مريم العذراء وصلاة الإصغاء

الفاتيكان، الثلاثاء 18 أغسطس 2009 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل لمقالة روبير شعيب بعنوان "مريم العذراء وصلاة الإصغاء.

* * *

قدمنا في مقالة "يسوع والصلاة" ملخصًا مبسطًا عن تعليم يسوع حول الصلاة وعن عيشه له. نتطرق في هذه المقالة إلى بعض المفاهيم الخاطئة التي تبعدنا عن حقيقة الصلاة وعن قوتها المحولة. الأفكار التالية هي بعض من الكثير من أشكال الصلاة "العليلة" أو غير الكاملة، نستعرضها الآن لقناعتنا بأن في الحياة الروحية العدو الألد هو العدو المجهول، وأن "تسمية" الأمور، بحسب المفهوم البيبلي، هو أيضًا حيازة السلطان عليها. فلنستطلع سوية خمسة ألغام حقل الصلاة التي تعيق تقدمنا في مسيرتنا مع الرب، نحوه وفيه.

 

بعض المفاهيم الخاطئة للصلاة

 

1.    الصلاة الواجب: إن أحد المفاهيم الخاطئة في الصلاة هي عيش الصلاة كواجب. وسوء الفهم هذا ينشأ عن إدراك مغلوط لوصايا الرب وتحريضات المعلمين الروحين: "صلوا في كل حين"، "صلوا ولا تملوا". يتردد صدى هذه الكلمات في صميم نفوسنا فيتحول إلى واجب دخيل وعارض (extrinsic)، ورويدًا رويدًا يضحي الواجب عبئًا أوتوماتيكيًا يغطيه غبار العادة والرتابة. عندما تفرض الأمور، حتى الجميل والمحبب منها، تضحي عبئًا، خصوصًا في زمن يعاني من مشاكل عميقة نحو الطاعة والانقياد. عيش الصلاة كواجب هو قتل للصلاة، سوء فهم لكنهها، انسلاب (alienation) للمصلي، وتغييب للمصلَّى إليه.

ولكن من ناحية أخرى أن نقول أن الصلاة واجب لسنا في خطأ مطلق. فالصلاة واجب، نعم، ولكن بأي معنى؟ لا بمعنى أن الله يحتاج إلى ثرثرتنا، وإلى مواساتنا. يمكننا أن نقول بطريقة ساخرة: "الحمد لله أن الله ليس وحيدًا بل هو ثالوث، ولذا ليس بحاجة إلى رفقتنا لكي يواسي وحشة أزليته!!".

وعليه، إذا لم تكن الصلاة واجبًا نحو الله بالمعنى المطلق، ما هو المعنى الصحيح لهذا الواجب؟ يمكننا أن نقول أن الصلاة واجب بمعنى أنها حاجة صميمية (intrinsic) وجوهرية لكياننا. أنا أصلي إذًا أنا موجود. فالصلاة هي الجواب الأسمى للدعوة إلى الوجود: الصلاة هي نَعَمنا على نَعَم الله: أنا موجود لأن الله قال "نعم" لوجودي، والصلاة هي "نَعَم" ـي لدعوة الله لي إلى الوجود. الصلاة هي مبادلة قبلة المحبة التي يطبعها الله في صميم كياني بالروح القدس. هذه الحاجة الصميمية هي واجب كما أن الحب واجب بين المحبين، وكما أن العرفان واجب من الابن نحو أبيه.

نلاحظ فورًا أن كلمة واجب لا تنطبق بطريقة مطلقة على الحب بين الأب وابنه، بل بطريقة تشابهية (analogic). ويحسن القول هانس أورس فون بالتازار عندما يقول: الحب لا يعرف الواجب، فالحب يحول الواجب إلى قوة وقدرة؛ لا يجب علي أن أحبك، فحبي لك هو قوة تحرك كياني، لا واجب يثقل كاهلي. وعليه القول بأن "الصلاة واجب" هو صحيح فقط عندما نفهم أنها واجب تمامًا كما أن "التنفس واجب"، وأن "حب المحبوب واجب". بهذا المعنى يقول بولس الرسول: "إن محبة المسيح تضطرنا!" ويردد: "أنا بولس أسير يسوع المسيح"، أي أسير محبته. سنشرح في مقالة لاحقة أن إدراك هذه المحبة بشكل عميق وملموس هو من ركائز الصلاة الأساسية بحسب تعليم المعلمين الروحيين.

