق فصحه (عبوره) نحو حرية أبناء الله. فالخطيئة رغم إنه يُميّز شرها يجد نفسه مقيداً بها (رو5/15،33) وبسبب الخطيئة يستعبد الإنسان للموت ويتقيد بأركان العالم (غلا4/3-9، كول2/8- 20). ويجد القديس بولس أن العائق الأساسي، في مسيرة تحرر الإنسان وتمييزه الروحي، هو عبودية "الشريعة". فالشريعة بحد ذاتها صالحة وجيدة (رو17/11)، وهي بمثابة المؤدب الذي يوصل إلى المسيح، ولكن التمسك بحرفها لا يؤدي إلى تمييز صحيح. بل على العكس قد يُضلّل حقيقة الروح (رو7/8). وهنا يؤكد أن الرب يسوع قد حررنا منها بموته وقيامته (رو6/6- 7)، لذلك علينا أن نعيش معه هذا "العبور" ونجاهد بكل طاقتنا (1كو9/34) فتتميّز لدينا ثمار الروح القدس (غلا5/22…).

 

التمييز الروحي في تقليد الكنيسة

الآباء

يعتبر آباء الصحراء، خصوصاً القديس أنطونيوس الكبير، "التمييز الروحي" أعظم الفضائل. حيث بواسطته تُنظّم الحياة الروحية. ولذلك يُميّز في أعمال الإنسان ثلاثة مستويات:

1- النعمة الإلهية، وهي التي تكشف مشيئة الله.

2- الأعمال الشريرة، وهي التي تتم بتأثير الشرير وفعله على الإنسان.

3- أعمال الإنسان الطبيعية، وهي غالباً ما تحيد، أما لصالح النعمة، أو لعبودية الشر.

ويتحدث القديس ايرنيموس أيضاً مميزاً اختبارَين يعيشهما الإنسان: السلام الذي يخصب الفضائل بثمار الروح، والقلق الذي ينزع نقاوة القلب. فعلى الإنسان أن يختار العمل بمشيئة الله، لكي لا يبقى في “فراغ”، إذ أن “الشيطان يشغل الأيادي الفارغة”.

ويُميّز القديس كاسيانوس عمل الشيطان حين يشعر الإنسان "بالعزلة المقرونة بالحزن واليأس". فمن يقول: "لا أحد يفهمني"، يكون في تلك العزلة كما يقول ايفاغريوس البنطي: "فالشيطان يفصل الإنسان عن جماعته، ليأسره في سجن نفسه المظلم".

ويضع الآباء عدة مناهج للسلوك في التمييز الروحي. فيؤكد آباء “العصر الذهبي” (القرن الرابع)، على أن الحياة الروحية هي حركة نمو مستمرة بين تآزر نعمة الله وعمل الإنسان (Synergie): "من يطلب يجد، ومن يسأل يعطى ومن يقرع يفتح له" (مت7/7). يقول القديس غريغوريوس النيصي: “أن نجد الله هو أن نفتش عنه.. أن لا نرتوي من الشوق إليه”. ولا بدّ للإنسان من الاستعداد في تمييزه للعمل المشترك بينه وبين الله، فعليه أن يساهم في تحرره من أهوائه، فيتمرّس على التوبة المستمرة. والتوبة عند الآباء ليست الندامة وحسب، بل التغبير الجذري والمستمر: "فتبدلوا بتجديد عقولكم" (رو12/2)، هذا ما تدل عليه كلمة "ميتانيّا" اليونانية (Metanoïa)، يقول اسحق السرياني:" التوبة تليق دائماً، وتليق بالجميع، بالخاطئ والبار، إنها كمال المسيحي الأساسي.. فلا حدّ للكمال.. من يعرف (من يُميّز) خطاياه أعظم ممن يقيم الموتى". ويقول يوحنا السلمي: "النفس الغير المحرّكة بالتوبة غريبة عن النعمة".

يؤكد الآباء أنه بعد أن يتحرّر الإنسان من الأهواء تتميّز فيه حالة من "صحو الذهن" أو "اللاهوى" (Apathia). حيث يستديم لديه "ذِكرُ الله"، فيعيش سلاماً حقيقياً، ويتدرج في مسيرة "التألّه" (Théosis)، بعد أن يكون قد تطهّر من أهوائه، واستنار بالروح القدس، وكأنه في حالة "انجذاب نحو الله" (Extasis). فتصبح حركة التمييز لديه حركة تلقائية، وتظهر شيئاً فشيئاً منبثقة كمشيئة الله. وللوصول إلى هذه الحالة لا يبرح الآباء يؤكدون على الكثير من التمرس في حياة الصلاة والتأمل في الكتاب المقدس والصوم وكل الإيقاعات الروحية، التي تساهم حقاً للنمو في حياة بالله.

