شهادة حياة من صعيد مصر

بقلم الأخ فادي حليصو اليسوعي

بويط (مصر)، الاثنين 17 أغسطس 2009 (Zenit.org).

بمناسبة السنة الكهنوتية نود أن نشرك قراءنا الأعزاء بخبرات الإكليريكيين والكهنة قراء زينيت، ولذا ننشر في ما يلي شهادة الأخ فادي حليصو من الرهبنة اليسوعية خلال رسالة قام بها في قرية بويط في صعيد مصر.

* * *

"واستراح في اليوم السابع من جميع ما عمله"

تكوين (2:2)

هكذا ينهي سفر التكوين في الكتاب المقدس الكلام عن الخلق، فالله الذي خلق الأرض وما فيها نظر إلى كل ما صنعه فرأى أنه حسن جداً، فاستراح في اليوم السابع.

لكن لم يكن هذا حالنا في بويط القرية الصعيدية من محافظة أسيوط التي أمضينا فيها شهر خدمة هذا الصيف. فيوم الأحد أو اليوم السابع هو أكثر أيامنا انشغالاً برفقة كاهن الرعية وليس يوماً للراحة على الإطلاق.

كانت هذه الخبرة جديدة علي في كل شيء تقريباً، بدءاً بموعد قداس الأحد الصباحي. فأبناء المدينة مثلي، والمعتادون على الاستيقاظ المتأخر، سيكون من الغريب بالنسبة لهم رؤية القرية وقد تجمعت منذ السابعة صباحاً في باحة الكنيسة لحضور قداس الثامنة. لا بل الأكثر غرابة هو ذلك الازدحام الشديد الذي تشهده الكنيسة أثناء القداس. غريب أمر هؤلاء الناس، غريب هو هذا الارتباط الوثيق بكنيستهم وبراعيهم. إنها أشياء لم أعتد عليها في المدينة التي نشأت بها.

ينتهي القداس على وقع الألحان القبطية، التي كنت أظن أنني عرفت معظمها لأكتشف في كل مرة كم أنا مخطئ. وسرعان ما ينشغل الكاهن مع أبناء الرعية الذين يتخاطفونه للسلام عليه ونيل البركة، فهذا يبثه همومه وهموم عائلته وآخر يطلب زيارة مريض. هي دقائق قليلة نقتنصها من يوم الأحد لتحية الناس لكنها تبدو طويلة للغاية حينما تستمع باهتمام إلى قصة كل واحد فيهم.

 

"كل مرة عملتم هذا لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار فلي عملتموه"

متى (25: 40)

سرعان ما يستأذن الكاهن من الناس للانصراف، فاليوم ما زال في بدايته وهناك الكثير ينتظر. إذ تبدأ الجولة الأسبوعية المعتادة بحمل المناولة إلى المرضى والعجائز الذين لم تمكنهم حالتهم الصحية من حضور القداس. وبعضهم لم يغادر سريره لأيام أو حتى شهور.

إنهم حوالي الـخمسة عشر شخصاً نزورهم في كل أسبوع بعجالة. وفي الحقيقة هي إحدى أكثر اللحظات إثارة للمشاعر بالنسبة لي. رؤية هذا الشوق في عيون الناس البسطاء لتناول القربان المقدس هو بدوره أمر جديد لم أعتد رؤيته من قبل. رؤية التعزية الكبيرة التي يحصل عليها هؤلاء الناس بسبب من هذه الزيارة السريعة والصلوات المختصرة التي نتلوها معهم بعد تلقيهم المناولة.

هذا التقليد اختفى منذ زمن في مدينتي، ربما بسبب تباعد المسافات وربما لأن الناس لم تعد تعير إتمام الأسرار تلك الأهمية الكبيرة وربما لن أتمكن من معرفة السبب…

في معظم البيوت التي ندخلها حاملين القربان يحهش المريض بالبكاء، ويسارع الكاهن إلى محاولة تعزيته ببضع كلمات قبل أن يناوله ويتلو معه صلاة قصيرة ويمنحه البركة.