2.    صلاة الثرثرة: مفهوم خاطئ آخر للصلاة هو صلاة الثرثرة. هي الصلاة المونولوج (monologue). حيث المتكلم الوحيد هو أنا. يوضح ميشال كواست هذه الصلاة في مناجاة يشبه فيها الصلاة إلى مكالمة تلفونية حيث يرفع الإنسان السماعة ويبدأ بالكلام مع الله دون هوادة، ثم ينهي المكالمة قبل أن يكون قد أفسح المجال لله لكي يقول ما عنده. إنها فهم خاطئ للصلاة، لأن هذه الأخير هي حوار (dialogue)، والحوار بطبيعته يتضمن الكلمة والإصغاء. بل إن أحد القديسين كان يقول: لقد أعطاك الله أذنين وفم واحد، لكي تسمع ضعف ما تتكلم.

إلى جانب الخطأ في "المنهج" المعروض أعلاه، يخفي هذا النوع من الصلاة مفهومًا مغلوطًا عن الله، لأنها تعتبر وكأن الله يستجيب بقدر ما "نزعجه" ونلج عليه! هذا النوع من الصلاة يقارب إلى حد ما الخرافة (superstition)، ويسوع نفسه نسب عقلية الصلاة هذه إلى الوثنين: "وإذا صليتم فلا تكرروا الكلام عبثا مثل الوثنيين، فهم يظنون أنهم إذا أكثروا الكلام يستجاب لهم" ويحض يسوع تلاميذه على عدم التشبه بالوثنيين، وذلك لسبب واضح، وهو أن الله آب، لا قاضٍ ظالم: "فلا تتشبهوا بهم، لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (مت 6، 7 – 8).

3.    الصلاة المشتتة: إنها الصلاة التي أريد فيها أن يسمعني الله في الوقت الذي أنا لا أسمع نفسي!هناك علاقة أخوة وتناسل بين صلاة الثرثرة والصلاة المشتتة فالواحدة تولد الأخرى وتتغذى منها وتمشي يدًا بيد معها. غالبًا ما يتألف هذا النوع من الصلاة من متكلم واحد لا يسمع ما يقول هو بالذات! فالثرثرة تضحي تعبيرًا عن ضجيج باطني لا يصغي حتى إلى الخرير العميق في صلب كيان "المصلي". وعليه إذا ما لاحظنا أننا نعيش هذا النوع من الصلاة بشكل مرضي، يجب أن نصغي بشكل أفضل إلى كياننا، لندرك أننا نعاني في المقام الأول من صعوبة في الإصغاء إلى كياننا الداخلي، وعدم الإصغاء في الصلاة – وفي الحياة العائلة والاجتماعية – هو صدى لعدم الإصغاء لكياننا الداخلي.

الصلاة المشتتة هي ثمرة حياة مشتتة. لا يمكنني أن أطلب من فكري أن يركز في خمسة دقائق بينما أتركه كل النهار تائهًا وهائمًا في الأباطيل. لذا ينصح معلمو الحياة الروحية إلى جانب "الاستعداد القريب" للصلاة، أي الاستعداد الذي يسبق الوقت الذي أكرسه لعيش الصلاة، "استعدادًا بعيدًا" يمتد مدى النهار وفي الحياة، استعدادًا يجعلني دومًا في استعداد قلبي للدخول في حضرة الله.