 

القديس اغناطيوس دي لويولا

لقد ابتكر القديس اغناطيوس منهجاً وأسلوباً جديدين للتمرّس في التمييز الروحي وهو "الرياضات الروحية". والرياضات هي عبارة عن "تمارين" تأملية وضعت في الأساس لتكتشف لصاحبها عن مشيئة الله في اختيار الحياة الرهبانية أو العكوف عنها. وسرعان ما أصبحت "رياضات" تسعى بشكل مستمر لتمييز مشيئة الله في مختلف التزامات الحياة ومواقفها. والرياضة الروحية هي الخروج إلى البرية على غرار يسوع، الذي اقتاده الروح القدس إليها لينتصر على إبليس، وينطلق إلى حياته العلنية. ويقوم المتريض مدة أربعة أسابيع بتأملات ومشاهدات مأخوذة من سر التدبير الخلاصي، ويحاول أن يأوّنها في حياته لتظهر من خلال هذا التأوين مشيئة الله. ويتناوب لديه الشعور بـ"الانقباض" و"الإنبساط" مما يساهم في تجديد قواعد التمييز الروحي ليكون “ممارسة حياة الإيمان المليئة بالرجاء”: “إيمان متواضع وصبور، إيمان نشيط وحازم وباسل، إيمان يقظ”. ويساهم "التمييز الاغناطي" في تحديد دعوة الإنسان وتوجيه حياته الشخصية في البحث عن عناصر العمل الإلهي الثابت والحركات والدوافع الباطنية فيستطيع رسم الخط الثابت الذي يسير عليه الحضور الإلهي. وهذا الحضور يتجلى بمفاعيله أو ميزاته: السلام والفرح والإنسجام الباطني والشجاعة الباطنية وبعبارة أخرى: ثمار الروح فكل حرية بشرية بحسب التمييز الأغناطي لا يمكن فصلها عن إرادة الله فالاختيار ليس ما أُقرّه أنا أولاً بل هو وعيي، في حرية متزايدة لمشيئة الله الشخصية في شأني. إن التمييز الأغناطي هو دعوة "الانتباه" هذه.

 

التمييز الروحي… مسيرة مستمرة

مهما حاولنا أن نضع قواعداً أو مناهجاً يبقى التمييز الروحي نعمة يمنحها الرب من فيض سخائه، ولكن علينا أن نسهر على حياتنا الروحية لكي تجد نعمة الرب هذه فينا الأرض الخصبة. فتتآزر مع جهودنا وتنوّر سهرنا. لذلك سأحاول لأن أرتب الملاحظات لعلها تساهم في جعل حركة التمييز الروحي مسيرة مستمرة في حياتنا لننمو في المسيح:

1- قراءة حياتنا على ضوء حضور الرب فيها: نؤمن أن الرب يسوع القائم من بين الأموات هو حي إلى اليوم. وهو، بالروح القدس، يحقق حضور الله معنا (عمانوئيل). ونلتجئ إليه عادة في وقت "الإنقباض" والشدة والتعب والمواقف الصعبة، ونحاول أن نستنبطه الحلول والمخارج، أو أقله نتعزى بحضوره، ولا شك أن هذا جيد، ولكن لا يكفي. هل نكون حاضرين له كما هو حاضر لنا، أم كما نريد أن يكون حاضراً لنا ؟ هل نعي حضوره في كافة لحظات حياتنا ودوريات اهتماماتنا ومواقفنا وآرائنا، في السلام كما في الضيق؟!.. كيف نعي ذلك؟.. أفي مراجعة الحياة اليومية؟ أم في الرياضات الدورية؟.. كثيراً ما كان القديسون يشاهدون مواقفاً في حياتهم كمواقف الإنجيل: فهنا مخلع بحاجة أن ينبش له سقف الإنانية، وهناك سامرية ستفيض منها ينابيع الصدق والأمانة، ذاك غني حزين، وهؤلاء يستقبلون دخول السيد كالأطفال، وحين يأكلون يشكرون كيف أفاض الرب خبز الحياة. وحين يشربون يتذكرون كيف عطش على الصليب، وقت العمل يتعبون كعامل الناصرة، ولا يبخلون على أنفسهم بساعات السهر والصلاة والصوم كما كان يفعل المعلم. هكذا يتأون الإنجيل في حياتنا، وهكذا نعيش حضور الرب. وكما تقول القديسة تيريزيا الأفيلية بعد أن تصف الرب بالحبيب: "إذ أن العاشق الحقيقي لايني يحب ويفكر بحبـيـبه حيثما وُجِد" ( التأسيسات 10/13). وهكذا مع التمرس نسير في تمييز مشيئة الله.