بسرعة ننهي هذه الجولة المليئة بالمشاعر، لننتقل بعدها إلى سحرب القرية المجاورة والتي تحتوي على عدد قليل من المسيحيين لا يزيد عن الـ 30 أسرة، كانوا منسيين لفترة طويلة. وبسبب الفقر تراهم يعيشون في حالة بدائية للغاية. ورغم ذلك لديهم كنيستهم الصغيرة والمتواضعة التي تحتوي أغلب نشاطاتهم الدينية. وبما أن الكنيسة ليس لها جرسها فإن بوق سيارة الكاهن وهو يدخل القرية هو أنسب بديل عن الجرس الذي يعلن اقتراب موعد القداس. أجمل مشهد في هذه القرية هو الأولاد الين يلاحقون سيارة الأبونا فيما يخترق شوارع القرية متجهاً إلى الكنيسة. هناك حيث يستقبلنا الناس في باحتها ويجهزون لنا بضع كراس خشبية متهالكة ريثما تأتي صينية القهوة والشاي ويتجمع الناس في الكنيسة. وبينما الأولاد يتجمعون حول الخادم القادم معنا من بويط لشراء قطع القربان (القداسات) يطمئن الأبونا على صحة هذا العجوز أو يسأل عن أخبار العريس ويحدد موعد العماد للمولود الجديد. وما أن يكتمل النصاب حتى نبدأ قداسنا الثاني في يوم الأحد الطويل هذا.

قصة هذه القرية تشبه معظم قرى الصعيد. حيث يغيب العدد الأكبر من الرجال والشباب في المغتربات لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم فيكون غالبية الحضور في الكنيسة من النساء والأطفال ما عدا قلة قليلة من الرجال اختارت البقاء والعمل المجهد في الغيطان. فيما الآخرون يسافرون بشكل جماعي للعمل في اليونان والأردن وليبيا والكويت.

أهل هذه القرية بسطاء ومضيافون إلى أقصى الحدود، فمن الصعوبة بمكان أن نتملص من دعوة أحدهم لنا للغداء بعد انتهاء القداس. إذ غالباً ما يصر أحدهم على استبقائنا على مائدته والاحتفاء بنا. لنعود بعد الغداء الدسم إلى مسكن الراعي في قرية بويط محاولين أخذ قسط بسيط من الراحة لسويعات قليلة قبل أن نعاود التوجه في الرابعة ظهراً إلى سحرب مع عدد من الخدام لإلقاء حصص التعليم المسيحي هناك.

على بساطة الأولاد هناك، فإن اللقاء معهم هو أحد أروع الخبرات التي عشتها، هناك أحسست بصدق معنى فرح العطاء. صحيح أننا نعلم أنهم سرعان ما سينسون ما نقوله لهم، ولن يتبقى في عقولهم الصغيرة إلا القليل مما نعلمهم إياه، إلا أن الفرح والمحبة التي يشع بها اللقاء كانا عظيمين ولا يقدران بثمن.

لا ينتهي يومنا بانتهاء حصة التعليم الديني، فهناك النادي الصيفي لأطفال الكنيسة في بويط بانتظارنا وقد يتخلل ذلك بضع زيارات رعوية مع الكاهن إلى بضع بيوت في القرية. وإذا كنا محظوظين فقد نتمكن من التهرب من عزومة إلى العشاء في أحد هذه البيوت لنعود إلى مسكننا طالبين الراحة في نهاية يوم الأحد.

نعم إنه اليوم السابع لكنه ليس يوم الراحة لنا أو لكاهن القرية. هذا ما أفكر به ليلاً وأنا أضع رأسي على المخدة، لكنني سرعان ما أتذكر أن الشهر سرعان ما ينتهي وأستعيد نمط حياتي في الابتداء، ولكن الراعي هنا مستمر في هذا النمط من العمل. عند هذه النقطة أتوقف لأصلي له وأطلب من الله معونة وقدرة لجميع كهنته وخدامه وخصوصاً في سنة الكهنوت هذه.