4.    الصلاة المنفصمة: هي صلاة تعبر عن انقسام وفصام (schizophrenic) لا في الشخصية بل في الوجود. هي صلاة باتت اعتيادية، ولم يعد لها أي تأثير في حياتي ووجودي. ففي وقت الصلاة أعيش شخصية وهمية مُحِبّة في حضرة الله، أحاول أن أغش من "لا يَغِش ولا يُغَش" (القديس أغسطينوس). هذه الصلاة تفتقر إلى إحدى دعائم الصلاة المهمة – الحقيقة (كما سنرى في مقالات لاحقة) – ولذا فهي تبني حياة روحية بلا أساس، نظن فيها أنه من خلال تكميل "واجب الصلاة" (وهو مفهوم سابق كما رأينا أعلاه) سددنا ديننا اليومي مع الرب، وحزنا على تفويض مطلق لكي نستبد بالآخرين، وننتهك حقوق القريب، ونستهتر بواجباتنا. إن هذا النوع من العيش، إضافة إلى الضرر الذي يتسببه نحو من يعيش بهذا الشكل، يضرر ويشكك من يرى في هذا الشخص في نفس الوقت المصلي، ومن يعيش بطريقة لا تتطابق مع تعاليم الإنجيل. نحن بصدد تشكيك الصغار الذي يحذر منه يسوع.

5.    صلاة الهروب: نتحدث أخيرًا عن نوع آخر شائع، لا من أساليب الصلاة، بل من مفاهيمها. فهم الصلاة كوسيلة شرعية – وذريعة حميدة! – للهروب من مواجهة العيش ومسؤولياته. إنه موقف يناهض مفهوم التجسد الذي ليس هربًا من العالم بل عيشًا مسؤولاً له. المسيح جاء لخلاص العالم لا للخلاص من العالم، والصلاة المسيحية هي صلاة تعتنق دينامية التجسد التي هي دينامية التزام وتحويل.

نكتفي بهذا المقام بتعداد هذه الأشكال الخاطئة علمًا منا بأن هناك الكثير من الممارسات المغلوطة لخبرة الصلاة. للنظر الآن في ما يقوله الكتاب المقدس عن مريم العذراء والصلاة، وبشكل خاص عن صلاة الإصغاء.

الضمير وصوت الله

 

بعد أن استعرضنا بعض الأخطاء الشائعة في حياة الصلاة، نلقي الآن نظرة إلى ما تقوله الأناجيل عن العذراء مريم، كونها معلمة وهيكل الصلاة والتقوى.

صلاة الإصغاء

يتفق المعلمون الروحيون على أن الأهم في الصلاة، ليس الكلمة التي أوجهها أنا إلى الله – مع أن لها أهميتها – بل الكلمة التي يوجهها الله لي. كلمة الله كلمة فاعلة، تحقق ما تقول. القول والفعل لا ينفصلان في كلمة (لوغوس) الله. ومدخل إنجيل يوحنا يقول لنا هذا الأمر من خلال مقارنة بين "كلمة الشريعة" التي أعطاها موسى، و"الكلمة المتجسد" الآتي من حضن الآب: "لأن الله بموسى أعطانا الشريعة، أما بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحق" (يو 1، 17). الكلمة المتجسد يحقق فينا من خلال نعمته كلمة وصيته، ولهذا فنيره ليس نير شريعة ثقيل، بل نير عذب (راجع مت 11). وإذا دعانا، "فهو – بحسب ما يقول بولس الرسول – أمين أن يكمل العمل الصالح الذي بدأه فيكم".

صلاة مريم، كما نستشفها من مقطع البشارة، هي صلاة تتجاوز خطأ "الصلاة المونولوج" الشائعة. تظهر صلاة مريم في البشارة كإصغاء وتجاوب مع إرادة الآب، وكثقة بصلاح الله واستسلام لإرادته وقبول بمشروعه الخلاصي. صلاة مريم لدى لقائها بملاك الرب هي صلاة تود التمعن في فهم مشروع الله وكلية قدرته التي تفاجئنا دومًا – "كيف يكون هذا؟" – وأيضًا صلاة قبول، هو ليس مرادفًا للرضوخ الاستسلامي والخنوعي، بل الإذعان الواثق الذي يسلم كل شيء في يد الله ثقة منه بأن الله هو خيرنا الأعظم، وأن إرادته هي معين فرحنا الحق: "ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك".