2- التمرس على "غذاء الكلمة": لا نستطيع اكتشاف حضور الرب في حياتنا ما لم نتمرس على منهجيته وأسلوبه في الاعتلان. والكتاب المقدس، وكذلك كتابات القديسين وسيرهم، أُسس نموذجية تُعرّفنا على كيفية هذا الحضور. فحين أقرأ نصاً مقدساً، بعد أن أفهم معانيه ومواقف شخصياته، وأدرس بيانه الأدبي، وأستفيد من شروحات المفسرين، وأتخيل أحداثه إن كان يروي ما يمكن تخيله… الخ، أعود إلى نفسي، وقد حلّ فيها الروح القدس بفعل سخاء الله وصلاتي، وأتسأل: هل أقرأ ما يشبه النص فيها؟ أين أجد الرب؟ هل يفعل في هذا الزمان كما فعل في ذلك الزمان؟.. ومعي بالذات؟! ما هو موقفي من ذلك؟ هل هناك روح شريرة تسلب مني مشيئته؟ أم إنني أُسقِط دوافعي الشخصية (خصوصاً اللاواعية) عليها؟ لا نخف كثيراً، إن الروح القدس، الذي ألهم من كتب النص المقدس، هو نفسه يرافقني في اكتشاف حضور الرب من خلاله.. لا تخف!! علينا أن نثق ونستلم لروح الرب الأقوى من أي تدخل. إن التمرس على غذاء الكلمة يخزن فينا شيئا فشيئاً روح التمييز. إن الإنسان من أجل حياة هذا الزمن يأكل ثلاثاً في اليوم، فكم ينبغي أن نأكل لحياة الزمن الآخر المنهمر منذ آننا نحو الأبد؟.

3- الانتباه الجيد والإصغاء الصحيح: حين نقرأ قصة المجوس، يتبادر إلى ذهننا السؤال التالي: لماذا ميّز هؤلاء الغرباء، دون غيرهم، إن هناك "نجماً" يؤثر على "المولود الملك"؟ أليس لأنهم كانوا أساساً في حالة انتباه لحركة السماء؟ هكذا مشيئة الله، لا يمكن للإنسان أن يُميّزها ما لم يتدرب أساساً على الانتباه والملاحظة. خصوصاً أن الله لا يكشف مشيئته عادة بطريقة مباشرة، وذلك نظراً لعظمته تعالى التي تفوق إدراك الإنسان. وأيضاً لكي لا يستهتر بها، كما فعل هيرودوس في القصة السابقة. فمن يريد أن يُميّز مشيئة الله عليه أن ينتبه: "إن الله يتكلم في كل شيء". ولكن ليس كل ما نسمعه هو كلام الله. لذلك ينبغي أن نصغي بشكل صحيح. فهيرودس في المثال السابق طلب من المجوس أن يخبروه عن أمر المولود الملك ليقتله. ولكن صوته ليس صوت الخير بل صوت الشر الذي يلبس ثوب الخير، ثوب النور، حين يقول للمجوس إنه يريد أن يسجد له. هل ما ننتبه إليه نفهمه كما هو، أم كما نحن نريد؟ هل هناك أصوات كهيرودس علينا تمييزها ؟ إن الخراف الأمينة تميز صوت الراعي الصالح. لذلك نميّز مشيئة الله بمرافقة الكنيسة الساهرة على إعلان صوت راعيها من خلال كافة وسائلها، خصوصاً الصلاة وإعلان الكلمة والمرافقة والإرشاد.

4- القرار: من القواعد الذهبية في التمييز الروحي، بحسب القديس اغناطيوس، ألا يتخذ الإنسان قراراً، أو يغير اختياراً، في حالة عدم التعزية، أو عدم الاستقرار، أو اضطراب أو أزمة. فحالته هذه لا ترشده إلى الاختيار بموجب إرادة الله، التي تظهر دائماً في التعزية العميقة المستمرة. والقرار هنا ليس بالضرورة أن يكون من إرادة الإنسان: أن أعرف أن هذا ليس إرادتي، ولكن هذه مشيئة الله، فأنا فرح ومسرور!.. لا يعني ذلك أن إبليس لن يتدخل في تنفيذ القرار ويعكر صفو الإنسان. ولكن من قاده الله في تمييز قراره، يقوده أيضاً في تنفيذه بمرحلة جديدة من التمييز. لذلك نقول أن التمييز الروحي هو مسيرة مستمرة.

 

خاتمة

لعل أنسب ما نختم به هو قول أحد الآباء يشرح رأي القديس اغناطيوس: "هكذا ثق في الله، كأن النجاح كله يأتي منك ولا شيء من الله، ولكن اعمل حينذاك مجتهداً كأن لا شيء يأتي منك. كل شيء من الله وحده".

 

 المراجع

 * أُوليفيه (الأب أوليفربُرج اليسوعي)، رياضات القديس اغناطيوس – بنيتها وجوهرها وديناميتها، دار المشرق

* سيداروس (الأب فاضل اليسوعي)، مدخل إلى روحانية القديس اغناطيوس دي لويولا، دار المشرق، بيروت

   عن جمعية حلب للتعليم المسيحي