ولكن، كما يمكننا أن نصرح بعدل، الملاك لم يكلم مريم كل يوم! فأنى لها – ولنا – أن نكتشف إرادة الله في حياتنا اليومية؟

يعدد المعلمون الروحيون عدة وسائل تساعدنا للإصغاء لكلمة الله في حياتنا. يجدر الذكر بأن هذه "الوسائل" لا تعمل انطلاقًا من منطق حسابي وصناعي، فنحن بصدد الواقع البشري المعقد، وأمام حريتان تلتقيان، حرية الله وحرية الإنسان، وذلك ضمن مسيرة نضوج تاريخي، وعقلي، وقلبي، ونفسي، وعاطفي، وروحي، ولذا يجب اعتبار هذه الوسائل في هذا الإطار الغني والمعقد.

أولاً: الضمير

الوسيلة الأولى للإصغاء هي الضمير الإنساني. فالضمير هو المقدس السري حيث يتم اللقاء بين الله والإنسان. إذا شبهنا الإنسان إلى الهيكل، فالضمير هو المقدس (بنظرنا، قدس الأقداس الحق هو القلب!). في الصمت، الخارجي، ولكن بشكل خاص الداخلي، نلج هذا المقدس ونستطيع بثبات وصدق نية واحتراز أن نصغي إلى "هدير" الحياة الإلهية التي تود التدفق فينا. ومثل حوض النهر، يحتاج الضمير إلى التنقية والاستعداد، وإزالة الشوائب والعوائق. يقول القديس أغسطينوس، المعلم العظيم للحياة الداخلية: "لا تخرج إلى الخارج بل عد إلى ذاتك، ففي الإنسان الداخلي تقيم الحقيقة" (Noli foras ire, in te ipsum redi, in interiore homine habitat veritas)

يقال أن شابًا جاء إلى أنبا من آباء الصحراء معبرًا عن عجبه: ماذا تفعل كل اليوم، وكل هذا الوقت وحدك؟ ما الذي يجذبك إلى الكثير من الصمت والتأمل؟ – لم يجب الأنبا بالكلام، بل أخذ الشاب إلى البئر القائم في وسط الصحراء في الواحة. ودعا الشاب إلى النظر إلى الماء بعد أن عكرها الناسك بحجر رماه فيها، وسأله: ماذا ترى؟ – لا شيء، أرى مياه عكرة ومضطربة. فدعا الناسك الشاب إلى الانتظار والهدوء. وبعد أن هدأت المياه، دعاه للنظر ثانية: ماذا ترى؟ – بدأ الشاب ينظر فإذا بوجهه ينعكس على صفحة المياه، وأمعن النظر وهوذا السماء تتألق زرقاء صافية خلفه. وشرح الناسك للشاب أنه عندما يبدأ الإنسان بالنظر في أعماق ذاته، للوهلة الأولى يجد اضطرابًا وتشويشًا، ولكن حالما يبدأ بالتركيز والتمعن يستشف نفسه المتعطشة إلى ملء الحياة والحب، ويرى نفسه منعكسًا في وجه الله والله منعكسًا في وجهه.

وعليه فإن ضميرنا، مقدس الله، يحتاج إلى تثقيف، وممارسة مستديمة للإصغاء وللهدوء لسماع صوت الرب. ولكن، بالطبع، الضمير وحده، بالرغم من أوليته، ومن كونه إطار التواصل الأول مع ذواتنا، ومع الله، إلا أنه لا يكفي ذاته، هناك حاجة لأمور ووسائل أخرى…

 

ثانيًا: صدى كلمة الله في حياة كل يوم

ضميرنا، هو مقدس الله، الذي يحتاج إلى تثقيف، وممارسة مستديمة للإصغاء وللهدوء لسماع صوت الرب، كـ "صيانة روحية" لهذا العضو الروحي. ولكن، بالطبع، الضمير وحده، بالرغم من أوليته، ومن كونه إطار التواصل الأول مع ذواتنا، ومع الله، إلا أنه لا يكفي ذاته. والأمر لم يكن مختلفًا في حياة مريم العذراء!

إن وسيلة أخرى لـ "سماع" و "تمييز" إرادة الله في حياتنا هي الخليقة بالذات، هي الكون وعظمته، وأحداث الحياة اليومية، لقاءاتنا، خبراتنا، حوارنا مع المقربين والغرباء، الكلمات التي نسمعها من الآخرين.

يمكننا أن نقسم ما عددناه لتونا إلى قسمين اثنين:

القسم الأول هو الخليقة غير العاقلة: يقول لنا كتاب المزامير: "السماوات تنطق بمجد الله والجلد يخبر بعمل يديه" (مز 18، 1). والكتاب المقدس مملوء بالتصاوير التي تصل إلى فهم شيء من سر الخالق من خلال سر الخليقة. فكما أن الرسام والنحات يضع شيئًا من ذاته في كل من رسومه ومنحوتاته، هكذا الله طبع في الخليقة شيئًا من عظمته وإرادته ومشروعه. ولذا، بروح نبوي سبق الأزمة البيئية الحالية، كان القديس أفرام السرياني يدعو إلى الحفاظ على الطبيعة لأنها مرآة تعكس وجه الله. والقديس مكسيموس المعترف يعتبر العالم المرئي "تحفة فنية فريدة يجعل الله نفسه معروفًا من خلالها من خلال وحي صامت" (الآباء اليونان 41، 1328 أ). وفي الخط عينه قام تيار الدفاعية (Apologetica) بتقسيم الوحي إلى قسمين: الوحي الطبيعي (revelatio naturalis)، والوحي الفائق الطبيعة أو الإلهي (revelatio supernaturalis). موجز الكلام أن الخليقة بالنسبة للمؤمن ليست مجرد واقع طبيعي أبكم، بل هي تتحدث عن مجد الله وتكشف عظمته وقدرته. وفي دين مثل الدين اليهودي الذي تربت فيه مريم العذراء، حيث لا توجد ثنائية تفصل بين مبدأ الخير الروحي ومبدأ الشر المادي، بل تعيد الخليقة بأسرها إلى مبدأ واحد هو الله، كان لا بد أن العذراء – مع أن الأناجيل القانونية لا تأتي على ذكر ذلك – كانت ترى في الخليقة وتقرأ في صفحاتها شيئًا من سر الله الذي لا يسبر.

القسم الثاني هو الخليقة العاقلة: يقول البابا بيوس الثاني العشر أن القديسين هم "كلمة من الله". والأنبياء، دون أن ندخل الآن في معارج التفاصيل اللاهوتية هم حملة كلمة الله إلى شعبه، ليسوا مبصرين، أو منجمين أو عالمين بالغيب، بل هم بشر يقرأون التاريخ والأحداث على ضوء كلمة الله، ويحوزون هذه القدرة من خلال حميمتهم مع الله. وكل مؤمن هو مدعو أن يكون نبيًا بالقدر الذي يريده الله له. الأمر الأكيد هو أن كل مؤمن هو مدعو أن يكون نبيًا في وجوده الشخصي، وأن يقرأ يستنبط من الأحداث المعنى الذي يريد الله أن يحمله إليه. في حياة مريم العذراء – بحسب ما يمكننا أن نرى في الأناجيل – هناك أشخاص ولقاءات كثيرة ساعدت مريم رويدًا رويدًا على التقدم في معرفة عمق مشروع الله الذي قبلت به في البشارة دون أن تدرك فورًا ودفعة واحدة عمقه الكامل. إن التعمق في فهم دعوتها الخاصة في سر الخلاص هو عمل دام طوال حياته، وقد التقت مريم في "قراءتها النبوية" لوجودها بعدة أشخاص وأحداث كانوا بدورهم "أنبياء" ساعدوها على التعمق في القراءة. نذكر من بين هذه اللقاءات اللقاء مع سمعان الشيخ في الهيكل، ومن بين الأحداث إيجاد يسوع في الهيكل بين العلماء. ويخبرنا الإنجيلي أن موقف مريم أمام هذه الخبرات كان: "وكانت مريم تحفظ هذه الأمور وتتأملها في قلبها". نرى في هذه الآية الخصبة تعاونًا بين الضمير الشخصي الداخلي والأحداث الخارجية لإدراك إرادة الله.

إلا أن هذين الأمرين، رغم واقعهما ووقعهما، قد يوقعا المرء فريسة تفسير مغلوط، فيُدخلاه في حلقة مفرغة يدور فيها حول ذاته بدل أن يميز إرادة الله. وبدل أن يصوغ إرادته بحسب إرادة الله يصوغ الله على صورة إرادته وأهوائه.

ثالثاً: الكتاب المقدس

تحدثنا في الأقسام السالفة من هذه المقالة عن أهمية الإصغاء في الصلاة، وأشرنا إلى أن الضمير، والحياة اليومية واللقاءات التي نعيشها في حياتنا هي فسحات يمكننا فيها أن نسمع صوت الله في حياتنا. ولكننا توقفنا على مشكلة قد تدخلنا في دائرة مفرغة: من يضمن لي أني أصغي إلى صوت الله؟ أليس هناك أشخاص يظنون أن الله يدعوهم إلى إعلان حروب تودي بحياة الآلاف، بل الملايين؟ كم من الأشخاص يظنون أن الله يدعوهم لأذية الآخرين لمجد اسمه، وللانتحار حتى لكي يصلوا إليه؟ بكلمة مبسطة، ما هو المعيار الذي يحمينا من الهلوسة؟

إن إيماننا يعلمنا أن "معيار الوحي الموضوعي" هو الكتاب المقدس. والكتاب المقدس هو كلمة الله الحية التي تماشي الكنيسة والمؤمنين وترافقهم في مسيرتهم في التاريخ. وقد أدركت مريم العذراء هذا الأمر بشكل طبيعي لأن محيطها العبراني الملتزم شرّب وجودها بمعرفة كلمة الله. ونشيد تعظيم مريم الذي يقدمه لنا إنجيل لوقا إنما يردد معرفة العذراء للكتاب المقدس، فنشيد مريم يرتكز بشكل كبير على نشيد حنة أم صموئيل، ويكشف عن معرفة معمقة، لا لآيات الكتاب مفردة فقط، بل أيضًا لدينامية تاريخ الخلاص. وهذا أمر أهم بكثير من حفظ الآيات المفردة الميكانيكي، إنها قراءة داخلية وإدراك داخلي (intus -legere) لمكنونات كلمة الله الموجودة في الكتاب المقدس.

الكتاب المقدس ليس كلمة الله حصرًا، بل هو يتضمنها. ويستعمل أوريجانوس الذي هو أكبر مفسر للكتاب المقدس في تاريخ المسيحية تشبيهًا يفهمنا كيف يمكننا أن ندرك معاني الكتاب المقدس. يشبه الملفان الإسكندري الكتاب المقدس بالجوزة. القسم الخارجي من الجوزة هو قاسٍ ومر، وكذلك حرف الكتاب المقدس، قد يشككنا أحيانًا، ولكن إذا ما تجاوزنا الحرف ووصلنا إلى المعنى الروحي الذي هو صلب الكلمة نلنا الغذاء الحق لنفوسنا. لن نتوسع هنا في شرح معاني الكتاب المقدس بحسب الآباء وبحسب مفسري العصر الوسيط، بل نكتفي بالإشارة إلى أن آباء الكنيسة يميزون إجمالاً بين 3 معانٍ للكتاب المقدس: المعنى الحرفي (ما يقوله النص عن الأحداث التاريخية)، المعنى الأخلاقي (ما يقوله النص لحياتي الأخلاقية)، والمعنى الروحي (ما يقوله النص لحياة الشركة مع الله).

يعلم الأب أندريا غاسبارينو وهو مؤسس لحركة عمرها نحو 50 سنة تعرف باسم "مدرسة الصلاة" أنه يجب أن نضع "نظارات خاصة" لكي نستطيع أن نقرأ الكتاب المقدس: نظارات الحب. بحسب اللاهوتي برونو فورتي، رئيس أساقفة فاستو-كياتي في إيطاليا، الكتاب المقدس هو "رسالة الله التي تتوجه إلى قلبك بالذات" فإذا أدركت قيمة هذه الرسالة "ستقترب منها برهبة وشوق يقرأ بهما متيّم كلمات الحبيبة". فالله، "الذي هو أب وأم بالمحبة، يتكلم معك بالذات، والإصغاء الأمين والذكي، المتواضع والمصلي لما يقوله لك سيشبع تدريجيًا حاجتك إلى النور، وعطشك إلى الحب".  ويضيف: "أن تتعلم كيف تصغي للصوت الذي يخاطبك عبر الكتاب المقدس، يعني أن تتعلم أن تحب: كلمة الله هي البشرى السارة ضد الوحشة! لذا فإن الاصغاء للكتاب المقدس هو إصغاء محرِّر وخلاصي".

الإصغاء لكلمة الله في الكتاب المقدس يتطلب منا إيمانًا بأن الله ما زال يتكلم، وأن "من خلق الفم يتكلم، كما أن من خلق الأذن يسمع". و "كلمة الله" الذي يلخص ويلقي النور على جميع كلماته هو يسوع المسيح. يقول فورتي في هذا الصدد: "وحده الله كان بإمكانه أن يكسر صمت السماوات وأن يدوّي في صمت القلب: وحده الله كان قادرًا – كما ليس باستطاعة أحد غيره – أن يقول لنا كلمات حب. هذا جل ما جرى في الوحي الإلهي، أولاً عبر الشعب المختار، إسرائيل، ومن ثمّ في يسوع المسيح، الكلمة الأزلية المتجسد".

ويضيف: "الله يتكلم: عبر أحداث وكلمات مترابطة صميميًا، ويهب نفسه للبشر. إن النصوص التي تشكل الكتاب المقدس هي أسفار وضعت بوحي من الروح القدس، وهي حلول كلمة الله في كلمات البشر. كلمة الله هي الله نفسه في رمز كلمته! فهذه الكلمة تشارك في جبروت الله: "لأنَّه كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إِلى هُناك دونَ أَن يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعاً والآكِلَ طَعاماً .فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه" (أش 55، 10- 11).

إن العبارة العبرية "دبر"، والتي نترجمها عادة كـ "كلمة"، تعني بالوقت عينه كلمة وعمل: وهكذا فالوصايا العشر يقال عنها بالعبرية "الكلمات العشر" بمعنى أنها تعبّر بالوقت عينه عن مستلزمات محبة الله، وعن العون الذي يمنحه الله لكي نتمكن من التجاوب مع حبه. فالرب يقول ما يفعل ويفعل ما يقول. في العهد القديم يعلن لأبناء إسرائيل عن مجيء المسيح الذي سيقيم عهدًا جديدًا؛ وفي الكلمة المتجسد يحقق وعوده متخطيًا كل التوقعات. فالعهد الأول والعهد الجديد يخبراننا عن تاريخ حبه لنا، من خلال مسيرة يهيئ الله فيها شعبه على تقبل عطية العهد النهائي:  فالعهد القديم يستنير في الجديد، والجديد يتم التحضير له في القديم!

دون أي زعم بالأوتوكاتيكية يمكننا أن نقول أنه من خلال قراءتنا للكتاب المقدس على ضوء المسيح، بالروح القدس وفي قلب الكنيسة العروس، نستشف النور الكافي لكي نكتشف إرادة الله رويدًا رويدًا في تردد صدى هذه الكلمة في ضميرنا وفي أحداث حياتنا. في هذه الجملة الطويلة نرى عدة عناصر تشكل مجتمعة وسيلة تؤهلنا للتعرف على إرادة الله في حياتنا، وتشكل عناصر صلاة الإصغاء: الكتاب المقدس، الروح القدس، الحياة الكنسية، الضمير الطيع، الانتباه في الحياة اليومية على حضور الله".

– روبير شعيب يعلم "الكريستولوجيا" و "مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي" في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما، ويواظب في إيطاليا ولبنان على إلقاء محاضرات ذات طابع بيبلي، روحي ثقافي ولاهوتي.